عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 25 محرم 1439هـ/15-10-2017م, 10:10 PM
جمهرة علوم العقيدة جمهرة علوم العقيدة غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: May 2017
المشاركات: 1,193
افتراضي

صفات السلب المحض لا تدخل في أوصافه تعالى إلا أن تكون متضمنة لثبوت

قال ابن القيم محمد بن أبي بكر الزرعي الدمشقي (ت:751هـ) كما في المرتبع الأسنى: (
[الثاني والعشرونَ]: ([أنَّ] صِفَاتِ السَّلْبِ الْمَحْضِ... لا تَدْخُلُ في أوصافِهِ تعالى إلاَّ أنْ تكونَ متضمِّنَةً لِثُبُوتٍ، كالأحَدِ المتضمِّنِ لانفرادِهِ بالربوبيَّةِ والإلهيَّةِ، والسلامِ المتضمِّنِ لبراءتِهِ مِنْ كلِّ نَقْصٍ يُضَادُّ كمالَهُ، وكذلكَ الإخبارُ عنهُ بالسُّلُوبِ هوَ لِتَضَمُّنِهَا ثُبُوتَاً ؛ (([لـ] أنَّ كلَّ ما يُنَـزَّهُ الربُّ عنهُ إن لم يكنْ مُتَضَمِّناً لإثباتِ كمالِهِ ومُسْتَلْزِماً لأمرٍ ثبوتيٍّ، يُوصَفُ بهِ لم يكنْ في تنـزيهِهِ عنهُ مَدْحٌ ولا حَمْدٌ ولا تَمجيدٌ ولا تَسبيحٌ؛ إذ العَدَمُ المحضُ كاسمِهِ لا حَمْدَ فيهِ ولا مَدْحَ، وإِنَّمَا يُمْدَحُ سُبحانَهُ بِنَفْيِ أمورٍ تَستلْزِمُ أموراً هيَ حقٌّ ثابتٌ موجودٌ يَسْتَحِقُّ الحمدَ عليها، وذلكَ الحقُّ الموجودُ يُنافِي ذلكَ الباطلَ الْمَنْفِيَّ، فيُسْتَدَلُّ برفعِ أحدِهما على ثبوتِ الآخَرِ، فتارةً يُسْتَدَلُّ بثبوتِ تلكَ المحامدِ والكمالاتِ على نفيِ النقائصِ التي تُنَافِيهَا، وتارةً يُسْتَدَلُّ بِنَفْيِ تلكَ النقائصِ على ثبوتِ الكمالاتِ التي تُنافِيهَا، فهوَ سُبحانَهُ القُدُّوسُ السَّلامُ كما قالَ: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ}[البقرة: 255] لكمالِ حياتِهِ وقَيُّومِيَّتِهِ و {لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ} [سبأ: 3] لكمالِ عِلْمِهِ {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38)}[ق: 38] لكمالِ قُدرتِهِ {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)} [الكهف: 49] لكمالِ عَدْلِهِ وغِناهُ ورحمتِهِ، و {لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52)}[طه: 52] لكمالِ عِلْمِهِ وحِفْظِهِ {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} [البقرة: 255] لكمالِ قُدرتِهِ وقُوَّتِهِ،{وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ} [الأنعام: 14]، و{لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3)}[الإخلاص: 3] لكمالِ صَمَدِيَّتِهِ، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)}[الإخلاص: 4] لتفرُّدِهِ بالكمالِ المطلَقِ الذي لا يُشارِكُهُ فيهِ غيرُهُ، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ} [الإسراء: 111] لكمال عِزَّتِهِ وسُلطانِهِ، {وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15)}[الشمس: 15] فنَفَى عنْ نفسِهِ خوفَ عاقبةِ ما فَعَلَهُ مِنْ إهلاكِ أعدائِهِ، بخِلافِ المخلوقِ، فإنَّهُ إذا انْتَقَمَ مِنْ عَدُوِّهِ يَخافُ عاقبةَ ذلكَ، إمَّا مِن اللهِ وإمَّا مِن المُنْتَصِرِينَ لعَدُوِّهِ، وذلكَ على اللهِ مُحَالٌ، والخوفُ يَتضَمَّنُ نُقصانَ العلْمِ والقُدرةِ والإرادةِ، فإنَّ العالمَ بأنَّ الشيءَ لا يكونُ لا يَخافُهُ، والعالمُ بأنَّهُ يكونُ ولا بُدَّ، قدْ يَئِسَ مِن النجاةِ منهُ فلا يَخافُ، فإن خافَ فخَوفُهُ دونَ خوْفِ الراجِي.
وأمَّا نَقْصُ القُدرةِ فلأنَّ الخائفَ مِن الشيءِ هوَ الذي لا يُمْكِنُهُ دَفْعُهُ عنْ نفسِهِ فإذا تَيَقَّنَ أنَّهُ قادرٌ على دَفْعِهِ لم يَخَفْهُ.
وأمَّا نَقْصُ الإرادةِ فلأنَّ الخائفَ يَحْصُلُ لهُ الخوفُ بدونِ مَشيئتِهِ واختيارِهِ، وذلكَ مُحالٌ في حَقِّ مَنْ هوَ بكلِّ شيءٍ عليمٌ، وعلى كلِّ شيءٍ قديرٌ، ومَنْ لا يكونُ شيءٌ إلاَّ بمشيئتِهِ وإرادتِهِ ، فما شاءَ كانَ وما لم يَشَأْ لم يكنْ، وهذا لا يُنافِي كَراهتَهُ سُبحانَهُ وبُغْضَهُ وغَضَبَهُ؛ فإنَّ هذهِ الصِّفَاتِ لا تَستلزِمُ نَقْصاً لا في عِلْمِهِ ولا في قُدرتِهِ ولا في إرادتِهِ، بلْ هيَ كمالٌ؛ لأن سَبَبَها العلمُ بقُبْحِ المكروهِ المبغوضِ المغضوبِ عليهِ، وكُلَّمَا كانَ العلْمُ بحالِهِ أَهَمَّ كانت كراهتُهُ وبُغْضُهُ أَقْوَى، ولهذا يَشْتَدُّ غَضَبُهُ سُبحانَهُ على مَنْ قَتَلَ نَبِيَّهُ أوْ قَتَلَهُ نَبِيُّه([56]))) ([57]) .
وكذلكَ قولُهُ تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] متضمِّنٌ لعظمتِهِ، وأنَّهُ جَـلَّ عنْ أن يُـدْرَكَ بحيثُ يُحاطُ بهِ، وهذا مُطَّرِدٌ في كلِّ ما وَصَفَ بهِ نفسهُ مِن السُّلوبِ)([58]) ). [المرتبع الأسنى: ؟؟]


(56) يُشِيرُ إلى ما رَوَاهُ الإمامُ أَحْمَدُ (3868) من حديثِ عاصـمٍ عن أبي وائلٍ، عن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه مرفـوعًا: (أَشَدُّ الناسِ عَذابًا يَوْمَ القِيَامَةِ رَجُلٌ قَتَلَهُ نَبِيٌّ أَوْ قَتَلَ نَبِيًّا، وإمامُ ضَلالَةٍ، ومُمَثِّلٌ مِنَ المُمَثِّلِينَ). وفيه عاصمُ بنُ أبي النَّجُودِ يُضَعَّفُ في الحديثِ، ورُويَ من طرقٍ أُخرَى بألفاظٍ مختلفةٍ، وفي الصحيحِ بعضُه؛ فقد أخرجَ البُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعالَى في صحيحِه (كتابُ المغازِي / بابُ ما أصابَ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ من الجِراحِ يومَ أُحُدٍ) من حديثِ عِكْرِمَةَ، عن ابنِ عباسٍ رضيَ اللهُ عنهُما موقوفًا عليهِ: (اشْتَدَّ غَضَبُ اللهِ علَى مَنْ قَتَلَهُ نَبِيٌّ، وَاشْتَدَّ غَضَبُ اللهِ علَى مَنْ دَمَّى وَجْهَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ) . وفيه من حديثِ مَعْمَرٍ، عن هَمَّامٍ، سَمِعَ أبَا هُريْرَةَ رضيَ اللهُ عنه قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ: ((اشْتَدَّ غَضَبُ اللهِ عَلَى قَوْمٍ فَعَلُوا بِنَبِيِّهِ" يُشِيرُ إلى رَبَاعِيَتِهِ، "اشْتَدَّ غَضَبُ اللهِ عَلَى رَجُلٍ يَقْتُلُهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ في سبيلِ اللهِ))).
([57]) الصَّواعِقُ المُرْسَلَةُ (1444-1445).
([58]) بَدائِعُ الفَوائِدِ (1/ 161)
وقالَ -رَحِمَهُ اللهُ- في الصواعقِ المُرسَلَةِ (4/1368) (ومما يَنبغِي أن يُعلَمَ أنَّ كلَّ سَلْبٍ ونفيٍ لا يَتَضمَّنُ إثباتًا، فإنَّ الله لا يُوصَفُ به، لأنه عدمٌ مَحْضٌ، ونفيٌ صِرفٌ لا يَقتضِي مدحًا ولا كمالاً ولا تعظيمًا، ولهذا كان تَسبيحُه وتقديسُه -سُبحانَه- مُتضمنًا لعظَمَتِه، ومُستلزِمًا لصفاتِ كمالِه، ونعوتِ جَلالِه، وإلا فالمدحُ بالعدمِ المَحْضِ كلا مَدْحٍ، والعدمُ في نفسِه ليس بشيءٍ يُمْدَحُ به، ويُحْمَدُ عليه، ولا يُكْسِبُ القلبَ عِلْمًا بالمذكورِ، ولا مَحَبَّةً ولا قَصدًا له، ولهذا كان عدمُ السِّنَةِ والنَّوْمِ مَدْحًا وكمالاً في حقِّه سُبحانَهُ لتضمُّنِهِ واستلزامِهِ كمالَ حياتِه وقَيُّومِيَّتِهِ، ونَفْيُ اللُّغوبِ عنه كمالٌ لاستلزامِه كمالَ قُدرتِه وقوتِه، ونفيُ النسيانِ عنه كمالٌ لتضمنِه كمالَ علمِه، وكذلك نفيُ عُزوبِ شيءٍ عنه، ونفيُ الصاحبةِ والولَدِ كمالٌ لتضمنِهِ كمالَ غِناهُ وتَفَرُّدِه بالربوبيةِ وأن مَن في السماواتِ والأرضِ عَبِيدٌ له، وكذلك نَفْيُ الكُفُؤِ والسَّمِيِّ والمِثْلِ عنه كمالٌ: لأنه يَسْتَلْزِمُ ثُبوتَ جَمِيعِ صِفاتِ الكَمالِ له على أَكملِ الوُجوهِ واستحالةَ وجودِ مشاركٍ له فيها، فالذين يَصِفُونَهُ بالسُّلوبِ فَقَطْ من الجَهْميَّةِ والفلاسفةِ لم يَعْرِفُوهُ مِنَ الوجهِ الذي عَرَفَتْهُ به الرُّسُلُ وعَرَّفُوهُ به إلى الخلقِ وهو الوجهُ الذي يَحْمَدُه به ويُثنِي عليه به، ويُمَجَّدُ وتُعرَفُ به عَظَمَتُه وجلالُه، وإنَّما عَرَفُوهُ من الوجهِ الذي يَقُودُهم إلى تعطيلِ العلمِ والمعرفةِ والإيمانِ به بعدمِ اعتقادِهِمُ الحقَّ، واعتقادِهِم خِلافَ الحَقِّ، وحقيقةُ أمرِهم أنهم لم يُثبِتُوا للهِ عظمةً إلا ما تخيلُوه في نفوسِهم من السُّلوبِ والنفيِ الذي لا عَظمةَ فيه ولا مدحَ فضلاً عن أن يكونَ كَمالاً، بل ما أَثْبَتُوهُ مُسْتَلْزِمٌ لنفيِ ذاتِه رأسًا.
وأما الصفاتيةُ الذين يؤمنونَ ببعضٍ ويَجْحَدُونَ بعضًا، فإذا أَثْبَتُوا عِلمًا وقدرةً وإرادةً وغيرَها تَضمَّنَ ذلكَ إثباتَ ذاتٍ تَقُومُ بها هذه الصفاتُ، وتتميزُ بحقيقتِها وماهيَّتِها سواءٌ سَمَّوْهُ قَدَرًا أو لم يُسمُّوه، فإن لم يُثْبِتُوا ذاتًا مُتميِّزَةً بحقيقَتِها وماهيَّتِها كانوا قد أَثْبَتُوا صفاتٍ بلا ذاتٍ، كما أثبتَ إِخوانُهم ذاتًا بلا صفاتٍ وأثبتُوا أسماءً بلا معانٍ ولا حقائِقَ، وذلك كُلُّه مخالَفةٌ لصريحِ المعقولِ، وهم يَدَّعُونَ أنهم أربابُ عَقليَّاتٍ فلا بُدَّ من إثباتِ ذاتٍ مُحقَّقَةً لها الأسماءُ الحُسْنَى التي لا تَكُونُ حُسْنَى إلا إذا كانَتْ دَالَّةً على صفاتِ كَمالِهِ، وإلا فالأسماءُ فَارِغَةٌ لا مَعْنَى لها، لا تُوصَفُ بحُسْنٍ، فضلاً عن كونِها أحسنَ من غيرِها).
ـ وقالَ رَحِمَهُ اللهُ ـ في كتابِ الفوائدِ (181-182): (والمدحُ والثناءُ لا يَحْصُلانِ بالنفيِ المحضِ إن لم يَتَضمَّنْ ثبوتًا، فإنَّ النفيَ كاسمِهِ عدمٌ لا كمالَ فيه ولا مدحَ، فإذا تضمنَ ثُبوتًا صحَّ المدحُ به، كنَفْيِ النسيانِ المستلزمِ لكمالِ العلمِ وبيانِه، ونفيِ اللُّغوبِ والإعياءِ والتعبِ المستلزمِ لكمالِ القوةِ والقدرةِ، ونَفيِ السِّنَةِ والنومِ المستلزمِ لكمالِ الحياةِ والقيوميَّةِ، ونفيِ الولَدِ والصاحبةِ المستلزمِ لكمالِ الغِنَى والمُلكِ والرُّبُوبيةِ، ونفيِ الشريكِ والوليِّ والشفيعِ بدونِ إذنٍ المستلزمِ لكمالِ التوحيدِ والتفردِ بالكمالِ والإلهيةِ والمُلكِ، ونفيِ الظلمِ المتضمنِ لكمالِ العدلِ، ونفيِ إدراكِ الأبصارِ له المتضمنِ لِعَظَمَتِهِ وأنه أَجَلُّ من أن يُدْرَك وإن رَأتهُ الأبصارُ، وإلا فليسَ في كونِه لا يُرَى مَدحٌ بوجهٍ من الوجوهِ فإنَّ العدمَ المحضَ كذلك).
وقال -رَحِمَهُ اللهُ- في حادِي الأرواحِ (369-371) في مَعْرِضِ بيانِ أدلةِ الرؤيةِ (فصلٌ: الدليلُ السادسُ ـ قولُه عزَّ وجلَّ: {لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} [ الأنعامُ: 103]. والاستدلالُ بهذا أَعْجَبُ، فإنَّهُ مِن أدلةِ النُّفاةِ، وقد قَرَّرَ شَيْخُنا وجهَ الاستدلالِ به أحسنَ تَقْرِيرٍ وألطفَهُ، وقال لي : أنَا أَلْتَزِمُ أنه لا يَحْتَجُّ مُبْطِلٌ بآيةٍ أو حديثٍ صحيحٍ على باطلِهِ إلا وفي ذلكَ الدليلِ مَا يَدُلُّ على نقيضِ قولِه، فمنها هذه الآيةُ وهي على جوازِ الرؤيةِ أدلُّ منها على امتناعِها، فإنَّ اللهَ سُبحانَهُ (وتَعالى) إنما ذَكَرَها في سِياقِ التمدُّحِ، ومعلومٌ أن المدحَ به إنما يكونُ بالأوصافِ الثُّبوتيَّةِ، وأما العدمُ المَحْضُ فليسَ بكَمالٍ، فلا يُمْدَحُ وإنما يُمْدَحُ الربُّ ـ تباركَ وتَعالَى ـ بالعدمِ إذا تضمنَ أمرًا وُجوديًّا كمدحِهِ بنَفْيِ السِّنَةِ والنومِ المُتضمِّنِ كمالَ القيُّومِيَّةِ، ونفيِ الموتِ المتضمنِ كمالَ الحياةِ ونفيِ اللُّغوبِ والإعياءِ المتضمنِ كمالَ القدرةِ ونفيِ الشريكِ والصاحبةِ والولَدِ والظهيرِ المتضمنِ كمالَ ربوبيتِهِ وإلهيَّتِه وقهرِه، ونفيِ الأكلِ والشُّربِ المتضمنِ لكمالِ صَمَديَّتِه وغِناهُ، ونفيِ الشفاعةِ عندَهُ بدونِ إذنِه المتضمنِ كمالَ توحيدِه وغناهُ عن خلقِه، ونفيِ الظلمِ المتضمنِ كمالَ عدلِه وعلمِه وغِناهُ، ونفيِ النسيانِ وعُزوبِ شيءٍ عن عِلمهِ المتضمنِ كمالَ عِلمِه وإحاطَتِه، ونفيِ المِثْلِ المتضمنِ لكَمالِ ذَاتِهِ وصِفاتِهِ ولهذا لم يَتَمَدَّحْ بعَدمٍ مَحْضٍ لا يَتَضَمَّنُ أمرًا ثُبوتيًّا. (فإنَّ المعدومَ يُشارِكُ المَوْصُوفَ في ذلك العدمِ، ولا يُوصَفُ الكَمالُ بأمرٍ يَشْتَرِكُ هو والمعدومُ فيهِ؛ فلو كانَ المُرادُ بقولِه: {لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} أنه لا يُرَى بحالٍ لم يَكُنْ في ذَلِكَ مَدْحٌ ولا كمالٌ، لمشاركةِ المعدومِ له في ذلك، فإن العدمَ الصِّرْفَ لا يُرَى ولا تُدْرِكُه الأبصارُ، والربُّ جلَّ جلالُه يَتعالَى أن يُمْدحَ بما يُشارِكُه فيه العدمُ المَحْضُ. فإذاً المعنَى أنه يُرَى ولا يُدْرَكُ، ولا يُحاطُ به، كما كانَ المَعْنَى في قولِه: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ} [ يُونُس: 61]، أنه يَعْلَمُ كُلَّ شيءٍ، وفي قولِه: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغوبٍ} [ق: 38]، أنه كاملُ القدرةِ، وفي قولِه: {وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [ الكهف: 49] أنه كاملُ العدلِ، وفي قولِه: {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ} [ البقرةُ: 255]، أنه كاملُ القَيُّومِيَّةِ.
فقولُه: {لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعامُ: 103] يدُلُّ على غايةِ عَظَمَتِهِ، وأنه أَكْبَرُ مِن كُلِّ شيءٍ وأنه لِعَظَمَتِهِ لا يُدْرَكُ، بحيثُ يُحاطُ به، فإنَّ الإدراكَ هو الإحاطةُ بالشيءِ، وهو قدرٌ زائدٌ على الرؤيةِ كما قالَ تعالَى: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلاَّ} [ الشعراءُ: 61]. فلم يَنْفِ موسَى الرؤيةَ، ولم يُرِيدُوا بقولِهم: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} إنا لمَرْئِيُّونَ. فإن مُوسَى ـ صلواتُ اللهِ وسلامُه عليه ـ نَفَى إِدراكَهُم إياهُم بقولِه: (كلا) وأخبرَ اللهُ سبحانُه أنه لا يَخافُ دَرْكَهْم بقولِه: {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لاَ تَخَافُ دَرَكًا وَلاَ تَخْشَى} [طه: 77]. فالرؤيةُ والإدراكُ كلٌّ منهما يوجَدُ معَ الآخَرِ وبدُونِه، فالربُّ تعالى يُرَى ولا يُدْرَكُ، كما يُعْلَمُ ولا يُحاطُ به، وهذا هو الذي فَهِمَتْهُ الصحابةُ والأئمةُ من الآيةِ.
قال ابنُ عباسٍ: (لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ) لا تُحِيطُ به الأبصارُ، وقال قَتادةُ: هو أعظمُ من أن تُدْرِكُه الأبصارُ، وقال عَطِيَّةُ، يَنْظُرونَ إلى اللهِ ولا تُحِيطُ أبصارُهم به من عَظَمَتِهِ، وبَصَرُه يحيطُ بهم، فذلك قولُه [تعالَى]: {لاَ تُدْرِكُهُ الأبصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} فالمؤمنونَ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ ـ تبارَكَ وتَعالَى ـ بأبصارِهِم عِيانًا ولا تُدْرِكُهُ أبصارُهم، بمعنَى أنها لا تُحِيطُ به إذ كانَ غيرُ جائزٍ أن يُوصفَ اللهُ عزَّ وجلَّ بأن شيئًا يُحيطُ به، وهو بكلِّ شيءٍ محيطٌ، وهكذا يُسْمِعُ كَلامَهُ مَنْ يَشاءُ مِن خَلقِه، ولا يُحيطونَ بكلامِه، وهكذا يَعْلَمُ الخلقُ ما عَلَّمَهُم، ولا يُحِيطُونَ بعِلمِه.
*ونظيرُ هذا: استدلالُهم على نفيِ الصفاتِ بقولِه تعالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [ الشورى: 11] وهذا من أعظمِ الأدلةِ على كَثْرَةِ صفاتِ كمالِهِ ونُعوتِ جَلالِهِ، وأنها لِكَثْرَتِهَا وعَظَمَتِهَا وسَعَتِهَا لم يَكُنْ له مِثْلٌ فيها، وإلا فلو أُرِيدَ بها نفيُ الصفاتِ لكانَ العدمُ المَحْضُ أولَى بهذا المدحِ منه معَ أنَّ جميعَ العقلاءِ، إنما يَفهمونَ من قولِ القائلِ: فلانٌ لا مِثْلَ له وليسَ له نظيرٌ، ولا شبيهٌ ولا مِثْلٌ، أنه قد تَمَيَّزَ عن الناسِ بأوصافٍ ونُعوتٍ لا يُشارِكُونَهُ فِيهَا، وكُلَّمَا كَثُرَتْ أَوْصَافُه ونُعوتُه فاقَ أَمْثَالَهُ، وبَعُدَ عن مُشابهةِ أَضرابِه، فقولُهُ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، مِن أَدَلِّ شَيْءٍ على كَثْرَةِ نُعوتِهِ وصِفَاتِهِ وقولُه: {لا تُدْرِكُه الأَبْصَارُ} من أَدَلِّ شيءٍ على أنه يُرَى ولا يُدْرَكُ.
وقولُه: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاواتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى علَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديدُ: 4]، مِن أَدَلِّ شيءٍ على مُباينةِ الربِّ لخلقِهِ، فإنه لم يَخْلُقْهُم في ذاتِه بل [خَلَقَهُمْ] خارجًا عن ذاتِه، ثم بانَ عنهم باستوائِه على عرشِهِ، وهو يعلَمُ ما هم عليه فيَراهُم ويَنْفُذُهُم بَصَرُه ويُحيطُ بهم علمًا وقدرةً وإرادةً وسَمْعًا وبَصَرًا، فهذا معنى كونِه سبحانَهُ معَهم أينما كانُوا، وتأمَّلْ حُسنَ هذه المقابلةِ لَفظًا ومعنًى بينَ قولِه: {لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} [الأنعامُ: 103] فإنه سُبحانَهُ لِعَظمتِهِ يَتعالَى أن تُدْرِكَهُ الأبصارُ وتُحيطَ به، ولِلُطفِه وخِبرتِه يُدْرِكُ الأبصارَ فلا تَخْفَى عليه، فهو العظيمُ في لُطفِه، اللطيفُ في عَظمتِه، العالِي في قُربِه، القريبُ في عُلُوِّه الذي {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}، {لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}).

رد مع اقتباس