عرض مشاركة واحدة
  #9  
قديم 25 ذو الحجة 1439هـ/5-09-2018م, 08:50 AM
أم إسماعيل أم إسماعيل غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Dec 2010
المشاركات: 4,914
افتراضي

تفاسير القرن الثامن الهجري

تفسير قوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109)}
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({من كفر باللّه من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئنٌّ بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرًا فعليهم غضبٌ من اللّه ولهم عذابٌ عظيمٌ (106) ذلك بأنّهم استحبّوا الحياة الدّنيا على الآخرة وأنّ اللّه لا يهدي القوم الكافرين (107) أولئك الّذين طبع اللّه على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأولئك هم الغافلون (108) لا جرم أنّهم في الآخرة هم الخاسرون (109)}
أخبر تعالى عمّن كفر به بعد الإيمان والتّبصّر، وشرح صدره بالكفر واطمأنّ به: أنّه قد غضب عليه، لعلمهم بالإيمان ثمّ عدولهم عنه، وأنّ لهم عذابًا عظيمًا في الدّار الآخرة؛ لأنّهم استحبّوا الحياة الدّنيا على الآخرة، فأقدموا على ما أقدموا عليه من الرّدّة لأجل الدّنيا، ولم يهد اللّه قلوبهم ويثبّتهم على الدّين الحقّ، فطبع على قلوبهم فلا يعقلون بها شيئًا ينفعهم وختم على سمعهم وأبصارهم فلا ينتفعون بها، ولا أغنت عنهم شيئًا، فهم غافلون عمّا يراد بهم.
{لا جرم} أي: لا بدّ ولا عجب أنّ من هذه صفته، {أنّهم في الآخرة هم الخاسرون} أي: الّذين خسروا أنفسهم وأهاليهم يوم القيامة.
وأمّا قوله: {إلا من أكره وقلبه مطمئنٌّ بالإيمان} فهو استثناءٌ ممّن كفر بلسانه ووافق المشركين بلفظه مكرهًا لما ناله من ضربٍ وأذًى، وقلبه يأبى ما يقول، وهو مطمئنٌ بالإيمان باللّه ورسوله.
وقد روى العوفيّ عن ابن عبّاسٍ: أنّ هذه الآية نزلت في عمّار بن ياسرٍ، حين عذّبه المشركون حتّى يكفر بمحمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم، فوافقهم على ذلك مكرها وجاء معتذرًا إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، فأنزل اللّه هذه الآية، وهكذا قال الشّعبيّ، وأبو مالكٍ وقتادة.
وقال ابن جريرٍ: حدّثنا ابن عبد الأعلى، حدّثنا محمّد بن ثور، عن معمر، عن عبد الكريم الجزريّ، عن أبي عبيدة [بن] محمّد بن عمّار بن ياسرٍ قال: أخذ المشركون عمّار بن ياسرٍ فعذّبوه حتّى قاربهم في بعض ما أرادوا، فشكا ذلك إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، فقال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: "كيف تجد قلبك؟ " قال: مطمئنًا بالإيمان قال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: "إنّ عادوا فعد".
ورواه البيهقيّ بأبسط من ذلك، وفيه أنّه سبّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وذكر آلهتهم بخيرٍ، وأنّه قال: يا رسول اللّه، ما تركت حتّى سببتك وذكرت آلهتهم بخيرٍ! قال: "كيف تجد قلبك؟ " قال: مطمئنًا بالإيمان. فقال: "إن عادوا فعد". وفي ذلك أنزل اللّه: {إلا من أكره وقلبه مطمئنٌّ بالإيمان}.
ولهذا اتّفق العلماء على أنّه يجوز أن يوالى المكره على الكفر، إبقاءً لمهجته، ويجوز له أن يستقتل، كما كان بلالٌ رضي اللّه عنه يأبى عليهم ذلك وهم يفعلون به الأفاعيل، حتّى أنّهم ليضعون الصّخرة العظيمة على صدره في شدّة الحرّ، ويأمرونه أن يشرك باللّه فيأبى عليهم وهو يقول: أحد، أحد. ويقول: واللّه لو أعلم كلمةً هي أغيظ لكم منها لقلتها، رضي اللّه عنه وأرضاه. وكذلك حبيب بن زيدٍ الأنصاريّ لمّا قال له مسيلمة الكذّاب: أتشهد أنّ محمّدًا رسول اللّه؟ فيقول: نعم. فيقول: أتشهد أنّي رسول اللّه؟ فيقول: لا أسمع. فلم يزل يقطّعه إربًا إربًا وهو ثابتٌ على ذلك.
وقال الإمام أحمد: حدّثنا إسماعيل، حدّثنا أيّوب، عن عكرمة، أنّ عليًّا، رضي اللّه عنه، حرّق ناسًا ارتدوا عن الإسلام، فبلغ ذلك ابن عبّاسٍ فقال: لم أكن لأحرّقهم بالنّار، إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "لا تعذّبوا بعذاب اللّه". وكنت قاتلهم بقول رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "من بدّل دينه فاقتلوه" فبلغ ذلك عليًّا فقال: ويح أمّ ابن عبّاسٍ. رواه البخاريّ.
وقال الإمام أحمد أيضًا: حدّثنا عبد الرّزّاق، أنبأنا معمر، عن أيّوب، عن حميد بن هلالٍ العدويّ، عن أبي بردة قال: قدم على أبي موسى معاذ بن جبلٍ باليمن، فإذا رجلٌ عنده، قال: ما هذا؟ قال رجلٌ كان يهوديًّا فأسلم، ثمّ تهوّد، ونحن نريده على الإسلام منذ -قال: أحسب-شهرين فقال: واللّه لا أقعد حتّى تضربوا عنقه. فضربت عنقه. فقال: قضى اللّه ورسوله أنّ من رجع عن دينه فاقتلوه-أو قال: من بدّل دينه فاقتلوه.
وهذه القصّة في الصّحيحين بلفظٍ آخر.
والأفضل والأولى أن يثبت المسلم على دينه، ولو أفضى إلى قتله، كما قال الحافظ ابن عساكر، في ترجمة عبد اللّه بن حذافة السّهميّ أحد الصّحابة: أنّه أسرته الرّوم، فجاءوا به إلى ملكهم، فقال له: تنصّر وأنا أشركك في ملكي وأزوّجك ابنتي. فقال له: لو أعطيتني جميع ما تملك وجميع ما تملكه العرب، على أن أرجع عن دين محمّدٍ طرفة عينٍ، ما فعلت! فقال: إذًا أقتلك. قال: أنت وذاك! فأمر به فصلب، وأمر الرّماة فرموه قريبًا من يديه ورجليه، وهو يعرض عليه دين النّصرانيّة، فيأبى ثمّ أمر به فأنزل، ثمّ أمر بقدر. وفي روايةٍ: ببقرةٍ من نحاسٍ، فأحميت، وجاء بأسيرٍ من المسلمين فألقاه وهو ينظر، فإذا هو عظامٌ تلوح. وعرض عليه فأبى، فأمر به أن يلقى فيها، فرفع في البكرة ليلقى فيها، فبكى فطمع فيه ودعاه فقال له: إنّي إنّما بكيت لأنّ نفسي إنّما هي نفسٌ واحدةٌ، تلقى في هذه القدر السّاعة في اللّه، فأحببت أن يكون لي بعدد كلّ شعرةٍ في جسدي نفسٌ تعذّب هذا العذاب في اللّه. وفي بعض الرّوايات: أنّه سجنه ومنع عنه الطّعام والشّراب أيّامًا، ثمّ أرسل إليه بخمرٍ ولحم خنزيرٍ، فلم يقربه، ثمّ استدعاه فقال: ما منعك أن تأكل؟ فقال: أما إنّه قد حلّ لي، ولكن لم أكن لأشمّتك فيّ. فقال له الملك: فقبّل رأسي وأنا أطلقك. فقال: وتطلق معي جميع أسارى المسلمين؟ قال: نعم. فقبّل رأسه، فأطلقه وأطلق معه جميع أسارى المسلمين عنده، فلمّا رجع قال عمر بن الخطّاب: حقّ على كلّ مسلمٍ أن يقبّل رأس عبد اللّه بن حذافة، وأنا أبدأ. فقام فقبّل رأسه). [تفسير القرآن العظيم: 4/ 605-607]

تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110)}
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({ثمّ إنّ ربّك للّذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثمّ جاهدوا وصبروا إنّ ربّك من بعدها لغفورٌ رحيمٌ (110) يوم تأتي كلّ نفسٍ تجادل عن نفسها وتوفّى كلّ نفسٍ ما عملت وهم لا يظلمون (111)}
هؤلاء صنفٌ آخر كانوا مستضعفين بمكّة، مهانين في قومهم قد واتوهم على الفتنة، ثمّ إنّهم أمكنهم الخلاص بالهجرة، فتركوا بلادهم وأهليهم وأموالهم ابتغاء رضوان اللّه وغفرانه، وانتظموا في سلك المؤمنين، وجاهدوا معهم الكافرين، وصبروا، فأخبر اللّه تعالى أنّه {من بعدها} أي: تلك الفعلة، وهي الإجابة إلى الفتنة لغفورٌ لهم، رحيمٌ بهم يوم معادهم). [تفسير القرآن العظيم: 4/ 607]

رد مع اقتباس