عرض مشاركة واحدة
  #14  
قديم 22 محرم 1436هـ/14-11-2014م, 10:00 PM
أم سهيلة أم سهيلة غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Mar 2013
المشاركات: 2,672
افتراضي

الخلاصة في آداب كتابة المصحف


قال صَالِحٌ بْنُ مُحَمَّدِ الرَّشيدِ (م):(لا خلاف بين أهل العلم فى أنه ينبغى أن يكون كاتب المصحف مسلما أمينا ورعا حسن الخط بصيرا بالكتابة فصيحا بارعا فى العربية , وأن يكون حال مباشرته للكتابة على طهارة كامله , حسن الهيئة , طيب الرائحة , بالغ التعظيم للقرآن , محتسبا فى عمله لا يأخذ عليه أجرا . ثم اختلفوا فيما لو اختلت خصلة من هذه الخصال , أو تخلفت خلة من تلك الخلال , فهل يجوز حينئذ أن يتولى كتابة المصحف من لم يستوف تلك الخصال المذكورة بناء على أن هذا العمل قربه من القرب , وأمانة من الأمانات تتضمن معنى الولاية , وقد مضى فى غير موضع من هذا البحث ذكر لعديد من هذه الجوانب , بيد أن ذلك كان على سبيل الأشارة والإيجاز أو على سبيل العموم لا الخصوص كما هو الحال فى بحث مسألة اشتراط الطهارة لمس المصحف ومكتوب القرآن مثلا , ومسألة أخذ الأجرة على كتابة القرآن والإسئجار لهذه الغاية ومسألة مس الحائض للمصحف , والسفر به إلى أرض الكفر , وتمكين الصغار والمجانين والكفار من المصاحف وكتوب القرآن .
الكافر لا يكتب المصحف :
يتعين النظر فى حكم تولى غير المسلمين كتابة القرآن , ولا سيما بعد تفشى الطباعة وظهور الآلات الحديثة الخاصة بهذا الشأن وما يكتنفها من تعقيدات فنية يحتاج معها العمل إلى خبرة فى التقنية الحديثة , وتدريب طويل قد يضطر الجهات المسوؤلة عن تلك المطابع إلى الأستعانة بالشركات المنتجة لها لتزويدها بالخبراء المختصين والذين قد لايكونو بالضرورة من أبناء الإسلام كما هو حال الصناعة والتقنية الحديثة فى عصرنا الحاضر .
ولما كانت طباعة المصاحف من الأوليات الملحة لحاجة العالم الإسلامى فى النوع والكم كثر السؤال بل والتحرج من وجود بعض العاملين من غير المسلمين فى المطابع المشار إليها , باتت الحاجة داعية إلى بيان مذهب أهل العلم فى قيام غير المسلم بكتابة القرآن , وهل يجوز ذلك بحال ؟ وما وجه القول بالجواز أو المنع ؟ فأول وبالله التوفيق :
منع الكافر من كتابة القرآن إذا لم تكن الحاجة ماسة إلى ذلك محل وفاق بين أهل العلم , وإنما الخلاف فيما إذا انحصرت الكتابة فيه ومست الحاجة فى النسخ إليه إذ يتضح من استقرأ مذاهب العلماء وتتبع نصوص الفقهاء أن لهم فى هذه المسألة قولين :
أحداهما: المنع مطلقا. والثانى: الجواز مع الكراهة .
وهما روايتان فى مذهب الإمام أحمد على ما حكاه طائفة من متأخرى أصحابه . وسبب الخلاف فيما يظهر يرجع إلى كون كتابة القرآن من الأمانات والولايات والأمور التى يختص أن يكون فاعلها من أهل القربة , أو هو تعارض العمومات المانعة من موالاة الكفار مع الآثار الدالة على استكتاب النصارى ونسخهم للمصاحف ولا سيما نصارى الحيرة , واشتهار ذلك فى الصدر الأول على ما سيأتى بيانه .
وقد ذهب إلى القول بمنع الكافر من كتابة القرآن جمهور أهل العلم , وفيهم الحنفية , والمالكية ,والشافعية , وهو رواية عن أحمد , مستدلين بعموم آى القرآن الكريم من مثل قوله تعالى : {لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ...}, قوله : {َا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ ...}, ويدخل فى هذه الأية الكريمة استكتاب أهل الكتاب وتصريفهم فى البيع والشراء على ما حكاه بعض المفسرين .
واستدلوا أيضا بعموم الأحاديث المانعة من الأستعانة بالكفار أو الركون إليهم أو موالاتهم من مثل قوله عليه السلام :" إنا لا نستعين بمشرك " , وقوله عليه السلام :" لا تستضيئوا بنار المشركين " , وقوله عليه السلام : " أنا برئ من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين , لا تراءى نارهما ".
واحتج الجمهور أيضا بالآثار المروية عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم المتضمنة للمنع من استكتاب الكفار واسئمانهم , والزجر عن تمكينهم من كل ما فيه ولاية على المسلمين , من مثل ما روى عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه وتعنيفه لبعض عماله حين اتخذ كاتبا من الكفار أو أراد اتخاذه مستشيرا أمير المؤمنين فى ذلك متعلالا بمسيس الحاجة إلى اتخاذه , وكون حساب ذلك الأقليم لا يقوم إلا به متأولا جواز استكتاب ذلك الكافر بأن لنا حسابه وكتابته , وله دينه واعتقاده حتى إذا أكثروا فى مراجعة عمر حسم رضى الله عنه تلك المراجعة بقوله :" لا تكرموهم إذ أهنهم الله , ولا تأمنوهم إذ خونهم الله , ولا تدنوهم إذ أقصاهم الله "".
قالوا : ثم إن كتابة المصاحف من الأعمال التى يختص أن يكون فاعلها من أهل القربة , ولكونها من الأمانات , بل إن فيها نوع ولاية والكافر ليس من أهل ذلك
قالوا: ولأن فى الكتابة نوع مس المكتوب وهو مما يفتقر إلى الطهارة , فإذا كان الحدث يمنع من ذلك حال الإسلام فلأن يمنع الكافر منه من طريق الأولى , فالكافر نجس بنص القرآن لقوله تعالى : {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ}, ولأنهم ممنوعون من مس القرآن لقوله تعالى :" " , ولقوله عليه السلام : " لا يمس القرآن طاهر " , وقوله " لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو , خشية أن تناله أيديهم " , وقد مر فى مسألة اشتراط الطهارة لمس المصحف , ومسألة السفر بالمصحف إلى أرض الكفر بسط الخلاف فى ذلك كله , وذكر أدللته على وجه الإستيفاء فى موضيعها من هذا البحث مما أغنى عن إعاداته هنا .
القائلون بالجواز مع الكراهة :
ذهب فريق من أهل العلم إلى القول بجواز كتابة الكافر للقرآن , بل للمصاحف حكاه ابن تيمية فى شرح العمدة عن الصحابة , بيد أنه لم يسم منهم أحدا .
وروى ابن أبى داود فى المصاحف بسنده أن عبد الرحمن بن عوف رضى الله عنه استكتب رجلا من أهل الحيرة نصرانيا مصحفا , فأعطاه ستين درهما .
وروى عبد الرازق فى المصنف , وابن أبى داود فى المصاحف أيضا أن عبد الرحمن ابن أبى ليلى كتب له نصرانى من أهل الحيرة مصحفا بسبعين دجرهما .
وأخرج أبو عبيد فى فضائل القرآن , وابن أبى داود فى المصاحف , وابن حزم فى المحلى عن علقمة بن قيس أنه أراد أن يتخذ مصحفا فأعطاه نصرانيا فكتبه له .
والقول بجواز كتابة الكافر للقرآن هو مذهب أحمد على ما ذكره المحققون من أصحابه قال ابن مفلح بعد ذكره الوايتين فى جواز نسخ المصحف للمحدث والكافر من غير مس : ( وقال أبو بكر : لايختلف قول أبى عبد الله أن المصاحف يكتبها النصارى على ماروى عن ابن عباس , ويأخذ الأجرة من كتبها من المسلمين والنصارى . ورورى الخلال فى كتاب المصحف عن البغوى عن أحمد أنه قال : نصارى الحيرة كانوا يكتبونها لقلة من كان يكتبها , قيل له : يعجبك هذا ؟ قال : لا ما يعجبنى . قال فى الخلاف : يمكن حمله على أنهم يحملونه فى كتابتهم . وقال فى الجامع : ظاهره كراهته لذلك وكرهه للخلاف . وقال : ويحمل قول أبى بكر يكتبه بين يديه لا يحمله وهو قياس المذهب أنه يجوز , لأن مس القلم للحرف كمس العود للحرف ).
وقال بن عقيل فى التذكرة : ( يجوز استئجار الكافر على كتابة المصحف إذا لم يحمله ) .
وفى الآداب والفروع : ( ويجوز للمسلم والذمى أخذ الأجرة على نسخ المصحف نص عليه ).
والقول بجواز اسئجار الكافر لكتبة القرآن هو ظاهر كلام السرخسى من أئمة الحنفية , حيث جاء فى مبسوطه:( ولو استأجر رجلا يكتب له مصحفا أو فقها معلوما كان جائزا , لأن الكتابه عمل معلوم وهو يتحقق من المسلمم والكافر , لأن الأستئجار عليه متعارف ).
الخلاصة:
والمتأمل فى مضى يجد أن لمانعى الكافر من كتابة القرآن ثلاثة مسالك :
إحداها : أن الطهارة شرط فى المسلم الناسخ للقرآن , فاشتراطها فى الناسخ الككافر أولى , وهى غير متصورة منه , لأن الطهارة نوع عبادة تفتقر إلى نية عند الجمهور , والنية من لا الكافر لا تصح.
والمسلك الثانى : أن فى الكتابة نوع مس للمكتوب , ولا يجوز عن الجمهور أن يمس الكافر القرآن بحال , خلافا لأبى حنيفة ومحمد بن الحسن فى جواز ذلك له إذا اغتسل تخفيفا لنجاسته البدنية , وحينئذ لا يبقى إلا نجاستة الأعتقادية وهى فى قلبه , وإنما أثر الغسل فى تخفيف نجاسته بناء على أن النية ليست شرطا فى الطهارة عن الحنفية .
المسلك الثالث : للقائلين بمنع الكافر من كتابة القرآن وهو أظهر المسالك كون الكتابة المذكورة ضربا من الولاية , وليس الكافر من أهلها , ولما فيها من مقتضيات الأمانة , وهى منتفية فى غير المسلم , ولأنها عمل يستلزم أن يكون فاعله من أهل القربة , كالأذان مثلا, وهو لا يصح من الكافر .
وأما القول بجواز كتابة الكافر للقرآن فإنه مشكل حتى على مذهب من لم يشترط الطهارة لمس القرآن , وإلغائه لدلالة الأدلة التى يحتج بها مشترطوا الطهارة على ما مر تفصيله فى موضعه من هذا البحث , لكن يبقى كون كتابة المصاحف تتضمن نوع ولاية وهى لاتكون إلا من مسلم , ناهيك عما تتطلبه الكتابة المذكورة من أمانة ليس الكافر محلا لها .
نعم إذا دعت الضرورة إلى استكتاب الكافر فالقول بالجواز متصور إعمالا لقاعدة الضرورات تبيح المحظورات . والله أعلم بالصواب .
الكافر لا يمكن من المصحف بحال:
صرح الفقهاء بأنه لا يحل لمسلم أن يمكن كافرا من المصحف أو بعضه أو ما يتضمن قرآنا من كتب الشرع لا ببيع ولا بقرض ولا برهن ولا بأعارة ولا بإجارة ولا بوقف ولا بهبة ولا بوصية ولا بإرث ولا بإى سبب أو عقد يفضى إلى وضع يد الكافر على المصحف أو بعضه , أو كتب الشرع حقيقة أو حكما , وقد مر تفصيل ذلك فى موضوعه من هذا البحث مما أغنى عن إعادته هنا.
كتابة المصاحف ومشروعيته ذلك قد مر فى غير موضع من هذا البحث الكلام على فضيلة الإحتساب فى كتابة المصاحف وذكر القواعد التى اتبعت عند إملاء نسخ المصحف الإمام وأن كتابة المصحف الأول فى عهد أبى بكر كانت معدودة فى مناقبه رضى الله عنه , كما كانت كتابة المصحف الإمام فى زمن عثمان رضى الله عنه الذى جمع الناس على مصحف واحد بعد إتلاف ماكان من المصاحف مخالفا له حسما لمادة الفرقة ورغبة فى جمع كلمة الأمة وإجماع الصحابة على ذلك منقبة لذى النورين أيضا .
وهكذا أضحت كتابة المصاحف عملا مشروعا وبابا من أبواب الثواب وقربة من القرب .
وقد أتفق العلماء على إستحباب كتابة المصاحف وتحسين كتابتها , بل صرح غير واحد من أهل العلم بأن كتابة المصاحف من أعظم القرب قال : ( وكذلك : إذا كتبها لبيعها :" إن الله يدخل بالسهم الواحد الجنة ثلاثة صانعه الرامى به والممدبه "
فالكتابة كذلك : لينتفع به أو لينتفع به غيره , كلاهما يثاب عليه ).
وقد صرح أبو إسحاق الشاطبى فى غير موضع من كتابه الإعتصام بكون كتابة المصاحف من المصالح المرسلة , ورد قول من قال بأن كتابة المصاحف من البدع الواجبة .
قال أبو إسحاق : ( فنقول إن هنا أصلا لهذه المسألة لعل الله ينفع به من أنصف نفسه , وذلك أن سكوت الشارع عن الحكم فى مسألة ما أو تركه لأمر ما على ضربين :
أحدهما : أن يسكت عنه أو يتركه لأنه لا داعية له تقتضيه , ولا موجب يقرر لأجله , ولا وقع سبب تقريره كالنوازل الحادثة بعد وفاة النبى صلى الله عليه وسلم فإنها لم تكن موجودة ثم سكت عنها مع وجودها إنما حدثت بعد ذلك فاحتاج أهل الشريعة إلى النظر فيها وإجرائها على ما تبين فى الكليات التى كمل بها الدين , وإلى هذا الضرب يرجع جميع ما نظر فيه السلف الصالح مما لم يسنه رسولل الله صلى الله عليه وسلم على الخصوص مما هو معقول المعنى كتضمين الصناع ومسألة الحرام ؟ والجد مع الأخوة وعو الفرائض , ومنه جمع المصحف ثم تدوين الشرائع وما أشبه ذلك مما يحتج فى زمانه عليه السلام إلى تقريره للتقديم كلياته التى تستنبط بها منها , إذا لم تقع أسباب الحكم فيها ولا الفتوى بها منه عليه الصلاة والسلام فلم يذكر لها حكم مخصوص )
وفرق أبو إسحاق فى موضع من الإعتصام بين البدع والمصالح المرسلة والإستحسان , فليطالعه من رامه إلى أن قال فى تعريف المصالح المرسلة : ( فإن المراد بالمصالح المرسلة عندنا ما فهم رعايته فى حق الخلق من جلب المصالح ودرء المفاسد على وجه لا يستقل العقل بدركه على حال )
كتابة المصاحف على عوض :
مضى فى مسألة الأجرة على نسخ المصاحف والإحتساب فى ذلك وبيع المصاحف وشرائها ذكر الخلاف فى المعاوضة فى هذا الباب , وموقف السلف والخلف من ذلك , فليعاود فى تلك المظان من هذا البحث
وقد عقد أبو داود فى كتاب المصاحف بابا فى أخذ الأجرة على كتابة المصاحف , وذكر ممن رخص فى ذلك عليا واببن عباس وجابر بن زيد والحسن وعن مجاهد أن رجلا كتب له مصحفا فأعطاه أجره .
وقال أبو جعفر :( لا بأس بكتاب المصاحف بالأجر )
وهو قول أبى حكيمه ومالك من دينار ومطر الوراق
وحكى كراهة أخذ الأجرة على كتابة المصاحف عن جماعة منهم ابن سيرين
قال :( نكره لكاتب المصاحف أن يأخذ على كتابها أجرا ). وهو مروى عن علقمة وإبراهيم والحسن البصرى على ما روى أيوب السختيانى قال عن رواية الترخيص المنسوبة إلى الحسن : ( ما هو إلا شئ خدعا الشيخ عنه – يعنى مطر ومالك ابن دينار )
وحكى الماوردى المنع من الإجارة على كتابة المصاحف عن بعض العراقيين وأهل المدينة .
وذهب إلى جواز الأخذ بالعوض على كتابة المصاحف جماهير أهل العلم وهو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة وهو الذى نصره ابن حزم الظظاهرى مستدلين بالآثار السالف ذكرها عن الصحابة والتابعين ويكون ذلك فى مقابل عمل اليد وليس ثمنا للقرآن , لكن لا يشارط فى ذلك بل يأخذ ما يعطاه من غير مشارطه .. قالوا ولأننا إذا جوزنا بيع المصاحف فلأن نقول بجواز المعاوضة على كتابتها من طريق الأولى ولأن ما أبيح من الأعمال المعلومة جاز لمن لم يعين الفرض عليه أن يعتاض عنه كاللإجارة على كتب الفقه والحديث ولأنه لم يأت فى النهى عن ذلك نص .
وذهب فريق ثالث إلى القول بمنع المؤاجرة على كتابة المصاحف والتعاقد على ذلك وقالوا يمكن لمن أراد كتابة مصحف أن يسكتب شخص مده معلومة كشهر مثلا بأجرة معلومة ثم يستكتبه فى هذه المدة مصحفا أو أكثر إن شاء .
قال أبو بكر ابن المنذر فى الإشراف : ( كره علقمه وابن سيرين كتاب المصاحف بالأجر ). وقال بن سيرين : ( لا بأس أن يستأجر الرجل شهرا ثم يستكتبه مصحفا ). وبه قال مالك وأبو ثور والنعمان . قال أبو بكر : ( كل ذلك جائز )
وحكى مذهب ابن سيرين أيضا ابن أبى داود فى المصاحف وفى النكت لابن مفلح على المحرر: ( قال فى رواية حنبل : أكره بيع المصاحف وشرائها فإذا أراد الرجل مصحفا استكتب وأعطى الأجرة )
كتابة المصاحف بالحروف الأعجمية
لاريب أن القول بوجوب التزام رسم المصحف الإمام كما هو مذهب السلف يقتضى وبطريق الأولى بمنع كتابة المصاحف بالرسوم الأعجمية لكونه ضربا من ترجمة القرآن .. وقد مر فى مسألة الترجمة فى المصحف من هذا البحث ذكر النقول المختلفة فى هذا الشأن مما أغنى عن إعادتها هنا , وقد تحصل من استقراء تلك النقول , بل من التصريح فى أكثرها أن علماء السلف والخلف مجمعون على القول بتحريم كتابة المصاحف بالحروف الأعجمية
لا يقال بأن فقهاء الحنفية قد جوزوا كتابة القرآن بالفارسية فتنخرم بذلك دعوى الإجماع , لأن فقهاء الحنفية وإن جوزوا كتابة القرآن بالفارسية فإنهم قد قصروا التجويز المذكور على الآية والآيتين , وصرحوا بأن كتابة المصحف الكامل بالفارسية لا تجوز باتفاق مشائخهم .
قال غير واحد من فقهاء الحنفية : ( وإن اعتاد القراءة بالفارسية , أو أراد أن يكتب المصحف بالفارسية منع من ذلك على أشد المنع , وإن فعل ذلك فى آية أو آيتين لا يمنع من ذلك )
وقال العينى فى البناية : ( ويجوز كتابة الآية أو الآيتين بالفارسية , والأكثر منها لا يجوز ).
وقال الرازى " ره" أخاف أن يكون زنديقا أو مجنونا فالمجنون يشد والزنديق يقتل ).
وحجة الحنفية فى هذا القول – أعنى جواز كتابة الآية والآيتين بالفارسية -: ( ما روى عن سلمان رضى الله عنه أن الفرس كتبوا إليه أن يكتب لهم الفاتحة بالفارسية فكتبها لهم فكانوا يقرؤن ذلك فى الصلاة حتى لانت ألسنتهم للعربيهة ).. لكن أهل التحقيق فى هذا الشأن لا يسلمون بثبوت المروى عن سلمان رضى الله عنه , ويردونه من وجوه عدة على ما مر بيانه فى موضعه من هذا البحث .
بيد أن المتأمل فى كلام متقدمى أهل العلم يحتاج إلى تحرير محل النزاع بينهم فى هذا الشأن , وفى هذه المسألة بخصوصها , إذالمعلوم أن الفارسية تكتب بحروف عربية وإنما الأختلاف فى ألفاظها وعليه تكون الكتابة الفارسية نقلا للألفاظ العربية إلى لغة أخرى , وذلك أمر زائد عن محل النزاع الذى هو الرسم الأعجمى فحسب ومن هنا قال الزركشى فى البرهان : ( هل يجوز كتابة القرآن بقلم غير العربى ؟ هذا مما لم أر للعلماء فيه كلاما , ويحتمل الجواز لأنه قد يحسنه من يقرأ بالعربية , والأقرب المنع .
كما تحرم قراءته بغير لسان العرب , ولقولهم : القلم أحد اللسانين . والعرب لا تعرف قلما غير العربى " وقد " قال تعالى : " بِلِسَاٍن عَرَبِيٍّ مُبِينٍ " أ. هـ
وقد نقل السيوطى فى الإتقان قول الزركشى هذا واقتصر عليه وقد مر تصريح ابن حزم فى المحلى بوجوب التزام الرسم عند كتابة المصحف , وقوله بالبراءة ممن تعمد ترك ذلك .
وقد مضى فى مسألة رسم المصحف من هذا البحث ذكر المنقول عن الأئمة مالك وأحمد بن حنبل وغيرهما فى وجوب التزام رسم المصحف الإمام حتى أن بعض أهل العلم قد حكاه إجماعا ولم أقف على تصريح بجواز مخالفة رسم المصحف الإمام باستثناء كلام لأبى بكر الباقلانى من علماء القرن الرابع الهجرى وقد تابعه فى ذلك طائفة من علماء الخلف كالشوكانى , وهو ظاهر ما جاء فى الفتاوى الحديثية للهيتمى حيث قال : ( وبحث الزركشى أيضا حرمة كتابته بقلم غير العربى , وفيه نظر أيضا , ويفرق بينه وبين حرمة قراءته بغير العربية بأن هذا يذهب إعجازه بخلاف الثانى ) .
وسئل الهيتمى أيضا هل يحرم كتابة القرآن بغير العربية " فأجاب " بقوله : أفتى بعضهم بحرمة ذلك , وأطال فى الإستدلال , لكن بما فى دلالته لما أفتى به نظر ظاهر . وقد تشكل إجابة الهيتمى السالفة فى الموضوعين السابقين إذا ما قورنت بفتوى له أخرى تتضمن التصريح بالتحريم , فقد سئل فى موضع من فتاواه .
( هل تحرم كتابة القرآن الكريم بالعجمية كقراءته ) فأجاب بقوله : ( قضية ما فى المجموع عن الأصحاب التحريم وذلك لأنه قال : وأما ما نقل عن سلمان رضى الله عنه أن قوما من الفرس سألوه أن يكتب لهم شيئا من القرآن فكتب لهم فاتحة الكتاب بالفارسسية فأجاب عنه أصحابنا بأنه كتب تفسير الفاتحة لا حقيقتها أ. هـ فهو ظاهر أو صريح فى تحريم كتابتها بالعجمية , فإن قلت كلان الأصحاب إنما هو جواب عن حرمة قرائتها بالعجمية , فإن قلت كلام الأصحاب إنما هو جواب عن حرمة قراءتها بالعجمية المترتبة على الكتابة بها فلا دليل لكم فيه قلت : بل هو جواب عن الأمرين , وزعم أن القراءة بالعجمية مترتبة على الكتابة بها ممنوع الإطلاقه , فقد يكتب بالعجمية ويقرأ بالعربية وعكسه فلا تلازم بينهما كما هو واضح وإذا لم يكن بينهما تلازم كان الجحواب عما فعله سلمان رضى الله عنه فى ذلك ظاهر فيما قلناه على أن مما يصرح به أيضا أن مالكا رضى الله عنه سئل هل يكتب المصحف على ما أحدثه الناس من الهجاء فقال : لا إلا على الكتبة الأولى – أى كتبة الإمام وهو المصحف العثمانى – قال بعض أئمة القراء : ونسبته إلى مالك لأنه المسؤل عن المسألة وإلا فهو مذهب الأئمة الأربعة . قال أبو عمرو : ولا مخالف له فى ذلك من علماء الأمة . وقال بعضهم : والذى ذهب إليه مالك هو الحق إذ فيه بقاء الحالة الأولى إلى أن يتعلمها الآخرون , وفى خلافها تجهيل آخر
الأمة أولهم , وإذا وقع الأجماع كما ترى على منع ما أحدث الناس اليوم من مثل كتابة الربو بالألف مع أنه موافق للفظ الهجاء فمنع ما ليس من جنس الهجاء أولى , وأيضا ففى كتابته بالعجمية تصرف فى اللفظ المعجز الذى حصل التحدى به بما لم يرد , بل يوهم عدم الأعجاز , بل الركاكة لأن الألفاظ بالعجمية فيها تقديم المضاف إليه على المضاف ونحو ذلك مما يخل بالنظم ويشوش الفهم وقد صرحوا بأن الترتيب من مناط الأعجاز وهو ظاهر فى حرمة تقديم آية على آية كتابة كما يحرم ذلك قراءة , فقد صرحوا بأن القراءة بعكس السور مكروهة وبعكس الآيات محرمة وفرقوا بأن ترتيب السور على النظم المصحفى مظنون وترتيب الآيات قطعى وزعم أن كتابته بالعجمية فيها سهولة للتعليم كذب مخالف للواقع والمشاهدة فلا يلتفت لذلك على أنه لو سلم صدقة لم يكن مبيحا لإخرج ألفاظ القرآن عما كتبت عليه , وأجمع عليها السلف والخلف)
لكن قد أفتى الشمس الرملى : ( بأنه لا يحرم كتابة القرآن بالقلم الهندى ونحوه لأنها دالة على لفظه العربى , وليس فيها تغيير له بخلاف ترجمته بغير العربية لأن فيها تغييرا له ).
وعبارة العبادى فى حاشيته على التحفة : ( أفتى شيخنا المذكور – يعنى الرملى - بجواز كتابة القرآن بالقلم الهندى , وقياسه جوازه بنحو التركى أيضا )
وتعقبه الشروانى فقال : ( " قوله بالقلم الهندى " فيه تأمل , فإن المكتوب بالقلم الهندى ونحوه إنما هو ترجمة القرآن لا نفسه )
فالظاهر أنهم لا يختلفون فى تحريم كتابة المصاحف بالأعجمية وإنما اختلافهم فى الرسم بالقلم الهندى أو الفارسى أو التركى مثلا لا تخرجه عن كونه رسما بحرف عربى فهو كالرسم الكوفى مثلا لا تخرجه عن كونه رسما بحرف عربى , فهو كالرسم الكوفى مثلا , وبهذا يرتفع وهم التناقض فى أقوالهم ويتضح مرادهم ولا يكون فى المنقول عنهم مخالفة لإجماع ... والله أعلم بالصواب). [المتحف: 633-681]


قال صَالِحٌ بْنُ مُحَمَّدِ الرَّشيدِ (م):(الأجرة على كتابة المصاحف
لأهل العلم فى مسألة أخذ الأجرة على كتابة المصاحف أقوال ثلاثة :
أحدها : المنع من ذلك , إذ لا يجوز أن يأخذ على كتاب الله أجر , لكونه من الأعمال التى يختص أن يكون فاعلها من أهل القربة وما هذا سبيله لا يقبل المعاوضة .
· وذهب فريق آخر : من أهل العلم إلى القول بجواز أخذ الأجرة على كتابة المصاحف , لكون ذلك فى مقابل عمل اليد وليس ثمنا للقرآن , لكن لا يشارط فى ذلك بل يأخذ ما يعطاه من غير مشارطة .
·
وذهب فريق ثالث : إلى القول بمنع المؤاجرة على كتابة المصاحف والتعاقد على ذلك وقالوا يمكن لمن أراد كتابة مصحف أن يستكتب شخصا مدة معلمة , كشهر مثلا بأجرة معلومة , ثم يستكتبه فى هذه المدة مصفحا أو أكثر إن شاء وقد عفا ابن أبى داود بابا فى أخذ الأجرة على كتابة المصاحف , وذكر ممن رخص فى ذلك عليا وابن عباس وجابر بن زيد والحسن , وعن مجاهد أن رجلا كتب له مصحفا فأعطاه أجره . وقال أبو جعفر : ( لا بأس بكتاب المصاحف بالأجر ). وهو قول أبى حكيمة ومالك بن دينار ومطر الوراق .
وحكى كراهة أخذ الأجر على كتابة المصحف عن جماعة منهم ابن سيرين قال : ( نكرة لكاتب المصحف أن يأخذ على كتابها أجرا ). وهو مروى عن علقمة وإبراهيم والحسن البصرى على ما يروى أيوب السختيانى) .[المتحف:69-70]
قال صَالِحٌ بْنُ مُحَمَّدِ الرَّشيدِ (م):(استعمال المواد النجسة فى كتابة المصاحف
أخرج أبو عبيد الله فى الفضائل قال : ( حدثنا القاسم بن مالك عن محمد بن الزبير عن عمر بن عبد العزيز قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا تكتبوا القرآن إلا فى شئ طاهر "
ولا نزاع بين أهل العلم فى وجوب صيانة المكتوب الشرعى عن كل ابتذال أو امتهان أو إخلال بما يلزم له من تعظيم , قآنا كان المكتوب أو غيره مما له صفة شرعية كما اتفق أهل العلم على القول بتحريم استعمال المواد النجسة فى كتابة ما ذكر .

وأن من تعمد كتابة شئ من القرآن بالنجس بقصد امتهانه , يكون كافرا مرتدا مباح الدم على ما هو مبين فى غير موضع من هذا البحث كمسألة الأستخفاف بالمصحف , وألقاؤه فى قاذورة مثلا . ومن هنا صرح بعض الفقهاء كأبى الوفاء بن عقيل فى فنونه بوجوب قتل من تعمد تنجيس القرآن لاعتباره من أظهر دروب الإستخفاف به والإمتهان له , لا سيما إذا قام الدليل على أنه قصد بكتبه بالنجس إهانته .

فلا يحل لأحد أن يكتب شيئا من القرآن أو العلم أو الذكر الشرعى بشئ نجس , كالمداد أو المتنجس يستوى فى ذلك ما كان نجسا لذاته كالبول والدم وما شاكلهما أو كان نجسا لغيرهما كالحبر الذى وقعت فيه فأرة ميته أو الممزوج بالخمر مثلا على القول بنجاستها . كما لا يجوز لأحد أن يكتب بآله نجسة , كالأقلام المتخذه من عظام الميتات أو عظام ما حكم بنجاسته كالخنزير , أو ما كان مختلفا فيه كأقلام العاج المتخذة من أنياب الفيلة مثلا , بل لا يجوز أن يمس الكاتب المكتوب بعضو متنجس من أعضائه كما لو كان على يده نجاسة .

ولا يجوز أيضا أن يكتب على شئ نجس أو متنجس كجلود الميتات أو جلود المحكوم بنجاسته من الحيوانات أو أسطح الأشياء المتنجسة كخرق أو ورق أو ألواح تلوثت بالنجاسة لأن فى ذلك كله امتهانا للمكتوب وازدراء به , فلا يحل فعله بحال .

فإن انتفى قصد الأمتهان وكان للكاتب غرض صحيح بالكتابة بالنجس أو استعمال المواد النجسة كالتداوى مثلا كمن يكتب على جبهة الراعف بدمه رقية فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية لا يجوز كتابتها بدم كما يفعله الجهال , فإن الدم نجس , فلا يجوز أن يكتب به كلام الله , وكن شيخ الإسلام يكتب على جبهة الراعف بمداد طاهر: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ} انتهى كلام شيخ الإسلام ابن تيمية . ولكن حكى بعض الحنفية , والشافعية عن بعض فقهائهم قولا بجواز الكتابة على جبهة الراعف بدمه , ولم أقف على دليل لقولهم هذا يصلح مخصصا ومخرجا لما ذكروه من عموم التحريم لا يقال بأن الضرورة تنتصب فى هذا المقام دليلا لا استثناء ما استثنى لأن الضرورة لا تعمل إلا فيما كان حصوله محققا , ولا سبيل إلى الجزم بنفع ما ذهب إليه القائل باستثناء التداوى , بل لقائل أن يقول إن دعوى الإستشفاء بالمحرم مخالفة للشرع ومصادمة للنص فوق كونها مجرد أوهام وخيالات وإن ترتب عليها بعض المصالح أحيانا , فلا يبعد أن يكون نوع فتنه وبابا من أبواب الإضلال , أعاذنا الله من ذلك . ثم إن درء المفاسد مقد على جلب المصالح). [المتحف: 108]

رد مع اقتباس