عرض مشاركة واحدة
  #9  
قديم 13 محرم 1440هـ/23-09-2018م, 07:06 PM
جمهرة التفاسير جمهرة التفاسير غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 2,953
افتراضي

تفاسير القرن الثامن الهجري

تفسير قوله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({ولكلّ أمّةٍ جعلنا منسكًا ليذكروا اسم اللّه على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فإلهكم إلهٌ واحدٌ فله أسلموا وبشّر المخبتين (34) الّذين إذا ذكر اللّه وجلت قلوبهم والصّابرين على ما أصابهم والمقيمي الصّلاة وممّا رزقناهم ينفقون (35)}.
يخبر تعالى أنّه لم يزل ذبح المناسك وإراقة الدّماء على اسم اللّه مشروعًا في جميع الملل.
قال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: {ولكلّ أمّةٍ جعلنا منسكًا} قال: عيدًا.
وقال عكرمة: ذبحًا. وقال زيد بن أسلم في قوله: {ولكلّ أمّةٍ جعلنا منسكًا}، إنّها مكّة، لم يجعل اللّه لأمّةٍ قطّ منسكًا غيرها.
[وقوله]: {ليذكروا اسم اللّه على ما رزقهم من بهيمة الأنعام}، كما ثبت في الصّحيحين عن أنسٍ قال: أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بكبشين أملحين أقرنين، فسمّى وكبّر، ووضع رجله على صفاحهما.
وقال الإمام أحمد بن حنبلٍ: حدّثنا يزيد بن هارون، أنبأنا سلام بن مسكينٍ، عن عائذ اللّه المجاشعيّ، عن أبي داود -وهو نفيع بن الحارث-عن زيد بن أرقم قال: قلت -أو: قالوا-: يا رسول اللّه، ما هذه الأضاحيّ؟ قال: "سنّة أبيكم إبراهيم". قالوا: ما لنا منها؟ قال: "بكلّ شعرةٍ حسنةٌ" قالوا: فالصّوف؟ قال: "بكلّ شعرةٍ من الصّوف حسنةٌ".
وأخرجه الإمام أبو عبد اللّه محمّد بن يزيد ابن ماجه في سننه، من حديث سلّام بن مسكينٍ، به.
وقوله: {فإلهكم إلهٌ واحدٌ فله أسلموا} أي: معبودكم واحدٌ، وإن تنوّعت شرائع الأنبياء ونسخ بعضها بعضًا، فالجميع يدعون إلى عبادة اللّه وحده، لا شريك له، {وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ إلا نوحي إليه أنّه لا إله إلا أنا فاعبدون} [الأنبياء: 25]. ولهذا قال: {فله أسلموا} أي: أخلصوا واستسلموا لحكمه وطاعته.
{وبشّر المخبتين}: قال مجاهدٌ: المطمئنّين، وقال الضّحّاك، وقتادة: المتواضعين. وقال السّدّيّ: الوجلين. وقال عمرو بن أوسٍ: المخبتون: الّذين لا يظلمون، وإذا ظلموا لم ينتصروا.
وقال الثّوريّ: {وبشّر المخبتين} قال: المطمئنّين الرّاضين بقضاء اللّه، المستسلمين له.
وأحسن ما يفسّر بما بعده وهو قوله: {الّذين إذا ذكر اللّه وجلت قلوبهم} أي: خافت منه قلوبهم، {والصّابرين على ما أصابهم} أي: من المصائب.
قال الحسن البصريّ: واللّه لتصبرنّ أو لتهلكنّ.
{والمقيمي الصّلاة}: قرأ الجمهور بالإضافة. السبعة، وبقية العشرة أيضًا. وقرأ ابن السّميقع: "والمقيمين الصّلاة" بالنّصب.
وقال الحسن البصريّ: {والمقيمي الصّلاة}، وإنّما حذفت النّون هاهنا تخفيفًا، ولو حذفت للإضافة لوجب خفض الصّلاة، ولكن على سبيل التّخفيف فنصبت.
أي: المؤدّين حقّ اللّه فيما أوجب عليهم من أداء فرائضه، {وممّا رزقناهم ينفقون} أي: وينفقون ما آتاهم اللّه من طيّب الرّزق على أهليهم وأرقّائهم وقراباتهم، وفقرائهم ومحاويجهم، ويحسنون إلى خلق اللّه مع محافظتهم على حدود اللّه. وهذه بخلاف صفات المنافقين، فإنّهم بالعكس من هذا كلّه، كما تقدّم تفسيره في سورة "براءةٌ" [فللّه الحمد والمنّة] ). [تفسير ابن كثير: 5/ 424-425]

تفسير قوله تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({والبدن جعلناها لكم من شعائر اللّه لكم فيها خيرٌ فاذكروا اسم اللّه عليها صوافّ فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعترّ كذلك سخّرناها لكم لعلّكم تشكرون (36)}.
يقول تعالى ممتنًّا على عباده فيما خلق لهم من البدن، وجعلها من شعائره، وهو أنّه جعلها تهدى إلى بيته الحرام، بل هي أفضل ما يهدى [إلى بيته الحرام]، كما قال تعالى: {لا تحلّوا شعائر اللّه ولا الشّهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد [ولا آمّين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربّهم ورضوانًا]} الآية: [المائدة: 2].
قال ابن جريج: قال عطاءٌ في قوله: {والبدن جعلناها لكم من شعائر اللّه}، قال: البقرة، والبعير. وكذا روي عن ابن عمر، وسعيد بن المسيّب، والحسن البصريّ. وقال مجاهدٌ: إنّما البدن من الإبل.
قلت: أمّا إطلاق البدنة على البعير فمتّفقٌ عليه، واختلفوا في صحّة إطلاق البدنة على البقرة، على قولين، أصحّهما أنّه يطلق عليها ذلك شرعًا كما صحّ في الحديث.
ثمّ جمهور العلماء على أنّه تجزئ البدنة عن سبعةٍ، والبقرة عن سبعةٍ، كما ثبت به الحديث عند مسلمٍ، من رواية جابر بن عبد اللّه [وغيره]، قال: أمرنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إن نشترك في الأضاحي، البدنة عن سبعةٍ، والبقرة عن سبعةٍ.
[وقال إسحاق بن راهويه وغيره: بل تجزئ البقرة عن سبعةٍ، والبعير عن عشرةٍ]. وقد ورد به حديثٌ في مسند الإمام أحمد، وسنن النّسائيّ، وغيرهما، فاللّه أعلم.
وقوله: {لكم فيها خيرٌ}، أي: ثوابٌ في الدّار الآخرة.
وعن سليمان بن يزيد الكعبيّ، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "ما عمل ابن آدم يوم النّحر عملًا أحبّ إلى اللّه من هراقه دمٍ، وإنّه لتأتي يوم القيامة بقرونها وأظلافها وأشعارها، وإنّ الدّم ليقع من اللّه بمكانٍ، قبل أن يقع على الأرض، فطيبوا بها نفسًا". رواه ابن ماجه، والتّرمذيّ وحسنه.
وقال سفيان الثّوريّ: كان أبو حاتمٍ يستدين ويسوق البدن، فقيل له: تستدين وتسوق البدن؟ فقال: إنّي سمعت اللّه يقول: {لكم فيها خيرٌ}
وعن ابن عبّاسٍ قال: قال رسول اللّه صلّى الله عليه وسلم: "ما أنفقت الورق في شيءٍ أفضل من نحيرةٍ في يوم عيدٍ". رواه الدّارقطنيّ في سننه.
وقال مجاهدٌ: {لكم فيها خيرٌ} قال: أجرٌ ومنافع.
وقال إبراهيم النّخعيّ: يركبها ويحلبها إذا احتاج إليها.
وقوله: {فاذكروا اسم اللّه عليها صوافّ} وعن [المطّلب بن عبد اللّه بن حنطبٍ، عن] جابر ابن عبد اللّه قال: صليت مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عيد الأضحى، فلمّا انصرف أتى بكبشٍ فذبحه، فقال: "بسم اللّه واللّه أكبر، اللّهمّ هذا عنّي وعمّن لمّ يضحّ من أمّتي".
رواه أحمد، وأبو داود، والتّرمذيّ.
وقال محمّد بن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيبٍ، عن ابن عبّاسٍ، عن جابرٍ قال: ضحّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بكبشين في يوم عيدٍ، فقال حين وجههما: "وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفًا مسلمًا، وما أنا من المشركين، إنّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي للّه ربّ العالمين. لا شريك له، وبذلك أمرت، وأنا أوّل المسلمين، اللّهمّ منك ولك، وعن محمّدٍ وأمته". ثم سمى الله وكبر وذبح.
وعن عليّ بن الحسين، عن أبي رافعٍ؛ أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كان إذا ضحّى اشترى كبشين سمينين أقرنين أملحين، فإذا صلّى وخطب النّاس أتي بأحدهما وهو قائمٌ في مصلّاه فذبحه بنفسه بالمدية، ثمّ يقول: "اللّهمّ هذا عن أمّتي جميعها، من شهد لك بالتّوحيد وشهد لي بالبلاغ". ثمّ يؤتى بالآخر فيذبحه بنفسه، ثمّ يقول: "هذا عن محمّدٍ وآل محمّدٍ" فيطعمها جميعًا المساكين، [ويأكل] هو وأهله منهما.
رواه أحمد، وابن ماجه.
وقال الأعمش، عن أبي ظبيان، عن ابن عبّاسٍ في قوله: {فاذكروا اسم اللّه عليها صوافّ}، قال: قيامٌ على ثلاث قوائم، معقولةٌ يدها اليسرى، يقول: "بسم اللّه واللّه أكبر، اللّهمّ منك ولك". وكذلك روى مجاهدٌ، وعليّ بن أبي طلحة، والعوفي، عن ابن عبّاسٍ، نحو هذا.
وقال ليثٌ. عن مجاهدٍ: إذا عقلت رجلها اليسرى قامت على ثلاثٍ. وروى ابن أبي نجيح، عنه، نحوه.
وقال الضّحّاك: تعقل رجلٌ واحدةٌ فتكون على ثلاثٍ.
وفي الصّحيحين عن ابن عمر: أنّه أتى على رجلٍ قد أناخ بدنته وهو ينحرها، فقال: ابعثها قيامًا مقيّدةً سنّة أبي القاسم صلّى اللّه عليه وسلّم.
وعن جابرٍ: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه كانوا ينحرون البدن معقولة اليسرى، قائمةً على ما بقي من قوائمها. رواه أبو داود.
وقال ابن لهيعة: حدّثني عطاء بن دينارٍ، أنّ سالم بن عبد اللّه قال لسليمان بن عبد الملك: قف من شقّها الأيمن، وانحر من شقّها الأيسر.
وفي صحيح مسلمٍ، عن جابرٍ، في صفة حجّة الوداع، قال فيه: فنحر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بيده ثلاثًا وستّين بدنة، جعل يطعنها بحربة في يده.
وقال عبد الرّزّاق: أخبرنا معمر، عن قتادة قال: في حرف ابن مسعودٍ: "صوافن"، أي: معقّلة قيامًا.
وقال سفيان الثّوريّ، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ: من قرأها "صوافن" قال: معقولةٌ. ومن قرأها {صوافّ} قال: تصفّ بين يديها.
وقال طاوسٌ، والحسن، وغيرهما: "فاذكروا اسم اللّه عليها صوافي" يعني: خالصةً للّه عزّ وجلّ. وكذا رواه مالكٌ، عن الزّهريّ.
وقال عبد الرّحمن بن زيدٍ: "صوافي": ليس فيها شركٌ كشرك الجاهليّة لأصنامهم.
وقوله: {فإذا وجبت جنوبها} قال: ابن أبي نجيح، عن مجاهدٍ: يعني: سقطت إلى الأرض.
وهو روايةٌ عن ابن عبّاسٍ، وكذا قال مقاتل بن حيّان.
وقال العوفيّ، عن ابن عبّاسٍ: {فإذا وجبت جنوبها} يعني: نحرت.
وقال عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم: {فإذا وجبت جنوبها} يعني: ماتت.
وهذا القول هو مراد ابن عبّاسٍ ومجاهدٍ، فإنّه لا يجوز الأكل من البدنة إذا نحرت حتّى تموت وتبرد حركتها. وقد جاء في حديثٍ مرفوعٍ: "ولا تعجلوا النفوس أن تزهق". وقد رواه الثّوريّ في جامعه، عن أيّوب، عن يحيى ابن أبي كثيرٍ، عن فرافصة الحنفيّ، عن عمر بن الخطّاب؛ أنّه قال ذلك ويؤيّده حديث شدّاد بن أوسٍ في صحيح مسلمٍ: "إنّ اللّه كتب الإحسان على كلّ شيءٍ، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذّبح وليحدّ أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته".
وعن أبي واقدٍ اللّيثيّ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "ما قطع من البهيمة وهي حيّةٌ، فهو ميتةٌ".
رواه أحمد، وأبو داود، والتّرمذيّ وصحّحه.
وقوله: {فكلوا منها وأطعموا القانع والمعترّ} قال بعض السّلف: قوله: {فكلوا منها} أمر إباحةٍ.
وقال مالكٌ: يستحبّ ذلك. وقال غيره: يجب. وهو وجه لبعض الشّافعيّة. واختلف في المراد بالقانع والمعترّ، فقال العوفيّ، عن ابن عبّاسٍ: القانع: المستغني بما أعطيته، وهو في بيته. والمعترّ: الّذي يتعرّض لك، ويلمّ بك أن تعطيه من اللّحم، ولا يسأل. وكذا قال مجاهد، ومحمد بن كعب القرظيّ.
وقال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: القانع: المتعفّف. والمعترّ: السّائل. وهذا قول قتادة، وإبراهيم النّخعي، ومجاهدٍ في روايةٍ عنه.
وقال ابن عبّاسٍ، وزيد بن أسلم وعكرمة، والحسن البصريّ، وابن الكلبيّ، ومقاتل بن حيّان، ومالك بن أنسٍ: القانع: هو الّذي يقنع إليك ويسألك. والمعترّ: الّذي يعتريك، يتضرّع ولا يسألك. وهذا لفظ الحسن.
وقال سعيد بن جبيرٍ: القانع: هو السّائل، ثمّ قال: أما سمعت قول الشّمّاخ. لمال المرء يصلحه فيغني = مفاقره، أعفّ من القنوع
قال: يعني من السّؤّال، وبه قال ابن زيدٍ.
وقال زيد بن أسلم: القانع: المسكين الّذي يطوف. والمعترّ: الصّديق والضّعيف الّذي يزور. وهو روايةٌ عن عبد اللّه بن زيدٍ أيضًا.
وعن مجاهدٍ أيضًا: القانع: جارك الغنيّ [الّذي يبصر ما يدخل بيتك] والمعترّ: الّذي يعتريك من النّاس.
وعنه: أنّ القانع: هو الطّامع. والمعترّ: هو الّذي يعتر بالبدن من غنيٍّ أو فقيرٍ.
وعن عكرمة نحوه، وعنه القانع: أهل مكّة.
واختار ابن جريرٍ أنّ القانع: هو السّائل؛ لأنّه من أقنع بيده إذا رفعها للسّؤال، والمعترّ من الاعترار، وهو: الّذي يتعرّض لأكل اللّحم.
وقد احتجّ بهذه الآية الكريمة من ذهب من العلماء إلى أنّ الأضحيّة تجزّأ ثلاثة أجزاءٍ: فثلثٌ لصاحبها يأكله [منها]، وثلثٌ يهديه لأصحابه، وثلثٌ يتصدّق به على الفقراء؛ لأنّه تعالى قال: {فكلوا منها وأطعموا القانع والمعترّ}. وفي الحديث الصّحيح: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال للنّاس: "إنّي كنت نهيتكم عن ادّخار لحوم الأضاحيّ فوق ثلاثٍ، فكلّوا وادّخروا ما بدا لكم" وفي رواية: "فكلوا وادخروا وتصدقوا". وفي رواية: "فكلوا وأطعموا وتصدقوا".
والقول الثّاني: إنّ المضحّي يأكل النّصف ويتصدّق بالنّصف، لقوله في الآية المتقدّمة: {فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير} [الحجّ: 28]، ولقوله في الحديث: "فكلوا وادّخروا وتصدّقوا".
فإن أكل الكلّ فقيل: لا يضمّن شيئًا. وبه قال ابن سريج من الشافعية.
وقال بعضهم: يضمّنها كلّها بمثلها أو قيمتها. وقيل: يضمّن نصفها. وقيل: ثلثها. وقيل: أدنى جزءٍ منها. وهو المشهور من مذهب الشّافعيّ.
وأمّا الجلود، ففي مسند أحمد عن قتادة ابن النّعمان في حديث الأضاحيّ: "فكلوا وتصّدّقوا، واستمتعوا بجلودها، ولا تبيعوها".
ومن العلماء من رخّص [في ذلك]، ومنهم من قال: يقاسم الفقراء ثمنها، واللّه أعلم.
[مسألةٌ].
عن البراء بن عازبٍ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "إنّ أوّل ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلّي، ثمّ نرجع فننحر. فمن فعل ذلك فقد أصاب سنّتنا، ومن ذبح قبل الصّلاة فإنّما هو لحمٌ [عجّله] لأهله، ليس من النّسك في شيءٍ" أخرجاه.
فلهذا قال الشّافعيّ وجماعةٌ من العلماء: إنّ أوّل وقت الأضحى إذا طلعت الشّمس يوم النّحر، ومضى قدر صلاة العيد والخطبتين. زاد أحمد: وأن يذبح الإمام بعد ذلك، لما جاء في صحيح مسلمٍ: وألّا تذبحوا حتّى يذبح الإمام".
وقال أبو حنيفة: أمّا أهل السّواد من القرى ونحوهم، فلهم أن يذبحوا بعد طلوع الفجر، إذ لا صلاة عيدٍ عنده لهم. وأمّا أهل الأمصار فلا يذبحوا حتّى يصلّي الإمام، واللّه أعلم.
ثمّ قيل: لا يشرع الذّبح إلّا يوم النّحر وحده. وقيل: يوم النّحر لأهل الأمصار، لتيسّر الأضاحيّ عندهم، وأمّا أهل القرى فيوم النّحر وأيّام التّشريق بعده، وبه قال سعيد بن جبيرٍ. وقيل: يوم النّحر، ويومٌ بعده للجميع. وقيل: ويومان بعده، وبه قال أحمد. وقيل: يوم النّحر وثلاثة أيّام التّشريق بعده، وبه قال الشّافعيّ؛ لحديث جبير بن مطعمٍ: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "وأيّام التّشريق كلّها ذبحٌ". رواه أحمد وابن حبّان.
وقيل: إنّ وقت الذّبح يمتدّ إلى آخر ذي الحجّة، وبه قال إبراهيم النّخعيّ، وأبو سلمة بن عبد الرّحمن. وهو قولٌ غريبٌ.
وقوله: {كذلك سخّرناها لكم لعلّكم تشكرون}: يقول تعالى: من أجل هذا {سخّرناها لكم} أي: ذلّلناها لكم، أي: جعلناها منقادةً لكم خاضعةً، إن شئتم ركبتم، وإن شئتم حلبتم، وإن شئتم ذبحتم، كما قال تعالى: {أولم يروا أنّا خلقنا لهم ممّا عملت أيدينا أنعامًا فهم لها مالكون. وذلّلناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون. ولهم فيها منافع ومشارب أفلا يشكرون} [يس: 71 -73]، وقال في هذه الآية الكريمة: {كذلك سخّرناها لكم لعلّكم تشكرون}). [تفسير ابن كثير: 5/ 425-431]

تفسير قوله تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({لن ينال اللّه لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التّقوى منكم كذلك سخّرها لكم لتكبّروا اللّه على ما هداكم وبشّر المحسنين (37)}.
يقول تعالى: إنّما شرع لكم نحر هذه الهدايا والضّحايا، لتذكروه عند ذبحها، فإنّه الخالق الرّازق لا أنّه يناله شيءٌ من لحومها ولا دمائها، فإنّه تعالى هو الغنيّ عمّا سواه.
وقد كانوا في جاهليّتهم إذا ذبحوها لآلهتهم وضعوا عليها من لحومٍ قرابتنهم، ونضحوا عليها من دمائها، فقال تعالى: {لن ينال اللّه لحومها ولا دماؤها}
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا عليّ بن الحسين، حدّثنا محمّد بن أبي حمّادٍ، حدّثنا إبراهيم بن المختار، عن ابن جريجٍ قال: كان أهل الجاهليّة ينضحون البيت بلحوم الإبل ودمائها، فقال أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم: فنحن أحقّ أن ننضح، فأنزل اللّه: {لن ينال اللّه لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التّقوى منكم} أي: يتقبّل ذلك ويجزي عليه.
كما جاء في الصّحيح: "إنّ اللّه لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم" وما جاء في الحديث: "إنّ الصّدقة تقع في يد الرّحمن قبل أن تقع في يد السّائل، وإنّ الدّم ليقع من اللّه بمكانٍ قبل أن يقع على الأرض" كما تقدّم الحديث. رواه ابن ماجه، والتّرمذيّ وحسّنه عن عائشة مرفوعًا. فمعناه: أنّه سيق لتحقيق القبول من اللّه لمن أخلص في عمله، وليس له معنًى يتبادر عند العلماء المحقّقين سوى هذا، واللّه أعلم.
وقال وكيع، عن [يحيى] بن مسلمٍ أبي الضّحّاك: سألت عامرًا الشّعبيّ عن جلود الأضاحيّ، فقال: {لن ينال اللّه لحومها ولا دماؤها}، إن شئت فبع، وإن شئت فأمسك، وإن شئت فتصدّق.
وقوله: {كذلك سخّرها لكم} أي: من أجل ذلك سخّر لكم البدن، {لتكبّروا اللّه على ما هداكم} أي: لتعظّموه كما هداكم لدينه وشرعه وما يحبّه، وما يرضاه، ونهاكم عن فعل ما يكرهه ويأباه.
وقوله: {وبشّر المحسنين} أي: وبشّر يا محمّد المحسنين، أي: في عملهم، القائمين بحدود اللّه، المتّبعين ما شرع لهم، المصدّقين الرسول فيما أبلغهم وجاءهم به من عند ربّه عزّ وجلّ.
[مسألةٌ].
وقد ذهب أبو حنيفة ومالكٌ والثّوريّ إلى القول بوجوب الأضحيّة على من ملك نصابا، وزاد أبو حنيفة اشتراط الإقامة أيضًا. واحتجّ لهم بما رواه أحمد وابن ماجه بإسنادٍ رجاله كلّهم ثقاتٌ، عن أبي هريرة مرفوعًا: "من وجد سعة فلم يضحّ، فلا يقربنّ مصلانا" على أنّ فيه غرابةٌ، واستنكره أحمد بن حنبلٍ.
وقال ابن عمر: أقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عشرٌ سنين يضحّي. رواه التّرمذيّ.
وقال الشّافعيّ، وأحمد: لا تجب الأضحيّة، بل هي مستحبّةٌ؛ لما جاء في الحديث: "ليس في المال حقٌّ سوى الزّكاة". وقد تقدّم أنّه، عليه السّلام ضحّى عن أمّته فأسقط ذلك وجوبها عنهم.
وقال أبو سريحة: كنت جارًا لأبي بكرٍ وعمر، فكانا لا يضحّيان خشية أن يقتدي النّاس بهما.
وقال بعض النّاس: الأضحيّة سنّة كفايةٍ، إذا قام بها واحدٌ من أهل دارٍ أو محلّةٍ، سقطت عن الباقين؛ لأنّ المقصود إظهار الشّعار.
وقد روى الإمام أحمد، وأهل السّنن -وحسّنه التّرمذيّ-عن مخنف بن سليمٍ؛ أنّه سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول بعرفاتٍ: "على كلّ أهل بيتٍ في كلّ عامٍ أضحاةٌ وعتيرة، هل تدرون ما العتيرة؟ هي الّتي تدعونها الرّجبية". وقد تكلّم في إسناده.
وقال أبو أيّوب: كان الرّجل في عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يضحّي بالشّاة الواحدة عنه وعن أهل بيته، يأكلون ويطعمون [حتّى تباهى] النّاس فصار كما ترى.
رواه التّرمذيّ وصحّحه، وابن ماجه.
وكان عبد اللّه بن هشامٍ يضحّي بالشّاة الواحدة عن جميع أهله. رواه البخاريّ.
وأمّا مقدار سنّ الأضحيّة، فقد روى مسلمٍ عن جابرٍ؛ أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "لا تذبحوا إلّا مسنّة، إلّا أن يعسر عليكم، فتذبحوا جذعةً من الضّأن".
ومن هاهنا ذهب الزّهريّ إلى أنّ الجذع لا يجزئ. وقابله الأوزاعيّ فذهب إلى أنّ الجذع يجزئ من كلّ جنسٍ، وهما غريبان. وقال الجمهور: إنّما يجزئ الثّني من الإبل والبقر والمعز، والجذع من الضّأن، فأمّا الثّنيّ من الإبل: فهو الّذي له خمس سنين، ودخل في السّادسة. ومن البقر: ما له [سنتان] ودخل في [الثّالثة]، وقيل: [ما له] ثلاثٌ [ودخل في] الرّابعة. ومن المعز: ما له سنتان. وأمّا الجذع من الضّأن فقيل: ما له سنةٌ، وقيل: عشرة أشهرٍ، وقيل: ثمانية أشهرٍ، وقيل: ستّة أشهرٍ، وهو أقلّ ما قيل في سنّه، وما دونه فهو حمل، والفرق بينهما: أنّ الحمل شعر ظهره قائمٌ، والجذع شعر ظهره نائمٌ، قد انعدل صدعين، واللّه أعلم). [تفسير ابن كثير: 5/ 431-433]

رد مع اقتباس