عرض مشاركة واحدة
  #97  
قديم 7 صفر 1439هـ/27-10-2017م, 01:36 PM
جمهرة التفاسير جمهرة التفاسير غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 2,953
افتراضي

نشأة علم التناسب بين الألفاظ والمعاني
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (نشأة علم التناسب بين الألفاظ والمعاني
لهذا العلم أصول مأثورة عن بعض علماء اللغة المتقدمين كالخليل بن أحمد وسيبويه ومن في طبقتهما.
ثم ابن قتيبة وأبي العباس المبرّد وثعلب ومن في طبقتهم.
ثمّ أبي القاسم الزجاجي وأبي سعيد السيرافي وأبي منصور الأزهري وأبي علي الفارسي ومن في طبقتهم.
لكن كلام هؤلاء الأعلام في هذا العلم إنما هو إشارات متفرقّة لا تبلغ أن يستفاد من مجموعها مادّة كتاب، حتّى أتى أبو الفتح ابن جنّي(ت:392هـ) فحاول كشف مكنونات هذا العلم والتنقيب عن أصوله، وإبراز معالمه؛ فكتب في "الخصائص" باباً سماه "تصاقب الألفاظ لتصاقب المعاني"، وقال فيه: (هذا غَورٌ من العربية لا يُنتَصف منه، ولا يكاد يحاط به، وأكثر كلام العرب عليه، وإن كان غُفْلًا مسهوًّا عنه) إلى آخر ما قال في هذا الباب.
وقال في بيان بعض أنواع مسائله: (من ذلك قول الله سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} أي: تزعجهم وتقلقهم، فهذا في معنى تهزّهم هزًّا، والهمزة أخت الهاء؛ فتقارب اللفظان لتقارب المعنيين، وكأنهم خصّوا هذا المعنى بالهمزة لأنها أقوى من الهاء، وهذا المعنى أعظم في النفوس من الهزِّ؛ لأنَّك قد تهزّ ما لا بالَ له كالجذع وساق الشجرة، ونحو ذلك.
ومنه "العَسْف" و"الأسَف"، والعين أخت الهمزة، كما أن الأسف يعسف النفس وينال منها، والهمزة أقوى من العين، كما أن أسف النفس أغلظ من "التردد" بالعسف؛ فقد ترى تصاقب اللفظين لتصاقب المعنيين)ا.هـ.
ثم قال في آخر هذا الباب: (وهذا النحو من الصنعة موجود في أكثر الكلام وفرش اللغة, وإنما بقي من يثيره ويبحث عن مكنونه, بل مَنْ إذا أوضح له وكشفت عنده حقيقته طاع طبعه لها فوعاها وتقبلها. وهيهات ذلك مطلبًا, وعزَّ فيهم مذهبًا)ا.هـ.
ثمّ أتبع هذا الباب باباً طويلاً سمّاه : (إمساسَ الألفاظ أشباه المعاني) وهو من أنواع تناسب الألفاظ والمعاني.
وكان في عصره أحمد بن فارس الرازي(ت:395هـ) صاحب "معجم المقاييس" و"مجمل اللغة" و"الصاحبي في فقه اللغة" وغيرها، وله في هذا العلم كلام حسن متفرّق في كتبه.
ثمّ أتى شيخ الإسلام ابن تيمية(ت:728هـ) فتكلم في أمثلة لهذا العلم بكلام بديع في عدد من كتبه، واستعمله في الترجيح بين بعض الأوجه التفسيرية، والتنبيه على علل بعضها.
وقد ذكر تلميذه النجيب ابن القيّم (ت:751هـ) أنّه سأله عن هذا العلم، فشرح له فيه فصلاً عظيم النفع، وقد وقع هذا الشرح من تلميذه موقعاً حسناً؛ فأخذه وحبّره، وزاد في أمثلته، وفرّع عليه، حتى فتح له في هذا العلم أبواب لطيفة بديعة، وتمنّى أنْ يؤلّف فيه كتاباً مستقلاً، وذكر فيه كلاماً مطوّلاً في كتابه "جلاء الأفهام" ثم قال: (وهذا أكثر من أن يحاط به، وإن مدَّ الله في العمر وضعت فيه كتاباً مستقلاً إن شاء الله تعالى، ومثل هذه المعاني تستدعي لطافة ذهن ورقة طبع، ولا تتأتَّى مع غلظ القلوب، والرضا بأوائل مسائل النحو والتصريف، دون تأمّلها وتدبّرها والنظر إلى حكمة الواضع، ومطالعة ما في هذه اللغة الباهرة من الأسرار التي تدقّ على أكثر العقول، وهذا باب ينبّه الفاضل على ما وراءَه {ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور}).ا.هـ
وكان الذي جرّه إلى هذا الاستطراد شرح معنى الميم في "اللهمّ" فذكرَ الأقوال فيها وبيّن مآخذها وعللها ثمّ قال: (وقيل: زيدت الميم للتعظيم والتفخيم كزيادتها في زُرْقُم لشديد الزرقة، وابنم في الابن، وهذا القول صحيح ولكن يحتاج إلى تتمة، وقائله لحظَ معنى صحيحاً لا بد من بيانه، وهو أنَّ الميم تدل على الجمع وتقتضيه، ومخرجها يقتضي ذلك، وهذا مطرد على أصل من أثبت المناسبة بين اللفظ والمعنى، كما هو مذهب أساطين العربية وعقد له أبو الفتح بن جني بابا في الخصائص، وذكره عن سيبويه، واستدلَّ عليه بأنواع من تناسب اللفظ والمعنى، ثم قال: "ولقد كنت برهة يرد علي اللفظ لا أعلم موضوعه وآخذ معناه من قوة لفظه ومناسبة تلك الحروف لذلك المعنى ثم أكشفه فأجده كما فهمته أو قريبا منه" فحكيت لشيخ الإسلام هذا عن ابن جني؛ فقال: "وأنا كثيرا ما يجري لي ذلك".
ثم ذكر لي فصلاً عظيم النفع في التناسب بين اللفظ والمعنى، ومناسبة الحركات لمعنى اللفظ، وأنهم في الغالب يجعلون الضمة التي هي أقوى الحركات للمعنى الأقوى، والفتحة الخفيفة للمعنى الخفيف، والمتوسطة للمتوسط:
  • فيقولون: "عزَّ يَعَزُّ" بفتح العَين إذا صلب، وأرض عزاز: صلبة.
  • ويقولون: "عَزَّ يَعِزُّ بكسرها، إذا امتنع، والممتنع فوق الصلب؛ فقد يكون الشيء صلباً ولا يمتنع على كاسره.
  • ثم يقولون: عزَّه يَعُزُّه إذا غَلَبَه، قال الله تعالى في قصة داود عليه السلام: {وعزني في الخطاب}.
والغلبة أقوى من الامتناع؛ إذ قد يكون الشيء ممتنعاً في نفسه، متحصناً من عدوّه، ولا يَغْلِب غيرَه؛ فالغالب أقوى من الممتنع؛ فأعطوه أقوى الحركات، والصلب أضعف من الممتنع؛ فأعطوه أضعف الحركات، والممتنع المتوسط بين المرتبتين؛ فأعطوه حركة الوسط). إلى آخر ما قال، وهو فصل طويل.
وهذا نوع من أنواع تناسب الألفاظ والمعاني.
وقال ابن القيّم أيضاً: (الألفاظ مشاكلة للمعاني التي هي أرواحها، يتفرَّس الفطنُ فيها حقيقة المعنى بطبعه وحسّه كما يتعرّف الصادقُ الفراسةَ صفاتِ الأرواح في الأجساد من قوالبها بفطنته، وقلت يوما لشيخنا أبي العباس بن تيمية قدس الله روحه: "قال ابن جني: مكثت برهة إذا ورد علي لفظ آخذ معناه من نفس حروفه وصفاتها وجرسه وكيفية تركيبه ثم أكشفه؛ فإذا هو كما ظننته أو قريبا منه.
فقال لي رحمه الله: وهذا كثيرا ما يقع لي".
وتأمَّل حرف "لا" كيف تجدها لاماً بعدها ألِفٌ يمتدّ بها الصوت ما لم يقطعه ضيق النفس؛ فآذَنَ امتدادُ لفظها بامتداد معناها ولن بعكس ذلك؛ فتأمَّله فإنه معنى بديع.
وانظر كيف جاء في أفصح الكلام كلام الله: {وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً} بحرف "لا" في الموضع الذي اقترن به حرف الشرط بالفعل؛ فصار من صيغ العموم؛ فانسحب على جميع الأزمنة وهو قوله عز وجل: {إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ} كأنه يقول: متى زعموا ذلك لوقت من الأوقات أو زمن من الأزمان وقيل لهم: تمنوا الموت فلا يتمنونه أبدا.
وحرف الشرط دلَّ على هذا المعنى، وحرف "لا" في الجواب بإزاء صيغة العموم لاتساع معنى النفي فيها.
وقال في سورة البقرة: {ولن يتمنوه} فقصر من سعة النفي وقرَّب لأن قبله: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ} لأنَّ "إن كان" هنا ليست من صيغ العموم؛ لأن كان ليست بدالة على حدث، وإنما هي داخلة على المبتدأ والخبر عبارة عن مضي الزمان الذي كان فيه ذلك الحدث؛ فكأنه يقولُ عزَّ وجلَّ إن كان قد وجبت لكم الدار الآخرة وثبتت لكم في علم الله فتمنوا الموت الآن ثم قال في الجواب: {ولن يتمنوه} فانتظم معنى الجواب بمعنى الخطاب في الآيتين جميعا)ا.هـ). [طرق التفسير:273 - 277]

رد مع اقتباس