عرض مشاركة واحدة
  #37  
قديم 20 رجب 1434هـ/29-05-2013م, 07:52 AM
عبد العزيز بن داخل المطيري عبد العزيز بن داخل المطيري غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 2,179
افتراضي

شبهات وردود

قال محمد عبد العظيم الزرقاني (ت: 1367هـ):
(
نقض الشبهات التي أثيرت حول هذا الموضوع

قلنا ونقول: إن أعداء الإسلام كثيرون وإنهم يتربصون به الدوائر وينتهزون كل فرصة ليسددوا إليه سهام المطاعن. وإن من واجبنا أن نحمي العرين ونقوم بواجب الدفاع في هذا المعمعان ولن يتسنى ذلك إلا إذا تسلحنا بجميع الأسلحة وفي مقدمتها دراسة تلك الشبهات التي يحرقون بخورها في مصر وغير مصر حتى لشبابنا المتعلم في بعض الدروس والكتب التي يزعمون أنها أدبية. وقد شهدت مصر وقتا ما معركة حامية الوطيس دارت رحاها حول أمثال هذه الشبهات التي نسوقها إليك فاقتحمها عنوة وخذها بقوة. ولا حول ولا قوة إلا بالله وما أجمل أن نردد قول الشاعر:
أنا لا ألوم المستبد ... د إذا تعنت أو تعدى
فسبيله أن يستبد ... د وشأننا أن نستعدا

الشبهة الأولى
...
الشبهة الأولى: وفي طيها شبهات
يقولون: إن الباحث الناقد يلاحظ أن في القرآن أسلوبين متعارضين لا تربط الأول بالثاني صلة ولا علاقة مما يدفعنا إلى الاعتقاد بأن هذا الكتاب قد خضع لظروف مختلفة وتأثر ببيئات متباينة فنرى أن القسم المكي منه يمتاز بكل مميزات الأوساط المنحطة كما نشاهد القسم المدني منه تلوح عليه أمارات الثقافة والاستنارة. فالقسم المكي يتفرد بالعنف والشدة والقسوة والحدة والغضب والسباب والوعيد والتهديد مثل سورة {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} وسورة {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} وسورة {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} ومثل {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} .
والجواب: أن هذه الشبهة تتألف من شبهات أربع وإن شئت فقل: تتألف من مقدمات ثلاث كواذب تتأدى أو يريد صاحبها أن يتأدى بها إلى نتيجة هي الأخرى كاذبة.
فأما المقدمات الثلاث الكواذب فهي أن القسم المكي تفرد بالعنف والشدة وأن فيه سبابا وإقذاعا وأنه يمتاز بكل مميزات الأوساط المنحطة.
وأما النتيجة أو الهدف الذي يرمي إليه فهو أن القرآن مفكك الأجزاء غير متصل الحلقات وأنه خاضع للظروف متأثر بالبيئة.

وغرضهم من هذا معروف طبعا وهو أن القرآن ليس كلام الله وليس معجزا إنما هو كلام محمد الذي تأثر أولا بأهل مكة فكان كلامه خشنا بعيدا عن المعارف العالية التي اكتسبها من أهل الكتاب في المدينة.
ذلك كله ما يجب أن نحمل عليه انتقاد أولئك المضللين فإن قرينة عداوتهم للحق
وخصومتهم للإسلام ونقدهم للقرآن تبعد كلامهم عن كل تأويل حسن وتحمله على أسوأ فروضه.
ولنأت لك على بنيان هذه الشبهة من القواعد لتعلم إغراقها في البطلان وإغراق ذويها في الكذب والإسفاف.
1- فأما قولهم: إن القسم المكي قد تفرد بالعنف والشدة فينقضه أن في القسم المدني شدة وعنفا فدعوى تفرد القسم المكي بذلك باطلة قال تعالى في سورة البقرة وهي مدنية: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} وقال فيها أيضا {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} وقال فيها أيضا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} .
وقال سبحانه في سورة آل عمران وهي مدنية كتلك {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ، كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ، قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} .
وإنما اشتمل القرآن الكريم بقسميه المكي والمدني على الشدة والعنف لأن ضرورة التربية الرشيدة في إصلاح الأفراد والشعوب وسياسة الأمم والدول تقضي أن يمزج المصلح في قانون هدايته بين الترغيب والترهيب والوعد والوعيد والشدة واللين.
ثم إن دعواهم انفراد المكي بالعنف والشدة يفهم منه دعوى انفراد المدني
باللين والصفح ودعوى خلو المكي من ذلك اللين والصفح. وهذا المفهوم باطل كمنطوقه أيضا. ودليل ذلك أن بين السور المكية آيات كريمة تفيض لينا وصفحا وتقطر سماحة وعفوا بل تنادي أن تقابل السيئة بالحسنة كما في قوله سبحانه في سورة فصلت المكية: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ. وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} .
وكما في قوله سبحانه في سورة الشورى المكية: {فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ. وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ. وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ. وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ. وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ. إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ. وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} .
وكذلك قوله سبحانه في سورة الحجر المكية: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ. لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} إلى آخر السورة.
ومثله قول الله جلت قدرته في سورة الزمر المكية: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} .

2- وأما زعمهم أن في القسم المكي سبابا ويريدون من السباب معناه المعروف عندهم من القحة والبذاءة والخروج عن حدود الأدب واللياقة فقد {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً} . ونحن نتحداهم أن يأتوا بمثال واحد في القرآن كله مكيه ومدنيه يكون من هذا اللون القذر الرخيص. وهل يعقل أن القرآن الذي جاء يعلم الناس أصول الآداب يخرج هو عن أصول الآداب إلى السباب؟ كيف وقد حرم على أتباعه المسلمين أن يسبوا أعداءه المشركين؟ فقال في سورة الأنعام: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} .
نعم إن في القرآن كله لا في القسم المكي وحده تسفيها لأحلام المتنطعين الذين يصمون آذانهم ويغمضون أعينهم عن الحق ويهملون الحجج والبراهين وهو في ذلك شديد عنيف بيد أنه في شدته وعنفه لم يخرج عن جادة الأدب ولم يعدل عن سنن الحق ولم يصدف عن سبيل الحكمة. بل الحكمة تتقاضاه أن يشتد مع هؤلاء لأنهم يستحقون الشدة ومن مصلحتهم هم ومن الرحمة بهم والخير لهم أن يشتد عليهم ليرعووا عن باطلهم ويصيخوا إلى صوت الحق والرشد ويسيروا على هدى الدليل والحجة على حد قول القائل:
فقسا ليزدجروا ومن يك حازما ... فليقس أحيانا على من يرحم
أضف إلى ذلك أن هذا التفريع الحكيم تجده في السور المدنية كما تجده في السور المكية. وإن كان في المكي أكثر من المدني لأن أهل مكة كانوا أشداء العارضة صعاب المراس مسرفين في العناد والإباء لم يتركوا بابا من الشر إلا دخلوه على الرسول وأصحابه ولم يكفهم أن يخرج من بلده وأهله بليل بل وجهوا إليه الأذى في مهاجره.
والشاهد على أن في السور المدنية تنويعا عنيفا أيضا عند المناسبات قوله سبحانه من سورة البقرة المدنية في شأن المشركين: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} وقوله من سورة البقرة أيضا في شأن المنافقين: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} إلى تمام ثلاث عشرة آية مليئة بالتوبيخ والتعنيف لتلك الحشرات الآدمية الذين ينفثون سمومهم ويفسدون المجتمع بسلاح خطير ذي حدين هو سلاح النفاق والذبذبة. وكذلك تقرأ في هذه السورة المدنية نفسها في شأن اليهود آيات كثيرة من هذا الطراز تنقدهم وتنعي جرائمهم وتحمل عليهم حملة شعواء تقبيحا لجناياتهم وجنايات آبائهم من قبلهم. مثل قوله سبحانه: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} ومثل قوله: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} .
ومثل قوله تعالى في شأن النصارى من سورة آل عمران: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} الخ. وقوله فيهم أيضا من هذه السورة: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ} الخ.

أما السور والآيات التي اعتمدت عليها الشبهة فلا تدل على ذلك السباب الذي زعموه ووصموا به القرآن الكريم لأن سورة {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} غاية ما اشتملت عليه أنها إنذار ووعيد لأبي لهب وامرأته جزاء ما أساءا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه كما يدل على ذلك سبب نزولها: أخرج الإمام أحمد والشيخان والترمذي عن ابن عباس قال: لما نزلت {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا فجعل ينادي: ((يا بني فهر يا بني عدي)) لبطون قريش حتى اجتمعوا. فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو؟ فجاء أبو لهب وقريش فقال صلى الله عليه وسلم: "أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي" قالوا: نعم ما جربنا عليك إلا صدقا قال: ((فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد)) . فقال أبو لهب: تبا لك ألهذا جمعتنا؟ فنزلت.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن جرير عن ابن زيد أن امرأة أبي لهب كانت تأتي بأغصان الشوك تطرحها بالليل في طريق الرسول صلى الله عليه وسلم.
وروي عن مجاهد أنها كانت تمشي بالنميمة.
فهذه الأسباب مجتمعة تفيد أن السورة نزلت لمقابلة أبي لهب بما يستحق من إنذاره بالهلاك والقطيعة وأن ماله لا ينفعه ولا كسبه وأنه خاسر هو وامرأته وأن مصيرهما إلى النار وبئس القرار.
ولا ريب أن في هذا الوعيد العنيف ردعا له ولأمثاله وتسلية لمن أصيب بأذاهم من الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وذلك هو اللائق بالعدالة الإلهية والتربية الحكيمة الربانية.
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا ... مضر كوضع السيف في موضع الندى
وأما سورة والعصر فليس فيها سباب ولا ما يشبه السباب. وكل ما عرضت له
أنها جعلت الناس قسمين:
قسما غريقا في الخسران.
وقسما فاز ونجا من هذا الخسران وهم الذين جمعوا عناصر السعادة الأربعة.
اقرأ قوله سبحانه: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} فهل ترى فيها ظلا للسباب والإقذاع؟ ولكن القوم لا يستحون.

وأما سورة {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} : فمبلغ ما تشير إليه أن المخاطبين شغلتهم الدنيا عن الدين وألهتهم الأموال عن رب الأموال حتى انتهت أعمارهم وهم على هذه الحال. وغدا يسألون عن هذا النعيم ويعاقبون على إهمال شكره بعذاب الجحيم.
وأما قوله سبحانه: {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} فهي حكاية لما حل بالأمم السابقة كثمود وعاد حين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد ليكون من هذا القصص والخبر عبرة لأولئك الكفار ومزدجر فلا يقعوا فميا وقع فهي أسلافهم لأن سنة الله واحدة في الأمم وميزان عدالته قائم في كل جيل وقبيل. {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ} .
الخلاصة
والخلاصة: أن القرآن كله قام على رعاية حال المخاطبين فتارة يشتد وتارة يلين تبعا لما يقتضيه حالهم سواء منهم مكيهم ومدنيهم بدليل أنك تجد بين ثنايا السور المكية والمدنية ما هو وعد ووعيد وتسامح وتشديد وأخذ ورد وجذب وشد كما سبق لك في الأمثلة والشواهد الكثيرة. وإذا لوحظ أن أهل مكة كثر خطابهم بالشدة والعنف فذلك لما مردوا عليه من أذى الرسول وأصحابه والكيد لهم حتى أخرجوهم من أوطانهم. ولم يكتفوا بذلك بل أرسلوا إليهم الأذى في مهاجرهم.
وكان القرآن في حملته عليهم وعلى أمثالهم بالقول بعيدا عن كل معاني السباب والإقذاع متذرعا بالحكمة والأدب الكامل في الإرشاد والإقناع حاثا على الصبر والعفو والإحسان حتى ليخاطب الله رسوله في سورة الأنعام المكية بقوله: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ}.

ظاهرة مسكتة
على أننا نلاحظ في آفاق الآيات والسور المكية ظاهرة باهرة تسكت كل معاند وتفحم كل مكابر في هذا الموضوع. وهي أن القسم المكي خلا خلوا تاما من تشريع القتال والجهاد والمخاشنة كما خلت أيامه في مكة على طولها من مقاتلة القوم بمثل ما يأتون من التنكيل والمصاولة فلم يسمع للمسلمين فيها صلصلة لسيف ولا قعقعة لسلاح ولا زحف على عدو. إنما هو الصبر والعفو والمجاملة والمحاسنة بالرغم من إيغال الأعداء في أذاهم ولجاجهم في عتوهم وأساهم سبا وطعنا وقتلا ونهبا ومقاطعة ومهاترة ومصاولة ومكابرة.
3- وأما زعمهم أن القسم المكي يمتاز بكل مميزات الأوساط المنحطة فهو مردود عليهم باطل من كل باب دخلوه وعلى أي وجه أرادوه لأنهم إن أرادوا بذلك ما توهموه من انفراده بالشدة والعنف أو السباب والإقذاع فقد علمت مبلغ
ما فيه من كذب وافتراء وجهالة بما جاء في القرآن من ترغيب وترهيب في شطريه المكي والمدني على السواء.
وإن أرادوا بانحطاطه الإشارة إلى قصر آياته أو إلى خلوه من التشريعات التفصيلية العملية فهذا لا يدل على الانحطاط بل قصر الآيات والخلو من تفاصيل التشريع لهما وجه آخر يظهر عند الكلام عليهما في الشبهات الآتية:
وإن أرادوا بما ذكروا أن أهل مكة كانوا منحطين في الفصاحة والبيان والذكاء والألمعية فتلك ثالثة الأثافي لأن التاريخ شاهد عدل بأن قريشا كانت في مركز الزعامة من جميع قبائل العرب يصدرون عن رأيها ويرجعون إلى حكمها ويأخذون عنها ويركبون ظهور الإبل إليها وينزلون على قولها فيما يعلو وينزل من منظوم ومنثور ويذعنون لها بالسبق في مضمار الفصاحة والبلاغة والذكاء والألمعية والشرف والنبل. وكان لها هذا الامتياز من قبل الإسلام. ثم دام لها وزاد عليها في الإسلام. واعترف لها به أهل المدينة وغيرهم من عرب وأعجام.
ثم إن وصف القسم المكي بميزات الأوساط المنحطة تهمة جريئة وطعنة طائشة وأكذوبة مكشوفة ما رضيها لأنفسهم أعداء الإسلام في فجر دعوته من مشركين وأهل كتاب وعرب وعجم وأميين ومثقفين على حين أن أولئك العرب كانوا على أميتهم أعرف الناس بانحطاط الكلام ورقيه وعلوه ونزوله.
كما كانوا أحرص الناس على إحراج محمد ودحض حجته ونقض دينه والقضاء على الإسلام في مهده. ولكن سجيتهم لم تسمح بهذا الهراء الذي يهرف به الملاحدة في القسم المكي من القرآن. بل نعلم بجانب هذا أن القرآن كان له سلطان على نفوسهم إلى حد خارق مدهش يقودهم بقوته إلى الإسلام ويدفع المعاند منهم إذا استمع إليه أن يسجد لبلاغته ويهتز لفصاحته وأن يأخذ نفسه بالتشاغل عنه مخافة أن يؤمن عن طريق تأثره بسماعه.

وأما زعمهم انقطاع الصلة بين القسم المكي والمدني والتعارض بين أسلوبيهما: فهو زعم ساقط مبني على الاعتبارات الخاطئة الماضية التي أثبتنا بطلانها. ثم هو دعوى ماجنة يكذبها الواقع ويفندها الذوق البلاغي المنصف. وأدل دليل على ذلك أن أساطين البلاغة من أعداء الإسلام في مكة نفسها أيام نزول القرآن لم يستطيعوا أن يتهموا أساليب التنزيل بمثل هذا الاتهام ولا كذبا لأنهم كانوا أعقل من ملاحدة اليوم يرون أن هذا الاتهام يكون كذبا مكشوفا وافتراء مفضوحا. بل هذا وحيدهم الوليد بن المغيرة يقول للملأ من قريش: والله لقد سمعت من محمد آنفا كلاما ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق وإنه يعلو وما يعلى.
ولما قالت قريش عندئذ: صبأ والله الوليد واحتالوا عليه أن يطعن في القرآن لم يجد حيلة إلا أن يقول: {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} . ولم يستطع أن يرمي القرآن بالتهافت والتخاذل وانقطاع الصلة بين أجزائه وانحطاط شيء من أساليبه على نحو ما يرجف أولئك الخراصون. والله أعلم بما يبيتون.
4- وإذا بطل هذا وما سبقه بطل ما زعموه من تأثر القرآن بالوسط والبيئة وما رتبوه عليه من أنه كلام محمد لا كلام رب العزة. ثم إنها اتهامات سخيفة لا تستحق الرد ما دام إعجاز القرآن قائما يتحدى كل جيل وقبيل ويفحم كل معارض ومكابر. ولمبحث إعجاز القرآن مجال آخر عسى أن يكون قريبا.
ولولا أن الشبيبة الحاضرة من أنصاف المتعلمين وأشباههم ينخدعون بمثل هذه الترهات ما أتعبنا أنفسنا في علاجها ولا أتعبناك فاصبر معنا على دفع هذا المصاب والله يتولى هدانا وهداك.

الشبهة الثانية
...
الشبهة الثانية
يقولون: إن قصر السور والآيات المكية مع طول السور والآيات المدنية يدل على انقطاع الصلة بين القسم المكي والقسم المدني ويدل على أن القسم المكي يمتاز بمميزات الأوساط المنحطة ويدل على أن القرآن في نمطه هذا نتيجة لتأثر محمد بالوسط والبيئة فلما كان في مكة أميا بين الأميين جاءت سور المكي وآياته قصيرة ولما وجد في المدينة بين مثقفين مستنيرين جاءت سور المدني وآياته طويلة وغرضهم من إلقاء هذه الشبهة التشكيك في أن القرآن من عند الله: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} .
وننقض شبهتهم هذه بما يأتي:
أولا- أن في القسم المكي سورا طويلة مثل سورة الأنعام وفي القسم المدني سورا قصيرة مثل سورة {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} فكلاهما لا يسلم على عمومه.
ثانيا - إذا أرادوا الكثرة الغالبة لا الكلية الشاملة فهذا نسلمه لهم بيد أنه لا يدل على ما افتروه ورتبوه عليه لأن قصر معظم السور المكية وآياتها وطول معظم السور المدنية وآياتها لا يقطع الصلة بين قسمي القرآن: مكية ومدنية ولا بين سور القرآن وآياته جميعا. بل الصلة كما يحسها كل صاحب ذوق في البلاغة محكمة وشائعة بين كافة أجزاء التنزيل. وقد تفنن العلماء وأشبعوا الحديث عن هذه المناسبات في غضون تفسيرهم لكتاب الله. وتقدم تقرير هذا التناسب البارع في صفحة 81.
على أنك تلاحظ آيات مكية منبثة بين آيات سور مدنية وتلاحظ آيات مدنية منبئة بين آيات سور مكية. وبرغم ذلك لا يكاد أحد يحس التفاوت أو التفكك
والانقطاع بل يروعك ما بين الجميع من جلال الوحدة وكمال الاتصال وجمال التناسق والانسجام مما يجعل القرآن كله على طوله سلسلة واحدة محكمة متصلة الحلقات أو عقدا رائعا أخاذا منتظم الحبات أو قانونا رصينا مترابط المبادئ والغايات.
ثالثا - أن قصر السور والآيات المكية لا يدل على ما زعموه من امتياز القسم المكي بمميزات الأوساط المنحطة بل القصر مظهر الإيجاز والإيجاز مظهر رقي المخاطب وآية فهمه وذكائه بحيث يكفيه من الكلام موجزه ومن الخطاب أقصره. أما من كان دونه ذكاء وفهما فلا سبيل إلى إفادته إلا بالإسهاب والبسط إن لم يكن بالمساواة والتوسط.
ولهذا المعنى جاء قسم القرآن المكي قصيرا موجزا في معظمه وجاء قسم المدني طويلا مسهبا في أكثره. ويرجع ذلك إلى ما أشرنا إليه قبلا من أن القرشيين في مكة كانوا في الذؤابة من قبائل العرب ذكاء وألميعة وفصاحة وبلاغة وشرفا وشجاعة فلا بدع أن يخاطبهم القرآن بالقصير من سوره وآياته رعاية لحق قانون البلاغة والبيان في خطاب الذكي النابه بغير ما يخاطب به من كان دونه. ولا يقدح في مزايا المكيين هذه أنهم كانوا أميين لم يستنيروا بثقافة المدنيين فللثقافة والاستنارة ميدان وللذكاء والتمهر في البيان ميدان وأهل المدينة لم يكونوا على استنارتهم ليبلغوا شأن قريش في تلك الخصائص والمزايا وكان منهم أهل كتاب درجوا على ألا يستفيدوا إلا بالتطويل ولا يقنعوا إلا ببسط الكلام.
ومن هنا تعرف مبلغ ما في هذه الشبهة من زيف وكذب فيما رتبوه على هذا من أن القرآن كان نتيجة لتأثر محمد بانحطاط أهل مكة في القسم المكي وباستنارة أهل المدينة في القسم المدني حتى جاء قرآنه قصيرا في الأول طويلا في الثاني.
رابعا - أن القرآن قد تحدى الناس جميعا مكيهم ومدنيهم وعربيهم وعجميهم أن يأتوا ولو بمثل أقصر سورة من تلك السور القصيرة فعجزوا أجمعين وأسلم المنصفون منهم لله رب العالمين. فلو كان القصر أثرا للانحطاط كما يقول أولئك المرجفون لكان في مقدور الممتاز غير المنحط أن يأتي بمثل ذلك المنحط بل بأرقى منه {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} .
وإذا أراد أولئك المتقولون أن يعللوا القصر والطول بأن المكي لم يتعرض لتفاصيل التشريع بخلاف المدني فإليك هذه الشبهة وتمحيصها فيما يليك.

الشبهة الثالثة
...
الشبهة الثالثة
يقولون: إن القسم المكي خلا من التشريع والأحكام بينما القسم المدني مشحون بتفاصيل التشريع والأحكام
وذلك يدل على أن القرآن من وضع محمد وتأليفه تبعا لتأثره بالوسط الذي يعيش فيه فهو حين كان بمكة بين الأميين جاء قرآنه المكي خاليا من العلوم والمعارف العالية ولما حل بالمدينة بين أهل الكتاب المثقفين جاء قرآنه المدني مليئا بتلك العلوم والمعارف العالية.
وننقض هذه الشبهة:
أولا - بأن القسم المكي لم يخل جملة من التشريع والأحكام بل عرض لها وجاء عليها ولكن بطريقة إجمالية فإن مقاصد الدين خمسة:
1- الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره.
2 - وحفظ النفس.
3 - وحفظ العقل.
4 - وحفظ النسل.
5 - وحفظ المال. وقد تحدث القسم المكي عنها إجمالا. اقرأ إن شئت قوله تعالى من سورة الأنعام المكية: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} إلى تمام ثلاث آيات بعدها جمعت الوصايا العشر لهذه المقاصد الخمسة. ولا يخفى عليك أن آيات العقائد في القسم المكي ظاهرة واضحة وكثيرة شائعة،

ليست من موضوع الاشتباه ولا يختلف اثنان في أنها أكثر من مثيلاتها في السور المدنية بأضعاف الأضعاف.
ثانيا - أن كثرة التفاصيل في تشريع الأحكام بالمدينة ليس نتيجة لما زعموه. إنما هو أمر لا بد منه في سياسة الأمم وتربية الشعوب وهداية الخلق. ذلك أن الطفرة حليفة الخيبة والفشل والتدرج حليف التوفيق والنجاح وتقديم الأهم على المهم واجب في نظر الحكمة. لهذا بدأ الله عباده في مكة بما هو أهم: بدأهم بإصلاح القلوب وتطهيرها من الشرك والوثنية وتقويمها بعقائد الإيمان الصحيح والتوحيد الواضح حتى إذا استقاموا على هذا المبدأ القويم وشعروا بمسؤولية البعث والجزاء وتقررت فيهم هذه العقائد الراشدة فطمهم عن أقبح العادات وأرذل الأخلاق وقادهم إلى أصول الآداب وفضائل العادات ثم كلفهم ما لا بد منه من أمهات العبادات. وهذا ما كان في مكة. ولما مرنوا على ذلك وتهيأت نفوسهم للترقي والكمال بتطاول الأيام والسنين وكانوا وقتئذ قد هاجروا إلى المدينة جاءهم بتفاصيل التشريع والأحكام وأتم عليهم نعمته ببيان دقائق الدين وقوانين الإسلام.
ونظير ذلك ما تواضع عليه الناس قديما وحديثا في سياسة التعليم من أنهم يلقنون البادئين في مراحل التعليم الأولى أخف المسائل وأوجزها فيما يشبه قصار السور ومختصر القصص حتى إذا تقدمت بهم السن وعظم الاستعداد تلاطم بحر التعليم وزاد على حد قولهم: الإمداد على قدر الاستعداد.
أما ما زعموه من أن ذلك كان نتيجة لاختلاط محمد بأهل المدينة المستنيرين فينقضه أن القرآن جاء يصلح عقائد أهل الكتاب وأخطاءهم في التشريع وفي التحليل والتحريم وفي الأخبار والتواريخ فكيف يأخذ المصيب من المخطئ؟ وهل
يستمد الحي حياته من ميت اقرأ إن شئت قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} الخ. وقوله جل ذكره: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْأِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ} ؟ الخ وقوله عز اسمه: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرائيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ} الخ وهذه الآيات من سورة آل عمران. وقوله تعالت قدرته من سورة المائدة {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ} الخ.
ثالثا: أن ما زعموه لو كان صحيحا لظهر أثر أهل الكتاب المدنيين فيمن معهم من عرب أهل المدينة وفيمن حولهم من أهل مكة وآفاق الجزيرة ولكانوا هم الأحرياء بهذه النبوة والرسالة ولسبق محمدا إليها كثير غيره من فصحاء العرب وتجار قريش الذين كانوا يختلطون بأهل الكتاب في المدينة والشام أيما اختلاط.
رابعا: أن القرآن تحدى الكافة من مكيين ومدنيين بل من جن وإنس فهلا كان أساتذته أولئك يستطيعون أن يجاروه ولو في مقدار سورة قصيرة واحدة يا لها فرية ثم يا لها صفاقة.
هذا كلام له خبئ ... معناه ليست لنا عقول

الشبهة الرابعة
...
الشبهة الرابعة
يقولون: إن القرآن أقسم كثيرا بالضحى والليل والتين والزيتون وطور سينين وكثير من المخلوقات. ولا ريب أن القسم بالأشياء الحسية يدل على تأثر القرآن بالبيئة في مكة لأن القوم فيها كانوا أميين لا تعدو مداركهم حدود الحسيات. أما بعد الهجرة واتصال محمد بأهل المدينة وهم قوم مثقفون مستنيرون،
فقد تأثر القرآن بهذا الوسط الراقي الجديد وخلا من تلك الأيمان الحسية الدالة على البساطة والسذاجة.
وهذه الشبهة مدفوعة:
أولا: بما قدمنا من أن أهل مكة كانوا أرقى ذوقا وأعلى كعبا وأعظم ذكاء من أهل المدينة وأن الخطاب معهم كان ملحوظا فيه اشتماله على أسرار وخصائص لا يدركها إلا المتفوقون والمتمهرون في صناعة البيان. فلا يستقيم إذن ما زعموه من أن مدارك أهل مكة كانت لا تعدو حدود الحسيات. والتاريخ خير شاهد وأعدل حاكم بامتياز العرب في مكة عن سائر القبائل على عهد نزول القرآن.

ثانيا: أن القسم بالأمور الحسية في القرآن كالضحى والليل ليس منشؤه انحطاط القوم كما يزعمون إنما منشؤه رعاية مقتضى الحل فيما سبق القسم لأجله وذلك أن القرآن كان بصدد علاج أفحش العقائد فيهم وهي عقيدة الشرك. ولا سبيل إلى استئصال هذه العقيدة وإقامة صرح التوحيد على أنقاضها إلا بلفت عقولهم إلى ما في الكون من شؤون الله وخلق الله وإلا بفتح عيونهم على طائفة كبيرة من نعم الخلق المحيطة بهم ليصلوا من وراء ذلك إلى أن يؤمنوا بالله وحده ما دام هو الخالق وحده لأنه لا يستحق العبادة عقلا إلا من كان له أثر الخلق في العالم فعلا. {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} ؟.
فعرض بعض المخلوقات على أنظار الجاحدين بالتوحيد بعد إقرارهم أن ليس لها خالق إلا الله إلزام لهم بطرح الشرك وتوحيد الخالق. وهذا مطمح نبيل أجاد القرآن في أساليب عرض نعم الله عليهم من أجله وكان في إجادته هذه موفيا على الغاية وأصلا إلى قمة الإعجاب كعادته متفننا في ذكر النعم منوعا في سردها وبيانها
فمرة يحدث عن خلق السماء ومرة عن خلق الأرض وثالثة عن أنفسهم ورابعة عن أنواع الحيوان والنبات والجماد وهلم جرا. وتارة يختار القرآن في عرضه طريقة السرد والشرح،
وتارة يختار طريقة الحلف والقسم لأن في الحلف والقسم معنى العظمة التي أودعها الله في هذه النعم دالة على توحيده وعظمته حتى صح أن يدور القسم عليها وأن يجيء الحلف بها.
ومن هنا أقسم الله بما أقسم من الأمور الحسية والمعنوية فالأمور الحسية كما ذكرنا والمعنوية مثل القرآن الكريم في قوله سبحانه: {وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} لينبههم إلى مدى إنعامه عليهم بتلك الأقسام كلها حسيها ومعنويها فيرعووا عن شركهم بتلك الآلهة المزيفة التي لا تملك ضرا ولا نفعا وليس لها أي شأن في هذا الخلق. على حد قوله سبحانه في سورة الأحقاف: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} .
وأنت خبير بأن المصاب بداء الشرك لا سبيل إلى إنقاذه منه إلا بمثل هذه الطريقة المثلى التي سلكها القرآن بعرض دلائل التوحيد من آيات الله في الآفاق على أنظار المشركين وهذا سبيل متعين في خطاب كل مشرك ولو كان واحد الفلاسفة ووحيد العباقرة وأستاذ المثقفين والمستنيرين. فحلف القرآن بأمثال هاتيك المخلوقات والحسيات ليس دالا على سذاجة المخاطبين وانحطاطهم وليس بالتالي سبيلا إلى الطعن في القرآن بأنه كلام محمد المتأثر بانحطاط البيئة المكية كما يرجفون: {إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ} .
ثالثا: أن في مضامين تلك الأقسام بالحسيات أسرارا تنأى بها عن السذاجة والبساطة وتشهد ببراعة المخاطبين بها وتفوقهم في الفهم والذكاء والفصاحة و البيان.
ذلك أن القسم بها كما قلنا إشارة إلى الأسرار العظيمة التي وضعها الله في تلك الأمور التي أقسم بها. حتى صح أن يكون مقسما بها. وتلك الأسرار لا يدركها إلا اللبيب لأنها غير مشروحة ولا مفسرة في القرآن الكريم فلا يفهمها إلا من كمل عقله وسلم ذوقه. ولنشرح لك بعض الأسرار ليتبين الحال ولا يبق للشبهة مجال.
المثال الأول: أقسم الله سبحانه بالضحى والليل في قوله: {وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} وسبب نزول هذه الآيات: أن النبي صلى الله عليه وسلم فتر عنه الوحي مرة لا ينزل بقرآن فرماه أعداؤه بأن ربه ودعه وقلاه أي تركه وأبغضه فنزلت هذه الآيات مصدرة بهذا القسم مشيرة إلى أن ما كان من سطوع الوحي على قلبه صلى الله عليه وسلم بمنزلة الضحى تقوى به الحياة وتنمى به الناميات وما عرض بعد ذلك من فترة الوحي فهو بمنزلة الليل إذا سجى لتستريح فيه القوى وتستعد فيه النفوس لما يستقبلها من العمل. ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لاقى من الوحي شدة أول أمره حتى جاء إلى خديجة رضي الله عنها ترجف بوادره كما هو معروف في حديث الصحيحين. فكانت فترة الوحي لتثبيته عليه الصلاة والسلام وتقوية نفسه على احتمال ما يتوالى عليه منه حتى تتم به حكمة الله في إرساله إلى الخلق. ولهذا قال له: {وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى} أي إن كرة الوحي ثانيا سيكمل بها الدين وتتم بها نعمة الله على أهله وأين بداية الوحي من نهايته؟ وأين إجمال الدين الذي جاء في قوله {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} الخ من تفصيل العقائد والأحكام الذي جاء في مثاني القرآن ثم زاد الأمر تأكيدا بقوله {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} .
فمن هذا نعلم أن الحلف بالضحى والليل في هذا المقام ليس مجرد تذكير
بآياته ونعمه فحسب. بل هو أيضا إقامة دليل على أن تنزل الوحي أشبه بضحوة النهار وأن فترة الوحي أشبه بهدأة الليل فإذا كانوا يتقبلون الضحى والليل بالرضا والتسليم لما فيهما من نفع الإنسان بالسعي والحركة والحياة بالنهار والنوم والاستجمام بالليل يجب أن يتقبلوا أيضا ما يجري على محمد صلى الله عليه وسلم من نزول الوحي وفترته للمعنى الذي سلف.
المثال الثاني: أقسم الله سبحانه بالتين والزيتون في قوله جل ذكره: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ، وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ، لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} قال العلامة المرحوم الشيخ محمد عبده عند تفسيره لهذه السورة ما نصه:
وقد يرجح أنهما أي التين والزيتون النوعان من الشجر ولكن لا لفوائدهما كما ذكروا بل لما يذكران به من الحوادث العظيمة التي لها الآثار الباقية في أحوال البشر. قال صاحب هذا القول: إن الله تعالى أراد أن يذكرنا بأربعة فصول من كتاب الإنسان الطويل فإنه كان يستظل في تلك الجنة التي كان فيها بورق التين وعندما بدت له ولزوجته سوآتهما طفقا يخصفان عليهما من ورق التين. والزيتون إشارة إلى عهد نوح عليه السلام وذريته وذلك أنه بعد أن فسد البشر وأهلك من أهلك منه بالطوفان ونجى نوح في سفينته واستقرت السفينة نظر نوح إلى ما حوله فرأى المياه لا تزال تغطي وجه الأرض فأرسل بعض الطيور لعله يأتي إليه بخبر انكشاف الماء عن بعض الأرض فغاب ولم يأت بخبر فأرسل طيرا آخر فرجع إليه يحمل ورقة من شجر الزيتون فاستبشر وسر وعرف أن غضب الله قد سكن وقد أذن للأرض أن تعمر ثم كان منه ومن أولاده تجديد القبائل البشرية العظيمة في الأرض التي امحى عمرانها فعبر عن ذلك الزمن بزمن الزيتون. والإقسام هنا بالزيتون للتذكير بتلك الحادثة وهي من أكبر ما يذكر من الحوادث.
{وَطُورِ سِينِينَ} إشارة إلى عهد الشريعة الموسوية وظهور نور التوحيد في العالم،
بعد ما تدنست جوانب الأرض بالوثنية وقد استمر الأنبياء بعد موسى يدعون قومهم إلى التمسك بتلك الشريعة إلى أن كان آخرهم عيسى صلى الله عليه وسلم جاء مخلصا لروحها مما عرض عليه من البدع. ثم طال الأمد على قومه فأصابهم ما أصاب من قبلهم من الاختلاف في الدين وحجب نوره بالبدع وإخطاء معناه بالتأويل وإحداث ما ليس منه بسبيل فمن الله على البشر ببداية تاريخ ينسخ جميع تلك التواريخ ويفصل بين ما سبق من أطوار الإنسانية وبين ما يلحق وهو عهد ظهور النور المحمدي من مكة المكرمة. وإليه أشار بذكر البلد الأمين. وعلى هذا القول الذي فصلنا بيانه يتناسب القسم والمقسم عليه. ا. هـ ما أردنا نقله.

الشبهة الخامسة
...
الشبهة الخامسة
يقولون إن القسم المكي من القرآن قد اشتمل على لغو من الكلام في كثير من فواتح السور مثل الم وكهيعص. وذلك يبطل دعوى المسلمين أن القرآن بيان للناس وهدى وأنه كلام الله. وأي بيان وأي هدى في قوله: {الم} وقوله: {كهيعص} ؟ بل هذه الأحرف وأمثالها في غاية البعد عن الهدى بدليل أنه لم يهتد أحد منهم ولا الراسخون في العلم لإدراك معناها فالخطاب بها كالخطاب بالمهمل وإنما هذه الألفاظ من وضع كتبه محمد من اليهود تنبيها على انقطاع كلام واستئناف آخر ومعناها أوعز إلي محمد أو أمرني محمد يشيرون بذلك إلى براءتهم من الإيمان بما يأمرهم بكتابته. وقريب من هذا قول بعضهم: إن الحروف العربية غير المفهومة المفتتح بها أوائل بعض السور إما أن يكون قصد منها التعمية أو التهويل أو إظهار القرآن في مظهر عميق مخيف أو هي رمز للتمييز بين المصاحف المختلفة ثم ألحقها مرور الزمن بالقرآن فصارت قرآنا.

وننقض هذه الشبهة بأمور:
أولها: أنه لم يكن للرسول صلى الله عليه وسلم كتبة من اليهود أبدا. وها هو التاريخ حاكم عدل لا يرحم ولا يحابي فليسألوه إن كانوا صادقين.

ثانيا: أنه لا دليل لهم أيضا على أن فواتح هذه السور تستعمل في تلك المعاني التي زعموها وهي أوعز إلي محمد أو أمرني محمد لا عند اليهود ولا عند غيرهم في أية لغة من لغات البشر.
ثالثها: أن اليهود لم يعرف عنهم الطعن في القرآن بمثل هذا. ولو كان هذا مطعنا عندهم لكانوا أول الناس جهرا به وتوجيها له لأنهم كانوا أشد الناس عداوة النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين يتمنون أن يجدوا في القرآن مغمزا من أي نوع يكون ليهدموا به دعوة الإسلام. كيف وهم يكفرون به حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق؟
رابعها: أن اشتمال القرآن على كلمات غير ظاهرة المعنى لا ينافي وصف القرآن بأنه بيان للناس وهدى ورحمة فإن هذه الأوصاف يكفي في تحققها ثبوتها للقرآن باعتبار جملته ومجموعة لا باعتبار تفصيله وعمومه الشامل لكل لفظ فيه. ولا ريب أن الكثرة الغامرة في القرآن كلها بيان للتعاليم الإلهية وهداية للخلق إلى الحق ورحمة للعالم من وراء تقرير أصول السعادة في الدنيا والآخرة.
وهذا الجواب مبني على أحد رأيين للعلماء في فواتح تلك السور وهو أن المعنى المقصود غير معلوم لنا بل هو من الأسرار التي استأثر الله بعلمها ولم يطلع عليها أحد من خلقه. وذلك لحكمة من حكمة تعالى السامية وهي ابتلاؤه سبحانه وتمحيصه لعباده حتى يميز الخبيث من الطيب وصادق الإيمان من المنافق بعد أن أقام لهم أعلام بيانه ودلائل هدايته وشواهد رحمته في غير تلك الفواتح من كتابه بين آيات وسور كثيرة لا تعتبر تلك الفواتح في جانبها إلا قطرة من بحر أو غيضا من فيض.
فأما الذين آمنوا فيعلمون أن هذه الفواتح حق من عند ربهم ولو لم يفهموا معناها ولم يدركوا مغزاها ثقة منهم بأنها صادرة من لدن حكيم عليم عمت حكمته ما خفي وما ظهر من معاني كتابه ووسع علمه كل شيء عرفه الخلق أو لم يعرفوه من أسرار تنزيله. {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} .
{فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} .
ونظير ذلك أن يكون لك أصدقاء تريد أن تعرفهم أو تعرف منهم مدى صداقتهم لك فتبتليهم بأمور يزل عندها المزيفون ويظهر الصادقون.
على حد قول القائل:
وعلى حد المثل القائل: إن أخاك من واساك.
ابل الرجال إذا أردت إخاءهم ... وتوسمن فعالهم وتفقد
فإذا ظفرت بذي اللبانة والتقى ... فبه اليدين قرير عين فاشدد
ونظير ذلك أيضا أن تكون أستاذا معلما وتريد أن تقف على مدى انتباه تلاميذك ومبلغ ثقتهم فيك وفي علمك بعد أن زودتهم منك بدراسات واسعة وتعاليم واضحة فإنك تختبرهم في بعض الأوقات بكلمات فيها شيء من الإلغاز والخفاء ليظهر الذكي من الغبي والواثق بك الوامق لك من المتشكك فيك المتردد في علمك وفضلك. فأما الواثق فيك فيعرف أن تلك الألغاز والمعميات صدرت عن علم منك بها وإن لم يعلم هو تفسيرها ويعرف أن لك حكمة في إيرادها على هذه الصورة من الخلفاء وهي الاختبار والابتلاء. وأما المتشكك فيك فيقول: ماذا أراد بهذا؟ وكيف ساغ له أن يورده؟ وما مبلغ العلم الذي فيه؟ ثم ينسى تلك المعارف الواسعة الواضحة التي زودته بها من قبل ذلك وكلها من أعلام العلم وآيات الفضل.
ولا يفوتنك في هذا المقام أن تعرف أن إبتلاء الله لعباده ليس المراد منه أن يعلم سبحانه ما كان جاهلا منهم حاشاه حاشاه فقد وسع كل شيء علما. إنما المقصود منه إظهار مكنونات الخلق وإقامة الحجج عليهم من أنفسهم فلا يتهمون الله في عدله وجزائه إذا جعل من الناس أهلا لثوابه وآخرين لعقابه. {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} .
الرأي الثاني في فواتح السور أن لها معنى مقصودا معلوما. قالوا: لأن القرآن كتاب هداية والهداية لا تتحقق إلا بفهم المعنى خصوصا أننا أمرنا بتدبر القرآن والاستنباط منه وهذا لا يكون إلا إذا فهم المعنى أيضا.
غير أن أصحاب هذا الرأي تشعبت أقوالهم في بيان هذا المعنى المقصود بفواتح تلك السور فذهب بعضهم إلى أن فاتحة كل سورة اسم للسورة التي افتتحت بها واستدلوا بآثار تفيد ذلك منها ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يس قلب القرآن" وقوله: "من قرأ السجدة حفظ إلى أن يصبح" . ومنها اشتهار بعض السور بالتسمية بها. ثم إن ورودها في فواتح سور مختلفة بلفظ واحد ينافي كونها أسماء للسور. بل شأنها في ذلك شأن الأعلام المشتركة اشتراكا لفظيا كلفظ محمد المسمى به أشخاص كثيرون. فيضم إلى اسم كل منهم ما يميز مسماه عن غيره فيقال: محمد المصري ومحمد الشامي مثلا. وكذلك فواتح السور يقال فيها: الم البقرة والم آل عمران وحم السجدة وهلم جرا.
وبعضهم ذهب إلى أنها للحروف الهجائية التي وضعت بإزائها. وهؤلاء منهم من قال: إن المقصود من ذلك هو إفهام المخاطبين أن الذي سيتلى عليهم من الكلام الذي عجزوا عن معارضته والإتيان بمثله إنما تركب من مثل هذه الحروف التي في الفواتح وهي معروفة لهم يتخاطبون بما يدور عليها ولا يخرج عنها.
ومنهم من قال: إن المقصود منها هو الدلالة على انتهاء سورة والشروع في أخرى. ومنهم من قال: إن المقصود منها القسم بها لإظهار شرفها وفضلها إذ هي مبنى كتبه المنزلة. ومنهم من قال: إن المقصود منها بيان نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من ناحية أنه ينطق بأسامي الحروف مع أنه أمي لم يقرأ ولم يكتب والمعروف أن النطق بأسامي الحروف من شأن القارئ وحده لا سبيل للأمي إلى معرفتها ولا النطق بها فإتيانه بها وترديده لها دليل مادي أمامهم على أنه لا يأتي بهذا القرآن من تلقاء نفسه إنما يتلقاه من لدن حكيم عليم.
ومنهم من قال: إن المقصود منها هو تنبيه السامعين وإيقاظهم. وذلك أن قرع السمع في أول الكلام بما يعيي النفوس فهمه أو بالأمر الغريب دافع لها أن تصغي وتتيقظ وتتأمل وتزداد إقبالا: فهي كوسائل التشويق التي تعرض في مقدمة الدرس على منهج التربية الحديثة في التعليم.
ومنهم من قال: إن المقصود منها سياسة النفوس المعرضة عن القرآن واستدراجها إلى الاستماع إليه. والمعروف أن أعداء الإسلام في صدر الدعوة كان يقول بعضهم لبعض: {لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} .
فلما أنزلت السور المبدوءة بحروف الهجاء وقرع أسماعهم ما لم يألفوا التفتوا وإذا هم أمام آيات بينات استهوت قلوبهم واستمالت عقولهم فآمن من أراد الله هدايته وشارف الإيمان من شاء الله تأخيره وقامت الحجة في وجه الطغاة المكابرين وأخذت عليهم الطرق فلا عذر لهم في الدنيا ولا يوم الدين.

وقال العلامة المرحوم الشيخ طنطاوي جوهري في تفسيره لسورة آل عمران ما نصه:
اعلم أن القرآن كتاب سماوي. والكتب السماوية تصرح تارة وترمز تارة أخرى. والرمز والإشارة من المقاصد السامية والمعاني والمغازي الشريفة. وقديما كان ذلك في أهل الديانات ألم تر إلى اليهود الذين كانوا منتشرين في المدينة وفي بلاد الشرق أيام النبوة كيف كانوا يصطلحون فيما بينهم على أعداد الجمل المعروفة اليوم في الحروف العربية فيجعلون الألف بواحد والباء باثنين والجيم بثلاثة والدال بأربعة وهكذا مارين على الحروف الأبجدية إلى الياء بعشرة والكاف بعشرين وهكذا إلى القاف بمائة والراء بمائتين وهكذا إلى الغين بألف كما ستراه في هذا المقام.
كذلك ترى أن النصارى في إسكندرية ومصر وبلاد الروم وفي سوريا قد اتخذوا الحروف رموزا دينية معروفة فيما بينهم أيام نزول القرآن. وكانت اللغة اليونانية هي اللغة الرسمية في مصر. وكانوا يرمزون بلفظ إكسيس لهذه الجملة: يسوع المسيح ابن الله المخلص فالألف من إكسيس هي الحرف الأول من لفظ إيسوس يسوع.
والكاف منها هي الحرف الأول من كرستوس المسيح. والسين منها هي حرف الثاء التي تبدل منها في النطق في لفظ ثبو الله. والياء منها تدل على ايوث ابن. والسين الثانية منها تشير إلى ثوتير المخلص. ومجموع هذه الكلمات: يسوع المسيح ابن الله المخلص. ولفظ إكسيس اتفق أنه يدل على معنى سمكة فأصبحت السمكة عند هؤلاء رمزا لإلههم.
فانظر كيف انتقلوا من الأسماء إلى الرمز بالحرف ومن الرمز بالحرف إلى الرمز بحيوان دلت عليه الحروف.
قال الحبر الإنجليزي صموئيل موننج: إنه كان يوجد كثيرا في قبور رومة صور أسماك صغيرة مصنوعة من الخشب والعظم. وكان كل مسيحي يحمل سمكة إشارة للتعارف فيما بينهم ا هـ.
فإذا كان ذلك من طبائع الأمم التي أحاطت بالبلاد العربية وتغلغلت فيها ونزل
القرآن لجميع الناس من عرب وعجم كان لا بد أن يكون على منهج يلذه الأمم ويكون فيه ما يألفون
وستجد أنه لا نسبة بين الرموز التي في أوائل السور وبين الجمل عند اليهود ورموز النصارى إلا كالنسبة بين علم الرجل العاقل والصبي أو بين علم العلماء وعلم العامة. وبهذا تبين لك أن اليهود والنصارى كان لهم رموز وكانت رموز اليهود هي حروف الجمل.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: مر أبو ياسر بن أخطب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتلو سورة البقرة: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} ثم أتى أخوه حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف فسألوه عن {الم} وقالوا: ننشدك الله الذي لا إله إلا هو أحق أنها أتتك من السماء؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((نعم كذلك نزلت)) . فقال حيي: إن كنت صادقا إني لأعلم أجل هذه الأمة من السنين. ثم قالوا: كيف ندخل في دين رجل دلت هذه الحروف بحساب الجمل على أن منتهى أجل أمته إحدى وسبعون سنة فضحك النبي صلى الله عليه وسلم. فقال حيي: فهل غير هذا؟ فقال: "نعم {المص} " . فقال حيي: هذا أكثر من الأول هذا مائة وإحدى وستون سنة فهل غير هذا؟ قال: "نعم {الر} " فقال حيي: هذا أكثر من الأولى والثانية فنحن نشهد إن كنت صادقا ما ملكت أمتك إلا مائتين وإحدى وثلاثين سنة. فهل غير هذا؟ فقال: "نعم {المر} " . قال حيي: فنحن نشهد أنا من الذين لا يؤمنون ولا ندري بأي أقوالك نأخذ. فقال أبو ياسر: أما أنا فأشهد على أن أنبياءنا قد أخبرونا عن ملك هذه الأمة ولم يبينوا أنها كم تكون؟ فإن كان محمد صادقا فيما يقول إني لأراه سيجتمع له هذا كله. فقام اليهود وقالوا اشتبه علينا أمرك كله فلا ندري أبالقليل نأخذ أم بالكثير؟
فبهذا تعرف أيها الذكي أن الجمل كانت للتعارف عند اليهود وهو نوع من
الرموز الحرفية فكانت هذه الحروف لا بد من نزولها في القرآن ليأخذ الناس في فهمها كل مذهب ويتصرف الفكر فيها.
ولأقتصر لك مما قرأته على ثلاث طرائق فيما ترمز إليه هذه الحروف:
الطريقة الأولى: أن تكون هذه الحروف مقتطعات من أسماء الله كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: الألف آلاء الله واللام لطفه والميم ملكه. وعنه أن آلر وحم ون مجموعها الرحمن. وعنه أن آلم معناه أنا الله أعلم ونحو ذلك في سائر الفواتح. وعنه أن الألف من الله واللام من جبريل والميم من محمد أي القرآن منزل من الله بلسان جبريل على محمد عليهما الصلاة والسلام. أقول: إنما أراد ابن عباس بذلك أن تكون الحروف مذكرة بالله عز وجل في أكثر الأحوال وذكر الله أجل شيء. ويرجع الأمر إلى أنها أسماء مرموز لها بالحروف كما تقدم عن الأمم السالفة من النصارى في اسكندرية ورومة. ولكن لا بد أن يكون هناك ما هو أعلى وأجل.
الطريقة الثانية: أن هذه الحروف من أعجب المعجزات والدلالات على صدق النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا مما ترضاه النفوس. ألا ترى أن حروف الهجاء لا ينطق بها إلا من تعلم القراءة.
وهذا النبي صلى الله عليه وسلم الأمي قد نطق بها. والذي في أول السور أربعة عشر حرفا منها وهي كلها ثمانية وعشرون حرفا إن لم تعد الألف حرفا برأسه فالأربعة عشر نصفها. وقد جاءت في تسع وعشرين سورة وهي عدد الحروف الهجائية إذا عدت فيها الألف.
وقد جاءت من الحروف المهموسة العشرة وهي فحثه شخص سكت بنصفها وهي الحاء والهاء والصاد والسين والكاف.

ومعلوم أن الحروف إما مهموسة أي يضعف الاعتماد عليها وهي ما تقدم وإما مجهورة وهي ثمانية عشر نصفها وهو تسعة ذكرت في فواتح السور ويجمعها "لن يقطع أمر".
والحروف الشديدة ثمانية وهي أجدت طبقك أربعة منها في الفواتح وهي "أقطك".
والحروف الرخوة عشرون وهي الباقية نصفها عشرة وهي في هذه الفواتح. يجمعها "حمس على نصره".
والحروف المطبقة أربعة الصاد والضاد والطاء والظاء. وفي الفواتح نصفها: الصاد والطاء.
وبقية الحروف وهي أربعة وعشرون حرفا تسمى منفتحة نصفها وهو اثنا عشر في الفواتح المذكورة.
فانظر كيف أتى في هذه الفواتح بنصف الحروف الهجائية إن لم تعد الألف وجعلها في تسع وعشرون سورة عدد الحروف وفيها الألف؟ وكيف أتى بنصف المهموسة ونصف المجهورة ونصف الشديدة ونصف الرخوة ونصف المطبقة ونصف المنفتحة؟.
ولقد ذكرت لك قلا من كثر مما ذكره العلماء في هذا المقام ولا أطيل عليك خيفة السآمة والملل وكفاك ما أمليته عليك في هذه الطريقة الثانية لتعرف كيف أتى بهذه الأوصاف؟ وكيف وضعت الحروف على هذا النظام؟.
وإني موقن أن المتعلم لو طلب منه أن يأتي بهذه الحروف منصفة على هذا الوجه ما استطاع إلى ذلك سبيلا فإنه إن راعى نصف الحروف المطبقة فكيف يراعي الحروف الشديدة؟ وكيف يراعي نصف المجهورة في نفس العدد؟.
إن ذلك دلائل على صدق صاحب الدعوة صلى الله عليه وسلم. ففائدة هذا الوجه أهم من الوجه الأول فالأول فائدته تذكير الإنسان بأسماء الله تعالى. وأما الوجه الثاني ففيه إعجاز للعقول وحيرة. فيقال: كيف تنصف الحروف الهجائية وتنصف أنواعها من مهموسة
وشديدة الخ.
وهذه الأنواع لم يدرسها أحد في العالم أيام النبوة. ثم لما ظهرت تلك الدراسات وافقت تلك الحروف بأنصافها.

إن ذلك ليعطي العقول مثلا من الغرابة الدالة على أن هذا لا يقدر عليه المتعلمون فإذا هو من الوحي. وهذا الوجه على قوته يفضله ما بعده.
الطريقة الثالثة: أن الله تعالى خلق العالم منظما محكما متناسقا متناسبا. والكتاب السماوي إذا جاء مطابقا لنظامه موافقا لإبداعه سائرا على منهاجه دل ذلك على أنه من عنده. وإذا جاء الكتاب السماوي مخالفا لنهجه منافرا لفعله منحرفا عن سننه كان ذلك الكتاب مصطنعا مفتعلا منقولا مكذوبا {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} .
والعالم المشاهد فيه عدد الثمانية والعشرين. وذلك فيما يأتي:
1- مفاصل اليدين في كل يد أربعة عشر.
2- خرزات عمود ظهر الإنسان منها أربع عشرة في أسفل الصلب وأربع عشرة في أعلاه.
3- خرزات العمود التي في أصلاب الحيوانات التامة الخلقة كالبقر والجمال والحمير والسباع وسائر الحيوانات التي تلد أولادها منها أربع عشرة في مؤخر الصلب وأربع عشرة في مؤخر البدن.
4- عدد الريشات التي في أجنحة الطير المعتمدة عليها في الطيران أربع عشرة ريشة ظاهرة في كل جناح.
5- عدد الخرزات التي في أذناب الحيوانات الطويلة الأذناب كالبقر والسباع.
6- عمود صلب الحيوانات الطويلة الخلقة كالسمك والحيات وبعض الحشرات.
7- عدد الحروف التي في لغة العرب التي هي أتم اللغات ثمان وعشرون حرفا.
منها أربعة عشرة يدغم فيها لام التعريف وهي: ت ث د ذ ر ز س ش ص ض ط ظ ل ن. وأربعة عشر لا تدغم اللام فيها وهي: أ ب ج ح خ ع غ ف ق ك م ه و ي.
8- والحروف التي تخط بالقلم قسمان: منها أربعة عشر معلمة بالنقط وهي: ب ت ث ج خ ذ ز ش ض ظ غ ف ق ن وأربعة عشر غير معلمة وهي: ا ح د ر س ص ط ع ك و ه ل م لا. وهذا الحرف هو الألف التي هي من حروف العلة. أما الأولى فهي الهمزة. فهذه أربعة عشر حرفا. وبقيت الياء وهي تنقط في وسط الكلمة ولا تنقط في آخرها. فأصبحت الحروف المعلمة أربعة عشر وغير المعلمة أربع عشر والحرف التاسع والعشرون معلم وغير معلم لتكون القسمة عادلة.
والفضل في هذا العدل للحكيم الذي وضع حروف الهجاء العربية فإنه كان حكيما والحكيم هو الذي يتشبه بالله بقدر الطاقة البشرية.
وهذا جعل ثمانية وعشرين حرفا مقسمة قسمين كل منها أربعة عشر كما في مفاصل اليدين وفقرات بعض الحيوانات.

9- منازل القمر ثمان وعشرون منزلة في البروج الشمالية أربع عشرة وفي الجنوبية أربع عشرة. فهذا يفيد أن الموجودات التي عددها ثمانية وعشرون تكون قسمين كل منهما أربعة عشر. فهكذا هنا في القرآن جاءت الحروف العربية مقسمة قسمين قسم منهما أربعة عشر منطوق به في أوائل السور وقسم منهما أربعة عشر غير منطوق به في أوائلها. وكأنه تعالى يقول أي عبادي إن منازل القمر ثمان وعشرون وهي قسمان ومفاصل الكف ثمانية وعشرون وهي قسمان وهكذا.
والحروف التي تدغم في حرف التعريف والتي هي معلمة كل منها أربعة عشر. وضدها أربعة عشر فلتعلموا أن هذا القرآن هو تنزيل مني لأني نظمت حروفه على هذا النمط الذي أخترته في صنع المنازل والأجسام الإنسانية والأجسام الحيوانية ونظام الحروف الهجائية فمن أين لبشر كمحمد أو غيره
.
أن ينظم هذا النظام ويجعل هذه الأعداد موافقة للنظام الذي وضعته والسنن الذي رسمته والنهج الذي سلكته؟ إن القرآن تنزيل مني وقد وضعت هذه الحروف في أوائل السور لتستخرجوا منها ذلك فتعلموا أني ما خلقت السموات والأرض وما بينهما باطلا بل جعلت النظام في العالم وفي الوحي متناسبا. وهذا الكتاب سيبقى إلى آخر الزمان ولغته ستبقى معه إلى آخر الأجيال. إن اللغات متغيرة وليس في العالم لغة تبقى غير متغيرة إلا التي حافظ عليها دين. وهل غير اللغة العربية حافظ عليها دين؟.
هذا ولا يخفى عليك أن ذاك الرأي الثاني في فواتح السور أبلغ في نقض الشبهة من الرأي الأول لأنه ينفي ما زعموه من أساس الاتهام وهو أنه ليس لهذه الفواتح معنى مفهوم ويقرر أن معانيها مفهومة على ما تبين في تلك الوجوه السابقة. وإذا كان بعض الناس لا يفهم تلك المعاني فليس ذلك عيبا في القرآن إنما هو عيب في استعداد بعض أفراد الإنسان. وكتاب الله خوطب به الخواص كما خوطب به العوام فلا بدع أن يكون فيه ألفاظ لا يفهمها إلا الخاصة دون العامة.
وعلى كلا هذين الرأيين يتضح لك أن اشتمال القرآن على هذه الألفاظ ليس من قبيل اشتماله على لغو الكلام أو إظهار القرآن بمظهر عميق مخيف ولا يفهم منه أنها رموز للمصاحف ألحقها مرور الزمن بالقرآن إلى غير ذلك من الهذيان. بل ثبوت هذه الفواتح لا يقدح في كون القرآن من عند الله سواء أفادت معنى ظاهرا أم لم تفد على ما بيناه من حكمة الله البالغة في إيرادها. والله هو الحكيم العليم.

الشبهة السادسة
...
الشبهة السادسة
يقولون: إن القرآن في قسمه المكي قد خلا من الأدلة والبراهين بخلاف قسمه المدني فإنه مليء بالأدلة مدعم بالحجة وهذا برهان جديد على تأثر القرآن بالوسط الذي كان فيه محمد.
وننقض شبهتهم:
أولا: بما أسلفنا من أن القرآن لو كان نتيجة تأثر محمد بالوسط الذي يعيش فيه لكان الوسط أولى بتوجيه هذا المطعن عليه ولكان أعرف بهذا النقض فيه فيظفر عليه ويدخل إلى إبطال دعوته من هذا الباب الواسع لا سيما أن الرسول في مكة والمدينة كان له أعداء ألداء ليس لعداوتهم دواء.

ثانيا: أنه لو صح هذا لبطلت نبوته ولصح أن تكون النبوة لهم باعتبار أنهم مصدرها وأنهم أساتذته فيها. وهذا النقض يقال في رد شبهاتهم الماضية الساقطة التي تدل على فساد فطرتهم وعلى مقدار تبجحهم وتجنبهم على الحقيقة والتاريخ والاستخفاف بعقول الناس.
ثالثا: أن كذبهم في هذه الشبهة صريح مكشوف لأن القسم المكي حافل بأقوى الأدلة وأعظم الحجج على عقيدة الإسلام في الإلهيات والنبوات والسمعيات. استمع إليه في سورة المؤمنون المكية وهو يرفع قواعد التوحيد ويزلزل بنيان الشرك إذ يقول: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ}
وإذ يقول في سورة الأنبياء المكية: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ. لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ. أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ. هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ} .
وأنصت إليه في سورة العنكبوت المكية وهو يدلل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم إذ يقول: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ. بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ. وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ. أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} .
وتدبر حجته التي أقامها لتقرير اقتداره على البعث بعد الموت في قوله سبحانه من سورة ق المكية: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ, وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ, رِزْقاً لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} وقوله فيها أيضا: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} .

وانظر إليه يقيم الدليل العقلي على البعث والجزاء في سورة المؤمنون المكية إذ يقول: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} وفي سورة السجدة إذ يقول: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لا يَسْتَوُونَ. أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا} الخ.
وفي سورة الجاثية المكية إذ يقول: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ. وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} .

وتأمل مناقشته ونقضه بالحجة أوهام المشركين في احتجاجهم لأباطيلهم بالمشيئة الإلهية إذ يقول في سورة الأنعام المكية: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ. قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} . إلى غير ذلك من أدلة ساطعة وبراهين بارعة لا تكاد تخلو منها سورة من السور المكية. ولكن القوم استحبوا العمى على الهدى فاستمرؤوا هذا الكذب والافتراء. نسأل الله أن يكفينا شر الفتنة وأن يثبتنا على الحق فإن قلوب الخلق بيديه والأمر كله منه وإليه. {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ. وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} ). [مناهل العرفان:؟؟]


رد مع اقتباس