عرض مشاركة واحدة
  #27  
قديم 20 جمادى الآخرة 1440هـ/25-02-2019م, 10:40 PM
جمهرة علوم القرآن جمهرة علوم القرآن غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 7,975
افتراضي

جمع المصحف

قال صَالِحٌ بْنُ مُحَمَّدِ الرَّشيدِ(م): (الكلام على مسألة جمع المصحف يتناول جملة من القضايا نعرض لذكر خمس عشرة قضية منها:
إحداها: ماهية الجمع المنشود.
الثانية: سبب ترك جمع المصحف في عهد النبوة.
الثالثة: أول من جمع المصحف.
الرابعة: تاريخ هذا الجمع والباعث عليه.
الخامسة: حكم هذا الجمع المذكور والدليل عليه.
السادسة: كيفية الجمع المذكور، والاحتيطات المتبعة لهذه الغاية.
السابعة: تسمية المصحف وكيف تمت.
الثامنة: مآل هذا المصحف بعد جمعه.
التاسعة: جمع المصحف الإمام في عهد عثمان، والفرق بين هذا الجمع وبين جمع المصحف الأول.
العاشرة: تاريخ جمع المصحف الإمام، والتوفيق بين الروايات المتعارضة في ذلك.
الحادية عشرة: الأسباب الحاملة على جمع المصحف الإمام.
الثانية عشرة: الكيفية التي تم بها هذا الجمع، وذكر الهيئة المكلفة بذلك.
الثالثة عشرة: موقف الصحابة من جمع المصحف الإمام وجمع الناس عليه وإتلاف ما سواه.
[500]
الرابعة عشرة: عدد نسخ المصحف الإمام، وذكر الأقطار التي وجه بتلك النسخ إليها.
الخامسة عشر: مصير نسخ المصحف الإمام.
ماهية جمع المصحف:
قد مرت الإشارة في غير موضع من هذا البحث إلى أن القرآن لم ينزل على النبي جملة واحدة، وإنما نزل عليه منجما في بضع وعشرين سنة، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل عليه الشيء من القرآن دعا بعض الكاتبين من أصحابه فأملاه عليهم فكتبوه فيما كان يتيسر لهم من أوعية الكتابة في تلك الآونة كالرقاع والعسب واللخاف والأكتاف والأقتاب ، ثم إن هذا المكتوب في تلك الأوعية كان يجمع في بيت النبي صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كمل نزول القرآن وانقطع الوحي بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن بتمامه مدونا، إلا أن هذا التدوين في الأوعية المذكورة قد لا يتأتى ترتيبه إلا بعسر ومشقة نظرا للتباين بين تلك الأوعية من حيث الحجم والتناسق فضلا عما تشكله تلك الأدوات من كم يخشى معه فقدان جزء من القرآن، ولا سيما عند نقله من مكان إلى مكان، وقد يكون الخطب في فوات شيء من القرآن أعظم إذا تناقص حفاظه وقل مع الزمن عدد متقنيه. ومن هنا عمد الصحابة إلى كتابة القرآن في صحف مجتمعة يضمها لوحان حرصا منهم على صيانة القرآن وتيسير تلاوته مجتمعا، وحتى يكون تتبعه ميسورا فتنسد بذلك كل ثغرة يمكن أن يلج منها المبطلون.
وقد تواتر أن هذا الجمع من الصحابة للقرآن يعني أن مابين دفتي المصحف هو القرآن كله من غير زيادة ولا نقص، وقد نقل غير واحد ممن صنف في علوم
[501]
القرآن كالزركشي في برهانه، والسيوطي في إتقانه، والزرقاني في المناهل. قول الحارث المحاسبي في كتابه فهم السنن: (كتابة القرآن ليست محدثة، فإنه صلى الله عليه وسلم كان يأمر بكتابته، ولكنه كان مفرقا في الرقاع والأكتاف والعسب، وإنما أمر الصديق بنسخها من مكان إلى مكان "مجتمعا"، وكان ذلك بمنزلة أوراق وجدت في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها القرآن منتشر فجمعها جامع وربطها بخيط حتى لا يضيع منه شيء). إلى آخر كلام المحاسبي.
سبب ترك جمع المصحف في عهد النبوة:
قال المحاسبي: (فإن قيل: كيف لم يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك؟ قيل: لأن الله تعالى قد أمنه من النسيان بقوله: (سنقرئك فلا تنسى، إلا ما شاء الله) أن يرفع حكمه بالنسخ، فحين وقع الخوف من نسيان الخلق حدث ما لم يكن، فأحدث بضبطه ما لم يحتج إليه قبل ذلك). وقال الزركشي: (وإنما ترك جمعه في مصحف واحد لأن النسخ كان يرد على بعض، فلو جمعه ثم رفعت تلاوة بعض لأدى إلى الاختلاف واختلاط الدين، فحفظه الله في القلوب إلى انقضاء زمان النسخ، ثم وفق لجمعه الخلفاء الراشدون).
[502]
وقال الزركشي أيضا: (وإنما لم يكتب في عهد النبي صلى الله عليه وسلم مصحف لئلا يفضي إلى تغييره كل الوقت، فلهذا تأخرت في كتابته إلى أن كمل نزول القرآن بموته صلى الله عليه وسلم، فكتب أبو بكر والصحابة بعده، ثم نسخ عثمان المصاحف التي بعث بها إلى الأمصار).
أول من جمع المصحف:
أخرج أبو عبيد في فضائل القرآن قال: (حدثنا عبد الرحمن عن سفيان عن السدي عن عبد خير عن علي قال: " رحم الله أبا بكر، كان أول من جمع القرآن").
وأخرجه ابن أبي داود في المصاحف قال: (حدثنا أحمد بن الحسين بن حفص قال: حدثنا خلاد قال: حدثنا سفيان عن السدي عن عبد خير عن علي قال: "رحمة الله على أبي بكر، كان أعظم الناس أجرا في جمع المصاحف وهو أول من جمع بين اللوحين"). وأخرجه من طرق خمس عن السدي عن عبد خير عن علي رضي الله عنه.
قال ابن كثير في الفضائل: (هذا إسناد صحيح). وحسنه الحافظ بن حجر في الفتح.وأخرج أبو عبيد في الفضائل أيضا، وابن أبي داود في المصاحف، واللفظ لأبي عبيد قال: (حدثنا المطلب بن زياد عن السدي عن عبد خير قال: "أول من جمع القرآن بين اللوحين أبو بكر").
وذكر أبو هلال العسكري في كتابه الأوائل بسنده عن ابن شهاب قال: (لما أصيب المسلمون باليمامة خاف أبو بكر أن يهلك طائفة من أهل القرآن، وإنما كان في العسب والرقاع، فأمر الناس فأتوه بما كان عندهم، فأمر به فكتب في الورق). إلى أن
[503]
قال: (فأبو بكر أول من جمع القرآن). وأخرج ابن أبي داود في المصاحف قال: (حدثنا هارون بن إسحاق قال: حدثنا عبدة عن هشام عن أبيه: أن أبا بكر هو الذي جمع القرآن بعد النبي صلى الله عليه وسلم يقول ختمه).
وأخرج ابن أبي داود أيضا في المصاحف قال: (حدثنا أبو الطاهر قال: أخبرنا
ابن وهب، وأخبرني ابن أبي الزناد عن هشام بن عروة عن أبيه قال: (لما استحر القتل؟ بالقراء يومئذ فرق أبو بكر على القرآن أن يضيع، فقال لعمر بن الخطاب ولزيد بن ثابت: "اقعدوا على باب المسجد فمن جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب الله فاكتباه").
الجمع المنسوب إلى علي وعمر رضي الله عنهما:
فإن قيل قد أخرج البلاذري في أنساب الأشراف، وابن أبي داود في المصاحف، وابن كثير في فضائل القرآن، والحافظ في الفتح: أن عمر رضي الله عنه هو أول من جمع القرآن. أجيب بأن الروايات الواردة في أولية أبي بكر أصح، لما في الروايات المخالفة من انقطاع على ما صرح به غير واحد من أهل العلم.
قال الحافظ في الفتح بعد رواية موسى بن عقبة في المغازي، وأن أبا بكر أول من جمع القرآن في الصحف، قال الحافظ: (وهذا كله أصح مما وقع في رواية عمارة
[504]
ابن غزية: أن زيد بن ثابت قال: "فأمرني أبو بكر فكتبت في قطع الأديم والعسب، فلما هلك أبو بكر وكان عمر كتبت ذلك في صحيفة واحدة فكانت عنده"، وإنما كان في الأديم والعسب أولا قبل أن يجمع في عهد أبي بكر، ثم جمع في الصحف في عهد أبي بكر كما دلت عليه الأخبار الصحيحة المترادفة).
وقال ابن كثير في فضائل القرآن: (حدثنا يزيد بن مبارك، عن فضالة عن الحسن: أن عمر بن الخطاب سأل عن آية من كتاب الله، فقيل كانت مع فلان فقتل يوم اليمامة، فقال: "إنا لله" ، ثم أمر بالقرآن فجمع، فكان أول من جمعه في المصحف.
وهذا منقطع فإن الحسن لم يدرك عمر، ومعناه أنه أشار بجمعه فجمع، ولهذا كان مهيمنا على حفظه وجمعه).
وهكذا يجاب بنحو مما مر عن الروايات التي تنسب الجمع الأول إلى علي رضي الله عنه، فقد قال الحافظ في الفتح: (وأما ما أخرجه ابن أبي داود في المصاحف من طريق ابن سيرين قال: قال علي: " لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم آليت أن لا آخذ علي ردائي إلا لصلاة جمعة حتى أجمع القرآن" فجمعه...فإسناده ضعيف لانقطاعه، وعلى تقدير أن يكون محفوظا فمراده بجمعه حفظه في صدره.
قال: والذي وقع في بعض طرقه: "حتى جمعته بين اللوحين" وهم من راويه.
قلت: وما تقدم من رواية عبد خير عن علي أصح فهو المعتمد)".
[505]
تاريخ جمع المصحف الأول والباعث عليه:
مضت الإشارة في غير موضع من هذا البحث إلى التاريخ الذي تم فيه جمع المصحف الأول، وأن ذلك كان في عهد الصديق رضي الله عنه إثر مقتل عدد كبير من القراء في موقعة اليمامة، والتي جرت بين جيش المسلمين بقيادة خالد بن الوليد وبين المرتدين بزعامة مسيلمة الكذاب وأصحابه من بني حنيفة في أرض اليمامة، وكان ذلك في ربيع الأول سنة 12 ه، وقد قتل من القراء يومئذ قريب من خمسمائة رضي الله عنهم، فشعر أبو بكر وعمر وبقية الصحابة رضي الله عنهم بالخوف على القرآن أن يضيع منه شيء بموت حفاظه، فعزموا على جمع مدونا في صحف بين لوحين ليظاهر المسطور ما هو محفوظ في الصدور.
فقد أخرج أئمة المحدثين وكتاب السير جملة من الآثار التي تروي قصة الجمع هذا، والبواعث عليه، وتسمي الأشخاص الذين أشاروا أو أمروا به، والأشخاص
[506]
الذين وكلت إليهم مهمة تنفيذه، والتدابير التي اتخذت لضبطه وإتقانه، منها ما أخرجه أبو عبيد والإمام أحمد والبخاري والنسائي وابن أبي داود في المصاحف وغيرهم من طريق الزهري عن عبيد بن السباق: أن زيد بن ثابت الأنصاري حدثه قال: أرسل إلي أبو بكر مقتل أهل اليمامة، فإذا عنده عمر، فقال أبو بكر: "إن عمر أتاني فقال: إن القتل استحر بقراء القرآن يوم اليمامة، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن كلها، فيذهب قرآن كثير، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن"
قال: فقلت له: كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال لي: "هو- والله – خير". فلم يزل عمر يراجعني في ذلك حتى شرح الله صدري له، ورأيت فيه الذي رأى عمر. قال: قال زيد: وقال أبو بكر:"إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك، قد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتتبع القرآن فاجمعه". قال زيد: فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي من ذلك. فقلت: كيف تفعلون شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال أبو بكر: "هو- والله – خير". فلم يزل يراجعني في ذلك أبو بكر وعمر حتى شرح الله صدري للذي شرح صدورهما، فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع والعسب ومن اللخاف، ومن صدور الرجال، فوجدت
[507]
آخر سورة براءة مع خزيمة بن ثابت: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم...)إلى آخره حتى ختم السورة). وهذا لفظ أبي عبيد، وقد مضى لفظ البخاري في غير موضع من هذا البحث.
قال أبو عبد الله المحاسبي: (فأما قوله: "وجدت آخر براءة مع خزيمة بن ثابت ولم أجدها مع غيره" يعني ممن كانوا في طبقة خزيمة ممن لم يجمع القرآن. وأما أبي بن كعب، وعبد الله بن مسعود، ومعاذ بن جبل فبغير شك جمعوا القرآن والدلائل عليه متظاهرة). قال: (ولهذا المعنى لم يجمعوا السنن في كتاب إذا لم يكن ضبطها كما ضبط القرآن).حكى ذلك عنه الزركشي في البرهان، ولا يخفى ما في عبارته من غموض ولا سيما تعليله مما أحسبه خطأ من ناسخ أو طابع.
حكم جمع المصحف والدليل عليه:
تكررت الإشارة في غير موضع من هذا البحث إلى حكم جمع المصحف، بيد أني أوثر أن أذكر هنا كلاما للحافظ ابن حجر ذكره في الفتح وضمنه أكثر النقول عن أهل في هذا الشأن حيث قال: (وقد تسول لبعض الروافض أنه يتوجه الاعتراض على أب بكر بما فعله من جمع القرآن في المصحف، فقال: كيف جاز أن يفعل شيئا لم يفعله الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام؟ الجواب: أنه لم يفعل ذلك إلا بطريق
[508]
الاجتهاد السائغ الناشيء عن النصح منه لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أذن في كتابة القرآن، ونهى أن يكتب معه غيره، فلم يأمر أبو بكر إلا بكتابة ما كان مكتوبا، ولذلك توقف عن كتابة الآية من آخر سورة براءة حتى وجدها مكتوبة، مع أنه كان يستحضرها هو ومن ذكر معه، وإذا تأمل المنصف ما فعله أبو بكر من ذلك جزم بأنه يعد في فضائله، وينوه بعظيم مناقبه لثبوت قوله صلى الله عليه وسلم: "من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها"، فما جمع القرآن أحد بعده إلا كان له مثل أجره إلى يوم القيامة.
وقد كان لأبي بكر من الاعتناء بقراءة القرآن ما اختار معه أن يرد على ابن الدغنة جواره ويرضى بجوار الله ورسوله، وقد تقدمت القصة مبسوطة في فضائله. وقد أعلم الله تعالى في القرآن بأنه مجموع في الصحف في قوله: (يتلوا صحفا مطهرة)، وكان القرآن مكتوبا في الصحف، لكن كانت مفرقة فجمعها أبو بكر في مكان واحد، ثم كانت بعده محفوظة إلى أن أمر عثمان بالنسخ منها، فنسخ منها عدة مصاحف، وأرسل بها إلى الأمصار كما سيأتي بيان ذلك).
قال الحافظ: (وفي رواية عمارة بن غزية: فقال لي أبو بكر: "إن هذا دعاني
[509]
إلى أمر، وأنت كاتب الوحي، فإن تك معه اتبعتكما، وإن توافقني لا أفعل" فاقتضى قول عمر فنفرت من ذلك، فقال عمر: " كلمه وما عليكما لو فعلتما". قال: فنظرنا فقلنا: لا شيء والله، ما علينا..
قال ابن بطال: إنما نفر أبو بكر أولا ثم زيد بن ثابت ثانيا لأنهما لم يجدا رسول الله صلى الله عليه وسلم فعله، فكرها أن يحلا أنفسهما محل من يزيد احتياطه للدين على احتياط الرسول، فلما نبههما عمر على فائدة ذلك، وأنه خشية أن يتغير الحال في المستقبل إذا لم يجمع القرآن فيصير إلى حالة الخفاء بعد الشهرة، رجعا إليه. قال: ودل ذلك على أن فعل الرسول صلى الله عليه وسلم إذا تجرد عن القرآن- وكذا تركه- لا يدل على وجوب ولا تحريم انتهى. وليس ذلك من الزيادة على احتياط الرسول؛بل هو مستمد من القواعد التي مهدها الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال ابن الباقلاني: كان الذي فعله أبو بكر من ذلك فرض كفاية بدلالة قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تكتبوا عني شيئا من القرآن"، مع قوله تعالى: (إنا علينا جمعه وقرآنه)، وقوله: (إن هذا لفي الصحف الأولى)، وقوله: (رسول من الله يتلوا صحفا مطهرة). قال فكل أمر يرجع لإحصائه وحفظه فهو واجب على الكفاية، وكان ذلك من النصيحة لله ورسوله وكتابه وأئمة المسلمين وعامتهم. قال: وقد فهم عمر أن ترك النبي صلى الله عليه وسلم جمعه لا دلالة فيه على المنع، ورجع إليه أبو بكر لما رأى وجه الإصابة في ذلك، وأنه ليس في المنقول ولا في المعقول ما ينافيه، وما يترتب على ترك جمعه من ضياع بعضه، ثم تابعهما زيد بن ثابت وسائر الصحابة على تصويب ذلك). وقد مضى النقل عن علي رضي الله عنه في تصويب صنيع أبي
[510]
بكر هذا، وترحمه عليه أن كان أول من جمع القرآن بين لوحين. كما وقد مر عند الكلام على ماهية الجمع على قول أبي عبد الله الحارث المحاسبي في هذا الشأن على ما نقله عنه الزركشي وغيره.
كيفية الجمع المذكور والاحتياطات المتبعة لهذه الغاية:
قد مضى في غير موضع من هذا البحث ذكر قصة جمع القرآن الذي قام به زيد بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه بأمر من الخليفة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وقد تضمنت تلك القصة، المروي عن زيد من طريق كل من ابنه خارجة بن زيد، وسالم بن عبد الله، وعبيد بن السباق، وفيها أن زيدا رضي الله عنه قام بتتبع القرآن من أوعيته المختلفة، ومن صدور الرجال؛ بل كان التعويل على الحفظ أعظم، وكان أبو بكر رضي الله عنه قد أوصى باتخاذ كافة التدابير الكفيلة بالتوثق في مسألة الجمع، وقد مضى طرف من ذلك في الحاشية الرابعة عشرة من هذا البحث، وقد فصل الحافظ بن حجر في الفتح في بيان تلك التدابير عند شرحه لأثر زيد في قصة الجمع حيث قال ما نصه: (قوله "فتتبعت القرآن أجمعه" أي من الأشياء التي عندي وعند غيري).
قال الحافظ: (وعند ابن أبي داود أيضا في المصاحف من طريق يحي بن عبد الرحمن بن حاطب قال: "قام عمر فقال: من تلقى من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا من القرآن فليأت به. وكانوا يكتبون ذلك في المصحف والألواح والعسب". قال: "وكان لا يقبل من أحد شيئا حتى يشهد شاهدان" وهذا يدل على أن زيدا لا يكتفي بمجرد وجدانه مكتوبا حتى يشهد به من تلقاه سماعا، مع كون زيد كان يحفظه، وكان يفعل ذلك مبالغة في الاحتياط، وعند ابن أبي داود أيضا من طريق هشام بن عروة عن
[511]
أبيه: " أن أبا بكر قال لعمر ولزيد: اقعدوا على باب المسجد، فمن جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب الله فاكتباه" ، ورجاله ثقات مع انقطاعه، وكأن المراد بالشاهدين الحفظ والكتاب، أو المراد أنهما يشهدان على أن ذلك المكتوب كتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو المراد أنهما يشهدان على أن ذلك من الوجوه التي نزل بها القرآن. وكان غرضهم أن لا يكتب إلا من عين ما كتب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم لا من مجرد الحفظ.
قوله "وصدور الرجال"أي حيث لا أجد ذلك مكتوبا، أو الواو بمعنى مع، أي أكتبه من المكتوب الموافق للمحفوظ في الصدر). ثم مضى الحافظ بن حجر في ذكر الخلاف في اسم الذي وجدت معه خواتيم التوبة، وهل كان أبا خزيمة أم خزيمة الأنصاري على ما مر تفصيله عند ذكر نص قصة الجمع بتمامه، إلى أن قال في معرض شرحه للأثر المذكور، ووجدان خاتمة التوبة مع أبي خزيمة، قال: ("لم أجدها مع أحد غيره" أي مكتوبة لما تقدم من أنه كان لا يكتفي بالحفظ دون الكتابة، ولا يلزم من عدم وجدانه إياها حينئذ أن لا يكون تواترت عند من لم يتلقها من النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما كان زيد يطلب التثبت عمن تلقاها بغير واسطة، ولعلهم لما وجدها زيد عند أبي خزيمة تذكروها كما تذكرها زيد). وفائدة التتبع المبالغة في الاستظهار، والوقوف عند ما كتب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم . قال الخطابي: هذا مما يخفى معناه، ويوهم أنه كان يكتفي في إثبات الآية بخبر الشخص الواحد، وليس كذلك، فقد اجتمع في هذه الآية زيد بن ثابت وأبو خزيمة وعمر. وحكى ابن التين عن الداودي قال: لم يتفرد بها أبو خزيمة؛ بل شاركه زيد بن ثابت، فعلى هذا تثبت برجلين أ.ه. وكأنه ظن أن قولهم لا يثبت القرآن بخبر الواحد أي الشخص الواحد، وليس كما ظن؛ بل المراد بخبر الواحد خلاف الخبر المتواتر، فلو بلغت رواة الخبر عددا كثيرا وفقد شيئا من شروط المتواتر لم يخرج عن كونه خبر الواحد، والحق أن المراد بالنفي نفي وجودها مكتوبة لا نفي كونها محفوظة. وقد وقع عند ابن أبي داود من رواية يحي بن عبد الرحمن بن حاطب:" فجاء خزيمة بن ثابت فقال: إني رأيتكم تركتم آيتين فلم تكتبوهما. قالوا: وما هما؟ قال: تلقيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقد جاءكم رسول الله من أنفسكم) إلى آخر السورة. فقال عثمان: وأنا أشهد،
[512]
فكيف ترى أن تجعلهما؟ قال: أختم بهما آخر ما نزل من القرآن". ومن طريق أبي العالية: "أنهم لما جمعوا القرآن في خلافة أبي بكر كان الذي يملي عليهم أبي بن كعب، فلما انتهوا من براءة إلى قوله: (لا يفقهون) ظنوا أن هذا آخر ما نزل منها، فقال أبي بن كعب: أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم آيتين بعدهن: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم) إلى آخر السورة").
تسمية المصحف وكيف تمت:
مضى في مسألة اسم المصحف من هذا البحث أن بعض الأحاديث قد وردت فيها تسمية القرآن باسم " المصحف"، كقوله عليه السلام: "لا تسافروا بالمصحف إلى أرض العدو"، وكقوله: "لا تمس المصحف إلا وانت طاهر"، وقد مضى تخريجهما.
وذكر الكاتبون في تاريخ المصحف: (أنه لما جمع أبو بكر القرآن قال: سموه. فقال بعضهم: سموه إنجيلا، فكرهوه. وقال بعضهم: سموه السفر، فكرهوه من يهود.فقال ابن مسعود: رأيت للحبشة كتابا يدعونه المصحف،فسموه به). وقد مر ذلك كله مفصلا في اسم المصحف، فليراجعه من رامه.
مآل مصحف أبي بكر:
ذكرت الروايات المتعلقة بجمع القرآن في عهد أبي بكر الصديق أن القرآن لما جمع في الصحف بقيت تلك الصحف عند أبي بكر مدة حياته، ثم عند عمر بن الخطاب مدة حياته، ثم عند حفصة بنت عمر أم المؤمنين رضي الله عنها، وإنما كانت عند حفصة رضي الله عنها بعد وفاة أبيها لأنه أوصى بذلك إليها لمكانتها من النبي صلى الله عليه وسلم، ولكونها كاتبة قارئة يمكنها أن تصون تلك الصحف وتحافظ عليها، حتى طلب منها الصحف الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه لما شرع في كتابة المصحف الإمام، فأعطته إياها لعلمها بأن له طلب ذلك منها، ولكونه رضي الله عنه قد تعهد لها
[513]
برد تلك الصحف إليها بعد أن يفرغ من نقل مضامينها في المصحف الإمام، وقد وفى رضي الله عنه بتعهده هذا فرد الصحف إلى حفصة رضي الله عنها، حتى إذا كان مروان بن الحكم أميرا للمدينة في عهد معاوية، أرسل إلى أم المؤمنين رضي الله عنها يسألها الصحف ليمزقها، وخشي أن يخالف الكتاب بعضه بعضا، فمنعته إياها، حتى إذا توفيت حفصة رضي الله عنها، أرسل مروان إلى عبد الله بن عمر ساعة رجعوا من جنازة حفصة بعزيمة: ليرسلنها. فأرسل بها ابن عمر إلى مروان فمزقها مخافة أن يكون في شيء من ذلك خلاف لما نسخ عثمان. ذكر نحوا من ذلك أو عبيد القاسم بن سلام في كتابه فضائل القرآن، ثم قال: (قال أبو عبيد: لم يسمع في شيء من الحديث أن مروان هو الذي مزق الصحف إلا في هذا الحديث) يعني حديث ابن شهاب عن سالم بن عبد الله بن عمر، وقد مر في مسألتي إحراق المصحف وتمزيقه بأبسط من هذا.
جمع المصحف في عهد عثمان، والفرق بينه وبين الجمع الأول:
تعددت مصاحف الصحابة، ولا سيما بعد الجمع الأول، واشتملت تلك المصاحف على ضروب من الرسم واختلاف في الترتيب وعدد السور، بالإضافة إلى تضمن بعض المصاحف لزيادات تفسيرية ربما سببت شيئا من اللبس عندما يقرأ فيها غير أصحابها، الأمر الذي يفضي إلى قدر من الاختلاف بين الناس ولو بعد حين، لذا بات من الضروري توحيد تلك المصاحف وجمع الناس على مصحف واحد يحصل الاتفاق بينهم على رسمه وترتيبه وعدة سوره وآياته، ويتم تجريده عما ليس بقرآن ليكون للناس إماما يعتمدون عليه ويعولون في مصاحفهم المستقبلية عليه، وهذا هو الذي تم في عهد الخليفة عثمان بن عفان، وأجمع عليه الصحابة في عصره، وقد مرت الإشارة إليه في غير موضع من هذا البحث..
[514]
ويمكن استجلاء الفرق بين جمع القرآن في عهد أبي بكر وبين جمع القرآن في عهد عثمان رضي الله عنهما بأن يقال إن جمع أبي بكر كان هو الجمع الحقيقي، حيث ضم ما كان في أوعية متفرقة متفاوتة الحجم في وعاء واحد أو في صحف متماثلة يجمعهما لوحان وتضمهما دفتان، في حين كان الجمع في عهد عثمان بمثابة الترتيب للمصحف الأول وفقا لما جرت عليه العرضة الأخيرة، ثم تم إتلاف ما سواه، فهو إذا توحيد للمصاحف التي كانت متباينة، وجمع للناس على إمام لا تختلف نسخه ولا يحصل بعده تباين في المصاحف، فتتحقق بذلك وحدة المسلمين، وتنسد كل ثغرة قد يلج الاختلاف على الأمة منها وقد حكى الزركشي وغيره كلاما لأبي عبد الله الحارث بن أسد المحاسبي حول جمع كل من أبي بكر وعثمان للقرآن، والفرق بين هذين الجمعين، أورده هنا بنصه إتماما للفائدة.. قال الزركشي: (قال الإمام أبو عبد الله الحارث بن أسد المحاسبي في كتابه "فهم السنن" : "كتابة القرآن ليست محدثة، فإنه صلى الله عليه وسلم كان يأمر بكتابته، ولكنه كان مفرقا في الرقاع والأكتاف والعسب، وإنما أمر الصديق بنسخها من مكان إلى مكان مجتمعا، وكان ذلك بمنزلة أوراق وجدت في بيت رسول الله صلى الله عليه فيها القرآن منتشر، فجمعها جامع، وربطها بخيط حتى لا يضيع منها شيء.
فإن قيل: كيف وقعت الثقة بأصحاب الرقاع وصدور الرجال؟ قيل: لأنهم كانوا يبدون عن تأليف معجز، ونظم معروف، وقد شاهدوا تلاوته من النبي صلى الله عليه وسلم عشرين سنة، فكان تزويد ما ليس منه مأمونا، وإنما كان الخوف من ذهاب شيء من صحفه.
فإن قيل: كيف لم يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك؟ قيل: لأن الله تعالى كان قد أمنه من
[515]
النسيان بقوله: (سنقرئك فلا تنسى، إلا ما شاء الله) أن يرفع حكمه بالنسخ، فحين وقع الخوف من نسيان الخلق حدث ما لم يكن، فأحدث بضبطه ما لم يحتج إليه قبل ذلك.
وفي قول زيد بن ثابت: [فجمعته من الرقاع والأكتاف وصدور الرجال]ما أوهم بعض الناس أن أحدا لم يجمع القرآن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن من قال أنه جمع القرآن أبي بن كعب وزيد ليس بمحفوظ. وليس الأمر على ما أوهم، وإنما طلب القرآن متفرقا ليعارض بالمجتمع عند من بقي ممن جمع القرآن ليشترك الجميع في علم ما جمع، فلا يغيب عن جمع القرآن أحد عنده منه شيء، ولا يرتاب أحد فيما يودع المصحف، ولا يشكو في أنه جمع عن ملإ منهم.
فأما قوله: [وجدت آخر براءة مع خزيمة بن ثابت، ولم أجدها]يعني ممن كانوا في طبقة خزيمة ممن لم يجمع القرآن. وأما أبي بن كعب، وعبد الله بن مسعود، ومعاذ بن جبل فبغير شك جمعوا القرآن، والدلائل عليه متظاهرة- قال- ولهذا المعنى لم يجمعوا السنن في كتاب إذا لم يكن ضبطها كما ضبط القرآن – قال- ومن الدليل على ذلك أن تلك المصاحف التي كتب منها القرآن كانت عند الصديق لتكون إماما، ولم تفارق الصديق في حياته، ولا عمر أيامه، ثم كانت عند حفصة لا تمكن منها. ولما احتيج إلى جمع الناس على قراءة واحدة، وقع الاختيار عليها في أيام عثمان ، فأخذ ذلك الإمام ونسخ في المصاحف التي بعث بها إلى الكوفة، وكان الناس متروكين على قراءة ما يحفظون من قراءتهم المختلفة، حتى خيف الفساد، فجمعوا على القراءة التي نحن عليها. قال: والمشهور عند الناس أن جامع القرآن عثمان رضي الله عنه وليس كذلك، إنما حمل عثمان الناس على القراءة بوجه واحد على اختيار وقع بينه وبين من شهده من المهاجرين والأنصار لما خشي الفتنة عند اختلاف أهل العراق والشام في حروف القراءات والقرآن، وأما قبل ذلك فقد كانت المصاحف بوجوه من القراءات المطلقات على الحروف السبعة التي أنزل بها القرآن،
[516]
فأما السابق إلى جمع الجملة فهو الصديق. روي عن علي أنه قال: [رحم الله أبا بكر الصديق هو أول من جمع بين اللوحين]، ولم يحتج الصحابة في أيام أبي بكر وعمر إلى جمعه على وجه ما جمعه عثمان، لأنه لم يحدث في أيامهما من الخلاف فيه ما حدث في زمن عثمان، ولقد وفق لأمر عظيم، ورفع الاختلاف، وجمع الكلمة، وأراح الأمة).
تاريخ جمع المصحف الإمام والتوفيق بين الروايات المتعارضة في ذلك:
ذكر أهل العلم في تاريخ كتابة المصحف الإمام ثلاثة أقوال:
أحدها: أن كتابته كانت سنة ثلاث وعشرين للهجرة.
والقول الثاني: أن ذلك كان سنة خمس وعشرين.
والقول الثالث: أن كتابة المصحف الإمام كانت سنة ثلاثين للهجرة، وقد عده بعض أهل العلم غفلة من قائله.
فقد أخرج ابن أبي داود في كتاب المصاحف قال: (حدثنا عمي "يعني يعقوب بن سفيان" قال: حدثنا أبو رجاء قال: أخبرنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن مصعب بن سعد قال: قام عثمان فخطب الناس فقال: "أيها الناس عهدكم بنبيكم منذ ثلاث عشرة، وأنتم تمترون في القرآن، وتقولون قراءة أبي، وقراءة عبد الله. يقول الرجل: والله ما نقيتم قراءتك. فأعزم على كل رجل منكم ما كان معه من كتاب الله لما جاء به". وكان الرجل يجيء بالورقة والأديم فيه القرآن، حتى جمع من ذلك كثرة، ثم دخل عثمان فدعاهم رجلا رجلا، فناشدهم لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أملاه عليك؟ فيقول: نعم، فلما فرغ من ذلك عثمان قال: "من أكتب الناس؟ قالوا: كاتب
[517]
رسول الله زيد بن ثابت. قال: فأي الناس أعرب؟قالوا سعيد بن العاص. قال عثمان: فليمل سعيد، وليكتب زيد" فكتب زيد وكتب مصاحف ففرقها في الناس، فسمعت بعض أصحاب محمد يقول: قد أحسن).
وأخرج ابن أبي داود في المصاحف أيضا قال: (حدثنا إسماعيل بن عبد الله بن مسعود قال: حدثنا يحي –يعني ابن يعلي بن الحارث- قال: حدثنا أبي قال: حدثنا غيلان عن أبي اسحاق عن مصعب بن سعد قال: سمع عثمان قراءة أبي وعبد الله ومعاذ، فخطب الناس ثم قال: "إنما قبض نبيكم منذ خمس عشرة سنة، وقد اختلفتم في القرآن، عزمت على من عنده شيء من القرآن سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أتاني به"، فجعل الرجل يأتيه باللوح والكتف والعسب فيه الكتاب، فمن أتاه بشيء قال: "أنت سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟". ثم قال: "أي الناس أفصح؟ قالوا: سعيد ابن العاص. ثم قال: أي الناس أكتب؟ قالوا: زيد بن ثابت. قال: فليكتب زيد، وليمل سعيد". قال: وكتب مصاحف فقسمها في الأمصار، فما رأيت أحدا عاب ذلك عليه).
التوفيق بين الروايات:
قال الحافظ في الفتح بعد أن ساق روايتي ابن أبي داود السالفتين: ( وكانت هذه القصة سنة خمس وعشرين في السنة الثالثة أو الثانية من خلافة عثمان).ثم ذكر قول عثمان في أحدى الروايتين: ("إنما قبض نبيكم منذ خمس عشرة سنة"، وقوله في الرواية الثانية: "منذ ثلاث عشرة سنة" فيجمع بينهما بإلغاء الكسر في هذه وجبره في الأولى، فيكون ذلك بعد مضي سنة واحدة من خلافته، فيكون ذلك في أواخر سنة أربع وعشرين، وأوائل سنة خمس وعشرين، وهو الوقت الذي ذكر أهل التاريخ أن أرمينية فتحت فيه، وذلك في أول ولاية الوليد بن عقبة بن أبي معيط على الكوفة من قبل عثمان، وغفل بعض من أدركناه فزعم أن ذلك كان في حدود سنة ثلاثين ولم يذكر لذلك مستندا). أ.ه كلام الحافظ بن حجر.
[518]
الأسباب الحاملة على جمع المصاحف الإمام:
تعددت الروايات في البواعث على جمع المصحف الإمام، فقد أخرج أبو عبيد في فضائل القرآن، والبخاري في صحيحه، وابن أبي داود في المصاحف، واللفظ لأبي عبيد قال: (قال عبد الرحمن"يعني ابن مهدي" حدثنا إبراهيم بن سعد عن الزهري عن أنس بن مالك أن حذيفة بن اليمان كان يغازي أهل الشام مع أهل العراق في فتح أرمينية وأذربيجان، فأفزعه اختلافهم في القرآن، فقال لعثمان: يا أمير المؤمنين، أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب كما اختلفت اليهود والنصارى. فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها عليك، فأرسلت حفصة بالصحف إلى عثمان، فأرسل عثمان إلى زيد بن ثابت وإلى عبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فأمرهم أن ينسخوا الصحف في المصاحف، ثم قال للرهط القرشيين الثلاثة: " ما اختلفتم فيه أنتم وزيد فاكتبوه بلسان قريش، فإنه نزل بلسانهم". قال: ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف بعث عثمان في كل أفق بمصحف من تلك المصاحف التي نسخوها ، ثم أمر بما سوى ذلك من القراءة في كل صحيفة أو مصحف أن يمزق أو يحرق. وقد ذكر ابن أبي داود في المصاحف في سبب فزع حذيفة جملة آثار.، ومنها اختلاف أهل الكوفة والبصرة في القراءة، فمنهم من يقرأ بقراءة أبي موسى الأشعري، ومنهم من يقرأ بقراءة عبد الله بن مسعود؛ بل قد يشتد الخلاف بين الناس في البلد الواحد، فمن هذه الآثار ما أخرجه ابن أبي داود بسنده عن يزيد بن معاوية وأبي الشعثاء المحاربي، ومرة في كراهية حذيفة رضي الله عنه : " كره أن يقال قراءة أبي موسى
[519]
وقراءة ابن مسعود".
وأخرج ابن أبي داود في المصاحف أيضا قال: (حدثنا زياد بن أيوب قال: حدثنا إسماعيل قال: أيوب عن أبي قلابة قال: لما كان في خلافة عثمان جعل المعلم يعلم قراءة الرجل، والمعلم يعلم قراءة الرجل، فجعل الغلمان يلتقون فيختلفون حتى ارتفع ذلك إلى المعلمين. قال أيوب: لا أعلمه إلا قال حتى كفر بعضهم بقراءة بعض، فبلغ ذلك عثمان فقام خطيبا فقال: "أنتم عندي تختلفون فيه فتلحنون، فمن نأى عني من الأمصار أشد فيه اختلافا، وأشد لحنا، اجتمعوا يا أصحاب محمد واكتبوا للناس إماما".
قال أبو قلابة: فحدثني مالك بن أنس[قال أبو بكر: هذا مالك بن أنس جد مالك بن أنس] قال: كنت فيمن أملي عليهم، فربما اختلفوا في الآية فيذكرون الرجل قد تلقاها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولعله أن يكون غائبا أو في بعض البوادي، فيكتبون ما قبلها وما بعدها ويدعون موضعها حتى يجيء أو يرسل إليه، فلما فرغ من المصحف كتب إلى أهل الأمصار أني قد صنعت كذا، محوت ما عندي فامحوا ما عندكم).
وقد مر ذكر روايتي مصعب بن سعد في هذا الشأن عند الكلام عن تاريخ الجمع.
الكيفية التي تم بها الجمع، وذكر الهيئة المكلفة بذلك:
تضمن الآثار السالف ذكرها وصفا للكيفية التي تمت بها كتابة المصحف الإمام والتدابير المتخذة لهذه الغاية كالرجوع إلى الصحف التي جمعت في عهد الصديق والتعويل في الكتابة على صحابي جليل كتب الوحي بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم بل لعله كان الكاتب الأول للوحي، ووقع عليه الاختيار في الجمع الأول في عهد الصديق رضي الله عنه، ثم وقع عليه الاختيار ثانية في عهد عثمان، ذلك زيد بن ثابت إمعانا منهم رضي الله عنهم في الاحتياط لكتاب الله عزوجل،ولما كان للإملاء أثر بالغ في دقة المكتوب أختير لهذه المهمة أفصح الناس في تلك الآونة، وأشبههم لهجة بالنبي صلى الله عليه وسلم، فكان سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية، وقد أدرك سعيد بن العاص هذا
[520]
من حياة النبي صلى الله عليه وسلم تسع سنين. قال ابن سعد: (وعدوه لذلك في الصحابة). وذكر ذلك الحافظ في الفتح، وقد ضم إلى هذين الصحابيين الجليلين طائفة من الكتاب فيهم عبد الله بن الزبير، وعبد الرحمن بن هشام على ما في رواية أنس في الصحيح، وفيهم أيضا أبي بن كعب وأنس بن مالك وعبد الله بن عباس، ومنهم مالك بن أبي عامر جد الإمام مالك بن أنس، وكثير بن أفلح على ما ذكره ابن أبي داود في المصاحف، وعنه الحافظ في الفتح، فهؤلاء تسعة ما بين كاتب ومملي، وذكر ابن أبي داود في بعض الروايات أن عدة الذين تولوا كتابة المصحف اثنا عشر رجلا.
وذكر أبو عمرو الداني في المقنع أسماء ثلاثة آخرين تتم بهم العدة هم عبد الله بن عمرو بن العاص، وأنس بن مالك القشيري، وصعصعة بن صوحان. وقد استشكل البعض هذا الاختلاف بين الروايات في عدة هيئة الكتبة للمصحف الإمام فيجاب عنه بأن ابتداء الأمر كان لزيد وسعيد للمعنى المذكور فيهما في رواية مصعب، ثم احتاجوا إلى من يساعد في الكتابة بحسب الحاجة إلى عدد المصاحف التي ترسل إلى الآفاق، فأضافوا إلى زيد من ذكر، ثم استظهروا بأبي بن كعب في الإملاء. ذكر ذلك الحافظ بن حجر في الفتح.
[521]
الحرف الذي كتب به المصحف الإمام:
وقد بين الحافظ بن حجر في موضع من الفتح الراجح من الأقوال في الحرف الذي كتب به المصحف الإمام من بين الحروف السبعة فقال: (قال أبو شامة: وقد اختلف السلف في الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن هل هي مجموعة في المصحف الذي بأيدي الناس اليوم أوليس فيه إلا حرف واحد منها؟ مال ابن الباقلاني إلى الأول، وصرح الطبري وجماعة بالثاني وهو المعتمد.
وقد أخرج أبي داود في المصاحف عن أبي الطاهر بن أبي السرح قال: سألت ابن عيينة عن اختلاف قراءة المدنيين والعراقيين هل هي الأحرف السبعة؟ قال: لا، وإنما الأحرف السبعة مثل هلم وتعال وأقبل، أي ذلك أجزأك. قال: وقال لي ابن وهب مثله).
والحق أن الذي جمع في المصحف هو المتفق على إنزاله المقطوع به المكتوب بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه بعض ما اختلف فيه الأحرف السبعة لا جميعها كما وقع في المصحف المكي: (تجري من تحتها الأنهار)في آخر سورة براءة، وفي غيره بحذف "من"، وكذا ما وقع من اختلاف مصاحف الأمصار من عدة واوات ثابتة في بعضها دون بعض، وعدة هاءات، وعدة لامات ونحو ذلك... وهو محمول على أنه نزل بالأمرين معا وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بكتابته لشخصين، أو أعلم بذلك شخصا واحدا وأمره بإثباتهما على الوجهين، وما عدا ذلك من القراءات مما لا يوافق الرسم فهو مما كانت القراءة جوزت به توسعة على الناس وتسهيلا، فلما آل الحال إلى ما وقع من الاختلاف في زمن عثمان وكفر بعضهم بعضا، اختاروا الاقتصار على اللفظ المأذون في كتابته وتركوا الباقي.
[522]
قال الطبري: (وصار ما اتفق عليه الصحابة من الاقتصار كمن اقتصر مما خير فيه على خصلة واحدة، لأن أمرهم بالقراءة على الأوجه المذكورة لم يكن على سبيل الإيجاب؛ بل على سبيل الرخصة. قلت ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم في حديث الباب: "فاقرءوا ما تيسر منه").
وقد قرر الطبري ذلك تقريرا وأطنب فيه،ووهى من قال بخلافه، ووافقه على ذلك جماعة منهم أبو العباس ابن عمار في "شرح الهداية"، وقال: (أصح ما عليه الحذاق أن الذي يقرأ الآن بعض الحروف السبعة المأذون في قراءتها لا كلها، وضابطه ما وافق رسم المصحف، فأما ما خالفه مثل: "أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج"، ومثل إذا جاء فتح الله والنصر"، فهو من تلك القرآت التي تركت إن صح السند بها، ولا يكفي حة سندها في إثبات كونها قرآنا، ولا سيما والكثير منها مما يحتمل أن يكون من التأويل الذي قرن بالتنزيل فصار يظن أنه منه.
وقال البغوي في "شرح السنة": المصحف الذي استقر عليه الأمر هو آخر العرضات على رسول الله صلى الله عليه، فأمر عثمان بنسخه في المصاحف وجمع الناس عليه، وأذهب ما سوى ذلك قطعا لمادة الخلاف فصار ما يخالف خط المصحف في حكم المنسوخ والمرفوع كسائر ما نسخ ورفع، فليس لأحد أن يعدو في اللفظ إلى ما هو خارج عن الرسم.
[523]
وقال أبو شامة: ظن قوم أن القرآت السبع الموجودة الآن هي التي أريدت في الحديث، وهو خلاف إجماع أهل العلم قاطبة، وإنما يظن ذلك بعض أهل الجهل). انتهى المقصود من كلام الحافظ بن حجر. وقد بسط الزركشي في البرهان القول في هذه المسألة فليراجعه من رامه.
موقف الصحابة من جمع المصحف الإمام وجمع الناس عليه وإتلاف ما سواه:
وقد ذكر غير واحد من أهل العلم كابن كثير أن كتابة المصحف الإمام معدودة في مناقب عثمان رضي الله عنه، ومدعومة بموافقة الصحابة على ذلك واستحسانهم إياه.. قال ابن كثير: (وهذا أيضا من أكبر مناقب أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه، فإن الشيخين سبقاه إلى حفظ القرآن أن يذهب منه شيء،وهو جمع الناس على قراءة واحدة لئلا يختلفوا في القرآن، ووافقه على ذلك جميع الصحابة، وإنما روي عن عبد الله بن مسعود شيء من التغضب بسبب أنه لم يكن ممن كتب المصاحف، وأمر أصحابه بغل مصاحفهم لما أمر عثمان بحرق ما عدا المصحف الإمام، ثم رجع ابن مسعود إلى الوفاق حتى قال علي بن أبي طالب: "لو لم يفعل ذلك عثمان لفعلته أنا". فاتفق الأئمة الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي على أن ذلك من مصالح الدين، وهم الخلفاء الذين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي".
[524]
وقد ذكر الحافظ ابن حجر في الفتح وهو بصدد الكلام عن سبب ما قيل عن كراهة ابن مسعود لأمر عثمان بإتلاف المصاحف المخالفة للمصحف الإمام، وعن عدم إشراك ابن مسعود في مسألة الجمع هذا، قال: (والعذر لعثمان في ذلك أنه فعله بالمدينة وعبد الله بالكوفة، ولم يؤخر ما عزم عليه من ذلك إلى أن يرسل إليه ويحضر، وأيضا فإن عثمان إنما أراد نسخ الصحف التي كانت جمعت في عهد أبي بكر وأن يجعلها مصحفا واحدا، وكان الذي نسخ ذلك في عهد أبي بكر هو زيد بن ثابت كما تقدم،لكونه كاتب الوحي ، فكانت له أولية ليست لغيره).
وقد مضى في إتلاف المصاحف وحرقها وجه إتلاف عثمان رضي الله عنه ما خالف المصحف الإمام، وإقرار الصحابة رضي الله عنهم له في ذلك، لذا يحسن الاكتفاء هنا بما ذكره الحافظ في الفتح بهذا الصدد حيث قال: (قوله"وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق" في رواية "أن يخرق" بالخاء المعجمة، وللمروزي بالمهملة، ورواه الأصيلي بالوجهين والمعجمة أثبت. وفي رواية الإسماعيلي أن تمحى أو تحرق، وقد وقع في رواية شعيب عند أبي داود والطبراني وغيرهما: "وأمرهم أن يحرقوا كل مصحف يخالف المصحف الذي أرسل به". قال: فذلك زمان حرقت المصاحف بالعراق بالنار.
وفي رواية سويد بن غفلة عن علي قال: " لا تقولوا لعثمان في إحراق المصاحف إلا خيرا". وفي رواية بكير بن الأشج: " فأمر بجمع المصاحف فأحرقها، ثم بث في الأجناد التي كتب". ومن طريق مصعب بن سعد قال: "أدركت الناس متوافرين حين حرق عثمان المصاحف فأعجبهم ذلك- أو قال- لم ينكر ذلك منهم أحد". وفي رواية أبي قلابة: "فلما فرغ عثمان من المصحف كتب إلى أهل الأمصار: إني قد صنعت كذا وكذا، ومحوت ما عندي فامحوا ما عندكم". والمحو أعم من أن يكون بالغسل أو التحريق، وأكثر الروايات صريح في التحريق فهو الذي وقع، ويحتمل وقوع كل منهما بحسب ما رأى من كان بيده شيء من ذلك، وقد جزم
[525]
عياض بأنهم غسلوها بالماء ثم أحرقوها مبالغة في إذهابها).
عدد نسخ المصحف الإمام، وذكر الأقطار التي وجه بتلك النسخ إليها:
إختلفت الروايات في عدة نسخ المصحف الإمام، فمن قائل بأنها أربع، ومن قائل بأنها خمس، ومن قائل بأنها سبع، والأكثر على أنها أربع..
فقد أخرج ابن أبي داود في المصاحف قال: (حدثنا علي بن محمد الثقفي، حدثنا المنجاب بن الحارث قال: حدثني قبيصة بن عقبة قال: سمعت حمزة الزيات يقول: كتب عثمان أربعة مصاحف، فبعث بمصحف منها إلى الكوفة، فوضع عند رجل من مراد فبقي حتى كتبت مصحفي عليه. وحمزة القائل كتبت مصحفي عليه).
وأخرج ابن أبي داود في المصاحف أيضا قال: (سمعت أبا حاتم السجستاني قال: لما كتب عثمان المصاحف حين جمع القرآن كتب سبعة مصاحف، فبعث واحدا إلى مكة، وآخر إلى الشام، وآخر إلى اليمن، وآخر إلى البحرين، وآخر إلى البصرة، وآخر إلى الكوفة، وحبس بالمدينة واحدا).
وقال أبو عمرو الداني في المقنع: (أكثر العلماء على أن عثمان بن عفان رضي الله عنه
[526]
لما كتب المصحف جعله على أربع نسخ، وبعث إلى كل ناحية من النواحي بواحدة منهن، فوجه إلى الكوفة إحداهن، وإلى البصرة أخرى، وإلى الشام الثالثة، وأمسك عند نفسه واحدة. وقد قيل إنه جعله سبع نسخ، ووجه من ذلك أيضا نسخة إلى مكة، ونسخة إلى اليمن، ونسخة إلى البحرين، والأول أصح وعليه الأئمة).
وذكر الحافظ في الفتح أن النسخ كانت خمسا، نسخة مكة، ونسخة المدينة، ونسخة البصرة،و نسخة الكوفة، ونسخة الشام. قال: (ويقال أنه وجه بسبعة هذه الخمسة، ومصحفا إلى اليمن، ومصحفا إلى البحرين، لكن لم نسمع لهذين المصحفين خبرا). ومع أكثر الروايات قد ذكرت أن عثمان رضي الله عنه قد أرسل إلى كل أفق بنسخة إلا أنه لم يقع لي فيها أنه وجه إلى القطر المصري بشيء منها مع أن فتح مصر قد سبق جمع الناس على المصحف الإمام بزمن.
مصير نسخ المصحف الإمام
أخرج ابن أبي داود في المصاحف قال: (حدثنا أبو الطاهر، حدثنا ابن وهب قال: "سألت مالكا عن مصحف عثمان رضي الله عنه فقال لي: ذهب").
وذكر ابن قتيبة في غير موضع من كتبه أن المصحف الإمام بعد مقتل عثمان رضي الله عنه وهو في حجره- ورثه عنه ابنه خالد، وعن خالد أبناؤه، وقد درجوا. قال: وقد قال لي بعض المشايخ من أهل الشام إن ذلك المصحف الآن في أرض طوس.
[527]
وقال ابن كثير في الفضائل إثر حكايته لرواية ابن وهب عن مالك: (يحتمل أنه سأله عن المصحف الذي كتبه بيده، ويحتمل أن يكون سأله عن المصحف الذي تركه في المدينة، والله أعلم).
وقال ابن كثير أيضا عن مصير نسخ المصحف الإمام: (وأما المصاحف العثمانية الأئمة فأشهرها اليوم الذي في الشام بجامع دمشق عند الركن شرقي المقصورة المعمورة بذكر الله، وقد كان قديما بمدينة طبرية، ثم نقل منها إلى دمشق في حدود ثماني عشرة وخمسمائة، وقد رأيته كتابا عزيزا جليلا عظيما ضخما بخط حسن مبين قوي بحبر محكم في رق أظنه من جلود الإبل، والله أعلم.....زاده الله تشريفا وتعظيما وتكريما).
وقال الشاطبي في قصيدته الرائية الموسومة بعقيلة أتراب القصائد في أسنى المقاصد في علم الرسم والمطبوعة بمطبعة الحجر الكستلية بمصر ضمن مجموع قصائد في علوم القرآن:
وقال مصحف عثمان تغيب لم......نجد له بين أشياخ الهدى خبرا
أبو عبيد أولوا بعض الخزائن لي.....استخرجوه فأبصرت الدما أثرا
[528]
ورده ولد النحاس معتمدا.....ما قبله وأباه منصف نظرا
إذ لم يقل مالك لاحت مهالكه....ما لا يفوت فيرجى طال أو قصرا
وفي كلام السمهودي الذي كان نزيل دار الهجرة في أواخر القرن التاسع وأوائل العاشر نوع جمع بين الروايات المتضاربة في شأن مآل المصحف الإمام، أسوقه هنا بتمامه ليطلع عليه القاريء اطلاع المتأمل، ثم يقارنه بما قبله وبما بعده ليخرج بأقرب النتائج وأحراها بالصواب...قال السمهودي وهو بصدد الكلام عن القراءة في المصحف بالمسجد: قال: وقد روى ابن شبة عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: إن أول من جمع القرآن في مصحف وكتبه عثمان بن عفان رضي الله عنه، ثم ةضعه في المسجد فأمر به يقرأ كل غداة . وعن محرز بن ثابت مولى سلمة بن عبد الملك عن أبيه قال: كنت في حرس الحجاج بن يوسف، فكتب الحجاج المصاحف ثم بعث بها إلى الأمصار، وبعث بمصحف إلى المدينة، فكره ذلك آل عثمان، فقيل لهم: أخرجوا مصحف عثمان يقرأ. فقالوا: أصيب المصحف يوم قتل عثمان. قال محرز: وبلغني أن مصحف عثمان صار إلى خالد بن عمرو بن عثمان، قال فلما استخلف المهدي بعث بمصحف إلى المدينة، فهو الذي يقرأ في اليوم، وعزل مصحف الحجاج فهو في الصندوق الذي دون المنبر..انتهى.
بعث المصاحف إلى المساجد:
وقال ابن زبالة: (حدثني مالك بن أنس قال: أرسل الحجاج بن يوسف إلى أمهات القرى بمصاحف، فأرسل إلى المدينة بمصحف منها كبير، وهو
[529]
أول من أرسل بالمصاحف إلى القرى، وكان هذا المصحف في صندوق عن يمين الاسطوانة التي عملت علما لمقام النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يفتح في يوم الجمعة والخميس ويقرأ فيه إذا صليت الصبح، فبعث المهدي بمصاحف لها أثمان فجعلت في صندوق، ونحى عنها مصحف الحجاج ، فوضعت عن يسار السارية، ووضعت منابر لها كانت اقرأ عليه، وحمل مصحف الحجاج في صندوقه عند الاسطوانة التي عن يمين المنبر). انتهى.
قلت" والقائل هو السمهودي"، ولا ذكر لهذا المصحف الموجود اليوم بالقبة التي بوسط المسجد المنسوب لعثمان رضي الله عنه في كلام أحد من متقدمي المؤرخين؛بل فيما قدمناه ما يقتضي أنه لم يكن بالمسجد حينئذ؛ بل ولا ذكر له في كلام ابن النجار وهو أول من أرخ من المتأخرين، وقد ترجم لذكر المصاحف التي كانت في المسجد، ثم ذكر ما قدمناه عن ابن زبالة ثم قال: (وأكثر ذلك دثر على طول الزمان وتفرقت أوراقه. قال: وهو مجموع في يومنا هذا في جلال في المقصورة- أي المحترقة- إلى جانب باب مروان). ثم ذكر أن بالمسجد عدة مصاحف بخطوط ملاح موقوفة مخزونة في خزائن ساج بين يدي المقصورة خلف مقام النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: (وهناك كرسي كبير فيه مصحف مقفل عليه نفذ به من مصر، وهو عند الاسطوانة التي في صف مقام النبي صلى الله عليه وسلم، وإلى جانبه مصحفان على كرسيين يقرأ الناس فيهما، وليس في المسجد ظاهر سواهما). ولم أر نسبة المصحف الموجود اليوم لعثمان رضي الله عنه إلا في كلام المطري ومن بعده عنده ذكر سلامة القبة التي بوسط المسجد من الحريق كما قدمناه، نعم ذكر ابن جبير في رحلته ما حاصله أن أمام مقام النبي صلى الله عليه وسلم- وقد عبر عنه بالروضة الصغيرة- صندوقا، وأن بين المقام
[530]
وبين الحجرة – أي بجانب المقام من جهة المشرق- محمل كبير عليه المصحف كبير في غشاء مقفل عليه، وهو أحد المصاحف الأربعة التي وجه بها عثمان بن عفان رضي الله عنه إلى البلاد . انتهى.
وهذا المصحف الذي أشارؤ إليه ينطبق في الوصف على المصحف الذي ذكر ابن النجار أنه نفذ به من مصر، ولم يصفه بما ذكره ابن جبير من نسبته لعثمان، مع أن ابن جبير مصرح بأنه من المصاحف التي بعث بها عثمان إلى الآفاق، لا أنه الذي قتل وهو في حجره. وقد قال ابن قتيبة: (كان مصحف عثمان الذي قتل وهو في حجره عند ابنه خالد، ثم صار مع أولاده وقد درجوا). قال: (وقال لي بعض مشايخ أهل الشام: إنه بأرض طوس).
وقال الشاطبي ما حاصله: (إن مالكا رحمه الله قال: إنما يكتب المصحف على الكتابة الأولى لا على ما استحدثه الناس). قال: (وقال: إن مصحف عثمان رضي الله عنه تغيب فلم يجد له خبرا بين الأشياخ).
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه في القراءات: (رأيت المصحف الذي يقال له الإمام مصحف عثمان بن عفان رضي الله عنه، استخرج أي من بعض خزائن الأمراء، وهو المصحف الذي كان في حجره حين أصيب، ورأيت آثار دمه في مواضع منه). ورده أبو جعفر النحاس بما تقدم من كلام مالك. قال الشاطبي: ( وأباه المنصفون، لأنه ليس في قول مالك " تغيب" ما يدل على عدم المصحف بالكلية بحيث لا يوجد، لأن ما تغيب يرجى ظهوره.
قلت" والقائل هو السمهودي" : فيحتمل أنه بعد ظهوره نقل إلى المدينة وجعل في المسجد النبوي، لكن يوهن هذا الاحتمال أن بالقاهرة مصحفا عليه أثر الدم عند قوله تعالى: (فسيكفيكهم الله) الآية، كما هو بالمصحف الشريف الموجود اليوم بالمدينة، ويذكرون أنه المصحف العثماني، وكذلك بمكة، والمصحف الإمام الذي قتل عثمان رضي الله عنه وهو بين يديه لم يكن إلا واحد، والذي يظهر أن بعضهم وضع خلوقا
[531]
على تلك الآية تشبيها بالمصحف الإمام، ولعل هذه المصاحف التي قدمنا ذكرها مما بعث به عثمان رضي الله عنه إلى الآفاق كما هو مقتضى كلام ابن جبير في المصحف الموجود بالمدينة، وفي الصحيح من حديث أنس في قصة كتابة عثمان رضي الله عنه للقرآن من الصحف التي كانت عند حفصة: "وأنه أمر بذلك زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف، وأنه أرسل إلى كل أفق بمصحف كما نسخوا"... ثم ذكر السمهودي عدة المصاحف التي أرل بها عثمان إلى الآفاق نقلا عن ابن أبي داود في كتاب المصاحف، وابن حجر في الفتح على ما مضى بيانه في غير موضع من هذا البحث.
ثم قال السمهودي: وليس معنا في أمر المصحف الموجود اليوم سوى مجرد احتمال، والله أعلم أ.ه كلام السمهودي.
[532]
وقال الدكتور صبحي الصالح بعد أن ساق نص ابن كثير المتقدم آنفا: (ويميل بعض الباحثين إلى أن هذا المصحف أمسى زمنا ما في حوزة قياصرة الروس في دار الكتب في لينجراد، ثم نقل إلى انجلترة، بينما يرى آخرون أن هذا المصحف بقي في مسجد دمشق حتى احترق فيه سنة 1310 ه). وأحال على خطط الشام لمحمد كرد علي.
وحكى الدكتور الصالح رحمه الله أن الدكتور يوسف العشي ذكر له أن القاضي عبد المحسن الأسطواني أخبره بِأنه قد رأى المصحف الشامي قبل احتراقه، وكان محفوظا بالمقصورة وله بيت خشب.
وفي مقال للدكتور خالد محمد نعيم نشرته جريدة المدينة المنورة حول مصحف عثمان رضي الله عنه، والذي كان موجودا في أوائل القرن العشرين الميلادي في مكتبة بطرسبورج "لينجراد" وكيف وصل إليها ثم كيف نقلت هذه النسخة من (بطرسبورج) إلى (أوفا) ثم إلى (طشقند). وأن هذا المصحف لم يكن ضمن محفوظات مكتبة بطرسبورج إبان الحريق الذي حل بها في منتصف فبراير 1988، وأن النسخة الأصلية لمصحف عثمان قد تم نقلها عام 1923م، أم 1924م من مكتبة بطرسبورج- لينجراد سابقا- إلى "طشقند" عاصمة أوزبكستان الإسلامية، وأن هناك نسخة أخرى قد أخذت عن النسخة الأصلية المذكورة بواسطة رجال" جمعة الآثار" في سان بطرسبورج- لينجراد- في 26 مايو 1904م 1322ه، وهذه النسخة الفريدة كتب عليها مدير الجمعية إمضاءه لا عتمادها وأن هناك أيضا خمسين نسخة طبق الأصل " مصورة" عن المخطوطة الأصلية لمصحف عثمان محفوظة عند أنا يعيشون الآن في قلب عالمنا العربي في المغرب، وفي ليبيا وغيرهم في العالم الإسلامي في الهند
[533]
وباكستان. وقد فصل الكاتب في المقال المذكور تفصيلا يحسن الرجوع إليه، ويجدر بالقاريء الأريب الوقوف عليه، ولإن كان الرحالة ابن بطوطة المتوفي سنة 777ه قد ذكر أنه رأى في مسجد علي بن أبي طالب بالبصرة المصحف الكريم الذي كان عثمان رضي الله عنه يقرأ فيه لما قتل، وأن هذا المصحف قد سلب من المسجد المذكور ونقل إلى سمرقند، ومنها إلى الروسيا وأودع في مكتبة بطرسبورج على ما ذكره محمد أمين الخانجي، أو أن المصحف المذكور قد وجد في مدينة طوس في القرن الثالث الهجري، أي قبل وجود ابن بطوطة بثلاثة قرون ونيف حسب رواية ابن قتيبة، إلا أن لفيفا من المؤرخين كالنويري وابن تغري بردي قد ذكروا أن السلطان الملك الظاهر بيبرس البندقداري من سلاطين المماليك المتوفي سنة 676ه كان على علاقة طيبة مع الملك "بركة خان" الذي كان أبوه "جوجي" ابن "جنكيز خان"، وكان بركة خانا يميل إلى المسلمين ميلا زائدا ويعظم أهل العلم، وكان يود السلطان الملك الظاهر، ويعظم رسله، ومما يذكر أن السلطان الملك الظاهر بيبرس رسم بتجهيز الهدايا إلى الملك " بركة خان" بعد تحريره رسالة قرئت عليه، وكانت الهدايا عبارة عن ختمة- أي مصحف كامل- ذكر أنها من خط عثمان بن عفان رضي الله عنه، وذكر أنها من المصاحف العثمانية، وأن الروس حين استولوا على مدينة سمرقند في عام 1285 ه قد حملوا هذا المصحف إلى مدينة بطرسبورج.
وقد قال الشيخ صبحي الصالح في كتابه علوم القرآن: (وإن الباحث ليتسائل أين أصبحت المصاحف العثمانية الآن؟ ولن يظفر بجواب شاف على هذا السؤال، فإن الزركشة والنقوش الفاصلة بين السور أو المبينة لأعشار القرآن تنفي أن تكون المصاحف الأثرية في دار الكتب بالقاهرة عثمانية، لأن المصاحف العثمانية كانت مجردة من كل هذا).
[534]
وقد مر في الحاشية الخامسة والعشرين من هذا البحث ذكر التاريخ الذي بقيت عليه المصاحف مجردة، وفي عهد من بدأ بتنقيط المصاحف وتشكيلها..)
[535] (م)

رد مع اقتباس