عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 17 ربيع الثاني 1434هـ/27-02-2013م, 02:18 AM
الصورة الرمزية إشراق المطيري
إشراق المطيري إشراق المطيري غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jun 2010
المشاركات: 885
افتراضي جمهرة تفاسير السلف

تفسير السلف


تفسير قوله تعالى: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) )
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (أخبرنا معمر عن قتادة: {مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله} «هي لا إله إلا الله أضاءت لهم فأكلوا بها وشربوا وأمنوا في الدنيا ونكحوا النساء وحقنوا بها دماءهم حتى إذا ماتوا ذهب الله بنورهم وتركوا في ظلمات لا يبصرون».). [تفسير عبد الرزاق: 1/ 39]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {مثلهم كمثل الّذي استوقد نارًا فلمّا أضاءت ما حوله ذهب اللّه بنورهم وتركهم في ظلماتٍ لا يبصرون}
قال أبو جعفرٍ: فإن قال لنا قائلٌ: وكيف قيل: {مثلهم كمثل الّذي استوقد نارًا} وقد علمت أنّ الهاء والميم من قوله: {مثلهم} كناية جماع من الرّجال أو الرّجال والنّساء، والّذي دلالةٌ على واحدٍ من الذّكور؟ فكيف جعل الخبر عن واحدٍ مثلاً لجماعةٍ؟ وهلاّ قيل: مثلهم كمثل الّذين استوقدوا نارًا، وإن جاز عندك أن تمثّل الجماعة بالواحد فتجيز لقائل رأي جماعةٍ من الرّجال فأعجبته صورهم وتمام خلقهم وأجسامهم أن يقول: كأنّ هؤلاء، أو كأنّ أجسام هؤلاء، نخلةٌ.
قيل: أمّا في الموضع الّذي مثّل ربّنا جلّ ثناؤه جماعةً من المنافقين بالواحد الّذي جعله لأفعالهم مثلاً فجائزٌ حسنٌ، وفي نظائره كما قال جلّ ثناؤه في نظير ذلك: {تدور أعينهم كالّذي يغشى عليه من الموت} يعني كدور أعين الّذي يغشى عليهم من الموت، وكقوله: {ما خلقكم ولا بعثكم إلاّ كنفسٍ واحدةٍ} بمعنى إلاّ كبعث نفسٍ واحدةٍ.
وأمّا في تمثيل أجسام الجماعة من الرّجال في طولٍ وتمام الخلق بالواحدة من النّخيل، فغير جائزٍ ولا في نظائره لفرقٍ بينهما.
فأمّا تمثيل الجماعة من المنافقين بالمستوقد الواحد، فإنّما جاز لأنّ المراد من الخبر عن مثل المنافقين الخبر عن مثل استضاءتهم بما أظهروا بألسنتهم من الإقرار وهم لغيره مستبطنون من اعتقاداتهم الرّديئة، وخلطهم نفاقهم الباطن بالإقرار بالإيمان الظّاهر، والاستضاءة وإن اختلفت أشخاص أهلها معنى واحدٌ لا معانٍ مختلفةٌ، فالمثل لها في معنى المثل للشّخص الواحد من الأشياء المختلفة الأشخاص.
وتأويل ذلك: مثل استضاءة المنافقين بما أظهروه من الإقرار باللّه وبمحمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم، وبما جاء به قولاً وهم به مكذّبون اعتقادًا، كمثل استضاءة الموقد نارًا، ثمّ أسقط ذكر الاستضاءة وأضيف المثل إليهم، كما قال نابغة بني جعدة:

وكيف تواصل من أصبحت ....... خلالته كأبي مرحب

يريد كخلالة أبي مرحبٍ، فأسقط خلالةً، إذ كان فيما أظهر من الكلام دلالةٌ لسامعيه على ما حذف منه.
فكذلك القول في قوله: {مثلهم كمثل الّذي استوقد نارًا} لمّا كان معلومًا عند سامعيه بما ظهر من الكلام أنّ المثل إنّما ضرب لاستضاءة القوم بالإقراردون أعيان أجسامهم حسن حذف ذكر الاستضاءة وإضافة المثل إلى أهله، والمقصود بالمثل ما ذكرنا، فلمّا وصفنا جاز وحسن قوله: {مثلهم كمثل الّذي استوقد نارًا} وتشبّيه مثل الجماعة في اللّفظ بالواحد، إذ كان المراد بالمثل الواحد في المعنى، وأمّا إذا أريد تشبيه الجماعة من أعيان بني آدم أو أعيان ذوي الصّور والأجسام بشيءٍ، فالصّواب من الكلام تشبيه الجماعة بالجماعة والواحد بالواحد، لأنّ عين كلّ واحدٍ منهم غير أعيان الآخرين، ولذلك من المعنى افترق القول في تشبيه الأفعال والأسماء، فجاز تشبيه أفعال الجماعة من النّاس وغيرهم إذا كانت بمعنى واحدٍ بفعل الواحد، ثمّ حذف أسماء الأفعال، وإضافة المثل والتّشبيه إلى الّذين لهم الفعل، فيقال: ما أفعالكم إلاّ كفعل الكلب، ثمّ يحذف فيقال: ما أفعالكم إلاّ كالكلب أو كالكلب، وأنت تعني: إلاّ كفعل الكلب، وإلاّ كفعل الكلاب، ولم يجز أن تقول: ما هم إلاّ نخلةً، وأنت تريد تشبيه أجسامهم بالنّخل في الطّول والتّمام.
وأمّا قوله: {استوقد نارًا} فإنّه في تأويل أوقد كما قال الشّاعر:

وداعٍ دعا يا من يجيب إلى النّدى ....... فلم يستجبه عند ذاك مجيب

يريد: فلم يجبه.
فكان معنى الكلام إذًا مثل استضاءة هؤلاء المنافقين، في إظهارهم لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وللمؤمنين بألسنتهم من قولهم: {آمنّا باللّه وباليوم الآخر} وصدّقنا بمحمّدٍ، وبما جاء به، وهم للكفر مستبطنون، فيما اللّه فاعلٌ بهم، مثل استضاءة موقد نارٍ بناره حتّى أضاءت له النّار ما حوله، يعني ما حول المستوقد.
وقد زعم بعض أهل العربيّة من أهل البصرة أنّ الّذي في قوله: {كمثل الّذي استوقد نارًا} بمعنى الّذين كما قال جلّ ثناؤه: {والّذي جاء بالصّدق وصدّق به أولئك هم المتّقون} وكما قال الشّاعر:

فإنّ الّذي حانت بفلجٍ دماؤهم ....... هم القوم كلّ القوم يا أمّ خالد

قال أبو جعفرٍ: والقول الأوّل هو القول لما وصفنا من العلّة، وقد أغفل قائل ذلك فرق ما بين الّذي في الآيتين وفي البيت، لأنّ الّذي في قوله: {والّذي جاء بالصّدق} قد جاءت الدّلالة على أنّ معناها الجمع، وهو قوله: {أولئك هم المتّقون} وكذلك الّذي في البيت، وهو قوله: دماؤهم، وليست هذه الدّلالة في قوله: {كمثل الّذي استوقد نارًا} فذلك فرق ما بين الّذي في قوله: {كمثل الّذي استوقد نارًا} وسائر شواهده الّتي استشهد بها على أنّ معنى الّذي في قوله: {كمثل الّذي استوقد نارًا} بمعنى الجماع، وغير جائزٍ لأحدٍ نقل الكلمة الّتي الأغلب في استعمال العرب على معنى إلى غيره إلاّ بحجّةٍ يجب التّسليم لها.
ثمّ اختلفت أهل التّأويل في تأويل ذلك، فروي عن ابن عبّاسٍ فيه أقوالٌ.
أحدها ما حدّثنا به، محمّد بن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمّد بن أبي محمّدٍ، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ، قال: «ضرب اللّه للمنافقين مثلاً فقال: {مثلهم كمثل الّذي استوقد نارًا فلمّا أضاءت ما حوله ذهب اللّه بنورهم وتركهم في ظلماتٍ لا يبصرون} أي يبصرون الحقّ ويقولون به، حتّى إذا خرجوا به من ظلمة الكفر أطفئوه بكفرهم ونفاقهم فيه فتركهم في ظلمات الكفر فهم لا يبصرون هدًى ولا يستقيمون على حقٍّ».
والآخر ما حدّثنا به المثنّى بن إبراهيم، قال: حدّثنا أبو صالحٍ، قال: حدّثنا معاوية بن صالحٍ، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: {مثلهم كمثل الّذي استوقد نارًا} إلى آخر الآية «هذا مثلٌ ضربه اللّه للمنافقين أنّهم كانوا يعتزّون بالإسلام فيناكحهم المسلمون ويوارثونهم ويقاسمونهم الفيء، فلمّا ماتوا سلبهم اللّه ذلك العزّ كما سلب صاحب النّار ضوءه {وتركهم في ظلماتٍ}، يقول: في عذابٍ».
والثّالث ما حدّثني به، موسى بن هارون، قال: حدّثنا عمرٌو، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ، في خبرٍ ذكره عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابن عبّاسٍ، وعن مرّة، عن ابن مسعودٍ، وعن ناسٍ من أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: {مثلهم كمثل الّذي استوقد نارًا فلمّا أضاءت ما حوله ذهب اللّه بنورهم وتركهم في ظلماتٍ لا يبصرون} « زعم أنّ أناسًا دخلوا في الإسلام مقدم النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم المدينة، ثمّ إنّهم نافقوا فكان مثلهم كمثل رجلٍ كان في ظلمةٍ فأوقد نارًا فأضاءت له ما حوله من قذًى أو أذًى، فأبصره حتّى عرف ما يتّقي، فبينا هو كذلك إذ طفئت ناره فأقبل لا يدري ما يتّقي من أذًى، فكذلك المنافق كان في ظلمة الشّرك فأسلم فعرف الحلال من الحرام، والخير من الشّرّ. فبينا هو كذلك إذ كفر، فصار لا يعرف الحلال من الحرام، ولا الخير من الشّرّ. وأمّا النّور فالإيمان بما جاء به محمّدٌ صلّى اللّه عليه وسلّم، وكانت الظّلمة نفاقهم».
والآخر ما حدّثني به، محمّد بن سعيدٍ قال: حدّثني أبي سعيد بن محمّدٍ، قال: حدّثني عمّي، عن أبيه، عن جدّه، عن ابن عبّاسٍ، قوله: {مثلهم كمثل الّذي استوقد نارًا} إلى: {فهم لا يرجعون} «ضربه اللّه مثلاً للمنافق»، وقوله: {ذهب اللّه بنورهم} قال: «أمّا النّور فهو إيمانهم الّذي يتكلّمون به. وأمّا الظّلمة: فهي ضلالتهم وكفرهم الذى يتكلّمون به وهم قومٌ كانوا على هدًى ثمّ نزع منهم فعتوا بعد ذلك».
وقال آخرون بما؛ حدّثني به، بشر بن معاذٍ، قال: حدّثنا يزيد بن زريعٍ، عن سعيدٍ، عن قتادة، قوله: {مثلهم كمثل الّذي استوقد نارًا فلمّا أضاءت ما حوله ذهب اللّه بنورهم وتركهم في ظلماتٍ لا يبصرون} « وإنّ المنافق تكلّم بلا إله إلاّ اللّه فأضاءت له في الدّنيا فناكح بها المسلمين وعاد بها المسلمين ووارث بها المسلمين وحقن بها دمه وماله. فلمّا كان عند الموت سلبها المنافق لأنّه لم يكن لها أصلٌ في قلبه ولا حقيقةٌ في علمه».
- حدّثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرّزّاق، قال: أخبرنا معمرٌ، عن قتادة: {مثلهم كمثل الّذي استوقد نارًا فلمّا أضاءت ما حوله} «
هي لا إله إلاّ اللّه أضاءت لهم فأكلوا بها وشربوا وأمنوا في الدّنيا ونكحوا النّساء وحقنوا دماءهم حتّى إذا ماتوا ذهب اللّه بنورهم وتركهم في ظلماتٍ لا يبصرون».
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني أبو تميلة، عن عبيد بن سليمان، عن الضّحّاك بن مزاحمٍ، قوله: {كمثل الّذي استوقد نارًا فلمّا أضاءت ما حوله} قال: «أمّا النّور فهو إيمانهم الّذي يتكلّمون به؛ وأمّا الظّلمات، فهي ضلالتهم وكفرهم».
وقال آخرون بما حدّثني به، محمّد بن عمرٍو الباهليّ، قال: حدّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدّثنا عيسى بن ميمونٍ، قال: حدّثنا ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، في قول اللّه: {مثلهم كمثل الّذي استوقد نارًا فلمّا أضاءت ما حوله} قال: « أمّا إضاءة النّار: فإقبالهم إلى المؤمنين والهدى؛ وذهاب نورهم: إقبالهم إلى الكافرين والضّلالة».
- وحدّثني المثنّى بن إبراهيم، قال: حدّثنا أبو حذيفة، عن شبلٍ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ: {مثلهم كمثل الّذي استوقد نارًا فلمّا أضاءت ما حوله} «أمّا إضاءة النّار: فإقبالهم إلى المؤمنين والهدى؛ وذهاب نورهم: إقبالهم إلى الكافرين والضّلالة».
- حدّثني القاسم، قال: حدّثني الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ مثله.
- وحدّثني المثنّى، قال: حدّثنا إسحاق بن الحجّاج، عن عبد اللّه بن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرّبيع بن أنسٍ، قال: «ضرب مثل أهل النّفاق فقال: {مثلهم كمثل الّذي استوقد نارًا} قال: إنّما ضوء النّار ونورها ما أوقدتها، فإذا خمدت ذهب نورها، كذلك المنافق كلّما تكلّم بكلمة الإخلاص أضاء له، فإذا شكّ وقع في الظّلمة».
- وحدّثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: حدّثني عبد الرّحمن بن زيدٍ، في قوله: {كمثل الّذي استوقد نارًا} إلى آخر الآية. قال: « هذه صفة المنافقين، كانوا قد آمنوا حتّى أضاء الإيمان في قلوبهم كما أضاءت النّار لهؤلاء الّذين استوقدوا ثمّ كفروا، فذهب اللّه بنورهم، فانتزعه كما ذهب بضوء هذه النّار فتركهم في ظلماتٍ لا يبصرون».
وأولى التّأويلات بالآية ما قاله قتادة والضّحّاك، وما رواه عليّ بن أبي طلحة عن ابن عبّاسٍ؛ وذلك أنّ اللّه جلّ ثناؤه إنّما ضرب هذا المثل للمنافقين الّذين وصف صفتهم وقصّ قصصهم من لدن ابتدأ بذكرهم بقوله: {ومن النّاس من يقول آمنّا باللّه وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين} لا المعلنين بالكفر المجاهدين بالشّرك، ولو كان المثل لمن آمن إيمانًا صحيحًا ثمّ أعلن بالكفر إعلانًا صحيحًا على ما ظنّ المتأوّل قول اللّه جلّ ثناؤه: {كمثل الّذي استوقد نارًا فلمّا أضاءت ما حوله ذهب اللّه بنورهم وتركهم في ظلماتٍ لا يبصرون} أنّ ضوء النّار مثلٌ لإيمانهم الّذي كان منهم عنده على صحّةٍ، وأنّ ذهاب نوره مثلٌ لارتدادهم وإعلانهم الكفر على صحّةٍ؛ لم يكن هنالك من القوم خداعٌ ولا استهزاءٌ عند أنفسهم ولا نفاقٌ، وأنّى يكون خداعٌ ونفاقٌ ممّن لم يبد لك قولاً ولا فعلاً إلاّ ما أوجب لك العلم بحاله الّتي هو لك عليها، وبعزيمة نفسه الّتي هو مقيمٌ عليها؟
إنّ هذا لغير شكٍّ من النّفاق بعيدٌ ومن الخداع بريءٌ، وإن كان القوم لم تكن لهم إلاّ حالتان: حال إيمانٍ ظاهرٍ وحال كفرٍ ظاهرٍ، فقد سقط عن القوم اسم النّفاق؛ لأنّهم في حال إيمانهم الصّحيح كانوا مؤمنين، وفي حال كفرهم الصّحيح كانوا كافرين، ولا حالة هناك ثالثةٌ كانوا بها منافقين، وفي وصف اللّه جلّ ثناؤه إيّاهم بصفة النّفاق ما ينبئ عن أنّ القول غير القول الّذي زعمه من زعم أنّ القوم كانوا مؤمنين ثمّ ارتدّوا إلى الكفر فأقاموا عليه، إلاّ أن يكون قائل ذلك أراد أنّهم انتقلوا من إيمانهم الّذي كانوا عليه إلى الكفر الّذي هو نفاقٌ، وذلك قولٌ إن قاله لم تدرك صحّته إلاّ بخبرٍ مستفيضٍ أو ببعض المعاني الموجبة صحّته، فأمّا في ظاهر الكتاب، فلا دلالة على صحّته لاحتماله من التّأويل ما هو أولى به منه.
فإذ كان الأمر على ما وصفنا في ذلك، فأولى تأويلات الآية بالآية مثل استضاءة المنافقين بما أظهروا بألسنتهم لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من الإقرار به، وقولهم له وللمؤمنين: آمنّا باللّه وكتبه ورسله واليوم الآخر، حتّى حكم لهم بذلك في عاجل الدّنيا بحكم المسلمين في حقن الدّماء والأموال والأمن على الذّرّيّة من السّباء، وفي المناكحة والموارثة؛ كمثل استضاءة الموقد النّار بالنّار، حتّى ارتفق بضيائها وأبصر به ما حوله مستضيئًا بنوره من الظّلمة، خمدت النّار وانطفأت، فذهب نوره، وعاد المستضيء به في ظلمةٍ وحيرةٍ.
وذلك أنّ المنافق لم يزل مستضيئًا بضوء القول الّذي دافع عنه في حياته القتل والسّباء مع استبطانه ما كان مستوجبًا به القتل وسلب المال لو أظهره بلسانه، تخيّل إليه بذلك نفسه أنّه باللّه ورسوله والمؤمنين مستهزئٌ مخادعٌ، حتّى سوّلت له نفسه، إذ ورد على ربّه في الآخرة، أنّه ناجٍ منه بمثل الّذي نجا به في الدّنيا من الكذب والنّفاق.
أوما تسمع اللّه جلّ ثناؤه يقول إذ نعتهم ثمّ أخبرخبرهم عند ورودهم عليه: {يوم يبعثهم اللّه جميعًا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنّهم على شيءٍ ألا إنّهم هم الكاذبون} ظنًّا من القوم أنّ نجاءهم من عذاب اللّه في الآخرة في مثل الّذي كان به نجاؤهم من القتل والسّباء وسلب المال في الدّنيا من الكذب والإفك وأنّ خداعهم نافعهم هنالك نفعه إيّاهم في الدّنيا، حتّى عاينوا من أمر اللّه ما أيقنوا به أنّهم كانوا من ظنونهم في غرورٍ وضلالٍ، واستهزاءٍ بأنفسهم وخداعٍ، إذ أطفأ اللّه نورهم يوم القيامة فاستنظروا المؤمنين ليقتبسوا من نورهم، فقيل لهم: ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورًا واصلوا سعيرًا، فذلك حين ذهب اللّه بنورهم وتركهم في ظلماتٍ لا يبصرون، كما انطفأت نار المستوقد النّار بعد إضاءتها له، فبقي في ظلمه حيران تائهًا؛ يقول اللّه جلّ ثناؤه: {يوم يقول المنافقون والمنافقات للّذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورًا فضرب بينهم بسورٍ له بابٌ باطنه فيه الرّحمة وظاهره من قبله العذاب ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ولكنّكم فتنتم أنفسكم وتربّصتم وارتبتم وغرّتكم الأمانيّ حتّى جاء أمر اللّه وغرّكم باللّه الغرور فاليوم لا يؤخذ منكم فديةٌ ولا من الّذين كفروا مأواكم النّار هي مولاكم وبئس المصير}.
فإن قال لنا قائلٌ: إنّك ذكرت أنّ معنى قول اللّه تعالى ذكره: {كمثل الّذي استوقد نارًا فلمّا أضاءت ما حوله} خمدت وانطفأت، وليس ذلك بموجودٍ في القرآن، فما دلالتك على أنّ ذلك معناه؟
قيل: قد قلنا إنّ من شأن العرب الإيجاز والاختصار إذا كان فيما نطقت به الدّلالة الكافية على ما حذفت وتركت، كما قال أبو ذؤيبٍ الهذليّ:

عصيت إليها القلب إنّي لأمرها ....... سميعٌ فما أدري أرشدٌ طلابها

يعني بذلك: فما أدري أرشدٌ طلابها أم غيٌّ، فحذف ذكر أم غيٌّ، إذ كان فيما نطق به الدّلالة عليها. وكما قال ذو الرّمّة في نعت حمير:

فلمّا لبسن اللّيل أو حين نصّبت ....... له من خذا آذانها وهو جانح

يعني: أو حين أقبل اللّيل، في نظائر لذلك كثيرةٍ كرهنا إطالة الكتاب بذكرها، فكذلك قوله: {كمثل الّذي استوقد نارًا فلمّا أضاءت ما حوله} لمّا كان فيه وفيما بعده من قوله: {ذهب اللّه بنورهم وتركهم في ظلماتٍ لا يبصرون} دلالةٌ على المتروك كافيةٌ من ذكره اختصر الكلام طلب الإيجاز.
وكذلك حذف ما حذف واختصار ما اختصر من الخبر عن مثل المنافقين بعده، نظير ما اختصر من الخبر عن مثل المستوقد النّار؛ لأنّ معنى الكلام: فكذلك المنافقون ذهب اللّه بنورهم وتركهم في ظلماتٍ لا يبصرون بعد الضّياء الّذي كانوا فيه في الدّنيا بما كانوا يظهرون بألسنتهم من الإقرار بالإسلام وهم لغيره مستبطنون، كما ذهب ضوء نار هذا المستوقد بانطفاء ناره وخمودها فبقي في ظلمةٍ لا يبصر.
والهاء والميم في قوله: {ذهب اللّه بنورهم} عائدةٌ على الهاء والميم في قوله: {مثلهم}). [جامع البيان: 1/ 332 - 345]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): ( {مثلهم كمثل الّذي استوقد نارًا فلمّا أضاءت ما حوله ذهب اللّه بنورهم وتركهم في ظلماتٍ لا يبصرون (17)}
قوله: {مثلهم كمثل الّذي استوقد نارًا}
- حدّثنا أبي، ثنا أبو صالحٍ كاتب اللّيث، حدّثني معاوية بن صالحٍ عن عليّ ابن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ، قوله: {مثلهم كمثل الّذي استوقد نارًا} قال: «هذا مثلٌ ضربه اللّه للمنافقين أنّهم كانوا يتعزون بالإسلام فينا المسلمين ويقاسمونهم الفيء فلمّا ماتوا سلبهم اللّه ذلك العزّ كما سلب صاحب النّار ضوءه».
- حدّثنا عصام بن الرّوّاد، ثنا آدم، ثنا أبو جعفرٍ الرّازيّ، عن الرّبيع بن أنسٍ، عن أبي العالية: {مثلهم كمثل الّذي استوقد نارًا} « فإنّما ضوء النّار ما أوقدتها، فإذا خمدت ذهب نورها، وكذلك المنافق كلّما تكلّم بكلمة الإخلاص- بلا إله إلا اللّه- أضاء له فإذا شكّ وقع في الظّلمة».
- حدّثنا عصام بن الرّوّاد، ثنا آدم، ثنا أبو شيبة- يعني شعيب- بن رزيقٍ عن عطاءٍ الخراسانيّ، في قوله: {مثلهم كمثل الّذي استوقد نارًا} قال: «هذا مثل المنافق يبصر أحيانًا ثمّ يدركه عمى القلب»، وروي عن عكرمة والحسن والسّدّيّ والرّبيع بن أنسٍ نحو قول عطاءٍ الخراسانيّ). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 50 - 51]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله تعالى: {فلمّا أضاءت ما حوله}
- حدّثنا الحسن بن محمّد بن الصّبّاح، ثنا شبابة، ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ: {فلمّا أضاءت ما حوله}«أمّا إضاءة النّار فإقبالهم إلى المؤمنين والهدى».
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا عمرو بن حمّادٍ، ثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ: {فلمّا أضاءت ما حوله} زعم أنّ أناسًا دخلوا في الإسلام مقدم النّبيّ- صلّى اللّه عليه وسلّم- المدينة ثمّ إنّهم نافقوا فكان مثلهم كمثل رجل كان في ظلمةٍ فأوقد نارًا فلمّا أضاءت ما حوله من قذًى أو أذًى فأبصره حتّى عرف ما يتّقي منها فبينما هو كذلك إذ أطفئت ناره، فأقبل لا يدري ما يتّقي من أذًى، فذلك المنافق كان في ظلمة الشّرك فأسلم فعرف الحلال والحرام، والخير من الشّرّ، فبينما هو كذلك إذ كفر فصار لا يعرف الحلال من الحرام ولا الخير من الشّرّ). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 51]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {ذهب اللّه بنورهم}
[الوجه الأول]
- حدّثنا الحسن بن محمّد بن الصّبّاح، ثنا شبابة، ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ: {ذهب اللّه بنورهم} «وذهاب نورهم: إقبالهم إلى الكفّار والضّلالة».
والوجه الثّاني:
- حدّثنا الحسن بن أبي الرّبيع، أنبأ عبد الرّزّاق، أنا معمرٌ عن قتادة: «حتّى إذا ماتوا- يعني- المنافقين، ذهب بنورهم.».
الوجه الثّالث:
- أخبرنا أبو الأزهر أحمد بن الأزهر النّيسابوريّ فيما كتب إليّ، ثنا وهيب ابن جريرٍ، ثنا أبي، عن عليّ بن الحكم، عن الضّحّاك، في قوله: {ذهب اللّه بنورهم} «فهو إيمانهم الذي تكلموا به». ). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 51]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {وتركهم في ظلمات}
[الوجه الأول]
- ذكر أبو زرعة، ثنا سعيد بن محمّدٍ الجرميّ، ثنا يحيى بن واضحٍ أبو تميلة، ثنا أبو الحارث عبيد بن سليمان عن الضّحّاك بن مزاحمٍ: {وتركهم في ظلماتٍ} قال: «هم أهل النّار».
- حدّثنا أبي ثنا أبو صالحٍ كاتب اللّيث حدّثني معاوية بن صالحٍ عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عبّاسٍ {وتركهم في ظلماتٍ} يقول: «في عذابٍ إذا ماتوا».
الوجه الثّاني:
- حدّثنا محمّد بن يحيى أنبأ محمّد بن عمرٍو ثنا سلمة عن محمّد بن إسحاق فيما حدّثني محمّد بن أبي محمّدٍ عن عكرمة، أو سعيد بن جبيرٍ عن ابن عبّاسٍ: «وتركهم في ظلماتٍ حتّى خرجوا به من ظلمة الكفر بكفرهم ونفقاتهم فيه فتركهم اللّه في ظلمات الكفر فهم لا يبصرون هدًى ولا يستقيمون على حقٍّ».
- أخبرنا أبو الأزهر فيما كتب إليّ ثنا وهب بن جريرٍ ثنا أبي عن عليّ ابن الحكم عن الضّحّاك في قوله: «أمّا الظّلمة فهي ضلالتهم وكفرهم».
- حدّثنا الحسن بن أحمد أبو فاطمة ثنا، إبراهيم بن عبد اللّه بن بشّارٍ الواسطيّ ثنا سرور بن المغيرة بن زاذان بن أخي منصور بن زاذان عن عبّاد بن منصورٍ عن الحسن في قوله: {وتركهم في ظلماتٍ لا يبصرون} «فذلك حين يموت المنافق فيظلم عليه عمله عمل السّوء، فلا يجد له عملا من خيرٍ عمل به يصدّق به قول لا إله إلا هو». ). [تفسير القرآن العظيم: 1/52]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {لا يبصرون}
- حدّثنا محمّد بن يحيى أنبأ محمّد بن عمرٍو زنيجٌ ثنا سلمة عن محمّد بن إسحاق قال فيما حدّثني محمّد بن أبي محمّدٍ عن عكرمة، أو سعيد بن جبيرٍ عن ابن عبّاسٍ: {لا يبصرون} «أي لا يبصرون الحقّ يقولون».). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 52]
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمنِ بنُ الحَسَنِ الهَمَذَانِيُّ (ت: 352هـ): (نا إبراهيم قال نا آدم قال نا ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: {اشتروا الضلالة بالهدى} يقول: « آمنوا ثم كفروا فلما أضاءت ما حوله قال أما إضاءة النار فإقبالهم إلى المؤمنين وإلى الهدي وأما ذهاب نورهم فإقبالهم إلى الكافرين وإلى الضلالة». ). [تفسير مجاهد: 70] (م)
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (قوله تعالى: {مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون * صم بكم عمي فهم لا يرجعون * أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين * يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شيء قدير}
أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم والصابوني في المائتين عن ابن عباس في قوله: {مثلهم كمثل الذي استوقد نارا} الآية، قال: « هذا ضربه الله للمنافقين كانوا يعتزون بالإسلام فيناكحهم المسلمون ويوارثوهم ويقاسمونهم الفيء، فلما ماتوا سلبهم الله العز كما سلب صاحب النار ضوءه {وتركهم في ظلمات} يقول: في عذاب {صم بكم عمي} لا يسمعون الهدى ولا يبصرونه ولا يعقلونه {أو كصيب} هو المطر، ضرب مثله في القرآن {فيه ظلمات} يقول: ابتلاء {ورعد وبرق} تخويف {يكاد البرق يخطف أبصارهم} يقول: يكاد محكم القرآن يدل على عورات المنافقين {كلما أضاء لهم مشوا فيه} يقول: كلما أصاب المنافقون من الإسلام اطمأنوا فإن أصاب الإسلام نكبة قاموا ليرجعوا إلى الكفر كقوله: {ومن الناس من يعبد الله على حرف} [الحج الآية 11] الآية».
وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود وناس من الصحابة في قوله: {مثلهم كمثل الذي استوقد نارا} الآية، قال: إن ناس دخلوا في الإسلام مقدم النّبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة ثم نافقوا فكان مثلهم كمثل رجل كان في ظلمة فأوقدا نارا {أضاءت ما حوله} من قذى أو أذى فأبصره حتى عرف ما يتقى، فبينا هو كذلك إذ طفئت ناره فأقبل لا يدري ما يتقي من أذى فكذلك المنافق كان في ظلمة الشرك فأسلم فعرف الحلال من الحرام والخير من الشر بينا هو كذلك إذ كفر فصار لا يعرف الحلال من الحرام ولا الخير من الشر فهم {صم بكم} فهم الخرس {فهم لا يرجعون} إلى الإسلام، وفي قوله {أو كصيب} الآية، قال: كان رجلان من المنافقين من أهل المدينة هربا من رسول الله إلى المشركين فأصابهما هذا المطر الذي ذكر الله، فيه رعد شديد وصواعق وبرق فجعلا كلما أصابتهما الصواعق يجعلان أصابعهما في آذانهما من الفرق أن تدخل الصواعق في مسامعهما فتقتلهما وإذا لمع البرق مشيا في ضوئه وإذا لم يلمع لم يبصرا، قاما مكانهما لا يمشيان فجعلا يقولان، ليتنا قد أصبحنا فنأتي محمد فنضع أيدينا في يده فأصبحا فأتياه فأسلما ووضعا أيديهما في يده وحسن إسلامهما، فضرب الله شأن هذين المنافقين الخارجين مثلا للمنافقين الذين بالمدينة وكان المنافقون إذا حضروا مجلس النّبيّ صلى الله عليه وسلم جعلوا أصابعهم في آذانهم فرقا من كلام
النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل فيهم شيء أو يذكر بشيء فيقتلوا كما كان ذانك المنافقان الخارجان يجعلان أصابعهما في آذانهما {كلما أضاء لهم مشوا فيه} فإذا كثرت أموالهم وولدهم وأصابوا غنيمة وفتحا {مشوا فيه} وقالوا: إن دين محمد حينئذ صدق: واستقاموا عليه كما كان ذانك المنافقان يمشيان إذا أضاء بهما البرق {وإذا أظلم عليهم قاموا} فكانوا إذا هلكت أموالهم وولدهم وأصابهم البلاء قالوا هذا من أجل دين محمد وارتدوا كفارا كما كان ذانك المنافقان حين أظلم البرق عليهما.
وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: {كمثل الذي استوقد}
قال: «ضربه الله مثلا للمنافق، وقوله {ذهب الله بنورهم} أما {النور} فهو إيمانهم الذي يتكلمون به وأما الظلمة فهي ضلالهم وكفرهم، وفي قوله {أو كصيب} الآية، قال: الصيب المطر، وهو مثل المنافق في ضوء ما تكلم بما معه من كتاب الله وعمل مراءاة للناس فإذا خلا وحده عمل بغيره فهو في ظلمة ما أقام على ذلك وأما {الظلمات} فالضلالة وأما {البرق} فالإيمان، وهم أهل الكتاب {وإذا أظلم عليهم} فهو رجل يأخذ بطرف الحق لا يستطيع أن يجاوزه».
وأخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله {مثلهم} الآية، قال: «ضرب الله مثلا للمنافقين يبصرون الحق ويقولون به حتى إذا خرجوا من ظلمة الكفر أطفئوه بكفرهم ونفاقهم فتركهم في ظلمات الكفر لا يبصرون هدى ولا يستقيمون على حق {صم بكم عمي} عن الخير {فهم لا يرجعون} إلى هدى ولا إلى خير، وفي قوله: {أو كصيب} الآية، يقول: هم من ظلمات ما هم فيه من الكفر والحذر من القتل على الذي هم عليه من الخلاف والتخويف منكم على مثل ما وصف من الذي هم في ظلمة الصيب فجعل أصابعه في أذنيه من الصواعق {حذر الموت والله محيط بالكافرين} منزل ذلك بهم من النقمة {يكاد البرق يخطف أبصارهم} أي لشدة ضوء الحق {كلما أضاء لهم مشوا فيه} أي يعرفون الحق ويتكلمون به فهم من قولهم به على استقامة فإذا ارتكسوا منه إلى الكفر {قاموا} أي متحيرين {ولو شاء الله لذهب بسمعهم} أي لما سمعوا تركوا من الحق بعد معرفته».
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير عن مجاهد في قوله: {مثلهم كمثل الذي استوقد نارا}
قال: «أما إضاءة النار فإقبالهم إلى المؤمنين والهدى وذهاب نورهم إقبالهم إلى الكافرين والضلالة وإضاءة البرق على نحو المثل {والله محيط بالكافرين} قال: جامعهم في جهنم».
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير عن قتادة في قوله {مثلهم كمثل الذي استوقد نارا} قال: «هذا مثل ضربه الله للمنافقين، إن المنافق تكلم بلا إله إلا الله فناكح بها المسلمين ووارث بها المسلمين وغازى بها المسلمين وحقن بها دمه وماله، فلما كان عند الموت لم يكن لها أصل في قلبه ولا حقيقة في عمله فسلبها المنافق عند الموت فترك في ظلمات وعمى يتسكع فيها، كما كان أعمى في الدنيا عن حق الله وطاعته صم عن الحق فلا يبصرونه {فهم لا يرجعون} عن ضلالتهم ولا يتوبون ولا يتذكرون {أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت} قال: هذا مثل ضربه الله للمنافق لجنبه لا يسمع صوتا إلا ظن أنه قد أتي ولا يسمع صياحا إلا ظن أنه قد أتي ولا يسمع صياحا إلا ظن أنه ميت، أجبن قوم وأخذله للحق، وقال الله في آية أخرى {يحسبون كل صيحة عليهم} [المنافقون الآية 4] {يكاد البرق يخطف أبصارهم} الآية، قال: {البرق} هو الإسلام والظلمة هو البلاء والفتنة، فإذا رأى المنافق من الإسلام طمأنينة وعافية ورخاء وسلوة من عيش {قالوا إنا معكم} ومنكم وإذا رأى من الإسلام شدة وبلاء فقحقح عند الشدة فلا يصبر لبلائها ولم يحتسب أجرها ولم يرج عاقبتها، إنما هو صاحب دنيا لها يغضب ولها يرضى وهو كما هو نعته الله». ). [الدر المنثور: 1/ 170 - 176]

تفسير قوله تعالى: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18) )
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {صمٌّ بكمٌ عميٌ فهم لا يرجعون}
قال أبو جعفرٍ: وإذ كان تأويل قول اللّه جلّ ثناؤه: {ذهب اللّه بنورهم وتركهم في ظلماتٍ لا يبصرون} هو ما وصفنا من أنّ ذلك خبرٌ من اللّه جلّ ثناؤه عمّا هو فاعلٌ بالمنافقين في الآخرة، عند هتك أستارهم، وإظهاره فضائح أسرارهم، وسلبه ضياء أنوارهم من تركهم في ظلم أهوال يوم القيامة يتردّدون، وفي حنادسها لا يبصرون؛ فبيّن أنّ قوله جلّ ثناؤه: {صمٌّ بكمٌ عميٌ فهم لا يرجعون} من المؤخّر الّذي معناه التّقديم، وأنّ معنى الكلام: أولئك الّذين اشتروا الضّلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين، صمٌّ بكمٌ عميٌ فهم لا يرجعون؛ مثلهم كمثل الّذي استوقد نارًا فلمّا أضاءت ما حوله ذهب اللّه بنورهم وتركهم في ظلماتٍ لا يبصرون، أو كمثل صيّبٍ من السّماء.
وإذ كان ذلك معنى الكلام، فمعلومٌ أنّ قوله: {صمٌّ بكمٌ عميٌ} يأتيه الرّفع من وجهين، والنّصب من وجهين.
فأمّا أحد وجهي الرّفع، فعلى الاستئناف لما فيه من الذّمّ، وقد تفعل العرب ذلك في المدح والذّمّ، فتنصب وترفع وإن كان خبرًا عن معرفةٍ، كما قال الشّاعر:

لا يبعدن قومي الّذين هم ....... سمّ العداة وآفة الجزر.
النّازلين بكلّ معتركٍ ....... والطّيّبين معاقد الأزر

فيروى: النّازلون والنّازلين؛ وكذلك الطّيّبون والطّيّبين، على ما وصفت من المدح.
والوجه الآخر على نيّة التّكرير من أولئك، فيكون المعنيّ حينئذٍ: {أولئك الّذين اشتروا الضّلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين} أولئك {صمٌّ بكمٌ عميٌ فهم لا يرجعون}.
وأمّا أحد وجهي النّصب، فأن يكون قطعًا ممّا في مهتدين، من ذكر أولئك، لأنّ الّذي فيه من ذكرهم معرفةٌ، والصّمّ نكرةٌ.
والآخر أن يكون قطعًا من الّذين، لأنّ الّذين معرفةٌ والصّمّ نكرةٌ.
وقد يجوز النّصب فيه أيضًا على وجه الذّمّ فيكون ذلك وجهًا من النّصب ثالثًا.
فأمّا على تأويل ما روّينا عن ابن عبّاسٍ من غير وجهٍ رواية عليّ بن أبي طلحة عنه، فإنّه لا يجوز فيه الرّفع إلاّ من وجهٍ واحدٍ وهو الاستئناف.
وأمّا النّصب فقد يجوز فيه من وجهين: أحدهما الذّمّ، والآخر القطع من الهاء والميم اللّتين في {وتركهم} أو من ذكرهم في لا يبصرون. وقد بيّنّا القول الّذي هو أولى بالصّواب في تأويل ذلك.
والقراءة الّتي هي القراءة الرّفع دون النّصب لأنّه ليس لأحدٍ خلاف رسوم مصاحف المسلمين، وإذا قرئ نصبًا كانت قراءةً مخالفةً رسم مصاحفهم.
قال أبو جعفرٍ: وهذا خبرٌ من اللّه جلّ ثناؤه عن المنافقين، أنّهم باشترائهم الضّلالة بالهدى، لم يكونوا للهدى والحقّ مهتدين، بل هم صمٌّ عنهما فلا يسمعونهما لغلبة خذلان اللّه عليهم، بكمٌ عن القيل بهما، فلا ينطقون بهما، والبكم: الخرس، وهو جماع أبكم عميٌ عن أن يبصروهما فيعقلوهما؛ لأنّ اللّه قد طبع على قلوبهم بنفاقهم فلا يهتدون.
وبمثل ما قلنا في ذلك قال علماء أهل التّأويل.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثنا محمد بن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة، عن محمّد بن إسحاق، عن محمّد بن أبي محمّدٍ، مولى زيد بن ثابتٍ، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: {صمٌّ بكمٌ عميٌ} «عن الخير».
- حدّثني المثنّى بن إبراهيم، قال: حدّثنا عبد اللّه بن صالحٍ، قال: حدّثني معاوية بن صالحٍ، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: {صمٌّ بكمٌ عميٌ} يقول: «لا يسمعون الهدى، ولا يبصرونه ولا يعقلونه».
- وحدّثني موسى بن هارون، قال: حدّثنا عمرو بن حمّادٍ، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ، في خبرٍ ذكره عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابن عبّاسٍ، وعن مرّة، عن ابن مسعودٍ، وعن ناسٍ من أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: {بكمٌ} «هم الخرس».
- حدّثنا بشر بن معاذٍ، قال: حدّثنا يزيد بن زريعٍ، عن سعيدٍ، عن قتادة، قوله: {صمٌّ بكمٌ عميٌ} «صمٌّ عن الحقّ فلا يسمعونه، عميٌ عن الحقّ فلا يبصرونه، بكمٌ عن الحقّ فلا ينطقون به». ). [جامع البيان: 1/ 345 - 348]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {فهم لا يرجعون}.
قال أبو جعفرٍ: وقوله: {فهم لا يرجعون} إخبارٌ من اللّه جلّ ثناؤه عن هؤلاء المنافقين الّذين نعتهم اللّه باشترائهم الضّلالة بالهدى، وصممهم عن سماع الخير والحقّ، وبكمهم عن القيل بهما، وعماهم عن إبصارهما؛ أنّهم لا يرجعون إلى الإقلاع عن ضلالتهم، ولا يثوبون إلى الإنابة من نفاقهم، فآيس المؤمنين من أن يبصر هؤلاء رشدًا، ويقولوا حقًّا، أو يسمعوا داعيًا إلى الهدى، أو أن يذكروا فيتوبوا من ضلالتهم، كما آيس من توبة قادة كفّار أهل الكتاب والمشركين وأحبارهم الّذين وصفهم بأنّه قد ختم على قلوبهم وعلى سمعهم وغشّى على أبصارهم.
وبمثل الّذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التّأويل.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثنا بشر بن معاذٍ، قال: حدّثنا يزيد بن زريعٍ، عن سعيدٍ، عن قتادة: {فهم لا يرجعون} «أي لا يتوبون ولا يذكرون».
- وحدّثني موسى بن هارون، قال: حدّثنا عمرو بن حمّادٍ، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ، في خبرٍ ذكره، عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابن عبّاسٍ، وعن مرّة، عن ابن مسعودٍ، وعن ناسٍ من أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: {فهم لا يرجعون} « إلى الإسلام».
وقد روي عن ابن عبّاسٍ قولٌ يخالف معناه معنى هذا الخبر.
وهو ما حدّثنا به ابن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة، عن محمّد بن إسحاق، عن محمّد بن أبي محمّدٍ، مولى زيد بن ثابتٍ، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: {فهم لا يرجعون} «أي فلا يرجعون إلى الهدى ولا إلى خيرٍ، فلا يصيبون نجاة ما كانوا على ما هم عليه.».
وهذا تأويلٌ ظاهر التّلاوة بخلافه، وذلك أنّ اللّه جلّ ثناؤه أخبر عن القوم أنّهم لا يرجعون عن اشترائهم الضّلالة بالهدى إلى ابتغاء الهدى وإبصار الحقّ من غير حصرٍ منه جلّ ذكره ذلك من حالهم على وقتٍ دون وقتٍ وحالٍ دون حالٍ. وهذا الخبر الّذي ذكرناه عن ابن عبّاسٍ ينبئ عن أنّ ذلك من صفتهم محصورٌ على وقتٍ وهو ما كانوا على أمرهم مقيمين، وأنّ لهم السّبيل إلى الرّجوع عنه. وذلك من التّأويل دعوى باطلةٌ لا دلالة عليها من ظاهرٍ ولا من خبرٍ تقوم بمثله الحجّة فيسلّم لها). [جامع البيان: 1/ 348 - 350]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): ( {صمٌّ بكمٌ عميٌ فهم لا يرجعون (18)}
قوله تعالى: {صمٌّ بكمٌ عميٌ}
- حدّثنا أبي ثنا أبو صالحٍ حدّثني معاوية بن صالحٍ عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عبّاسٍ {صمٌّ بكمٌ عميٌ} يقول: «لا يسمعون الهدى، ولا يبصرونه ولا يعقلونه».
- حدّثنا أبو زرعة ثنا عمرو بن حمّادٍ ثنا أسباطٌ عن السّدّيّ {صمٌّ بكمٌ} قال: «فهم الخرس عميٌ».
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا صفوان، ثنا الوليد، ثنا سعيد بن بشيرٍ، عن قتادة: « صمٌّ عن الحقّ فهم لا يسمعونه، بكمٌ عنه فهم لا ينطقون به، عميٌ عنه فهم لا يبصرونه».). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 52 - 53]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {بكمٌ}
- حدّثنا موسى بن أبي موسى الأنصاريّ، ثنا هارون بن حاتمٍ، ثنا عبد الرّحمن بن أبي حمّادٍ، عن أسباط بن نصرٍ، عن السّدّيّ، عن أبي مالكٍ، قوله: {بكمٌ} «يعني خرسًا عن الكلام بالإيمان فلا يستطيعون الكلام. {صمٌّ} يعني صمّ الآذان».). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 53]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {عميٌ}
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا صفوان، ثنا الوليد، ثنا سعيد بن بشيرٍ، عن قتادة، قوله: {عميٌ} قال: «عميٌ عن الحقّ فهم لا يبصرونه».). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 53]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {فهم لا يرجعون}
[الوجه الأول]
- حدّثنا محمّد بن يحيى ثنا أبو غسّان، ثنا سلمة قال: قال محمّد بن إسحاق، فيما حدّثني محمّد بن أبي محمّدٍ، عن عكرمة أو سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: {صمٌّ بكمٌ عميٌ فهم لا يرجعون} «أي لا يرجعون إلى هدًى». وكذلك فسّره الرّبيع بن أنسٍ.
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا عمرو بن حمّادٍ، ثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ: {صمٌّ بكمٌ عميٌ فهم لا يرجعون} «إلى الإسلام».
الوجه الثّاني:
- حدّثنا محمّد بن يحيى أنبأ العبّاس بن الوليد، ثنا يزيد بن زريعٍ، ثنا سعيدٌ عن قتادة يقول اللّه: {فهم لا يرجعون} «أي لا يتوبون ولا يذّكّرون».). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 53]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (قوله تعالى: {مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون * صم بكم عمي فهم لا يرجعون * أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين * يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شيء قدير}
أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم والصابوني في المائتين عن ابن عباس في قوله {مثلهم كمثل الذي استوقد نارا} الآية، قال: «هذا ضربه الله للمنافقين كانوا يعتزون بالإسلام فيناكحهم المسلمون ويوارثوهم ويقاسمونهم الفيء، فلما ماتوا سلبهم الله العز كما سلب صاحب النار ضوءه {وتركهم في ظلمات} يقول: في عذاب {صم بكم عمي} لا يسمعون الهدى ولا يبصرونه ولا يعقلونه {أو كصيب} هو المطر، ضرب مثله في القرآن {فيه ظلمات} يقول: ابتلاء {ورعد وبرق} تخويف {يكاد البرق يخطف أبصارهم} يقول: يكاد محكم القرآن يدل على عورات المنافقين {كلما أضاء لهم مشوا فيه} يقول: كلما أصاب المنافقون من الإسلام اطمأنوا فإن أصاب الإسلام نكبة قاموا ليرجعوا إلى الكفر كقوله: {ومن الناس من يعبد الله على حرف} [الحج الآية 11] الآية».
وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود وناس من الصحابة في قوله {مثلهم كمثل الذي استوقد نارا} الآية، قال: إن ناس دخلوا في الإسلام مقدم النّبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة ثم نافقوا فكان مثلهم كمثل رجل كان في ظلمة فأوقدا نارا {أضاءت ما حوله} من قذى أو أذى فأبصره حتى عرف ما يتقى، فبينا هو كذلك إذ طفئت ناره فأقبل لا يدري ما يتقي من أذى فكذلك المنافق كان في ظلمة الشرك فأسلم فعرف الحلال من الحرام والخير من الشر بينا هو كذلك إذ كفر فصار لا يعرف الحلال من الحرام ولا الخير من الشر فهم {صم بكم} فهم الخرس {فهم لا يرجعون} إلى الإسلام، وفي قوله {أو كصيب} الآية، قال: كان رجلان من المنافقين من أهل المدينة هربا من رسول الله إلى المشركين فأصابهما هذا المطر الذي ذكر الله، فيه رعد شديد وصواعق وبرق فجعلا كلما أصابتهما الصواعق يجعلان أصابعهما في آذانهما من الفرق أن تدخل الصواعق في مسامعهما فتقتلهما وإذا لمع البرق مشيا في ضوئه وإذا لم يلمع لم يبصرا، قاما مكانهما لا يمشيان فجعلا يقولان، ليتنا قد أصبحنا فنأتي محمد فنضع أيدينا في يده، فأصبحا فأتياه فأسلما ووضعا أيديهما في يده وحسن إسلامهما، فضرب الله شأن هذين المنافقين الخارجين مثلا للمنافقين الذين بالمدينة وكان المنافقون إذا حضروا مجلس النّبيّ صلى الله عليه وسلم جعلوا أصابعهم في آذانهم فرقا من كلام
النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل فيهم شيء أو يذكر بشيء فيقتلوا كما كان ذانك المنافقان الخارجان يجعلان أصابعهما في آذانهما {كلما أضاء لهم مشوا فيه} فإذا كثرت أموالهم وولدهم وأصابوا غنيمة وفتحا {مشوا فيه} وقالوا: إن دين محمد حينئذ صدق: واستقاموا عليه كما كان ذانك المنافقان يمشيان إذا أضاء بهما البرق {وإذا أظلم عليهم قاموا} فكانوا إذا هلكت أموالهم وولدهم وأصابهم البلاء قالوا هذا من أجل دين محمد وارتدوا كفارا كما كان ذانك المنافقان حين أظلم البرق عليهما.
وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله {كمثل الذي استوقد}
قال: «ضربه الله مثلا للمنافق، وقوله: {ذهب الله بنورهم} أما {النور} فهو إيمانهم الذي يتكلمون به وأما الظلمة فهي ضلالهم وكفرهم»، وفي قوله {أو كصيب} الآية، قال: «الصيب المطر، وهو مثل المنافق في ضوء ما تكلم بما معه من كتاب الله وعمل مراءاة للناس فإذا خلا وحده عمل بغيره فهو في ظلمة ما أقام على ذلك وأما {الظلمات} فالضلالة وأما {البرق} فالإيمان، وهم أهل الكتاب {وإذا أظلم عليهم} فهو رجل يأخذ بطرف الحق لا يستطيع أن يجاوزه».
وأخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله {مثلهم} الآية، قال: «ضرب الله مثلا للمنافقين يبصرون الحق ويقولون به حتى إذا خرجوا من ظلمة الكفر أطفئوه بكفرهم ونفاقهم فتركهم في ظلمات الكفر لا يبصرون هدى ولا يستقيمون على حق {صم بكم عمي} عن الخير {فهم لا يرجعون} إلى هدى ولا إلى خير»، وفي قوله: {أو كصيب} الآية، يقول: «هم من ظلمات ما هم فيه من الكفر والحذر من القتل على الذي هم عليه من الخلاف والتخويف منكم على مثل ما وصف من الذي هم في ظلمة الصيب فجعل أصابعه في أذنيه من الصواعق {حذر الموت والله محيط بالكافرين} منزل ذلك بهم من النقمة {يكاد البرق يخطف أبصارهم} أي لشدة ضوء الحق {كلما أضاء لهم مشوا فيه} أي يعرفون الحق ويتكلمون به فهم من قولهم به على استقامة فإذا ارتكسوا منه إلى الكفر {قاموا} أي متحيرين {ولو شاء الله لذهب بسمعهم} أي لما سمعوا تركوا من الحق بعد معرفته.».
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير عن مجاهد في قوله: {مثلهم كمثل الذي استوقد نارا}
قال: «أما إضاءة النار فإقبالهم إلى المؤمنين والهدى وذهاب نورهم إقبالهم إلى الكافرين والضلالة وإضاءة البرق على نحو المثل {والله محيط بالكافرين} قال: جامعهم في جهنم.».
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير عن قتادة في قوله: {مثلهم كمثل الذي استوقد نارا} قال: «هذا مثل ضربه الله للمنافقين، إن المنافق تكلم بلا إله إلا الله فناكح بها المسلمين ووارث بها المسلمين وغازى بها المسلمين وحقن بها دمه وماله، فلما كان عند الموت لم يكن لها أصل في قلبه ولا حقيقة في عمله فسلبها المنافق عند الموت فترك في ظلمات وعمى يتسكع فيها، كما كان أعمى في الدنيا عن حق الله وطاعته صم عن الحق فلا يبصرونه {فهم لا يرجعون} عن ضلالتهم ولا يتوبون ولا يتذكرون»، {أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت} قال: «هذا مثل ضربه الله للمنافق لجنبه لا يسمع صوتا إلا ظن أنه قد أتي ولا يسمع صياحا إلا ظن أنه قد أتي ولا يسمع صياحا إلا ظن أنه ميت، أجبن قوم وأخذله للحق، وقال الله في آية أخرى {يحسبون كل صيحة عليهم} [المنافقون الآية 4] »، {يكاد البرق يخطف أبصارهم} الآية، قال: «{البرق} هو الإسلام والظلمة هو البلاء والفتنة، فإذا رأى المنافق من الإسلام طمأنينة وعافية ورخاء وسلوة من عيش {قالوا إنا معكم} ومنكم وإذا رأى من الإسلام شدة وبلاء فقحقح عند الشدة فلا يصبر لبلائها ولم يحتسب أجرها ولم يرج عاقبتها، إنما هو صاحب دنيا لها يغضب ولها يرضى وهو كما هو نعته الله». ). [الدر المنثور: 1/ 170 - 176] (م)

تفسير قوله تعالى: (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) )
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (أنبأنا معمر عن قتادة: {أو كصيب} قال: «المطر». ). [تفسير عبد الرزاق: 1/ 39]
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (أخبرنا معمر عن قتادة {فيه ظلمات ورعد وبرق} يقول: «أخبر عن قوم لا يسمعون شيئا إلا ظنوا أنهم هالكون فيه حذرا من الموت والله محيط بالكافرين ثم ضرب لهم مثلا آخر فقال {يكاد البرق يخطف أبصرهم كلما أضاء لهم مشوا فيه} يقول هذا المنافق إذا كثر ماله وكثرت ماشيته وأصابته عافية قال لم يصبني منذ دخلت في ديني هذا إلا خير {وإذا أظلم عليهم قاموا} يقول إذا ذهبت أموالهم وهلكت مواشيهم وأصابهم البلاء قاموا متحيرين».
وقد روي عن قتادة أنه كان يتأول قوله: {حذر الموت} «حذرا من الموت».). [تفسير عبد الرزاق: 1/ 40]
قال أبو حذيفة موسى بن مسعود النهدي (ت:220هـ): (سفيان [الثوري] عن أبي الهيثم عن سعيد بن جبيرٍ في قوله جل وعز: {أو كصيب من السماء} قال: «السحاب فيه المطر». ). [تفسير الثوري: 41]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {أو كصيّبٍ من السّماء}
قال أبو جعفرٍ: والصّيّب الفيعل، من قولك: صاب المطر يصوب صوبًا: إذا انحدر ونزل، كما قال الشّاعر:

فلست لإنسيٍّ ولكن لملأكٍ ....... تنزل من جوّ السّماء يصوب

وكما قال علقمة بن عبدة:

كأنّهم صاب عليهم سحابةٌ ....... صواعقها لطيرهنّ دبيب.
فلا تعدلي بيني وبين مغمّر ....... سقيت روايا المزن حين تصوب

يعني: حين تنحدر.
وهو في الأصل: صيوبٌ، ولكنّ الواو لمّا سبقتها ياءٌ ساكنةٌ صيّرتا جميعًا ياءً مشدّدةً، كما قيل: سيّدٌ من ساد يسود، وجيّدٌ من جاد يجود. وكذلك تفعل العرب بالواو إذا كانت متحرّكةً وقبلها ياءٌ ساكنةٌ تصيّرهما جميعًا ياءً مشدّدةً.
وبما قلنا من القول في ذلك قال أهل التّأويل.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثني محمّد بن إسماعيل الأحمسيّ، قال: حدّثنا محمّد بن عبيدٍ، قال: حدّثنا هارون بن عنترة، عن أبيه، عن ابن عبّاسٍ، في قوله: {أو كصيّبٍ من السّماء} قال: «القطر».
- وحدّثني عبّاس بن محمّدٍ قال: حدّثنا حجّاجٌ، قال: قال ابن جريجٍ، قال لي عطاءٌ: «الصّيّب: المطر».
- وحدّثني المثنّى، قال: حدّثنا أبو صالحٍ، قال: حدّثني معاوية بن صالحٍ، عن عليٍّ، عن ابن عبّاسٍ، قال: «الصّيّب: المطر».
- وحدّثني موسى، قال: حدّثنا عمرٌو، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ، في خبرٍ ذكره عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابن عبّاسٍ، وعن مرّة، عن ابن مسعودٍ، وعن ناسٍ من أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: «الصّيّب: المطر».
- وحدّثني محمّد بن سعدٍ، قال: حدّثني أبي سعدٌ، قال: حدّثني عمّي الحسين، عن أبيه، عن جدّه، عن ابن عبّاسٍ مثله.
- وحدّثنا بشر بن معاذٍ، قال: حدّثنا يزيد، عن سعيدٍ، عن قتادة: {أو كصيّبٍ} يقول: «المطر».
- وحدّثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرّزّاق، قال: أنبأنا معمرٌ، عن قتادة مثله.
- وحدّثني محمّد بن عمرٍو الباهليّ، وعمرو بن عليٍّ، قالا: حدّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدّثنا عيسى بن ميمونٍ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ: «الصّيّب: المطر».
- وحدّثني المثنّى، قال: حدّثنا أبو حذيفة، قال: حدّثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ: «الصّيّب: المطر».
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا إسحاق، عن ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرّبيع بن أنسٍ: «الصّيّب: المطر».
- وحدّثت عن المنجاب، قال: حدّثنا بشر بن عمارة، عن أبي روقٍ، عن الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ، قال: «الصّيّب: المطر».
- وحدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال عبد الرّحمن بن زيدٍ: {أو كصيّبٍ من السّماء} قال: «أو كغيثٍ من السّماء».
- وحدّثنا سوّار بن عبد اللّه العنبريّ، قال: قال سفيان: «الصّيّب: الّذي فيه المطر».
- حدّثنا عمرو بن عليٍّ، قال: حدّثنا معاوية، قال: حدّثنا ابن جريجٍ، عن عطاءٍ في قوله: {أو كصيّبٍ من السّماء} قال: «المطر».
قال أبو جعفرٍ: وتأويل ذلك: مثل استضاءة المنافقين بضوء إقرارهم بالإسلام مع استسرارهم الكفر، مثل إستضاءة موقد النّار بضوء ناره على ما وصف جلّ ثناؤه من صفته، أو كمثل مطرٍ مظلمٍ ودقه تحدّر من السّماء تحمله مزنةٌ ظلماء في ليلةٍ مظلمةٍ، وذلك هو الظّلمات الّتي أخبر اللّه جلّ ثناؤه أنّها فيه.
فإن قال لنا قائلٌ: أخبرنا عن هذين المثلين، أهما مثلان للمنافقين أو أحدهما؟ فإن يكونا مثلين للمنافقين فكيف قيل: {أو كصيّبٍ} وأو تأتي بمعنى الشّكّ في الكلام، ولم يقل: وكصيّبٍ، بالواو الّتي تلحق المثل الثّاني بالمثل الأوّل؟ أو يكون مثل القوم أحدهما، فما وجه ذكر الآخر بأو، وقد علمت أنّ أو إذا كانت في الكلام فإنّما تدخل فيه على وجه الشّكّ من المخبر فيما أخبر عنه، كقول القائل: لقيني أخوك أو أبوك، وإنّما لقيه أحدهما، ولكنّه جهل عين الّذي لقيه منهما، مع علمه أنّ أحدهما قد لقيه؛ وغير جائزٍ في اللّه جلّ ثناؤه أن يضاف إليه الشّكّ في شيءٍ أو عزوب علم شيءٍ عنه فيما أخبر أو ترك الخبر عنه.
قيل له: إنّ الأمر في ذلك بخلاف الّذي ذهبت إليه، وأو وإن كانت في بعض الكلام تأتي بمعنى الشّكّ، فإنّها قد تأتي دالّةً على مثل ما تدلّ عليه الواو إمّا بسابقٍ من الكلام قبلها، وإمّا بما يأتي بعدها كقول توبة بن الحميّر:

وقد زعمت ليلى بأنّي فاجرٌ ....... لنفسي تقاها أو عليها فجورها

ومعلومٌ أنّ ذلك من توبة على غير وجه الشّكّ فيما قال، ولكن لمّا كانت أو في هذا الموضع دالّةً على مثل الّذي كانت تدلّ عليه الواو لو كانت مكانها، وضعها موضعها. وكذلك قول جريرٍ:

نال الخلافة أو كانت له قدرًا ....... كما أتى ربّه موسى على قدر

وكما قال الآخر:

فلو كان البكاء يردّ شيئًا ...... بكيت على بجيرٍ أو عفاق.
على المرأين إذ مضيا جميعًا ....... لشأنهما بحزنٍ واشتياق

فقد دلّ بقوله: على المرأين إذ مضيا جميعًا، أنّ بكاءه الّذي أراد أن يبكيه لم يرد أن يقصد به أحدهما دون الآخر، بل أراد أن يبكيهما جميعًا. فكذلك ذلك في قول اللّه جلّ ثناؤه: {أو كصيّبٍ من السّماء} لمّا كان معلومًا أنّ {أو} دالّةٌ في ذلك على مثل الّذي كانت تدلّ عليه الواو، لو كانت مكانها كان سواءً نطق فيه بأو أو بالواو. وكذلك وجه حذف المثل من قوله: {أو كصيّبٍ} لمّا كان قوله: {كمثل الّذي استوقد نارًا} دالًّا على أنّ معناه: كمثل صيّبٍ، حذف المثل واكتفى بدلالة ما مضى من الكلام في قوله: {كمثل الّذي استوقد نارًا} على أنّ معناه: أو كمثل صيّبٍ، من إعادة ذكر المثل طلب الإيجاز والاختصار). [جامع البيان: 1/ 350 - 356]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {فيه ظلماتٌ ورعدٌ وبرقٌ يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصّواعق حذر الموت والله محيطٌ بالكافرين يكاد البرق يخطف أبصارهم كلّما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا}.
قال أبو جعفرٍ: فأمّا الظّلمات فجمعٌ، واحدها ظلمةٌ؛
وأمّا الرّعد فإنّ أهل العلم اختلفوا فيه؛ فقال بعضهم: هو ملكٌ يزجر السّحاب.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثنا محمّد بن المثنّى، قال: حدّثنا محمّد بن جعفرٍ، قال: حدّثنا شعبة، عن الحكم، عن مجاهدٍ، قال: «الرّعد ملكٌ يزجر السّحاب بصوته.».
- وحدّثنا محمّد بن المثنّى، قال: حدّثنا ابن أبي عديٍّ، عن شعبة عن الحكم عن مجاهدٍ مثله.
- وحدّثني يحيى بن طلحة اليربوعيّ، قال: حدّثنا فضيل بن عياضٍ، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ مثله.
- وحدّثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدّثنا هشيمٌ، قال: أنبأنا إسماعيل بن سالمٍ، عن أبي صالحٍ، قالا: «الرّعد ملكٌ من الملائكة يسبّح».
- وحدّثني نصر بن عبد الرّحمن الأوديّ، قال: حدّثنا محمّد بن يعلى، عن أبي الخطّاب البصريّ، عن شهر بن حوشبٍ، قال: «الرّعد: ملكٌ موكّلٌ بالسّحاب، يسوقه كما يسوق الحادي الإبل، يسبّح كلّما خالفت سحابةٌ سحابةً صاح بها، فإذا اشتدّ غضبه طارت النّار من فيه فهي الصّواعق الّتي رأيتم».
- وحدّثت عن المنجاب بن الحارث، قال: حدّثنا بشر بن عمارة، عن أبي روقٍ، عن الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ، قال: «الرّعد: ملكٌ من الملائكة اسمه الرّعد، وهو الّذي تسمعون صوته».
- حدّثنا أحمد بن إسحاق الأهوازيّ، قال: حدّثنا أبو أحمد، قال: حدّثنا عبد الملك بن حسينٍ، عن السّدّيّ، عن أبي مالكٍ، عن ابن عبّاسٍ، قال: «الرّعد: ملكٌ يزجر السّحاب بالتّسبيح والتّكبير».
- حدّثنا الحسن بن محمّدٍ، قال: حدّثنا عليّ بن عاصمٍ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ، عن ابن عبّاسٍ، قال: « الرّعد: اسم ملكٍ، وصوته هذا تسبيحه، فإذا اشتدّ زجره السّحاب اضطرب السّحاب واحتكّ فتخرج الصّواعق من بينه».
- حدّثنا الحسن، قال: حدّثنا عفّان، قال: حدّثنا أبو عوانة، عن موسى البزّاز، عن شهر بن حوشبٍ، عن ابن عبّاسٍ، قال: «الرّعد: ملكٌ يسوق السّحاب بالتّسبيح، كما يسوق الحادي الإبل بحدائه».
- حدّثنا الحسن بن محمّدٍ، قال: حدّثنا يحيى بن عبّادٍ وشبابة قالا: حدّثنا شعبة، عن الحكم، عن مجاهدٍ، قال: «الرّعد: ملكٌ يزجر السّحاب.».
- حدّثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدّثنا أبو أحمد الزّبيريّ، قال: حدّثنا عتّاب بن زيادٍ، عن عكرمة، قال: «الرّعد: ملكٌ في السّماء يجمع السّحاب كما يجمع الرّاعي الإبل».
- وحدّثنا بشرٌ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة، قال: «الرّعد: خلقٌ من خلق اللّه جلّ وعزّ سامعٌ مطيعٌ للّه جلّ وعزّ».
- حدّثنا القاسم بن الحسن، قال: حدّثنا الحسين بن داود، قال: حدّثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن عكرمة، قال: «إنّ الرّعد ملكٌ يؤمر بإزجاء السّحاب فيؤلّف بينه، فذلك الصّوت تسبيحه».
- وحدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ، قال: «الرّعد: ملكٌ».
- وحدّثني المثنّى، قال: حدّثنا الحجّاج بن المنهال، قال: حدّثنا حمّاد بن سلمة، عن المغيرة بن سالمٍ، عن أبيه، أو غيره، أنّ عليّ بن أبي طالبٍ قال: «الرّعد: ملكٌ».
- حدّثنا المثنّى، قال: حدّثنا حجّاجٌ، قال: حدّثنا حمّادٌ، قال: أخبرنا موسى بن سالمٍ أبو جهضمٍ، مولى ابن عبّاسٍ قال كتب ابن عبّاسٍ إلى أبي الجلد يسأله عن الرّعد؟ فقال: « الرّعد: ملكٌ».
- حدّثنا المثنّى، قال: حدّثنا مسلم بن إبراهيم، قال: حدّثنا عمر بن الوليد الشنّيّ، عن عكرمة، قال: «الرّعد: ملكٌ يسوق السّحاب كما يسوق الرّاعي الإبل».
- حدّثني سعد بن عبد اللّه بن عبد الحكم، قال: حدّثنا حفص بن عمر، قال: حدّثنا الحكم بن أبان، عن عكرمة، قال: كان ابن عبّاسٍ إذا سمع الرّعد قال: «سبحان الّذي سبّحت له»، قال: وكان يقول: «إنّ الرّعد ملكٌ ينعق بالغيث كما ينعق الرّاعي بغنمه».
وقال آخرون: إنّ الرّعد: ريحٌ تختنق تحت السّحاب، فتصاعد فيكون منه ذلك الصّوت.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدّثنا أبو أحمد الزّبيريّ، قال: حدّثنا بشر أبو إسماعيل، عن أبي كثيرٍ، قال: كنت عند أبي الجلد، إذ جاءه رسول ابن عبّاسٍ بكتابٍ إليه، فكتب إليه: «كتبت تسألني عن الرّعد، فالرّعد: الرّيح».
- حدّثني إبراهيم بن عبد اللّه، قال: حدّثنا عمران بن ميسرة، قال: حدّثنا ابن إدريس، عن الحسن بن الفرات، عن أبيه، قال كتب ابن عبّاسٍ إلى أبي الجلد يسأله عن الرّعد، فقال: «الرّعد: ريحٌ».
قال أبو جعفرٍ: فإن كان الرّعد ما ذكره ابن عبّاسٍ ومجاهدٌ، فمعنى الآية: أو كصيّبٍ من السّماء فيه ظلماتٌ وصوت رعدٍ؛ لأنّ الرّعد إن كان ملكًا يسوق السّحاب، فغير كائنٍ في الصّيّب؛ لأنّ الصّيّب إنّما هو ما تحدّر من صوب السّحاب؛ والرّعد: إنّما هو في جوّ السّماء يسوق السّحاب، على أنّه لو كان فيه ثم لم يكن له صوتٌ مسموعٌ، لم يكن هنالك رعبٌ يرعب به أحدٌ؛ لأنّه قد قيل: إنّ مع كلّ قطرةٍ من قطر المطر ملكًا، فلا يعدو الملك الّذي اسمه الرّعد لو كان مع الصّيّب إذا لم يكن مسموعًا صوته أن يكون كبعض تلك الملائكة الّتي تنزل مع القطر إلى الأرض في أن لا رعب على أحدٍ بكونه فيه. فقد علم إذ كان الأمر كما وصفنا من قول ابن عبّاسٍ أنّ معنى الآية: أو كمثل غيثٍ تحدّر من السّماء فيه ظلماتٌ وصوت رعدٍ؛ إن كان الرّعد هو ما قاله ابن عبّاسٍ، وإنّه استغنى بدلالة ذكر الرّعد باسمه على المراد في الكلام من ذكر صوته. وإن كان الرّعد ما قاله أبو الجلد فلا شيء في قوله: {فيه ظلماتٌ ورعدٌ} متروكٌ لأنّ معنى الكلام حينئذٍ: فيه ظلماتٌ ورعدٌ الّذي هو وما وصفنا صفته.
وأمّا البرق، فإنّ أهل العلم اختلفوا فيه.
- فقال بعضهم بما حدّثنا مطر بن محمّدٍ الضّبّيّ، قال: حدّثنا أبو عاصمٍ، ح وحدّثني محمّد بن بشّارٍ، قال: حدّثني عبد الرّحمن بن مهديٍّ، ح وحدّثنا أحمد بن إسحاق الأهوازيّ، قال: حدّثنا أبو أحمد الزّبيريّ، قالوا جميعًا: حدّثنا سفيان الثّوريّ، عن سلمة بن كهيلٍ، عن سعيد بن أشوع، عن ربيعة بن الأبيض، عن عليٍّ، قال: «البرق: مخاريق الملائكة».
- حدّثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدّثنا أبو أحمد الزّبيريّ، قال: حدّثنا عبد الملك بن الحسين، عن السّدّيّ، عن أبي مالكٍ، عن ابن عبّاسٍ: «البرق مخاريق بأيدي الملائكة يزجرون بها السّحاب».
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا الحجّاج، قال: حدّثنا حمّادٌ، عن عميرة بن سالمٍ، عن أبيه أو غيره أنّ عليّ بن أبي طالبٍ قال: «الرّعد: الملك، والبرق: ضربه السّحاب بمخراقٍ من حديدٍ».
وقال آخرون: «هو سوطٌ من نورٍ يزجّ به الملك السّحاب».
ذكر من قال ذلك:
- حدّثت عن المنجاب بن الحارث، قال: حدّثنا بشر بن عمارة، عن أبي روقٍ، عن الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ، بذلك.
وقال آخرون: «هو ماءٌ».
ذكر من قال ذلك:
- حدّثنا أحمد بن إسحاق الأهوازيّ، قال: حدّثنا أبو أحمد الزّبيريّ، قال: حدّثنا بشير أبو إسماعيل، عن أبي كثيرٍ، قال: كنت عند أبي الجلد إذ جاءه رسول ابن عبّاسٍ بكتابٍ إليه، فكتب إليه: «كتب إلي تسألني عن البرق، فالبرق: الماء».
- حدّثنا إبراهيم بن عبد اللّه، قال: حدّثنا عمران بن ميسرة، قال: حدّثنا ابن إدريس، عن الحسن بن الفرات، عن أبيه، قال كتب ابن عبّاسٍ إلى أبي الجلد يسأله عن البرق، فقال: «البرق ماءٌ».
- حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا جريرٌ، عن عطاءٍ، عن رجلٍ من أهل البصرة من قرّائهم، قال: كتب ابن عبّاسٍ إلى أبي الجلد، رجلٌ من أهل هجر، يسأله عن البرق، فكتب إليه: «كتبت إليّ تسألني عن البرق: وإنّه من الماء.».
وقال آخرون: هو مصع ملكٍ.
- حدّثنا محمّد بن بشّارٍ، قال: حدّثنا عبد الرّحمن بن مهديٍّ، قال: حدّثنا سفيان، عن عثمان بن الأسود، عن مجاهدٍ، قال: «البرق: مصع ملكٍ».
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا إسحاق، قال: حدّثنا هشامٌ، عن محمّد بن مسلمٍ الطّائفيّ، قال: بلغني أنّ البرق، ملكٌ له أربعة أوجهٍ: وجه إنسانٍ، ووجه ثورٍ، ووجه نسرٍ، ووجه أسدٍ، فإذا مصع بأجنحته فذلك البرق.
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن وهب بن سليمان، عن شعيبٍ الجبائيّ، قال: في كتاب اللّه الملائكة حملة العرش، لكلّ ملكٍ منهم وجه إنسانٍ، وثورٍ، وأسدٍ، فإذا حرّكوا أجنحتهم فهو البرق وقال أميّة بن أبي الصّلت:

زحلٌ وثورٌ تحت رجل يمينه ....... والنّسر للأخرى وليثٌ مرصد.

- حدّثنا الحسن بن محمّدٍ، قال: حدّثنا عليّ بن عاصمٍ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ، عن ابن عبّاسٍ: «البرق: ملكٌ».
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، قال: «الصّواعق ملكٌ يضرب السّحاب بالمطارق يصيب منه من يشاء».
قال أبو جعفرٍ: وقد يحتمل أن يكون ما قاله عليّ بن أبي طالبٍ وابن عبّاسٍ ومجاهدٌ بمعنى واحدٍ؛ وذلك أن تكون المخاريق الّتي ذكر عليٌّ رضي اللّه عنه أنّها هي البرق هي السّياط الّتي هي من نورٍ الّتي يزجي بها الملك السّحاب، كما قال ابن عبّاسٍ. ويكون إزجاء الملك السّحاب: مصعه إيّاه بها، وذاك أنّ المصاع عند العرب أصله المجالدة بالسّيوف، ثمّ تستعمله في كلّ شيءٍ جولد به في حربٍ وغير حربٍ، كما قال أعشى بني ثعلبة وهو يصف جواري يلعبن بحليّهنّ ويجالدن به:


إذا هنّ نازلن أقرانهنّ ....... وكان المصاع بما في الجون


يقال منه: ماصعه مصاعًا. وكأنّ مجاهدًا إنّما قال: مصع ملكٍ، إذ كان السّحاب لا يماصع الملك، وإنّما الرّعد هو الماصع له، فجعله مصدرًا من مصعه يمصعه مصعًا.
وقد ذكرنا ما في معنى الصّاعقة ما قال شهر بن حوشبٍ فيما مضى.
وأمّا تأويل الآية، فإنّ أهل التّأويل مختلفون فيه. فروي عن ابن عبّاسٍ في ذلك أقوالٌ.
أحدها ما حدّثنا به، محمّد بن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة، قال: حدّثنا محمّد بن إسحاق، عن محمّد بن أبي محمّدٍ، مولى زيد بن ثابتٍ، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: {أو كصيّبٍ من السّماء فيه ظلماتٌ ورعدٌ وبرقٌ يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصّواعق حذر الموت} « أي هم من ظلمات ما هم فيه من الكفر والحذر من القتل، على الّذي هم عليه من الخلاف والتّخوف منكم، على مثل ما وصف من الّذى هو في ظلمة الصّيّب، فجعل أصابعه في أذنيه من الصّواعق حذر الموت {يكاد البرق يخطف أبصارهم} أي لشدّة ضوء الحقّ {كلّما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا} أي يعرفون الحقّ ويتكلّمون به، فهم من قولهم به على استقامةٍ، فإذا ارتكسوا منه إلى الكفر قاموا متحيّرين».
والآخر ما حدّثني به، موسى بن هارون، قال: حدّثنا عمرٌو، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ، في خبرٍ ذكره عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابن عبّاسٍ، وعن مرّة، عن ابن مسعودٍ، وعن ناسٍ، من أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: {أو كصيّبٍ من السّماء فيه ظلماتٌ ورعدٌ وبرقٌ} إلى: {إنّ اللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ} أمّا الصّيّب فالمطر كان رجلان من المنافقين من أهل المدينة هربا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلى المشركين، فأصابهما هذا المطر الّذي ذكر اللّه فيه رعدٌ شديدٌ وصواعق وبرقٌ، فجعلا كلّما أصابهما الصّواعق جعلا أصابعهما في آذانهما من الفرق أن تدخل الصّواعق في مسامعهما فتقتلهما، وإذ لمع البرق مشيا في ضوئه، وإذا لم يلمع لم يبصرا وقاما مكانهما لا يمشيان، فجعلا يقولان: ليتنا قد أصبحنا فنأتي محمّدًا فنضع أيدينا في يده. فأصبحا فأتياه فأسلما ووضعا أيديهما في يده وحسن إسلامهما. فضرب اللّه شأن هذين المنافقين الخارجين مثلاً للمنافقين الّذين بالمدينة. وكان المنافقون إذا حضروا مجلس النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، جعلوا أصابعهم في آذانهم فرقًا من كلام النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أن ينزل فيهم شيءٌ أو يذكروا بشيءٍ فيقتلوا، كما كان ذانك المنافقان الخارجان يجعلان أصابعهما في آذانهما، وإذا أضاء لهم مشوا فيه. فإذا كثرت أموالهم وولد لهم الغلمان وأصابوا غنيمةً أو فتحًا مشوا فيه، وقالوا: إنّ دين محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم دين صدقٍ فاستقاموا عليه،كما كان ذانك المنافقان يمشيان إذا أضاء لهما البرق مشوا فيه، وإذا أظلم عليهم قاموا. فكانوا إذا هلكت أموالهم، وولد لهم الجواري، وأصابهم البلاء قالوا هذا من أجل دين محمّدٍ، فارتدّوا كفّارًا كما قام ذانك المنافقان حين أظلم البرق عليهما.
والثّالث ما حدّثني به، محمّد بن سعدٍ؛ قال: حدّثني أبي، قال: حدّثني عمّي، عن أبيه، عن جدّه، عن ابن عبّاسٍ: {أو كصيّبٍ من السّماء} «كمطرٍ»، {فيه ظلماتٌ ورعدٌ وبرقٌ} إلى آخر الآية، «هو مثل المنافق في ضوء ما تكلّم بما معه من كتاب اللّه وعمل، مراءاةً للنّاس، فإذا خلا وحده عمل بغيره. فهو في ظلمةٍ ما أقام على ذلك. وأمّا الظّلمات فالضّلالة، وأمّا البرق فالإيمان، وهم أهل الكتاب. وإذا أظلم عليهم، فهو رجلٌ يأخذ بطرف الحقّ لا يستطيع أن يجاوزه».
والرّابع ما حدّثني به المثنّى، قال: حدّثنا عبد اللّه بن صالحٍ، قال: حدّثني معاوية بن صالحٍ، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: {أو كصيّبٍ من السّماء} «وهو المطر، ضرب مثله في القرآن»، يقول: {فيه ظلماتٌ} يقول: «ابتلاءٌ» {ورعدٌ} يقول: «فيه تخويفٌ»، وبرقٌ {يكاد البرق يخطف أبصارهم} يقول: «يكاد محكم القرآن يدلّ على عورات المنافقين»، {كلّما أضاء لهم مشوا فيه} يقول: «كلّما أصاب المنافقون من الإسلام عزًّا اطمأنّوا، وإن أصابوا الإسلام نكبةً، قاموا ليرجعوا إلى الكفر»، يقول: {وإذا أظلم عليهم قاموا} «كقوله: {ومن النّاس من يعبد اللّه على حرفٍ فإن أصابه خيرٌ اطمأنّ به وإن أصابته فتنةٌ} إلى آخر الآية.».
قال أبو جعفرٍ: ثمّ اختلف سائر أهل التّأويل بعد ذلك في نظير ما روي عن ابن عبّاسٍ من الاختلاف.
- فحدّثني محمّد بن عمرٍو الباهليّ، قال: حدّثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى بن ميمونٍ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، قال: « إضاءة البرق وإظلامه على نحو ذلك المثل».
- وحدّثني المثنّى، قال: حدّثنا أبو حذيفة، قال: حدّثنا شبلٌ عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ مثله.
- حدّثنا عمرو بن عليٍّ، قال: حدّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدّثنا عيسى، عن ابن أبي نجيحٍ عن مجاهدٍ مثله.
- حدّثنا بشر بن معاذٍ، قال: حدّثنا يزيد بن زريعٍ، عن سعيدٍ، عن قتادة، في قول اللّه: {فيه ظلماتٌ ورعدٌ وبرقٌ} إلى قوله: {وإذا أظلم عليهم قاموا} «فالمنافق إذا رأى في الإسلام رخاءً أو طمأنينةً أو سلوةً من عيشٍ، قال: أنا معكم وأنا منكم؛ وإذا أصابته شدّةٌ حقحق واللّه عندها فانقطع به فلم يصبر على بلائها، ولم يحتسب أجرها ولم يرج عاقبتها».
- وحدّثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرّزّاق، قال: أخبرنا معمرٌ، عن قتادة: {فيه ظلماتٌ ورعدٌ وبرقٌ} يقول: «أجبن قومٍ لا يسمعون شيئًا إلاّ ظنّوا أنّهم هالكون فيه حذرًا من الموت، واللّه محيطٌ بالكافرين. ثمّ ضرب لهم مثلاً آخر فقال: {يكاد البرق يخطف أبصارهم كلّما أضاء لهم مشوا فيه} يقول: هذا المنافق، إذا كثر ماله وكثرت ماشيته وأصابته عافيةٌ قال: لم يصبني منذ دخلت في ديني هذا إلاّ خيرٌ {وإذا أظلم عليهم قاموا} يقول: إذا ذهبت أموالهم وهلكت مواشيهم وأصابهم البلاء قاموا متحيّرين».
- وحدّثني المثنّى، قال: حدّثنا إسحاق بن الحجّاج، عن عبد اللّه بن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرّبيع بن أنسٍ: {فيه ظلماتٌ ورعدٌ وبرقٌ} قال: « مثلهم كمثل قومٍ ساروا في ليلةٍ مظلمةٍ ولها مطرٌ ورعدٌ وبرقٌ على جادّةٍ، فلمّا أبرقت أبصروا الجادّة فمضوا فيها، وإذا ذهب البرق تحيّروا. وكذلك المنافق كلّما تكلّم بكلمة الإخلاص أضاء له، فإذا شكّ تحيّر ووقع في الظّلمة، فكذلك قوله: {كلّما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا} ثمّ قال: في أسماعهم وأبصارهم الّتي عاشوا بها في النّاس {ولو شاء اللّه لذهب بسمعهم وأبصارهم}».
- وحدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثنا أبو تميلة، عن عبيد بن سليمان الباهليّ، عن الضّحّاك بن مزاحمٍ: {فيه ظلماتٌ} قال: أمّا الظّلمات فالضّلالة، والبرق: الإيمان.
- وحدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: حدّثني عبد الرّحمن بن زيدٍ في قوله: {فيه ظلماتٌ ورعدٌ وبرقٌ} فقرأ حتّى بلغ: {إنّ اللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ} قال: «هذا أيضًا مثلٌ ضربه اللّه للمنافقين، كانوا قد استناروا بالإسلام كما استنار هذا بنور هذا البرق.».
- وحدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ، قال: قال ابن جريجٍ: «ليس شيءٌ في الأرض سمعه المنافق، إلاّ ظنّ أنّه يراد به وأنّه الموت كراهيةً له، والمنافق أكره خلق اللّه للموت، كما إذا كانوا بالبرارى في المطر فرّوا من الصّواعق».
- حدّثنا عمرو بن عليٍّ، قال: حدّثنا أبو معاوية، قال: حدّثنا ابن جريجٍ، عن عطاءٍ، في قوله: {أو كصيّبٍ من السّماء فيه ظلماتٌ ورعدٌ وبرقٌ} قال:«مثلٌ ضرب للكافّرين.».
قال أبو جعفرٍ: وهذه الأخبار الّتي ذكرنا عمّن روّيناها عنه، فإنّها وإن اختلفت فيها ألفاظ قائليها متقاربات المعاني لأنّها جميعًا تنبئ عن أنّ اللّه ضرب الصّيّب لظاهر إيمان المنافق مثلاً ومثّل ما فيه من ظلماتٍ بضلالته، وما فيه من ضياء برقٍ بنور إيمانه، واتّقاءه من الصّواعق بتصيير أصابعه في أذنيه لضعف جنانه ونخب فؤاده من حلول عقوبة اللّه بساحته، ومشيه في ضوء البرق باستقامته على نور إيمانه، وقيامه في الظّلام بحيرته في ضلالته وارتكاسه في عمهه.
فتأويل الآية إذًن إذ كان الأمر على ما وصفنا: أو مثل ما استضاء به المنافقون من قيلهم لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وللمؤمنين بألسنتهم: آمنّا باللّه وباليوم الآخر وبمحمّدٍ وما جاء به، حتّى صار لهم بذلك في الدّنيا أحكام المؤمنين، وهم مع إظهارهم بألسنتهم ما يظهرون باللّه وبرسوله صلّى اللّه عليه وسلّم، وما جاء به من عند اللّه وباليوم الآخر، مكذّبون، ولخلاف ما يظهرون بالألسن في قلوبهم معتقدون، على عمًى منهم وجهالةٍ بما هم عليه من الضّلالة لا يدرون فى أيّ الأمرين اللّذين قد شرّعا لهم فيه الهداية في الكفر الّذي كانوا عليه قبل إرسال اللّه محمّدًا صلّى اللّه عليه وسلّم بما أرسله به إليهم، أم في الّذي أتاهم به محمّدٌ صلّى اللّه عليه وسلّم من عند ربّهم؟ فهم من وعيد اللّه إيّاهم على لسان محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم وجلون، وهم مع وجلهم من ذلك في حقيقته شاكون في قلوبهم مرضٌ فزادهم اللّه مرضًا. كمثل غيثٍ سرى ليلاً في مزنةٍ ظلماء وليلةٍ مظلمةٍ يحدوها رعدٌ ويستطير في حافاتها برقٌ شديدٌ لمعانه كثيرٌ خطرانه، يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار، ويختطفها من شدّة ضيائه ونور شعاعه وينهبط منها تاراتٌ صواعق تكاد تدع النّفوس من شدّة أهوالها زواهق.
فالصّيّب مثلٌ لظاهر ما أظهر المنافقون بألسنتهم من الإقرار والتّصديق، والظّلمات الّتي هي فيه لظلمات ما هم مستبطنوه من الشّكّ والتّكذيب ومرض القلوب. وأمّا الرّعد والصّواعق فلما هم عليه من الوجل من وعيد اللّه إيّاهم على لسان رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم في آي كتابه، إمّا في العاجل وإمّا في الآجل، أي يحلّ بهم مع شكّهم في ذلك: هل هو كائنٌ، أم غير كائنٍ، وهل له حقيقةٌ أم ذلك كذبٌ وباطلٌ؟ مثلٌ.
فهم من وجلهم أن يكون ذلك حقًّا يتّقونه بالإقرار بما جاء به محمّدٌ صلّى اللّه عليه وسلّم بألسنتهم مخافةً على أنفسهم من الهلاك ونزول النّقمات وذلك تأويل قوله جلّ ثناؤه: {يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصّواعق حذر الموت} يعني بذلك يتّقون وعيد اللّه الّذي أنزله في كتابه على لسان رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم بما يبدونه بألسنتهم من ظاهر الإقرار، كما يتّقي الخائف أصوات الصّواعق بتغطية أذنيه وتصيير أصابعه فيها حذرًا على نفسه منها.
وقد ذكرنا الخبر الّذي روي عن ابن مسعودٍ وابن عبّاسٍ أنّهما كانا يقولان: «إنّ المنافقين كانوا إذا حضروا مجلس رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أدخلوا أصابعهم في آذانهم فرقًا من كلام رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أن ينزل فيهم شيءٌ، أو يذكروا بشيءٍ فيقتلوا.».
فإن كان ذلك صريحًا، ولست أعلمه صحيحًا، إذ كنت بإسناده مرتابًا؛ فإنّ القول الّذي روي عنهما هو القول وإن يكن غير صحيحٍ، فأولى بتأويل الآية ما قلنا؛ لأنّ اللّه إنّما قصّ علينا من خبرهم في أوّل مبتدأ قصصهم أنّهم يخادعون اللّه ورسوله والمؤمنين بقولهم آمنّا باللّه وباليوم الآخر مع شكّ قلوبهم ومرض أفئدتهم في حقيقة ما زعموا أنّهم به مؤمنون ممّا جاءهم به رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من عند ربّهم، وبذلك وصفهم في جميع آي القرآن الّتي ذكر فيها صفتهم. فكذلك ذلك في هذه الآية.
وإنّما جعل اللّه إدخالهم أصابعهم في آذانهم مثلاً لاتّقائهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم والمؤمنين بما ذكرنا أنّهم يتّقونهم به كما يتّقي سامع صوت الصّاعقة بإدخال أصابعه في أذنيه. وذلك من المثل نظير تمثيل اللّه ما أنزل فيهم من الوعيد في آي كتابه بأصوات الصّواعق، وكذلك قوله: {حذر الموت} جعله جلّ ثناؤه مثلاً لخوفهم وإشفاقهم من حلول عاجل العقاب المهلكهم الّذي توعّده بساحتهم، كما يجعل سامع أصوات الصّواعق أصابعه في أذنيه حذر العطب والموت على نفسه أن تزهق من شدّتها.
وإنّما نصب قوله: {حذر الموت} على نحو ما تنصب به التّكرمة في قولك: زرتك تكرمةً لك، تريد بذلك: زرتك من أجل تكرمتك، وكما قال جلّ ثناؤه: {ويدعوننا رغبًا ورهبًا} على التّفسير للفعل.
وقد روي عن قتادة: أنّه كان يتأوّل قوله: {حذر الموت} حذرًا من الموت.
- حدّثنا بذلك الحسن بن يحيى، قال: حدّثنا عبد الرّزّاق، قال: أنبأنا معمرٌ، عنه.
وذلك مذهبٌ من التّأويل ضعيفٌ لأنّ القوم لم يجعلوا أصابعهم في آذانهم حذرًا من الموت فيكون معناه ما قال إنّه يرادٌ به حذرًا من الموت، وإنّما جعلوها من حذار الموت في آذانهم.
وكان قتادة وابن جريجٍ يتأوّلان قوله: {يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصّواعق حذر الموت} أنّ ذلك من اللّه جلّ ثناؤه صفةٌ للمنافقين بالهلع، وضعف القلوب، وكراهة الموت، ويتأوّلان في ذلك قوله: {يحسبون كلّ صيحةٍ عليهم}.
وليس الأمر في ذلك عندي كالّذي قالا، وذلك أنّه قد كان فيهم من لا تنكر شجاعته ولا تدفع بسالته كقزمان الّذي لم يقم مقامه أحدٌ من المؤمنين يوم أحدٍ ودونه. وإنّما كانت كراهتهم شهود المشاهد مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وتركهم معاونته على أعدائه؛ لأنّهم لم يكونوا في أديانهم مستبصرين ولا برسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم مصدّقين، فكانوا للحضور معه مشاهده كارهين، إلاّ بالتّخذيل عنه. ولكنّ ذلك وصفٌ من اللّه جلّ ثناؤه لهم بالإشفاق من حلول عقوبة اللّه بهم على نفاقهم، إمّا عاجلاً، وإمّا آجلاً.
ثمّ أخبر جلّ ثناؤه أنّ المنافقين الّذين نعتهم النّعت الّذي ذكر وضرب لهم الأمثال الّتي وصف وإن اتّقوا عقابه وأشفقوا عذابه إشفاق الجاعل في أذنيه أصابعه حذار حلول الوعيد الّذي توعّدهم به في آي كتابه، غير منجيهم ذلك من نزوله بعقوتهم وحلوله بساحتهم، إمّا عاجلاً في الدّنيا، وإمّا آجلاً في الآخرة، للّذي في قلوبهم من مرضها والشّكّ في اعتقادها، فقال: {واللّه محيطٌ بالكافرين} يعنى جامعهم فمحلٌّ بهم عقوبته.
وكان مجاهدٌ يتأوّل ذلك كما حدّثني محمّد بن عمرٍو الباهليّ، قال: حدّثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى بن ميمونٍ، عن عبد اللّه بن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قول اللّه: {واللّه محيطٌ بالكافرين} قال: «جامعهم في جهنّم.».
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثنا حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ في قوله: {واللّه محيطٌ بالكافرين} قال: «جامعهم.».
وأمّا ابن عبّاسٍ فروي عنه في ذلك ما حدّثني به ابن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمّد بن أبي محمّدٍ، مولى زيد بن ثابتٍ عن عكرمة أو عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: {واللّه محيطٌ بالكافرين} يقول: «اللّه منزلٌ ذلك بهم من النّقمة.».). [جامع البيان: 1/ 356 - 378]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): ( {أو كصيّبٍ من السّماء فيه ظلماتٌ ورعدٌ وبرقٌ يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصّواعق حذر الموت واللّه محيطٌ بالكافرين (19) }
قوله: {أو كصيب من السماء}
[الوجه الأول]
- حدّثنا أبو سعيدٍ الأشجّ ثنا أحمد بن بشيرٍ، عن هارون بن عنترة، عن أبيه، عن ابن عبّاسٍ: {أو كصيّبٍ من السّماء} قال: «المطر.». قال أبو محمّدٍ: وكذلك فسّره أبو العالية والحسن وسعيد بن جبيرٍ ومجاهدٌ ، وعطاءٌ وعطيّة العوفيّ، وقتادة وعطاءٌ الخراسانيّ والسّدّيّ والرّبيع بن أنسٍ.
الوجه الثّاني:
- حدّثنا عليّ بن الحسين ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا مروان، عن جويبرٍ عن الضّحّاك: {أو كصيّبٍ من السّماء} قال: «هو السحاب.».). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 54]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {فيه ظلمات}
[الوجه الأول]
- ثنا أبى، ثنا أبي صالحٍ كاتب اللّيث، حدّثني معاوية بن صالحٍ، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: {فيه ظلماتٌ} يقول: «ابتلاءٌ.».
الوجه الثّاني:
- حدّثنا محمّد بن يحيى، أنا أبو غسّان: ثنا سلمة بن الفضل، عن محمد ابن إسحاق قال: فيما حدّثني محمّد بن أبي محمّدٌ مولى زيد بن ثابتٍ، عن عكرمة أو سعيد ابن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: {فيه ظلماتٌ} «أي هم في ظلمة ما هم فيه من الكفر والحذر من القتل- على الّذي هم عليه من الخلاف والتخوف لكم، على مثل ما وصف من الّذي هو في ظلمة الصّيّب.».
الوجه الثّالث:
- أخبرنا أبو الأزهر فيما كتب إليّ ثنا وهب بن جريرٍ، ثنا أبي، عن عليّ بن الحكم، عن الضحاك: {فيه ظلماتٌ} «أمّا الظّلمة، فالضّلالة.».). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 54]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله تعالى: {ورعد}
[الوجه الأول]
- حدّثنا أبو سعيدٍ أحمد بن محمّد بن يحيى بن سعيدٍ القطّان، ثنا أبو أحمد الزّبيريّ، ثنا عبد اللّه بن الوليد- يعني من ولد معقل بن مقرّنٍ- حدّثني بكير بن شهابٍ، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ قال: أقبلت يهود إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقالوا: يا أبا القاسم، أخبرنا ما هذا الرّعد؟ قال: «ملكٌ من ملائكة اللّه موكّلٌ بالسّحاب بيده، أو في يده مخاريق من نارٍ يزجر به السّحاب ويسوقه حيث أمره اللّه.»قالوا: فما هذا الصّوت الّذي يسمع؟ قال: «صوته». قالوا: صدقت
الوجه الثّاني:
- حدّثنا أبي، ثنا أبو صالحٍ كاتب اللّيث، حدّثني معاوية بن صالحٍ، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ، {ورعدٌ} يقول: «تخويفٌ.».
الوجه الثّالث:
- حدّثنا أبو سعيدٍ الأشجّ، ثنا ابن إدريس، عن الحسن بن فراتٍ، عن أبيه، عن أبي الجلد قال: كتب إليه ابن عبّاسٍ يسأله عن الرّعد، فكتب إليه: إنّ الرّعد ريحٌ.). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 54 - 55]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {وبرقٌ}
[الوجه الأول]
- وبه عن أبي الجلد قال: كتب إليه ابن عبّاسٍ يسأله عن البرق، فكتب إليه أنّ البرق ماءٌ.
- حدّثنا عليّ بن المنذر الطّريقيّ، ثنا ابن فضيلٍ، ثنا عطاء بن السّائب، عن الشّعبيّ قال: كتب ابن عبّاسٍ إلى أبي الجلد يسأله عن البرق- وكان عالمًا يقرأ الكتب- فكتب إليه. البرق من تلالؤ الماء.
الوجه الثّاني:
- حدّثنا أبو سعيدٍ الأشجّ، ثنا أبو نعيمٍ، ثنا سفيان عن سلمة بن كهيل عن ابن أشيء، عن ربيعة بن الأبيض، عن عليٍّ قال: «البرق مخاريق الملائكة.».
- حدّثنا أبي، ثنا سليمان بن حربٍ وأبو الرّبيع- واللّفظ لسليمان قالا: ثنا حمّاد بن زيدٍ، عن عبد الجليل، عن شهر بن حوشبٍ، عن أبي هريرة أنّه سئل عن البرق، فقال: «اصطفق البرد.».
- وقال أبو الرّبيعٍ في حديثه: «البرق: اصطفق البرد.».
- حدّثنا أبي، ثنا أبو سلمة، ثنا حمّادٌ- يعني ابن سلمة- عن عبد الجليل، عن شهر ابن حوشبٍ: قال عبد اللّه بن عمرٍو لرجلٍ: سل كعبًا عن البرق: فقال كعبٌ: «البرق تصفيق ملك البرد. وحكى حمّادٌ بيده، لو ظهر لأهل الأرض لصعقوا.
- حدّثنا أبي، ثنا عبيد اللّه بن موسى أنبأ عثمان بن الأسود، عن مجاهد قال: «البرق مصنع ملكٍ يسوق به السّحاب.».
الوجه الثّالث:
- أخبرنا أبو الأزهر أحمد بن الأزهر فيما كتب إليّ ثنا وهب بن جريرٍ، ثنا أبي، عن عليّ بن الحكم، عن الضّحّاك في قوله: {فيه ظلماتٌ ورعدٌ وبرقٌ} «فأمّا البرق فالإيمان. عني بذلك أهل الكتاب.».). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 55 - 56]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {يجعلون أصابعهم في آذانهم}
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا عمرو بن حمّادٍ، ثنا أسباطٌ عن السّدّيّ، قوله: {يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصّواعق} قال: «كان المنافقون إذا حضروا مجلس النّبيّ- صلّى اللّه عليه وسلّم- جعلوا أصابعهم في آذانهم فرقًا من كلام النّبيّ- صلّى اللّه عليه وسلّم- أن ينزل فيهم شيءٌ أو يذكروا بشيءٍ فيقتلوا.».). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 56]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {من الصّواعق}
- حدّثنا عليّ بن المنذر الطّريقيّ، ثنا ابن فضيلٍ، ثنا عطاء بن السّائب، عن الشّعبيّ قال: كتب ابن عبّاسٍ إلى أبي الجلد يسأله عن الصّواعق. فكتب إليه أنّ الصّواعق مخاريق يزجر بها السّحاب). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 56]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {حذر الموت}
- حدّثنا محمّد بن يحيى، أنبأ أبو غسّان، ثنا سلمة بن الفضل، عن محمد ابن إسحاق قال: فيما حدّثني محمّد بن أبي محمّدٍ، عن عكرمة أو سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: {يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصّواعق حذر الموت} «والحذر من القتل على الّذي هم عليه من الخلاف والتخوف لكم على مثل ما وصف من الّذي هو في ظلمة الصّيّب.».). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 56 - 57]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله تعالى: {والله محيط بالكافرين}
[الوجه الأول]
- وبه عن ابن عبّاسٍ: {واللّه محيطٌ بالكافرين} «يقول اللّه: واللّه منزلٌ ذلك بهم من النّقمة- أي محيطٌ بالكافرين.».
- أخبرنا عليّ بن المبارك فيما كتب إليّ، ثنا زيد بن المبارك، ثنا ابن ثورٍ، عن ابن جريجٍ عن مجاهدٍ، في قوله: {واللّه محيطٌ بالكافرين} قال: «جامعهم يوم القيامة في جهنّم.».
الوجه الثّاني
- حدّثنا الحسن بن الصّبّاح، ثنا شبابة، ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهدٍ: {واللّه محيطٌ بالكافرين} قال: «جامعهم- يعني: يوم القيامة.».
- حدّثنا أبي، ثنا أحمد بن عبد الرّحمن الدّشتكيّ، ثنا عبد اللّه بن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرّبيع بن أنسٍ: {واللّه محيطٌ بالكافرين}«يبعثهم اللّه من بعد الموت، فيبعث أولياءه أعداءه فينبّئهم بأعمالهم، فذلك قوله: {واللّه محيطٌ بالكافرين}».). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 57]
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمنِ بنُ الحَسَنِ الهَمَذَانِيُّ (ت: 352هـ): (نا إبراهيم قال نا آدم قال نا ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله عز وجل: { والله محيط بالكافرين} يقول: «جامعهم في جهنم.».). [تفسير مجاهد: 70 - 71]
قال عليُّ بنُ أبي بكرٍ بن سُليمَان الهَيْثَميُّ (ت: 807هـ) : (قوله تعالى: {أو كصيّبٍ}.
- عن ابن عبّاسٍ في قوله: {أو كصيّبٍ من السّماء} قال: «الصّيّب: المطر.».
رواه أبو يعلى، وفيه أبو جنابٍ وهو مدلّسٌ). [مجمع الزوائد: 6/313]
قال أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل البوصيري (ت: 840هـ) : (وقال أبو يعلى الموصليّ: ثنا أحمد الأخنسيّ، ثنا محمّد بن فضيلٍ، ثنا الكلبيّ، عن أبي صالحٍ عن ابن عبّاسٍ- رضي اللّه عنهما- "في قوله: {أو كصيّبٍ من السّماء} هو قال: الصيب: المطر"). [إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة: 6/ 177]
قال أحمدُ بنُ عَلَيِّ بنِ حجرٍ العَسْقَلانيُّ (ت: 852هـ) : (وقال أبو يعلى: حدثنا أحمد الأخنسيّ، ثنا محمّد بن فضيلٍ، ثنا الكلبيّ عن أبي صالحٍ، عن ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما، في قوله تعالى: {إعصارٌ فيه نارٌ}، (فقال): «الإعصار، الرّيح الشديد.»
- وبه في قوله تعالى: {كصيّبٍ من السّماء} قال: «الصّيّب: المطر».). [المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية: 14/ 461 - 462] (م)
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج وكيع، وعبد بن حميد وأبو يعلى في مسنده، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة من طرق عن ابن عباس في قوله {أو كصيب من السماء} قال: «المطر».
وأخرج ابن جرير عن مجاهد والربيع وعطاء، مثله.
وأخرج الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنما الصيب من ههنا»، وأشار بيده إلى السماء). [الدر المنثور: 1/ 176]

تفسير قوله تعالى: (يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) )
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (أخبرنا معمر عن قتادة: {فيه ظلمات ورعد وبرق} يقول: «أخبر عن قوم لا يسمعون شيئا إلا ظنوا أنهم هالكون فيه حذرا من الموت والله محيط بالكافرين ثم ضرب لهم مثلا آخر فقال: {يكاد البرق يخطف أبصرهم كلما أضاء لهم مشوا فيه} يقول: هذا المنافق إذا كثر ماله وكثرت ماشيته وأصابته عافية قال لم يصبني منذ دخلت في ديني هذا إلا خير {وإذا أظلم عليهم قاموا} يقول: إذا ذهبت أموالهم وهلكت مواشيهم وأصابهم البلاء قاموا متحيرين».). [تفسير عبد الرزاق: 1/ 40] (م)
قالَ سعيدُ بنُ منصورٍ بن شعبة الخراسانيُّ: (ت:227هـ): ( [قوله تعالى: {يكاد البرق يخطف أبصارهم} ]
- حدّثنا سعيدٌ، قال: نا هشيمٌ، قال: نا عبّاد بن راشدٍ قال: سمعت الحسن يقول: {يكاد البرق يخطف أبصارهم}). [سنن سعيد بن منصور: 2/ 547]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (ثمّ عاد جلّ ذكره إلى نعت إقرار المنافقين بألسنتهم، والخبر عنه وعنهم وعن نفاقهم، وإتمام المثل الّذي ابتدأ ضربه لهم ولشكّهم ومرض قلوبهم، فقال: {يكاد البرق} يعني بالبرق: الإقرار الّذي أظهروه بألسنتهم باللّه وبرسوله وما جاء به من عند ربّهم، فجعل البرق له مثلاً على ما قدّمنا صفته.
{يخطف أبصارهم} يعني: يذهب بها ويستلبها ويلتمعها من شدّة ضيائه ونور شعاعه.
- كما حدّثت عن المنجاب بن الحارث، قال: حدّثنا بشر بن عمّارٍ، عن أبي روقٍ، عن الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ، في قوله: {يكاد البرق يخطف أبصارهم} قال: «يلتمع أبصارهم ولمّا يفعل».
والخطف: السّلب ومنه الخبر الّذي روي عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: أنّه نهى عن الخطفة. يعني بها النّهبة؛ ومنه قيل للخطّاف الّذي يخرج به الدّلو من البئر خطّافٌ لاختطافه واستلابه ما علق به. ومنه قول نابغة بني ذبيان:

خطاطيف حجنٌ في حبالٍ متينةٍ ....... تمدّ بها أيدٍ إليك نوازع

فجعل ضوء البرق وشدّة شعاع نوره لضوء إقرارهم بألسنتهم وبرسوله صلّى اللّه عليه وسلّم وبما جاء به من عند اللّه واليوم الآخر وشعاع نوره، مثلاً.
ثمّ قال تعالى ذكره: {كلّما أضاء لهم} يعني أنّ البرق كلّما أضاء لهم، وجعل البرق لإيمانهم مثلاً. وإنّما أراد بذلك أنّهم كلّما أضاء لهم الإيمان وإضاءتهم لهم أن يروا فيه ما يعجبهم في عاجل دنياهم من النّصرة على الأعداء، وإصابة الغنائم في المغازي، وكثرة الفتوح، وتتابعها، والثّراء في الأموال، والسّلامة في الأبدان والأهل والأولاد، فذلك إضاءته لهم؛ لأنّهم إنّما يظهرون بألسنتهم ما يظهرونه من الإقرار ابتغاء ذلك، ومدافعةً عن أنفسهم وأموالهم وأهليهم وذراريّهم، وهم كما وصفهم اللّه جلّ ثناؤه بقوله: {ومن النّاس من يعبد اللّه على حرفٍ فإن أصابه خيرٌ اطمأنّ به وإن أصابته فتنةٌ انقلب على وجهه}.
ويعني بقوله: {مشوا فيه} مشوا في ضوء البرق. وإنّما ذلك مثلٌ لإقرارهم على ما وصفنا. فمعناه: كلّما رأوا في الإيمان ما يعجبهم في عاجل دنياهم على ما وصفنا، ثبتوا عليه وأقاموا فيه، كما يمشي السّائر في ظلمة اللّيل وظلمة الصّيّب الّذي وصفه جلّ ثناؤه، إذا برقت فيها بارقةٌ أبصر طريقه فيها.
{وإذا أظلم} يعني ذهب ضوء البرق عنهم.
ويعني بقوله: {عليهم} على السّائرين في الصّيّب الّذي وصف جلّ ذكره، وذلك للمنافقين مثلٌ.
ومعنى إظلام ذلك: أنّ المنافقين كلّما لم يروا في الإسلام ما يعجبهم في دنياهم عند ابتلاء اللّه مؤمني عباده بالضّرّاء وتمحيصه إيّاهم بالشّدائد والبلاء من إخفاقهم في مغزاهم أو إدالة عدوّهم منهم، أو إدبارٍ من دنياهم عنهم؛ أقاموا على نفاقهم وثبتوا على ضلالتهم كما قام السّائر في الصّيّب الّذي وصف جلّ ذكره إذا أظلم وخبت ضوء البرق، فحار في طريقه فلم يعرف منهجه). [جامع البيان: 1/ 378 - 381]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {ولو شاء اللّه لذهب بسمعهم وأبصارهم}.
قال أبو جعفرٍ: وإنّما خصّ جلّ ذكره السّمع والأبصار بأنّه لو شاء أذهبها من المنافقين دون سائر أعضاء أجسامهم للّذي جرى من ذكرها في الآيتين، أعني قوله: {يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصّواعق} وقوله: {يكاد البرق يخطف أبصارهم كلّما أضاء لهم مشوا فيه} فجرى ذكرها في الآيتين على وجه المثل. ثمّ عقّب جلّ ثناؤه ذكر ذلك بأنّه لو شاء أذهبه من المنافقين عقوبةً لهم على نفاقهم وكفرهم، وعيدًا من اللّه لهم، كما توعّدهم في الآية الّتي قبلها بقوله: {واللّه محيطٌ بالكافرين} واصفًا بذلك جلّ ذكره نفسه أنّه المقتدر عليهم وعلى جمعهم، لإحلال سخطه بهم، وإنزال نقمته عليهم، ومحذّرهم بذلك سطوته، ومخوّفهم به عقوبته، ليتّقوا بأسه، ويسارعوا إليه بالتّوبة.
- كما حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمّد بن أبي محمّدٍ، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: {ولو شاء اللّه لذهب بسمعهم وأبصارهم} «لما تركوا من الحقّ بعد معرفته».
- وحدّثني المثنّى، قال: حدّثنا إسحاق، قال: حدّثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرّبيع بن أنسٍ، قال: «ثمّ قال، يعني قال اللّه، في أسماعهم يعني أسماع المنافقين وأبصارهم الّتي عاشوا بها في النّاس: {ولو شاء اللّه لذهب بسمعهم وأبصارهم}».
وإنّما معنى قوله: {لذهب بسمعهم وأبصارهم} لأذهب سمعهم وأبصارهم، ولكنّ العرب إذا أدخلوا الباء في مثل ذلك قالوا: ذهبت ببصره، وإذا حذفوا الباء قالوا: أذهبت بصره، كما قال جلّ ثناؤه: {آتنا غداءنا} ولو أدخلت الباء في الغداء لقيل: ائتنا بغدائنا.
فإن قال لنا قائلٌ: وكيف قيل: {لذهب بسمعهم} فوحّد، وقال: {وأبصارهم} فجمع؟ وقد علمت أنّ الخبر في السّمع خبرٌ عن سمع جماعةٍ، كما الخبر في الأبصار خبرٌ عن أبصار جماعةٍ؟
قيل: قد اختلف أهل العربيّة في ذلك، فقال بعض نحويّي الكوفة: وحّد السّمع لأنّه عنى به المصدر وقصد به الخرق، وجمع الأبصار لأنّه عنى بها الأعين.
وكان بعض نحويّي البصرة يزعم أنّ السّمع وإن كان في لفظٍ واحدٍ فإنّه بمعنى جماعةٍ، ويحتجّ في ذلك بقول اللّه: {لا يرتدّ إليهم طرفهم} يراد لا ترتدّ إليهم أطرافهم، وبقوله: {ويولّون الدّبر} يراد به أدبارهم.
قال أبو جعفرٍ: وإنّما جاز ذلك عندي لأنّ في الكلام ما يدلّ على أنّه مرادٌ به الجمع، فكان فيه دلالةٌ على المراد منه، وأداء معنى الواحد من السّمع عن معنى جماعةٍ مغنيًا عن جماعةٍ، ولو فعل بالبصر نظير الّذي فعل بالسّمع، أو فعل بالسّمع نظير الّذي فعل بالأبصار من الجمع والتّوحيد، كان فصيحًا صحيحًا لما ذكرنا من العلّة؛ كما قال الشّاعر:


كلوا في بعض بطنكم تعفّوا ....... فإنّ زماننا زمنٌ خميص


فوحّد البطن، والمراد منه البطون لما وصفنا من العلّة). [جامع البيان: 1/ 381 - 383]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {إنّ اللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ}.
قال أبو جعفرٍ: وإنّما وصف اللّه نفسه جلّ ذكره بالقدرة على كلّ شيءٍ في هذا الموضع، لأنّه حذّر المنافقين بأسه وسطوته وأخبرهم أنّه بهم محيطٌ وعلى إذهاب أسماعهم وأبصارهم قديرٌ، ثمّ قال: فاتّقوني أيّها المنافقون واحذروا خداعي وخداع رسولي وأهل الإيمان بي لا أحلّ بكم نقمتي فإنّي على ذلك وعلى غيره من الأشياء قادرٌ. ومعنى قديرٍ: قادرٌ، كما معنى عليمٌ: عالمٌ، على ما وصفت فيما تقدّم من نظائره من زيادة معنى فعيلٍ على فاعلٍ في المدح والذّمّ). [جامع البيان: 1/ 384]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): ( {يكاد البرق يخطف أبصارهم كلّما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ولو شاء اللّه لذهب بسمعهم وأبصارهم إنّ اللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ (20)}
قوله: {يكاد البرق}
- حدّثنا أبي، ثنا أبو صالحٍ، حدّثني معاوية بن صالحٍ، عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عبّاسٍ: {يكاد البرق يخطف أبصارهم} يقول: «يكاد محكم القرآن يدلّ على عورات المنافقين».). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 57]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {يخطف أبصارهم}
[الوجه الأول]
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا منجاب بن الحارث، ثنا بشر بن عمارة، عن أبي روقٍ، عن الضّحّاك عن ابن عبّاسٍ، في قوله: {يكاد البرق يخطف أبصارهم} «يلتمع أبصارهم ولمّا يخطف».
- حدّثنا أبي، ثنا محمّد بن أبي عمر العدنيّ، ثنا سفيان، عن عمرو بن دينارٍ قال: «لم أسمع بأحدٍ ذهب البرق ببصره لقول اللّه: {يكاد البرق يخطف أبصارهم}».
الوجه الثّاني:
- حدّثنا محمّد بن يحيى، أنبأ أبو غسّان، ثنا سلمة بن الفضل، عن محمّد بن إسحاق قال فيما حدّثني محمّد بن أبي محمّدٍ، عن عكرمة أو سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: {يكاد البرق يخطف أبصارهم} «أي لشدّة ضوء الحقّ».
الوجه الثّالث:
- أخبرنا عليّ بن المبارك فيما كتب إليّ ثنا زيد بن المبارك، ثنا ابن ثورٍ عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ: {يكاد البرق يخطف أبصارهم} قال: «هذا مثلٌ آخر، كما إذا كانوا في البرّ في المطر فرقوا من الصّواعق. قال: هذا قول اللّه لمن شكّ من الكفّار فيما جاء به محمّدٌ صلّى اللّه عليه وسلّم».). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 57 - 58]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {كلّما أضاء لهم مشوا فيه}
- حدّثنا أبي، ثنا أبو صالحٍ، حدّثني معاوية بن صالحٍ، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: {كلّما أضاء لهم مشوا فيه} يقول: «كلّما أصاب المنافقون من الإسلام خيرًا اطمأنّوا إليه، وإن أصاب الإسلام نكبةٌ قاموا ليرجعوا إلى الكفر. ثمّ إذا أظلم عليهم قاموا، كقوله:{ ومن النّاس من يعبد اللّه على حرفٍ فإن أصابه خيرٌ اطمأنّ به} إلى آخر الآية.».
- حدّثنا محمّد بن يحيى، أنبأ أبو غسّان، ثنا سلمة: عن محمّد بن إسحاق قال: فيما حدّثني محمّد، بن أبي محمّدٍ، عن عكرمة أو سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ {كلّما أضاء لهم مشوا فيه، وإذا أظلم عليهم قاموا} «أي يعرفون الحقّ ويتكلّمون به فهم من قولهم به على استقامةٍ، فإذا ارتكسوا منه إلى الكفر قاموا أي متحيرين».
- حدّثنا عصام بن روّادٍ العسقلانيّ بها، ثنا آدم، ثنا أبو جعفرٍ، عن الرّبيع، عن أبي العالية، في قوله: {كلّما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا} «فمثله كمثل قومٍ ساروا في ليلةٍ مظلمةٍ لها مطرٌ ورعدٌ وبرقٌ على جادّةٍ كلّما أبرقت أبصروا الجادّة فمضوا فيها، فإذا ذهب البرق تحيّروا، فكذلك المنافق كلّما تكلّم بكلمة الإخلاص أضاء له، وكلّما شكّ تحيّر ووقع في الظّلمة»، قال أبو محمّدٍ: وروي عن الحسن، وقتادة، والسّدّيّ، والرّبيع بن أنسٍ نحو ذلك). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 58 - 59]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {وإذا أظلم عليهم قاموا}
- حدّثنا محمّد بن يحيى، أبو غسّان، ثنا سلمة، عن محمّد بن إسحاق قال: فيما حدّثني محمّد، بن أبي محمّدٍ عن عكرمة أو سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: {وإذا أظلم عليهم قاموا} «أي متحيّرين».). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 59]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {ولو شاء اللّه لذهب بسمعهم وأبصارهم}
- حدّثنا عصام بن روّادٍ، ثنا آدم، ثنا أبو جعفرٍ عن الرّبيع، عن أبي العالية. {ولو شاء اللّه لذهب بسمعهم وأبصارهم} قال: «ذكر أسماعهم وأبصارهم الّتي عاثوا بها في النّاس.».
- حدّثنا محمّد بن يحيى، أنبأ أبو غسّان، ثنا سلمة بن الفضل، عن محمد ابن إسحاق قال: فيما حدّثنا محمّد بن أبي محمّدٍ عن عكرمة أو سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: {ولو شاء اللّه لذهب بسمعهم وأبصارهم} «أي لما تركوا من الحقّ بعد معرفته، إنّ اللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ».). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 59]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {إنّ اللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ}
- حدّثنا محمّد بن العبّاس، ثنا محمّد بن عمرٍو زنيجٌ، ثنا سلمة، قال محمّد بن إسحاق: {إنّ اللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ} « أي إنّ اللّه على كلّ ما أراد بعباده من نقمةٍ أو عفوٍ قديرٌ.».). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 59]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله {يكاد البرق}
قال: «يلتمع {يخطف أبصارهم} ولما يخطف، وكل شيء في القرآن يكاد وأكاد وكادوا فإنه لا يكون أبدا».
وأخرج وكيع عن المبارك بن فضالة قال: سمعت الحسين يقرؤها {يكاد البرق يخطف أبصارهم} ). [الدر المنثور: 1/ 176 - 177]


رد مع اقتباس