عرض مشاركة واحدة
  #8  
قديم 17 جمادى الآخرة 1435هـ/17-04-2014م, 07:05 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن السادس الهجري

تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآَنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: يا أيّها الّذين آمنوا لا تسئلوا عن أشياء الآية، اختلف الرواة في سببها فقالت فرقة منهم أنس بن مالك وغيره: نزلت بسبب سؤال عبد الله بن حذافة السهمي، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صعد المنبر مغضبا، فقال: لا تسألوني اليوم عن شيء إلا أخبرتكم به، فقام رجل فقال أين أنا؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: في النار فقام عبد الله بن حذافة السهمي وكان يطعن في نسبه، فقال من أبي؟ فقال: أبوك حذافة.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وفي الحديث مما لم يذكر الطبري فقام آخر فقال من أبي؟
فقال أبوك سالم مولى أبي شيبة، فقام عمر بن الخطاب فجثا على ركبتيه وقال رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا ومحمد نبيا نعوذ بالله من الفتن، وبكى الناس من غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزلت هذه الآية بسبب هذه الأسئلة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وصعود رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر مغضبا إنما كان بسبب سؤالات الاعراب والجهال والمنافقين، فكان منهم من يقول أين ناقتي؟ وآخر يقول ما الذي ألقى في سفري هذا؟ ونحو هذا مما هو جهالة أو استخفاف وتعنيت، وقال علي بن أبي طالب وأبو هريرة وأبو أمامة الباهلي وابن عباس، في لفظهم اختلاف، والمعنى واحد. خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فقال: أيها الناس كتب عليكم الحج وقرأ عليهم وللّه على النّاس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلًا [آل عمران: 97] قال علي:
فقالوا يا رسول الله: أفي كل عام؟ فسكت، فأعادوا، قال: لا ولو قلت نعم، لوجبت، وقال أبو هريرة: فقال عكاشة بن محصن وقال مرة فقال محصن الأسدي، وقال غيره فقام رجل من بني أسد، وقال بعضهم فقام أعرابي فقال يا رسول الله، أفي كل عام؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: من السائل؟
فقيل فلان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، «لو قلت نعم لوجبت ولو وجبت لم تطيقوه، ولو تركتموه، لهلكتم» فنزلت هذه الآية بسبب ذلك، ويقوي هذا حديث سعد بن أبي وقاص أن النبي عليه السلام قال:
«إن أعظم المسلمين على المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته» وروي عن ابن عباس أنه قال: نزلت الآية بسبب قوم سألوا عن البحيرة والسائبة والوصيلة ونحو هذا من أحكام الجاهلية، وقاله سعيد بن جبير.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وروي أنه لما بين الله تعالى في هذه الآيات أمر الكعبة والهدي والقلائد، وأعلم أن حرمتها هو الذي جعلها إذ هي أمور نافعة قديمة من لدن عهد إبراهيم عليه السلام، ذهب ناس من العرب إلى السؤال عن سائر أحكام الجاهلية ليروا هل تلحق بتلك أم لا، إذ كانوا قد اعتقدوا الجميع سنة لا يفرقون بين ما هو من عند الله وما هو من تلقاء الشيطان والمغيرين لدين إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام
كعمرو بن لحي وغيره، وفي عمرو بن لحي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، رأيته يجر قصبه في النار وكان أول من سيب السوائب.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والظاهر من الروايات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألحت عليه الأعراب والجهال بأنواع من السؤالات حسبما ذكرناه، فزجر الله تعالى عن ذلك بهذه الآية وأشياء اسم جمع لشيء أصله عند الخليل وسيبويه شيئا مثل فعال قلبت إلى لفعاء لثقل اجتماع الهمزتين، وقال أبو حاتم أشياء وزنها أفعال وهو جمع شيء وترك الصرف فيه سماع، وقال الكسائي: لم ينصرف أشياء لشبه آخرها بآخر حمراء، ولكثرة استعمالها، والعرب تقول أشياوات كما تقول حمراوات، ويلزم على هذا أن لا ينصرف أسماء لأنهم يقولون أسماوات، وقال الأخفش: أشياء أصلها أشياء على وزن أفعلاء، استثقلت اجتماع الهمزتين فأبدلت الأولى ياء لانكسار ما قبلها ثم حذفت الياء استخفافا، ويلزم على هذا أن يكون واحد الأشياء شيئا مثل هين وأهوناء، وقرأ جمهور الناس «إن تبد» بضم التاء وفتح الدال وبناء الفعل للمفعول، وقرأ مجاهد «إن تبد» بفتح التاء وضم الدال على بناء الفعل للفاعل، وقرأ الشعبي «إن يبد لكم» بالياء من أسفل مفتوحة والدال مضمومة «يسؤكم» بالياء من أسفل، أي يبده الله لكم.
وقوله تعالى وإن تسئلوا عنها حين ينزّل القرآن تبد لكم قال ابن عباس: معناه لا تسألوا عن أشياء في ضمن الإخبار عنها مساءة لكم إما لتكليف شرعي يلزمكم وإما لخبر يسوء. كما قيل للذي قال أين أنا؟ ولكن إذا نزل القرآن بشيء وابتدأكم ربكم بأمر فحينئذ إن سألتم عن تفصيله وبيانه بين لكم وأبدى؟.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: فالضمير في قوله عنها عائد على نوعها لا على الأولى التي نهى عن السؤال عنها، وقال أبو ثعلبة الخشني رضي الله عنه: إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها وحد حدودا فلا تعتدوها وعفا من غير نسيان عن أشياء فلا تبحثوا عنها، وكان عبيد بن عمير يقول:
إن الله أحل وحرم فما أحل فاستحلوا وما حرم فاجتنبوا وترك بين ذلك أشياء لم يحلها ولم يحرمها، فذلك عفو من الله عفاه، ثم يتلو هذه الآية.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ويحتمل قوله تعالى: وإن تسئلوا عنها حين ينزّل القرآن تبد لكم أن يكون في معنى الوعيد كأنه قال لا تسألوا وإن سألتم لقيتم عبء ذلك وصعوبته لأنكم تكلفون وتستعجلون علم ما يسوءكم كالذي قيل له إنه في النار، وقوله تعالى: عفا اللّه عنها تركها ولم يعرف بها، وهذه اللفظة التي هي عفا، تؤيد أن الأشياء التي هي في تكليفات الشرع، وينظر إلى ذلك قول النبي عليه السلام إن الله قد عفا لكم عن صدقة الخيل، وغفورٌ حليمٌ صفتان تناسب العفو وترك المباحثة والسماحة في الأمور). [المحرر الوجيز: 3/270-274]

تفسير قوله تعالى: {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقرأ عامة الناس «قد سألها» بفتح السين. وقرأ إبراهيم النخعي «قد سألها» بكسر السين، والمراد بهذه القراءة الإمالة، وذلك على لغة من قال سلت تسأل، وحكي عن العرب هما يتساولان، فهذا يعطي هذه اللغة هي من الواو لا من الهمزة فالإمالة إنما أريدت وساغ ذلك لانكسار ما قبل اللام في سلت كما جاءت الإمالة في خاف لمجيء الكسرة في خاء خفت، ومعنى الآية أن هذه السؤالات التي هي تعنيتات وطلب شطط واقتراحات ومباحثات قد سألتها قبلكم الأمم ثم كفروا بها قال الطبري كقوم صالح في سؤالهم الناقة وكبني إسرائيل في سؤالهم المائدة. قال السدي: كسؤال قريش أن يجعل الله لهم الصفا ذهبا.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وإنما يتجه في قريش مثالا سؤالهم آية، فلما شق لهم القمر كفروا، وهذا المعنى إنما يقال لمن سأل النبي عليه السلام أين ناقتي؟ وكما قال له الأعرابي ما في بطن ناقتي هذه؟ فأما من سأله عن الحج أفي كل عام هو؟ فلا يفسر قوله قد سألها قوم الآية بهذه الأمثلة بل بأن الأمم قديما طلبت التعمق في الدين من أنبيائها ثم لم تف بما كلفت). [المحرر الوجيز: 3/274]

تفسير قوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله تعالى: ما جعل اللّه من بحيرةٍ ولا سائبةٍ ولا وصيلةٍ ولا حامٍ ولكنّ الّذين كفروا يفترون على اللّه الكذب وأكثرهم لا يعقلون (103) وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل اللّه وإلى الرّسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون (104) يا أيّها الّذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضرّكم من ضلّ إذا اهتديتم إلى اللّه مرجعكم جميعاً فينبّئكم بما كنتم تعملون (105)
لما سأل قوم عن هذه الأحكام التي كانت في الجاهلية هل تلحق بحكم الله في تعظيم الكعبة والحرم. أخبر تعالى في هذه الآية أنه لم يجعل شيئا منها ولا سنه لعباده. المعنى ولكن الكفار فعلوا ذلك إذ أكابرهم ورؤساؤهم كعمرو بن لحي وغيره يفترون على الله الكذب ويقولون هذه قربة إلى الله وأمر يرضيه، وأكثرهم يعني الأتباع لا يعقلون بل يتبعون هذه الأمور تقليدا وضلالا بغير حجة وجعل في هذه الآية لا يتجه أن تكون بمعنى خلق الله. لأن الله تعالى خلق هذه الأشياء كلها. ولا هي بمعنى صير لعدم المفعول الثاني، وإنما هي بمعنى ما سنّ ولا شرع فتعدت تعدي هذه التي بمعناه إلى مفعول واحد و «البحيرة» فعيلة بمعنى مفعولة. وبحر شق، كانوا إذا أنتجت الناقة عشرة بطون شقوا أذنها بنصفين طولا فهي مبحورة وتركت ترعى وترد الماء ولا ينتفع منها بشيء ويحرم لحمها إذا ماتت على النساء ويحل للرجال، وقال ابن عباس كانوا يفعلون ذلك بها إذا أنتجت خمسة بطون، وقال مسروق إذا ولدت خمسا أو سبعا شقوا أذنها.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ويظهر مما يروى في هذا أن العرب كانت تختلف في المبلغ الذي تبحر عنده آذان النوق، فلكل سنة، وهي كلها ضلال، قال ابن سيده ويقال «البحيرة» هي التي خليت بلا راع، ويقال للناقة الغزيرة بحيرة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: أرى أن البحيرة تصلح وتسمن ويغزر لبنها فتشبه الغزيرات بالبحر، وعلى هذا يجيء قول ابن مقبل:
فيه من الأخرج المرتاع قرقرة = هدر الزيامي وسط الهجمة البحر
فإنما يريد النوق العظام وإن لم تكن مشققة الآذان. وروى الشعبي عن أبي الأحوص عن أبيه قال دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي أرأيت إبلك ألست تنتجها مسلمة آذانها، فتأخذ الموسى فتقطع آذانها، فتقول هذه بحر، وتقطع جلودها فتقول هذه صرم فتحرمها عليك وعلى أهلك؟ قال نعم قال: فإن ما آتاك الله لك حل. وساعد الله أشد، وموسى الله أحد، والسائبة هي الناقة التي تسيب للآلهة، والناقة أيضا إذا تابعت اثنتي عشرة إناثا ليس فيهن ذكر سيبت، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأكثم بن الجون الخزاعي: يا أكثم رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف يجر قصبه في النار فما رأيت أشبه به منك، قال أكثم: أيضرني شبهه يا رسول الله؟ قال: لا إنك مؤمن وإنه كافر، هو أول من غير دين إسماعيل عليه السلام ونصب الأوثان وسيب السوائب، وكانت السوائب أيضا في العرب كالقربة عند المريض يبرأ منه، والقدوم من السفر، وإذا نزل بأحدهم أمر يشكر الله عليه تقرب بأن يسيب ناقة فلا ينتفع منها بلبن ولا ظهر ولا غيره، يرون ذلك كعتق بني آدم، ذكره السدي وغيره، وكانت العرب تعتقد أن من عرض لهذه النوق فأخذها أو انتفع منها بشيء فإنه تلحقه عقوبة من الله، و «الوصيلة» قال أكثر الناس:
إن «الوصيلة» في الغنم قالوا إذا ولدت الشاة ثلاثة بطون أو خمسة فإن كان آخرها جذيا ذبحوه لبيت الآلهة وإن كانت عناقا استحيوها وإن كان جذي وعناق استحيوهما وقالوا هذه العناق وصلت أخاها فمنعته من أن يذبح، وعلى أن الوصيلة في الغنم جاءت الروايات عن أكثر الناس، وروي عن سعيد بن المسيب أن الوصيلة من الإبل كانت الناقة إذا ابتكرت بأنثى ثم ثنت بأخرى قالوا وصلت أنثيين، فكانوا يجدعونها لطواغيتهم أو يذبحونها. شك الطبري في إحدى اللفظتين. وأما «الحامي» فإنه الفحل من الإبل إذا ضرب في الإبل عشرين وقيل إذا ولد من صلبه عشر، وقيل إذا ولد ولده قالوا حمي ظهره فسيبوه لم يركب ولا سخر في شيء، وقال علقمة لمن سأله في هذه الأشياء ما تريد إلى شيء كان من عمل أهل الجاهلية وقد ذهب؟
وقال نحوه ابن زيد.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وجملة ما يظهر من هذه الأمور أن الله تعالى قد جعل هذه الأنعام رفقا لعباده ونعمة عددها عليهم ومنفعة بالغة، فكان أهل الجاهلية يقطعون طريق الانتفاع ويذهبون نعمة الله فيها ويزيلون المصلحة التي للعباد في تلك الإبل، وبهذا فارقت هذه الأمور الأحباس والأوقاف، فإن المالك الذي له أن يهب ويتصدق له أن يصرف المنفعة في أي طريق من البر، ولم يسد الطريق إليها جملة كما فعل بالبحيرة والسائبة، وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا تجوز الأحباس والأوقاف، وقاسوا على البحيرة والسائبة، والفرق بين، ولو عمد رجل إلى ضيعة له فقال هذه تكون حبسا لا يجتنى ثمرها ولا يزرع أرضها ولا ينتفع منها بنفع لجاز أن يشبه هذا بالبحيرة والسائبة، وأما الحبس البين طريقه واستمرار الانتفاع به فليس من هذا، وحسبك بأن النبي عليه السلام قال لعمر بن الخطاب في مال له: اجعله حبسا لا يباع أصله، وحبس أصحاب النبي عليه السلام وقوله تعالى ولكنّ الّذين كفروا الآية، وقد تقدم أن المفترين هم المبتدعون، وأن الذين لا يعقلون هم الأتباع، وكذلك نص الشعبي وغيره وهو الذي تعطيه الآية، وقال محمد بن أبي موسى: الذين كفروا وافتروا هم أهل الكتاب، والذين لا يعقلون هم أهل الأوثان.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا تفسير من انتزع ألفاظ آخر الآية عما تقدمها وارتبط بها من المعنى
وعما تأخر أيضا من قوله وإذا قيل لهم والأول من التأويلين أرجح). [المحرر الوجيز: 3/275-278]

رد مع اقتباس