عرض مشاركة واحدة
  #10  
قديم 12 جمادى الآخرة 1435هـ/12-04-2014م, 03:03 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن الثامن الهجري

تفسير قوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({إنّ أوّل بيتٍ وضع للنّاس للّذي ببكّة مباركًا وهدًى للعالمين (96) فيه آياتٌ بيّناتٌ مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنًا وللّه على النّاس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإنّ اللّه غنيٌّ عن العالمين (97)}
يخبر تعالى أنّ أوّل بيتٍ وضع للنّاس، أي: لعموم النّاس، لعبادتهم ونسكهم، يطوفون به ويصلّون إليه ويعتكفون عنده {للّذي ببكّة} يعني: الكعبة الّتي بناها إبراهيم الخليل [عليه السّلام] الّذي يزعم كلٌّ من طائفتي النّصارى واليهود أنّهم على دينه ومنهجه، ولا يحجّون إلى البيت الّذي بناه عن أمر اللّه له في ذلك ونادى النّاس إلى حجّه. ولهذا قال: {مباركًا} أي وضع مباركًا {وهدًى للعالمين}
وقد قال الإمام أحمد: حدّثنا سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم التّيميّ، عن أبيه، عن أبي ذر، رضي اللّه عنه، قال قلت: يا رسول اللّه، أيّ مسجد وضع في الأرض أوّل؟ قال: "المسجد الحرام". قلت: ثمّ أيّ؟ قال: "المسجد الأقصى". قلت: كم بينهما؟ قال: "أربعون سنةً". قلت: ثمّ أيّ؟ قال: ثم حيث أدركت الصلاة فصلّ، فكلّها مسجدٌ".
وأخرجه البخاريّ، ومسلمٌ، من حديث الأعمش، به.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا الحسن بن محمّد بن الصّبّاح، حدّثنا سعيد بن سليمان، حدّثنا شريك عن مجالد، عن الشّعبيّ عن عليّ في قوله تعالى: {إنّ أوّل بيتٍ وضع للنّاس للّذي ببكّة مباركًا} قال: كانت البيوت قبلةً، ولكنّه كان أوّل بيتٍ وضع لعبادة اللّه [تعالى].
[قال] وحدّثنا أبي، حدّثنا الحسن بن الرّبيع، حدّثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن خالد ابن عرعرة قال: قام رجلٌ إلى عليّ فقال: ألا تحدّثني عن البيت: أهو أول بيتٍ وضع في الأرض؟ قال لا ولكنّه أوّل بيتٍ وضع فيه البركة مقام إبراهيم، ومن دخله كان آمنًا. وذكر تمام الخبر في كيفيّة بناء إبراهيم البيت، وقد ذكرنا ذلك مستقصًى في سورة البقرة فأغنى عن إعادته.
وزعم السّدّي أنّه أول بيتٍ وضع على وجه الأرض مطلقًا. والصحيح قول عليّ [رضي اللّه عنه] فأمّا الحديث الّذي رواه البيهقيّ في بناء الكعبة في كتابه دلائل النّبوّة، من طريق ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص مرفوعًا: "بعث الله جبريل إلى آدم وحوّاء، فأمرهما ببناء الكعبة، فبناه آدم، ثمّ أمر بالطّواف به، وقيل له: أنت أوّل النّاس، وهذا أوّل بيتٍ وضع للنّاس" فإنّه كما ترى من مفردات ابن لهيعة، وهو ضعيفٌ. والأشبه، واللّه أعلم، أن يكون هذا موقوفا على عبد اللّه بن عمرو. ويكون من الزّاملتين اللّتين أصابهما يوم اليرموك، من كلام أهل الكتاب.
وقوله تعالى: {للّذي ببكّة} بكّة: من أسماء مكّة على المشهور، قيل سمّيت بذلك لأنّها تبكّ أعناق الظّلمة والجبابرة، بمعنى: يبكون بها ويخضعون عندها. وقيل: لأنّ النّاس يتباكّون فيها، أي: يزدحمون.
قال قتادة: إنّ اللّه بكّ به النّاس جميعًا، فيصلّي النّساء أمام الرّجال، ولا يفعل ذلك ببلدٍ غيرها.
وكذا روي عن مجاهدٍ، وعكرمة، وسعيد بن جبيرٍ، وعمرو بن شعيب، ومقاتل بن حيّان.
وذكر حمّاد بن سلمة، عن عطاء بن السّائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: مكّة من الفجّ إلى التّنعيم، وبكّة من البيت إلى البطحاء.
وقال شعبة، عن المغيرة، عن إبراهيم: بكّة: البيت والمسجد. وكذا قال الزّهريّ.
وقال عكرمة في روايةٍ، وميمون بن مهران: البيت وما حوله بكّة، وما وراء ذلك مكّة.
وقال أبو صالحٍ، وإبراهيم النّخعي، وعطيّة [العوفي] ومقاتل بن حيّان: بكّة موضع البيت، وما سوى ذلك مكّة.
وقد ذكروا لمكّة أسماءً كثيرةً: مكّة، وبكّة، والبيت العتيق، والبيت الحرام، والبلد الأمين، والمأمون، وأمّ رحم، وأمّ القّرى، وصلاح، والعرش على وزن بدرٍ، والقادس؛ لأنّها تطهّر من الذّنوب، والمقدّسة، والنّاسّة: بالنّون، وبالباء أيضًا، والحاطمة، والنسّاسة والرّأس، وكوثى، والبلدة، والبنيّة، والكعبة). [تفسير القرآن العظيم: 2/77-78]

تفسير قوله تعالى: {فِيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله: {فيه آياتٌ بيّناتٌ} أي: دلالاتٌ ظاهرةٌ أنّه من بناء إبراهيم، وأنّ اللّه تعالى عظّمه وشرّفه.
ثمّ قال تعالى: {مّقام إبراهيم} يعني: الّذي لمّا ارتفع البناء استعان به على رفع القواعد منه والجدران، حيث كان يقف عليه ويناوله ولده إسماعيل، وقد كان ملتصقًا بجدار البيت، حتّى أخّره عمر بن الخطّاب، رضي اللّه عنه، في إمارته إلى ناحية الشّرق بحيث يتمكّن الطّوّاف، ولا يشوّشون على المصلّين عنده بعد الطّواف؛ لأنّ اللّه تعالى قد أمرنا بالصّلاة عنده حيث قال: {واتّخذوا من مّقام إبراهيم مصلًّى} [البقرة:125] وقد قدّمنا الأحاديث في ذلك، فأغنى عن إعادته هاهنا، وللّه الحمد والمنّة.
وقال العوفي عن ابن عبّاسٍ في قوله: {فيه آياتٌ بيّناتٌ مّقام إبراهيم} أي: فمنهنّ مقام إبراهيم والمشعر.
وقال مجاهدٌ: أثر قدميه في المقام آيةٌ بيّنةٌ. وكذا روي عن عمر بن عبد العزيز، والحسن، وقتادة، والسّدّي، ومقاتل بن حيّان، وغيرهم.
وقال أبو طالبٍ في قصيدته:
وموطئ إبراهيم في الصّخر رطبةٌ = على قدميه حافيًا غير ناعل
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبو سعيدٍ وعمرو الأودي قالا حدّثنا وكيع، حدّثنا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاءٍ، عن ابن عبّاسٍ في قوله: {مقام إبراهيم} قال: الحرم كلّه مقام إبراهيم. ولفظ عمرٍو: الحجر كلّه مقام إبراهيم.
وروي عن سعيد بن جبيرٍ أنّه قال: الحجّ مقام إبراهيم. هكذا رأيت في النّسخة، ولعلّه الحجر كلّه مقام إبراهيم، وقد صرّح بذلك مجاهدٌ.
وقوله: {ومن دخله كان آمنًا} يعني: حرم مكّة إذا دخله الخائف يأمن من كلّ سوءٍ، وكذلك كان الأمر في حال الجاهليّة، كما قال الحسن البصريّ وغيره: كان الرّجل يقتل فيضع في عنقه صوفة ويدخل الحرم فيلقاه ابن المقتول فلا يهيّجه حتّى يخرج.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبو سعيدٍ الأشجّ، حدّثنا أبو يحيى التّيميّ، عن عطاءٍ، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاسٍ في قوله: {ومن دخله كان آمنًا} قال: من عاذ بالبيت أعاذه البيت، ولكن لا يؤوى ولا يطعم ولا يسقى، فإذا خرج أخذ بذنبه.
وقال اللّه تعالى: {أولم يروا أنّا جعلنا حرمًا آمنًا ويتخطّف النّاس من حولهم} [العنكبوت:67] وقال تعالى: {فليعبدوا ربّ هذا البيت. الّذي أطعمهم من جوعٍ وآمنهم من خوفٍ} [قريشٍ:3، 4] وحتّى إنّه من جملة تحريمها حرمة اصطياد صيدها وتنفيره عن أوكاره، وحرمة قطع أشجارها وقلع ثمارها حشيشها، كما ثبتت الأحاديث والآثار في ذلك عن جماعةٍ من الصّحابة مرفوعًا وموقوفًا.
ففي الصّحيحين، واللّفظ لمسلمٍ، عن ابن عبّاسٍ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يوم الفتح فتح مكّة: "لا هجرة ولكن جهادٌ ونيّةٌ، وإذا استنفرتم فانفروا"، وقال يوم الفتح فتح مكّة: "إنّ هذا البلد حرّمه الله يوم خلق السّموات والأرض، فهو حرامٌ بحرمة اللّه إلى يوم القيامة، وإنّه لم يحلّ القتال فيه لأحدٍ قبلي، ولم يحلّ لي إلّا في ساعةٍ من نهارٍ، فهو حرامٌ بحرمة اللّه إلى يوم القيامة، لا يعضد شوكه، ولا ينفّر صيده، ولا يلتقط لقطته إلّا من عرّفها، ولا يختلى خلاها فقال العباس: يا رسول الله، إلا الإذخر، فإنّه لقينهم ولبيوتهم، فقال: "إلّا الإذخر".
ولهما عن أبي هريرة، مثله أو نحوه ولهما واللّفظ لمسلمٍ أيضًا عن أبي شريح العدوي أنّه قال لعمرو بن سعيدٍ، وهو يبعث البعوث إلى مكة: ائذن لي أيّها الأمير أن أحدّثك قولا قام به رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم الغد من يوم الفتح سمعته أذناي ووعاه قلبي وأبصرته عيناي حين تكلّم به، إنّه حمد اللّه وأثنى عليه ثمّ قال: "إنّ مكّة حرّمها الله ولم يحرّمها النّاس، فلا يحلّ لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دمًا، ولا يعضد بها شجرةً، فإن أحد ترخّص بقتال رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم فيها فقولوا له: إنّ الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنّما أذن لي فيها ساعةً من نهارٍ، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس فليبلّغ الشّاهد الغائب" فقيل لأبي شريح: ما قال لك عمرو؟ قال: أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريحٍ، إنّ الحرم لا يعيذ عاصيًا ولا فارا بدمٍ ولا فارًّا بخزية .
وعن جابرٍ قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول: "لا يحلّ لأحدكم أن يحمل بمكّة السّلاح" رواه مسلمٌ.
وعن عبد اللّه بن عديّ بن الحمراء الزّهريّ أنّه سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول، وهو واقفٌ بالحزورة في سوق مكّة: "والله إنّك لخير أرض الله، وأحبّ أرض الله إلى الله، ولولا أنّي أخرجت منك ما خرجت".
رواه الإمام أحمد، وهذا لفظه، والتّرمذيّ، والنّسائيّ، وابن ماجه. وقال التّرمذيّ: حسنٌ صحيحٌ وكذا صحّح من حديث ابن عبّاسٍ نحوه وروى أحمد عن أبي هريرة، نحوه.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا بشر بن آدم ابن بنت أزهر السّمّان حدّثنا أبو عاصمٍ، عن زريق بن مسلمٍ الأعمى مولى بني مخزومٍ، حدّثني زياد بن أبي عيّاشٍ، عن يحيى بن جعدة بن هبيرة، في قوله تعالى: {ومن دخله كان آمنًا} قال: آمنًا من النّار.
وفي معنى هذا القول الحديث الّذي رواه البيهقيّ: أخبرنا أبو الحسن عليّ بن أحمد بن عبدان، أخبرنا أحمد بن عبيدٍ، حدّثنا محمّد بن سليمان الواسطيّ، حدّثنا سعيد بن سليمان، حدّثنا ابن المؤمّل، عن ابن محيصن، عن عطاءٍ، عن عبد اللّه بن عبّاسٍ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم: "من دخل البيت دخل في حسنةٍ وخرج من سيّئةٍ، وخرج مغفورًا له": ثمّ قال: تفرّد به عبد اللّه بن المؤمّل، وليس بقويٍّ.
وقوله: {وللّه على النّاس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلا} هذه آية وجوب الحجّ عند الجمهور. وقيل: بل هي قوله: {وأتمّوا الحجّ والعمرة للّه} [البقرة:196] والأوّل أظهر.
وقد وردت الأحاديث المتعدّدة بأنّه أحد أركان الإسلام ودعائمه وقواعده، وأجمع المسلمون على ذلك إجماعًا ضروريًّا، وإنّما يجب على المكلّف في العمر مرّة واحدةً بالنّصّ والإجماع.
قال الإمام أحمد: حدّثنا يزيد بن هارون، أخبرنا الرّبيع بن مسلمٍ القرشيّ، عن محمّد بن زيادٍ، عن أبي هريرة قال: خطبنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال: " أيّها النّاس، قد فرض عليكم الحجّ فحجّوا". فقال رجلٌ: أكلّ عامٍ يا رسول اللّه؟ فسكت، حتّى قالها ثلاثًا. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "لو قلت: نعم، لوجبت، ولما استطعتم ". ثمّ قال: "ذروني ما تركتكم، فإنّما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، وإذا أمرتكم بشيءٍ فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيءٍ فدعوه". ورواه مسلمٌ، عن زهير بن حربٍ، عن يزيد بن هارون، به نحوه.
وقد روى سفيان بن حسينٍ، وسليمان بن كثيرٍ، وعبد الجليل بن حميد، ومحمّد بن أبي حفصة، عن الزّهريّ، عن أبي سنان الدّؤليّ -واسمه يزيد بن أمّيّة-عن ابن عبّاسٍ قال: خطبنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال: "يأيّها النّاس، إنّ الله كتب عليكم الحجّ". فقام الأقرع بن حابسٍ فقال: يا رسول اللّه، أفي كلّ عامٍ؟ قال: "لو قلتها، لوجبت، ولو وجبت لم تعملوا بها، ولم تستطيعوا أن تعملوا بها؛ الحجّ مرّةً، فمن زاد فهو تطوّعٌ".
رواه أحمد، وأبو داود، والنّسائيّ، وابن ماجه، والحاكم من حديث الزّهريّ، به. ورواه شريكٌ، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ، بنحوه. وروي من حديث أسامة يزيد.
[و] قال الإمام أحمد: حدّثنا منصور بن وردان، عن عليّ بن عبد الأعلى، عن أبيه، عن أبي البختريّ، عن عليّ قال: لمّا نزلت: {وللّه على النّاس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلا} قالوا: يا رسول اللّه، في كلّ عامٍ؟ فسكت، قالوا: يا رسول اللّه، في كلّ عامٍ؟ قال: "لا ولو قلت: نعم، لوجبت". فأنزل اللّه تعالى: {يا أيّها الّذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم} [المائدة:101].
وكذا رواه التّرمذيّ، وابن ماجه، والحاكم، من حديث منصور بن وردان، به: ثمّ قال التّرمذيّ: حسنٌ غريبٌ. وفيما قال نظرٌ؛ لأنّ البخاريّ قال: لم يسمع أبو البختريّ من عليٍّ.
وقال ابن ماجه: حدّثنا محمّد بن عبد اللّه بن نمير، حدّثنا محمّد بن أبي عبيدة، عن أبيه، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن أنس بن مالكٍ قال: قالوا: يا رسول اللّه، الحجّ في كلّ عامٍ؟ قال: "لو قلت: نعم، لوجبت، ولو وجبت لم تقوموا بها، ولو لم تقوموا بها لعذّبتم".
وفي الصّحيحين من حديث ابن جريج، عن عطاءٍ، عن جابرٍ، عن سراقة بن مالكٍ قال: يا رسول اللّه، متعتنا هذه لعامنا هذا أم للأبد؟ قال: "لا بل للأبد". وفي روايةٍ: "بل لأبد أبدٍ".
وفي مسند الإمام أحمد، وسنن أبي داود، من حديث واقد بن أبي واقدٍ اللّيثيّ، عن أبيه؛ أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال لنسائه في حجّته: "هذه ثمّ ظهور الحصر" يعني: ثمّ الزمن ظهور الحصر، ولا تخرجن من البيوت.
وأمّا الاستطاعة فأقسامٌ: تارةً يكون الشّخص مستطيعًا بنفسه، وتارةً بغيره، كما هو مقرّرٌ في كتب الأحكام.
قال أبو عيسى التّرمذيّ: حدّثنا عبد بن حميدٍ، أخبرنا عبد الرّزّاق، أخبرنا إبراهيم بن يزيد قال: سمعت محمّد بن عبّاد بن جعفرٍ يحدّث عن ابن عمر قال: قام رجلٌ إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فقال: من الحاجّ يا رسول اللّه؟ قال: "الشّعث التّفل" فقام آخر فقال: أيّ الحجّ أفضل يا رسول اللّه؟ قال: "العجّ والثّجّ"، فقام آخر فقال: ما السّبيل يا رسول الله ؟ قال: "الزّاد والرّاحلة".
وهكذا رواه ابن ماجه من حديث إبراهيم بن يزيد وهو الخوزي. قال التّرمذيّ: ولا نعرفه إلّا من حديثه، وقد تكلّم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه. كذا قال هاهنا. وقال في كتاب الحجّ: هذا حديثٌ حسنٌ.
[و] لا يشكّ أنّ هذا الإسناد رجاله كلّهم ثقاتٌ سوى الخوزيّ هذا، وقد تكلّموا فيه من أجل هذا الحديث.
لكن قد تابعه غيره، فقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا عبد العزيز بن عبد اللّه العامريّ، حدّثنا محمّد بن عبد اللّه بن عبيد بن عميرٍ اللّيثيّ، عن محمّد بن عبّاد بن جعفرٍ قال: جلست إلى عبد اللّه بن عمر قال: جاء رجلٌ إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال له: ما السّبيل؟ قال: "الزّاد والرّحلة". وكذا رواه ابن مردويه من رواية محمّد بن عبد اللّه بن عبيد بن عمير، به.
ثمّ قال ابن أبي حاتمٍ: وقد روي عن ابن عبّاسٍ، وأنسٍ، والحسن، ومجاهدٍ، وعطاءٍ، وسعيد بن جبيرٍ، والرّبيع بن أنسٍ، وقتادة -نحو ذلك.
وقد روي هذا الحديث من طرق أخر من حديث أنسٍ، وعبد اللّه بن عبّاسٍ، وابن مسعودٍ، وعائشة كلها مرفوعةٌ، ولكن في أسانيدها مقالٌ كما هو مقرّرٌ في كتاب الأحكام، واللّه أعلم.
وقد اعتنى الحافظ أبو بكر بن مردويه بجمع طرق هذا الحديث. ورواه الحاكم من حديث قتادة عن حمّاد بن سلمة، عن قتادة، عن أنسٍ؛ أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم سئل عن قول اللّه: {من استطاع إليه سبيلا} فقيل ما السّبيل ؟ قال: "الزّاد والرّاحلة". ثمّ قال: صحيحٌ على شرط مسلمٍ، ولم يخرّجاه.
وقال ابن جريرٍ: حدّثني يعقوب، حدّثنا ابن عليّة، عن يونس، عن الحسن قال: قرأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: {وللّه على النّاس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلا} قالوا: يا رسول اللّه، ما السّبيل؟ قال: "الزّاد والرّاحلة ".
ورواه وكيع في تفسيره، عن سفيان، عن يونس، به.
وقال الإمام أحمد: حدّثنا عبد الرّزّاق، أنبأنا الثّوريّ، عن إسماعيل -وهو أبو إسرائيل الملائيّ-عن فضيل -يعني ابن عمرٍو-عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاسٍ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "تعجّلوا إلى الحجّ -يعني الفريضة-فإنّ أحدكم لا يدري ما يعرض له ".
وقال أحمد أيضًا: حدّثنا أبو معاوية، حدّثنا الحسن بن عمرٍو الفقيمي، عن مهران بن أبي صفوان عن ابن عبّاسٍ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "من أراد الحجّ فليتعجّل".
ورواه أبو داود، عن مسدّدٍ، عن أبي معاوية الضّرير، به.
وقد روى ابن جبير، عن ابن عبّاسٍ في قوله: {من استطاع إليه سبيلا} قال: من ملك ثلاثمائة درهم فقد استطاع إليه سبيلًا.
وعن عكرمة مولاه أنّه قال: السّبيل الصّحّة.
وروى وكيع بن الجرّاح، عن أبي جناب -يعني الكلبيّ-عن الضّحّاك بن مزاحم، عن ابن عبّاسٍ قال: {من استطاع إليه سبيلا} قال: الزّاد والبعير.
وقوله: {ومن كفر فإنّ اللّه غنيٌّ عن العالمين} قال ابن عبّاسٍ ومجاهدٌ وغير واحدٍ: أي ومن جحد فريضة الحجّ فقد كفر، واللّه غنيٌّ عنه.
وقال سعيد بن منصورٍ، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن عكرمة قال: لمّا نزلت: {ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يقبل منه} قالت اليهود: فنحن مسلمون. قال اللّه، عزّ وجلّ فاخصمهم فحجّهم -يعني فقال لهم النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: "إنّ الله فرض على المسلمين حجّ البيت من استطاع إليه سبيلا" فقالوا: لم يكتب علينا، وأبوا أن يحجّوا. قال اللّه: {ومن كفر فإنّ اللّه غنيٌّ عن العالمين}.
وروى ابن أبي نجيح، عن مجاهدٍ، نحوه.
وقال أبو بكر بن مردويه: حدّثنا عبد اللّه بن جعفرٍ، أخبرنا إسماعيل بن عبد اللّه بن مسعودٍ، أخبرنا مسلم بن إبراهيم وشاذ بن فيّاضٍ قالا أخبرنا هلالٌ أبو هاشمٍ الخراساني، أخبرنا أبو إسحاق الهمدانيّ، عن الحارث، عن عليٍّ، رضي اللّه عنه، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "من ملك زادًا وراحلةً ولم يحجّ بيت الله، فلا يضرّه مات يهوديّا أو نصرانيّا، ذلك بأنّ الله قال: {وللّه على النّاس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإنّ اللّه غنيٌّ عن العالمين}.
ورواه ابن جريرٍ من حديث مسلم بن إبراهيم، به.
وهكذا رواه ابن أبي حاتمٍ عن أبي زرعة الرّازيّ: حدّثنا هلال بن فياض، حدثنا هلال أبو هاشم الخراسانيّ، فذكره بإسناده مثله. ورواه التّرمذيّ عن محمّد بن يحيى القطعي، عن مسلم بن إبراهيم، عن هلال بن عبد اللّه مولى ربيعة بن عمرو بن مسلمٍ الباهليّ، به، وقال: [هذا] حديثٌ غريبٌ لا نعرفه إلّا من هذا الوجه، وفي إسناده مقالٌ، وهلالٌ مجهولٌ، والحارث يضعّف في الحديث.
وقال البخاريّ: هلالٌ هذا منكر الحديث. وقال ابن عديّ: هذا الحديث ليس بمحفوظٍ.
وقد روى أبو بكرٍ الإسماعيليّ الحافظ من حديث [أبي] عمرٍو الأوزاعيّ، حدّثني إسماعيل بن عبيد اللّه بن أبي المهاجر، حدّثني عبد الرّحمن بن غنم أنّه سمع عمر بن الخطّاب يقول: من أطاق الحجّ فلم يحجّ، فسواءٌ عليه يهوديًّا مات أو نصرانيًّا.
وهذا إسنادٌ صحيحٌ إلى عمر رضي اللّه عنه، وروى سعيد بن منصورٍ في سننه عن الحسن البصريّ قال: قال عمر بن الخطّاب: لقد هممت أنّ أبعث رجالًا إلى هذه الأمصار فينظروا كلّ من كان له جدةٌ فلم يحجّ، فيضربوا عليهم الجزية، ما هم بمسلمين. ما هم بمسلمين). [تفسير القرآن العظيم: 2/79-85]

رد مع اقتباس