عرض مشاركة واحدة
  #10  
قديم 27 جمادى الأولى 1435هـ/28-03-2014م, 07:06 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن الثامن الهجري

تفسير قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {وإن كنتم في ريبٍ ممّا نزّلنا على عبدنا فأتوا بسورةٍ من مثله وادعوا شهداءكم من دون اللّه إن كنتم صادقين (23) فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتّقوا النّار الّتي وقودها النّاس والحجارة أعدّت للكافرين (24) }
ثمّ شرع تعالى في تقرير النّبوّة بعد أن قرّر أنّه لا إله إلّا هو، فقال مخاطبًا للكافرين: {وإن كنتم في ريبٍ ممّا نزلنا على عبدنا} يعني: محمّدًا صلّى اللّه عليه وسلّم {فأتوا بسورةٍ} من مثل ما جاء به إن زعمتم أنّه من عند غير اللّه، فعارضوه بمثل ما جاء به، واستعينوا على ذلك بمن شئتم من دون اللّه، فإنكم لا تستطيعون ذلك.
قال ابن عبّاسٍ: {شهداءكم} «أعوانكم [أي: قومًا آخرين يساعدونكم على ذلك]».
وقال السّدّيّ، عن أبي مالك: «شركاءكم [أي استعينوا بآلهتكم في ذلك يمدّونكم وينصرونكم]».
وقال مجاهدٌ: {وادعوا شهداءكم} قال: «ناسٌ يشهدون به [يعني: حكّام الفصحاء]».
وقد تحدّاهم اللّه تعالى بهذا في غير موضعٍ من القرآن، فقال في سورة القصص: {قل فأتوا بكتابٍ من عند اللّه هو أهدى منهما أتّبعه إن كنتم صادقين} [القصص: 49] وقال في سورة سبحان: {قل لئن اجتمعت الإنس والجنّ على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعضٍ ظهيرًا} [الإسراء: 88] وقال في سورة هودٍ: {أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سورٍ مثله مفترياتٍ وادعوا من استطعتم من دون اللّه إن كنتم صادقين} [هودٍ: 13]، وقال في سورة يونس: {وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون اللّه ولكن تصديق الّذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من ربّ العالمين * أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورةٍ مثله وادعوا من استطعتم من دون اللّه إن كنتم صادقين} [يونس: 37، 38] وكلّ هذه الآيات مكّيّةٌ.
ثمّ تحدّاهم [اللّه تعالى] بذلك -أيضًا-في المدينة، فقال في هذه الآية: {وإن كنتم في ريبٍ} أي: [في] شكٍّ {ممّا نزلنا على عبدنا} يعني: محمّدًا صلّى اللّه عليه وسلّم. {فأتوا بسورةٍ من مثله} يعني: من مثل [هذا] القرآن؛ قاله مجاهدٌ وقتادة، واختاره ابن جريرٍ. بدليل قوله: {فأتوا بعشر سورٍ مثله} [هودٍ: 13] وقوله: {لا يأتون بمثله} [الإسراء: 88] وقال بعضهم: من مثل محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم، يعني: من رجلٍ أمّيٍّ مثله. والصّحيح الأوّل؛ لأنّ التّحدّي عامٌّ لهم كلّهم، مع أنّهم أفصح الأمم، وقد تحدّاهم بهذا في مكّة والمدينة مرّاتٍ عديدةٍ، مع شدّة عداوتهم له وبغضهم لدينه، ومع هذا عجزوا عن ذلك؛ ولهذا قال تعالى: {فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا} "ولن": لنفي التّأبيد أي: ولن تفعلوا ذلك أبدًا. وهذه -أيضًا-معجزةٌ أخرى، وهو أنّه أخبر أنّ هذا القرآن لا يعارض بمثله أبدًا وكذلك وقع الأمر، لم يعارض من لدنه إلى زماننا هذا ولا يمكن، وأنّى يتأتّى ذلك لأحدٍ، والقرآن كلام اللّه خالق كلّ شيءٍ؟ وكيف يشبه كلام الخالق كلام المخلوقين؟!
ومن تدبّر القرآن وجد فيه من وجوه الإعجاز فنونًا ظاهرةً وخفيّةً من حيث اللّفظ ومن جهة المعنى، قال اللّه تعالى: {الر كتابٌ أحكمت آياته ثمّ فصّلت من لدن حكيمٍ خبيرٍ} [هودٍ: 1]، فأحكمت ألفاظه وفصّلت معانيه أو بالعكس على الخلاف، فكلٌّ من لفظه ومعناه فصيحٌ لا يجارى ولا يدانى، فقد أخبر عن مغيباتٍ ماضيةٍ وآتيةٍ كانت ووقعت طبق ما أخبر سواءً بسواءٍ، وأمر بكلّ خيرٍ، ونهى عن كلّ شرٍّ كما قال: {وتمّت كلمة ربّك صدقًا وعدلا} [الأنعام: 115] أي: صدقًا في الأخبار وعدلًا في الأحكام، فكلّه حقٌّ وصدقٌ وعدلٌ وهدًى ليس فيه مجازفةٌ ولا كذبٌ ولا افتراء، كما يوجد في أشعار العرب وغيرهم من الأكاذيب والمجازفات الّتي لا يحسن شعرهم إلّا بها، كما قيل في الشّعر: إنّ أعذبه أكذبه، وتجد القصيدة الطّويلة المديدة قد استعمل غالبها في وصف النّساء أو الخيل أو الخمر، أو في مدح شخصٍ معيّنٍ أو فرسٍ أو ناقةٍ أو حربٍ أو كائنةٍ أو مخافةٍ أو سبعٍ، أو شيءٍ من المشاهدات المتعيّنة الّتي لا تفيد شيئًا إلّا قدرة المتكلّم المعبّر على التّعبير على الشّيء الخفيّ أو الدّقيق أو إبرازه إلى الشّيء الواضح، ثمّ تجد له فيها بيتًا أو بيتين أو أكثر هي بيوت القصيد وسائرها هذرٌ لا طائل تحته.
وأمّا القرآن فجميعه فصيحٌ في غاية نهايات البلاغة عند من يعرف ذلك تفصيلًا وإجمالًا ممّن فهم كلام العرب وتصاريف التّعبير، فإنّه إن تأمّلت أخباره وجدتها في غاية الحلاوة، سواءٌ كانت مبسوطةً أو وجيزةً، وسواءٌ تكرّرت أم لا وكلّما تكرّر حلا وعلا لا يخلق عن كثرة الرّدّ، ولا يملّ منه العلماء، وإن أخذ في الوعيد والتّهديد جاء منه ما تقشعرّ منه الجبال الصّمّ الرّاسيات، فما ظنّك بالقلوب الفاهمات، وإن وعد أتى بما يفتح القلوب والآذان، ويشوّق إلى دار السّلام ومجاورة عرش الرّحمن، كما قال في التّرغيب: {فلا تعلم نفسٌ ما أخفي لهم من قرّة أعينٍ جزاءً بما كانوا يعملون} [السّجدة: 17] وقال: {وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذّ الأعين وأنتم فيها خالدون} [الزّخرف: 71]، وقال في التّرهيب: {أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البرّ} [الإسراء: 68]، {أأمنتم من في السّماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور * أم أمنتم من في السّماء أن يرسل عليكم حاصبًا فستعلمون كيف نذير} [الملك: 16، 17] وقال في الزّجر: {فكلا أخذنا بذنبه} [العنكبوت: 40]، وقال في الوعظ: {أفرأيت إن متّعناهم سنين * ثمّ جاءهم ما كانوا يوعدون * ما أغنى عنهم ما كانوا يمتّعون} [الشّعراء: 205 -207] إلى غير ذلك من أنواع الفصاحة والبلاغة والحلاوة، وإن جاءت الآيات في الأحكام والأوامر والنّواهي، اشتملت على الأمر بكلّ معروفٍ حسنٍ نافعٍ طيّبٍ محبوبٍ، والنّهي عن كلّ قبيحٍ رذيلٍ دنيءٍ؛ كما قال ابن مسعودٍ وغيره من السّلف: إذا سمعت اللّه تعالى يقول في القرآن: {يا أيّها الّذين آمنوا} فأوعها سمعك فإنّه خيرٌ ما يأمر به أو شرٌّ ينهى عنه. ولهذا قال تعالى: {يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحلّ لهم الطّيّبات ويحرّم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال الّتي كانت عليهم} الآية [الأعراف: 157]، وإن جاءت الآيات في وصف المعاد وما فيه من الأهوال وفي وصف الجنّة والنّار وما أعدّ اللّه فيهما لأوليائه وأعدائه من النّعيم والجحيم والملاذ والعذاب الأليم، بشّرت به وحذّرت وأنذرت؛ ودعت إلى فعل الخيرات واجتناب المنكرات، وزهّدت في الدّنيا ورغّبت في الأخرى، وثبّتت على الطّريقة المثلى، وهدت إلى صراط اللّه المستقيم وشرعه القويم، ونفت عن القلوب رجس الشّيطان الرّجيم.
ولهذا ثبت في الصّحيحين عن أبي هريرة رضي اللّه عنه: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، قال: «ما من نبيٍّ من الأنبياء إلّا قد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنّما كان الّذي أوتيته وحيًا أوحاه اللّه إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة». لفظ مسلمٍ. وقوله: «وإنّما كان الّذي أوتيته وحيًا»أي: الّذي اختصصت به من بينهم هذا القرآن المعجز للبشر أن يعارضوه، بخلاف غيره من الكتب الإلهيّة، فإنّها ليست معجزةً [عند كثيرٍ من العلماء] واللّه أعلم. وله عليه الصّلاة والسّلام من الآيات الدّالّة على نبوّته، وصدقه فيما جاء به ما لا يدخل تحت حصرٍ، وللّه الحمد والمنّة.
[وقد قرّر بعض المتكلّمين الإعجاز بطريقٍ يشمل قول أهل السّنّة وقول المعتزلة في الصّوفيّة، فقال: إن كان هذا القرآن معجزًا في نفسه لا يستطيع البشر الإتيان بمثله ولا في قواهم معارضته، فقد حصل المدّعى وهو المطلوب، وإن كان في إمكانهم معارضته بمثله ولم يفعلوا ذلك مع شدّة عداوتهم له، كان ذلك دليلًا على أنّه من عند اللّه؛ لصرفه إيّاهم عن معارضته مع قدرتهم على ذلك، وهذه الطّريقة وإن لم تكن مرضيّةً لأنّ القرآن في نفسه معجزٌ لا يستطيع البشر معارضته، كما قرّرنا، إلّا أنّها تصلح على سبيل التّنزّل والمجادلة والمنافحة عن الحقّ وبهذه الطّريقة أجاب فخر الدّين في تفسيره عن سؤاله في السّور القصار كالعصر و {إنّا أعطيناك الكوثر}]). [تفسير ابن كثير: 1 / 198 -201]

تفسير قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {وإن كنتم في ريبٍ ممّا نزّلنا على عبدنا فأتوا بسورةٍ من مثله وادعوا شهداءكم من دون اللّه إن كنتم صادقين (23) فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتّقوا النّار الّتي وقودها النّاس والحجارة أعدّت للكافرين (24) }
...
{فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا} "ولن": لنفي التّأبيد أي: ولن تفعلوا ذلك أبدًا. وهذه -أيضًا-معجزةٌ أخرى، وهو أنّه أخبر أنّ هذا القرآن لا يعارض بمثله أبدًا وكذلك وقع الأمر، لم يعارض من لدنه إلى زماننا هذا ولا يمكن، وأنّى يتأتّى ذلك لأحدٍ، والقرآن كلام اللّه خالق كلّ شيءٍ؟ وكيف يشبه كلام الخالق كلام المخلوقين؟!). [تفسير ابن كثير: 1 / 199]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله تعالى: {فاتّقوا النّار الّتي وقودها النّاس والحجارة أعدّت للكافرين} أمّا الوقود، بفتح الواو، فهو ما يلقى في النّار لإضرامها كالحطب ونحوه، كما قال: {وأمّا القاسطون فكانوا لجهنّم حطبًا} [الجنّ: 15] وقال تعالى: {إنّكم وما تعبدون من دون اللّه حصب جهنّم أنتم لها واردون} [الأنبياء: 98].
والمراد بالحجارة هاهنا: هي حجارة الكبريت العظيمة السّوداء الصّلبة المنتنة، وهي أشدّ الأحجار حرًّا إذا حميت، أجارنا اللّه منها.
قال عبد الملك بن ميسرة الزّرّاد عن عبد الرّحمن بن سابطٍ، عن عمرو بن ميمونٍ، عن عبد اللّه بن مسعودٍ، في قوله تعالى: {وقودها النّاس والحجارة} قال: «هي حجارةٌ من كبريتٍ، خلقها اللّه يوم خلق السّماوات والأرض في السّماء الدّنيا، يعدّها للكافرين». رواه ابن جريرٍ، وهذا لفظه. وابن أبي حاتمٍ، والحاكم في مستدركه وقال: على شرط الشّيخين.
وقال السّدّيّ في تفسيره، عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابن عبّاسٍ، وعن مرّة عن ابن مسعودٍ، وعن ناسٍ من الصّحابة: {فاتّقوا النّار الّتي وقودها النّاس والحجارة} «أمّا الحجارة فهي حجارةٌ في النّار من كبريتٍ أسود، يعذّبون به مع النّار».
وقال مجاهدٌ: «حجارةٌ من كبريتٍ أنتن من الجيفة». وقال أبو جعفرٍ محمّد بن عليٍّ: «[هي] حجارةٌ من كبريتٍ». وقال ابن جريجٍ: «حجارةٌ من كبريتٍ أسود في النّار»، وقال لي عمرو بن دينار: «أصلب من هذه الحجارة وأعظم».
[وقيل: المراد بها: حجارة الأصنام والأنداد الّتي كانت تعبد من دون اللّه كما قال: {إنّكم وما تعبدون من دون اللّه حصب جهنّم} الآية [الأنبياء: 98]، حكاه القرطبيّ وفخر الدّين ورجّحه على الأوّل؛ قال: لأنّ أخذ النّار في حجارة الكبريت ليس بمنكرٍ فجعلها هذه الحجارة أولى، وهذا الّذي قاله ليس بقويٍّ،؛ وذلك أنّ النّار إذا أضرمت بحجارة الكبريت كان ذلك أشدّ لحرّها وأقوى لسعيرها، ولا سيّما على ما ذكره السّلف من أنّها حجارةٌ من كبريتٍ معدّةٌ لذلك، ثمّ إنّ أخذ النّار في هذه الحجارة -أيضًا-مشاهدٌ، وهذا الجصّ يكون أحجارًا فتعمل فيه بالنّار حتّى يصير كذلك. وكذلك سائر الأحجار تفخرها النّار وتحرقها. وإنّما سيق هذا في حرّ هذه النّار الّتي وعدوا بها، وشدّة ضرامها وقوّة لهبها كما قال: {كلّما خبت زدناهم سعيرًا} [الإسراء: 97]. وهكذا رجّح القرطبيّ أنّ المراد بها الحجارة الّتي تسعّر بها النّار لتحمى ويشتدّ لهبها قال: ليكون ذلك أشدّ عذابًا لأهلها، قال: وقد جاء في الحديث عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه قال: «كلّ مؤذٍ في النّار». وهذا الحديث ليس بمحفوظٍ ولا معروفٍ ثمّ قال القرطبيّ: وقد فسّر بمعنيين، أحدهما: أنّ كلّ من آذى النّاس دخل النّار، والآخر: كلّ ما يؤذي فهو في النّار يتأذّى به أهلها من السّباع والهوامّ وغير ذلك].
وقوله تعالى: {أعدّت للكافرين} الأظهر أنّ الضّمير في {أعدّت} عائدٌ إلى النّار الّتي وقودها النّاس والحجارة، ويحتمل عوده على الحجارة، كما قال ابن مسعودٍ، ولا منافاة بين القولين في المعنى؛ لأنّهما متلازمان.
و {أعدّت} أي: أرصدت وحصلت للكافرين باللّه ورسوله، كما قال [محمد] بن إسحاق، عن محمّدٍ، عن عكرمة، أو سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: {أعدّت للكافرين} «أي: لمن كان على مثل ما أنتم عليه من الكفر».
وقد استدلّ كثيرٌ من أئمّة السّنّة بهذه الآية على أنّ النّار موجودةٌ الآن لقوله: {أعدّت} أي: أرصدت وهيّئت وقد وردت أحاديث كثيرةٌ في ذلك منها: «تحاجّت الجنّة والنّار». ومنها: «استأذنت النّار ربّها فقالت: ربّ أكل بعضي بعضًا فأذن لها بنفسين نفسٌ في الشّتاء ونفسٌ في الصّيف»، وحديث ابن مسعودٍ سمعنا وجبةً فقلنا ما هذه؟ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «هذا حجرٌ ألقي به من شفير جهنّم منذ سبعين سنةً الآن وصل إلى قعرها». وهو عند مسلمٍ وحديث صلاة الكسوف وليلة الإسراء وغير ذلك من الأحاديث المتواترة في هذا المعنى وقد خالفت المعتزلة بجهلهم في هذا ووافقهم القاضي منذر بن سعيدٍ البلّوطيّ قاضي الأندلس.
تنبيهٌ ينبغي الوقوف عليه:
قوله: {فأتوا بسورةٍ من مثله} وقوله في سورة يونس: {بسورةٍ مثله} [يونس: 38] يعمّ كلّ سورةٍ في القرآن طويلةً كانت أو قصيرةً؛ لأنّها نكرةٌ في سياق الشّرط فتعمّ كما هي في سياق النّفي عند المحقّقين من الأصوليّين كما هو مقرّرٌ في موضعه، فالإعجاز حاصلٌ في طوال السّور وقصارها، وهذا ما أعلم فيه نزاعًا بين النّاس سلفًا وخلفًا، وقد قال الإمام العلّامة فخر الدّين الرّازيّ في تفسيره: فإن قيل: قوله: {فأتوا بسورةٍ من مثله} يتناول سورة الكوثر وسورة العصر، و {قل يا أيّها الكافرون} ونحن نعلم بالضّرورة أنّ الإتيان بمثله أو بما يقرب منه ممكنٌ. فإن قلتم: إنّ الإتيان بمثل هذه السّور خارجٌ عن مقدور البشر كان مكابرةً، والإقدام على هذه المكابرات ممّا يطرق بالتّهمة إلى الدّين: قلنا: فلهذا السّبب اخترنا الطّريق الثّاني، وقلنا: إن بلغت هذه السّورة في الفصاحة حدّ الإعجاز فقد حصل المقصود، وإن لم يكن كذلك، كان امتناعهم من المعارضة مع شدّة دواعيهم إلى تهوين أمره معجزًا، فعلى التّقديرين يحصل المعجز، هذا لفظه بحروفه. والصّواب: أنّ كلّ سورةٍ من القرآن معجزةٌ لا يستطيع البشر معارضتها طويلةً كانت أو قصيرةً.
قال الشّافعيّ، رحمه اللّه: لو تدبّر النّاس هذه السّورة لكفتهم: {والعصر * إنّ الإنسان لفي خسرٍ * إلا الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات وتواصوا بالحقّ وتواصوا بالصّبر} [سورة العصر]. وقد روينا عن عمرو بن العاص أنّه وفد على مسيلمة الكذّاب قبل أن يسلم، فقال له مسيلمة: ماذا أنزل على صاحبكم بمكّة في هذا الحين؟ فقال له عمرٌو: «لقد أنزل عليه سورةٌ وجيزةٌ بليغةٌ».فقال: وما هي؟ فقال: {والعصر * إنّ الإنسان لفي خسرٍ} ففكّر ساعةً ثمّ رفع رأسه فقال: ولقد أنزل عليّ مثلها، فقال: «وما هو؟».فقال: يا وبر يا وبر، إنّما أنت أذنان وصدرٌ، وسائرك حقرٌ فقرٌ، ثمّ قال: كيف ترى يا عمرو؟ فقال له عمرٌو: «واللّه إنّك لتعلم أني لأعلم إنك تكذب».). [تفسير ابن كثير: 1 / 201 -203]

تفسير قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {وبشّر الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات أنّ لهم جنّاتٍ تجري من تحتها الأنهار كلّما رزقوا منها من ثمرةٍ رزقًا قالوا هذا الّذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابهًا ولهم فيها أزواجٌ مطهّرةٌ وهم فيها خالدون (25) }
لمّا ذكر تعالى ما أعدّه لأعدائه من الأشقياء الكافرين به وبرسله من العذاب والنّكال، عطف بذكر حال أوليائه من السّعداء المؤمنين به وبرسله، الّذين صدّقوا إيمانهم بأعمالهم الصّالحة، وهذا معنى تسمية القرآن "مثاني" على أصحّ أقوال العلماء، كما سنبسطه في موضعه، وهو أن يذكر الإيمان ويتبعه بذكر الكفر، أو عكسه، أو حال السّعداء ثمّ الأشقياء، أو عكسه. وحاصله ذكر الشّيء ومقابله. وأمّا ذكر الشّيء ونظيره فذاك التّشابه، كما سنوضّحه إن شاء اللّه؛ فلهذا قال تعالى: {وبشّر الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات أنّ لهم جنّاتٍ تجري من تحتها الأنهار} فوصفها بأنّها تجري من تحتها الأنهار، كما وصف النّار بأنّ وقودها النّاس والحجارة، ومعنى {تجري من تحتها الأنهار} أي: من تحت أشجارها وغرفها، وقد جاء في الحديث: أنّ أنهارها تجري من غير أخدودٍ، وجاء في الكوثر أنّ حافّتيه قباب اللّؤلؤ المجوّف، ولا منافاة بينهما، وطينها المسك الأذفر، وحصباؤها اللّؤلؤ والجوهر، نسأل اللّه من فضله [وكرمه] إنّه هو البرّ الرّحيم.
وقال ابن أبي حاتمٍ: قرئ على الرّبيع بن سليمان: حدّثنا أسد بن موسى، حدّثنا ابن ثوبان، عن عطاء بن قرّة، عن عبد اللّه بن ضمرة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «أنهار الجنّة تفجّر من تحت تلال -أو من تحت جبال-المسك».
وقال أيضًا: حدّثنا أبو سعيدٍ، حدّثنا وكيعٌ، عن الأعمش، عن عبد اللّه بن مرّة، عن مسروقٍ، قال: قال عبد اللّه: «أنهار الجنّة تفجر من جبل مسكٍ».
وقوله تعالى: {كلّما رزقوا منها من ثمرةٍ رزقًا قالوا هذا الّذي رزقنا من قبل} قال السّدّيّ في تفسيره، عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابن عبّاسٍ وعن مرّة عن ابن مسعودٍ، وعن ناسٍ من الصّحابة: {قالوا هذا الّذي رزقنا من قبل} قال: «إنّهم أتوا بالثّمرة في الجنّة، فلمّا نظروا إليها قالوا: هذا الّذي رزقنا من قبل في [دار] الدّنيا».
وهكذا قال قتادة، وعبد الرّحمن بن زيد بن أسلم، ونصره ابن جريرٍ.
وقال عكرمة: {قالوا هذا الّذي رزقنا من قبل} قال: «معناه: مثل الّذي كان بالأمس»، وكذا قال الرّبيع بن أنسٍ. وقال مجاهدٌ: «يقولون: ما أشبهه به».
قال ابن جريرٍ: وقال آخرون: بل تأويل ذلك هذا الّذي رزقنا من ثمار الجنّة من قبل هذا لشدّةٍ مشابهة بعضه بعضًا، لقوله تعالى: {وأتوا به متشابهًا} قال سنيد بن داود: حدّثنا شيخٌ من أهل المصّيصة، عن الأوزاعيّ، عن يحيى بن أبي كثيرٍ، قال: «يؤتى أحدهم بالصّحفة من الشّيء، فيأكل منها ثمّ يؤتى بأخرى فيقول: هذا الّذي أوتينا به من قبل. فتقول الملائكة: كل، فاللّون واحدٌ، والطّعم مختلفٌ».
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا سعيد بن سليمان، حدّثنا عامر بن يساف، عن يحيى بن أبي كثيرٍ قال: «عشب الجنّة الزّعفران، وكثبانها المسك، ويطوف عليهم الولدان بالفواكه فيأكلونها ثمّ يؤتون بمثلها، فيقول لهم أهل الجنّة: هذا الّذي أتيتمونا آنفًا به، فيقول لهم الولدان: كلوا، فإنّ اللّون واحدٌ، والطّعم مختلفٌ. وهو قول اللّه تعالى: {وأتوا به متشابهًا}».
وقال أبو جعفرٍ الرّازيّ، عن الرّبيع بن أنسٍ، عن أبي العالية: {وأتوا به متشابهًا} قال: «يشبه بعضه بعضًا، ويختلف في الطّعم».
وقال ابن أبي حاتمٍ: وروي عن مجاهدٍ، والرّبيع بن أنسٍ، والسّدّيّ نحو ذلك.
وقال ابن جريرٍ بإسناده عن السّدّيّ في تفسيره، عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابن عبّاسٍ وعن مرّة، عن ابن مسعودٍ، وعن ناسٍ من الصّحابة، في قوله تعالى: {وأتوا به متشابهًا} يعني: «في اللّون والمرأى، وليس يشتبه في الطّعم».
وهذا اختيار ابن جريرٍ.
وقال عكرمة: {وأتوا به متشابهًا} قال: «يشبه ثمر الدّنيا، غير أنّ ثمر الجنّة أطيب».
وقال سفيان الثّوريّ، عن الأعمش، عن أبي ظبيان، عن ابن عبّاسٍ، «لا يشبه شيءٌ ممّا في الجنّة ما في الدّنيا إلّا في الأسماء»، وفي روايةٍ: «ليس في الدّنيا ممّا في الجنّة إلّا الأسماء». رواه ابن جريرٍ، من رواية الثّوريّ، وابن أبي حاتمٍ من حديث أبي معاوية كلاهما عن الأعمش، به.
وقال عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم في قوله: {وأتوا به متشابهًا} قال: «يعرفون أسماءه كما كانوا في الدّنيا: التّفّاح بالتّفّاح، والرّمّان بالرّمّان، قالوا في الجنّة: هذا الّذي رزقنا من قبل في الدّنيا، وأتوا به متشابهًا، يعرفونه وليس هو مثله في الطّعم».
وقوله تعالى: {ولهم فيها أزواجٌ مطهّرةٌ} قال ابن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: «مطهّرةٌ من القذر والأذى».
وقال مجاهدٌ: «من الحيض والغائط والبول والنّخام والبزاق والمنيّ والولد».
وقال قتادة: «مطهّرةٌ من الأذى والمأثم». وفي روايةٍ عنه: «لا حيض ولا كلف». وروي عن عطاءٍ والحسن والضّحّاك وأبي صالحٍ وعطيّة والسّدّيّ نحو ذلك.
وقال ابن جريرٍ: حدّثني يونس بن عبد الأعلى، أنبأنا ابن وهبٍ، عن عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم، قال: «المطهّرة الّتي لا تحيض». قال: «وكذلك خلقت حوّاء، عليها السّلام، حتّى عصت، فلمّا عصت قال اللّه تعالى: إنّي خلقتك مطهّرةً وسأدميك كما أدميت هذه الشّجرة». وهذا غريبٌ.
وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه: حدّثنا إبراهيم بن محمّدٍ، حدّثني جعفر بن محمّد بن حربٍ، وأحمد بن محمّدٍ الجوري قالا حدّثنا محمّد بن عبيدٍ الكنديّ، حدّثنا عبد الرّزّاق بن عمر البزيعيّ، حدّثنا عبد اللّه بن المبارك عن شعبة، عن قتادة، عن أبي نضرة، عن أبي سعيدٍ، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم في قوله تعالى: {ولهم فيها أزواجٌ مطهّرةٌ} قال: «من الحيض والغائط والنّخاعة والبزاق».
هذا حديثٌ غريبٌ. وقد رواه الحاكم في مستدركه، عن محمّد بن يعقوب، عن الحسن بن عليّ بن عفّان، عن محمّد بن عبيدٍ، به، وقال: صحيحٌ على شرط الشيخين.
وهذا الّذي ادّعاه فيه نظرٌ؛ فإنّ عبد الرّزّاق بن عمر البزيعيّ هذا قال فيه أبو حاتم بن حبّان البستي: لا يجوز الاحتجاج به.
قلت: والأظهر أنّ هذا من كلام قتادة، كما تقدّم، واللّه أعلم.
وقوله تعالى: {وهم فيها خالدون} هذا هو تمام السّعادة، فإنّهم مع هذا النّعيم في مقامٍ أمينٍ من الموت والانقطاع فلا آخر له ولا انقضاء، بل في نعيمٍ سرمديٍّ أبديٍّ على الدوام، والله المسؤول أن يحشرنا في زمرتهم، إنّه جوادٌ كريمٌ، بر رحيم). [تفسير ابن كثير: 1 / 203 -206]


رد مع اقتباس