عرض مشاركة واحدة
  #9  
قديم 13 محرم 1440هـ/23-09-2018م, 06:53 PM
جمهرة التفاسير جمهرة التفاسير غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 2,953
افتراضي

تفاسير القرن الثامن الهجري

تفسير قوله تعالى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {هذان خصمان اختصموا في ربّهم فالّذين كفروا قطّعت لهم ثيابٌ من نارٍ يصبّ من فوق رءوسهم الحميم (19) يصهر به ما في بطونهم والجلود (20) ولهم مقامع من حديدٍ (21) كلّما أرادوا أن يخرجوا منها من غمٍّ أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق (22) }
ثبت في الصّحيحين، من حديث أبي مجلز، عن قيس بن عباد، عن أبي ذرٍّ؛ أنّه كان يقسم قسمًا أنّ هذه الآية: {هذان خصمان اختصموا في ربّهم} نزلت في حمزة وصاحبيه، وعتبة وصاحبيه، يوم برزوا في بدرٍ.
لفظ البخاريّ عند تفسيرها، ثمّ قال البخاريّ:
حدّثنا الحجّاج بن منهال، حدّثنا المعتمر بن سليمان، سمعت أبي، حدّثنا أبو مجلز عن قيس بن عباد، عن عليّ بن أبي طالبٍ أنّه قال: أنا أوّل من يجثو بين يدي الرّحمن للخصومة يوم القيامة. قال قيسٌ: وفيهم نزلت: {هذان خصمان اختصموا في ربّهم}، قال: هم الّذين بارزوا يوم بدرٍ: عليّ وحمزة وعبيدة، وشيبة ابن ربيعة وعتبة بن ربيعة والوليد بن عتبة. انفرد به البخاريّ.
وقال سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة في قوله: {هذان خصمان اختصموا في ربّهم} قال: اختصم المسلمون وأهل الكتاب، فقال أهل الكتاب: نبيّنا قبل نبيّكم، وكتابنا قبل كتابكم. فنحن أولى بالله منكم. وقال المسلمون: كتابنا يقضي على الكتب كلّها، ونبيّنا خاتم الأنبياء، فنحن أولى باللّه منكم. فأفلج اللّه الإسلام على من ناوأه، وأنزل: {هذان خصمان اختصموا في ربّهم}. وكذا روى العوفي، عن ابن عبّاسٍ.
وقال شعبة، عن قتادة في قوله: {هذان خصمان اختصموا في ربّهم} قال: مصدق ومكذّبٌ.
وقال ابن أبي نجيح، عن مجاهدٍ في هذه الآية: مثل الكافر والمؤمن اختصما في البعث. وقال -في روايةٍ: هو وعطاءٌ في هذه الآية-: هم المؤمنون والكافرون.
وقال عكرمة: {هذان خصمان اختصموا في ربّهم} قال: هي الجنّة والنّار، قالت النّار: اجعلني للعقوبة، وقالت الجنّة: اجعلني للرّحمة.
وقول مجاهدٍ وعطاءٍ: إنّ المراد بهذه الكافرون والمؤمنون، يشمل الأقوال كلّها، وينتظم فيه قصّة يوم بدرٍ وغيرها؛ فإنّ المؤمنين يريدون نصرة دين اللّه، والكافرون يريدون إطفاء نور الإيمان وخذلان الحقّ وظهور الباطل. وهذا اختيار ابن جريرٍ، وهو حسن؛ ولهذا قال: {فالّذين كفروا قطّعت لهم ثيابٌ من نارٍ} أي: فصّلت لهم مقطّعاتٌ من نارٍ.
قال سعيد بن جبيرٍ: من نحاسٍ وهو أشدّ الأشياء حرارةً إذا حمي.
{يصبّ من فوق رءوسهم الحميم. يصهر به ما في بطونهم والجلود} أي: إذا صبّ على رءوسهم الحميم، وهو الماء الحارّ في غاية الحرارة.
وقال سعيد [بن جبيرٍ] هو النّحاس المذاب، أذاب ما في بطونهم من الشّحم والأمعاء. قاله ابن عبّاسٍ، ومجاهدٌ، وسعيد بن جبيرٍ، وغيرهم. وكذلك تذوب جلودهم، وقال ابن عبّاسٍ وسعيدٌ: تساقط.
وقال ابن جريرٍ: حدّثني محمّد بن المثنّى، حدّثنا إبراهيم أبو إسحاق الطالقاني، حدّثنا ابن المبارك عن سعيد بن زيدٍ، عن أبي السّمح، عن ابن حجيرة، عن أبي هريرة، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلم قال: "إن الحميم ليصب على رءوسهم، فينفد الجمجمة حتّى يخلص إلى جوفه، فيسلت ما في جوفه، حتّى يبلغ قدميه، وهو الصّهر، ثمّ يعاد كما كان".
ورواه التّرمذيّ من حديث ابن المبارك، وقال: حسنٌ صحيحٌ. وهكذا رواه ابن أبي حاتمٍ، عن أبيه، عن أبي نعيمٍ، عن ابن المبارك، به ثمّ قال ابن أبي حاتمٍ:
حدّثنا عليّ بن الحسين، حدّثنا أحمد بن أبي الحواريّ، سمعت عبد الله ابن السّرّيّ قال: يأتيه الملك يحمل الإناء بكلبتين من حرارته، فإذا أدناه من وجهه تكرّهه، قال: فيرفع مقمعة معه فيضرب بها رأسه، فيفرغ دماغه، ثمّ يفرغ الإناء من دماغه، فيصل إلى جوفه من دماغه، فذلك قوله: {يصهر به ما في بطونهم والجلود}). [تفسير ابن كثير: 5/ 405-407]

تفسير قوله تعالى: {وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله: {ولهم مقامع من حديدٍ}، قال الإمام أحمد:
حدّثنا حسن بن موسى، حدّثنا ابن لهيعة، حدّثنا درّاج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيدٍ، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "لو أنّ مقمعا من حديد وضع في الأرض، فاجتمع له الثّقلان ما أقلّوه من الأرض".
وقال الإمام أحمد: حدّثنا موسى بن داود، حدّثنا ابن لهيعة، حدّثنا درّاج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيدٍ الخدريّ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "لو ضرب الجبل بمقمع من حديدٍ، لتفتّت ثمّ عاد كما كان، ولو أنّ دلوًا من غسّاق يهراق في الدّنيا لأنتن أهل الدّنيا".
وقال ابن عبّاسٍ في قوله: {ولهم مقامع من حديدٍ} قال: يضربون بها، فيقع كلّ عضوٍ على حياله، فيدعون بالثّبور). [تفسير ابن كثير: 5/ 407]

تفسير قوله تعالى: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله: {كلّما أرادوا أن يخرجوا منها من غمٍّ أعيدوا فيها}: قال الأعمش، عن أبي ظبيان، عن سلمان قال: النّار سوداء مظلمةٌ، لا يضيء لهبها ولا جمرها، ثمّ قرأ: {كلّما أرادوا أن يخرجوا منها من غمٍّ أعيدوا فيها}
وقال زيد بن أسلم في هذه الآية: {كلّما أرادوا أن يخرجوا منها من غمٍّ أعيدوا فيها} قال: بلغني أنّ أهل النّار في النّار لا يتنفّسون.
وقال الفضيل بن عياضٍ: واللّه ما طمعوا في الخروج، إنّ الأرجل لمقيّدةٌ، وإنّ الأيدي لموثقةٌ، ولكن يرفعهم لهبها، وتردّهم مقامعها.
وقوله: {وذوقوا عذاب الحريق} كقوله {وقيل لهم ذوقوا عذاب النّار الّذي كنتم به تكذّبون} [السّجدة: 20] ومعنى الكلام: أنّهم يهانون بالعذاب قولًا وفعلًا). [تفسير ابن كثير: 5/ 407]

تفسير قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {إنّ اللّه يدخل الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات جنّاتٍ تجري من تحتها الأنهار يحلّون فيها من أساور من ذهبٍ ولؤلؤًا ولباسهم فيها حريرٌ (23) وهدوا إلى الطّيّب من القول وهدوا إلى صراط الحميد (24) }.
لـمّا أخبر تعالى عن حال أهل النّار، عياذًا باللّه من حالهم، وما هم فيه من العذاب والنّكال والحريق والأغلال، وما أعدّ لهم من الثّياب من النّار، ذكر حال أهل الجنّة -نسأل اللّه من فضله وكرمه أن يدخلنا الجنّة-فقال: {إنّ اللّه يدخل الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات جنّاتٍ تجري من تحتها الأنهار} أي: تتخرّق في أكنافها وأرجائها وجوانبها، وتحت أشجارها وقصورها، يصرفونها حيث شاءوا وأين شاءوا، {يحلّون فيها} من الحلية، {يحلّون فيها من أساور من ذهبٍ ولؤلؤًا} أي: في أيديهم، كما قال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم في الحديث المتّفق عليه: "تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء".
وقال كعب الأحبار: إنّ في الجنّة ملكًا لو شئت أن أسمّيه لسميته، يصوغ لأهل الجنّة الحليّ منذ خلقه اللّه إلى يوم القيامة، لو أبرز قلب منها -أي: سوارٌ منها-لردّ شعاع الشّمس، كما تردّ الشّمس نور القمر.
وقوله: {ولباسهم فيها حريرٌ}: في مقابلة ثياب أهل النّار الّتي فصّلت لهم، لباس هؤلاء من الحرير، إستبرقه وسندسه، كما قال: {عاليهم ثياب سندسٍ خضرٌ وإستبرقٌ وحلّوا أساور من فضّةٍ وسقاهم ربّهم شرابًا طهورًا. إنّ هذا كان لكم جزاءً وكان سعيكم مشكورًا} [الإنسان: 21، 22]، وفي الصّحيح: "لا تلبسوا الحرير ولا الدّيباج في الدّنيا، فإنّه من لبسه في الدّنيا لم يلبسه في الآخرة".
قال عبد اللّه بن الزّبير: ومن لم يلبس الحرير في الآخرة، لم يدخل الجنّة، قال اللّه تعالى: {ولباسهم فيها حريرٌ}).[تفسير ابن كثير: 5/ 407-408]

تفسير قوله تعالى: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله: {وهدوا إلى الطّيّب من القول} كقوله {وأدخل الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات جنّاتٍ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها بإذن ربّهم تحيّتهم فيها سلامٌ} [إبراهيم: 23]، وقوله: {والملائكة يدخلون عليهم من كلّ بابٍ. سلامٌ عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدّار} [الرّعد: 23، 24]، وقوله: {لا يسمعون فيها لغوًا ولا تأثيمًا * إلا قيلا سلامًا سلامًا} [الواقعة: 25، 26]، فهدوا إلى المكان الّذي يسمعون فيه الكلام الطّيّب، {ويلقّون فيها تحيّةً وسلامًا} [الفرقان: 75]، لا كما يهان أهل النّار بالكلام الّذي يروّعون به ويقرّعون به، يقال لهم: {وذوقوا عذاب الحريق}
وقوله: {وهدوا إلى صراط الحميد} أي: إلى المكان الّذي يحمدون فيه ربّهم، على ما أحسن إليهم وأنعم به وأسداه إليهم، كما جاء في الصّحيح: "إنّهم يلهمون التّسبيح والتّحميد، كما يلهمون النّفس".
وقد قال بعض المفسّرين في قوله: {وهدوا إلى الطّيّب من القول} أي: القرآن. وقيل: لا إله إلّا اللّه. وقيل: الأذكار المشروعة، {وهدوا إلى صراط الحميد} أي: الطّريق المستقيم في الدّنيا. وكلّ هذا لا ينافي ما ذكرناه، والله أعلم). [تفسير ابن كثير: 5/ 408]

تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {إنّ الّذين كفروا ويصدّون عن سبيل اللّه والمسجد الحرام الّذي جعلناه للنّاس سواءً العاكف فيه والباد ومن يرد فيه بإلحادٍ بظلمٍ نذقه من عذابٍ أليمٍ (25)}.
يقول تعالى منكرًا على الكفّار في صدّهم المؤمنين عن إتيان المسجد الحرام، وقضاء مناسكهم فيه، ودعواهم أنّهم أولياؤه: {وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتّقون ولكنّ أكثرهم لا يعلمون} [الأنفال: 34].
وفي هذه الآية دليلٌ [على] أنّها مدنيّةٌ، كما قال في سورة "البقرة": {يسألونك عن الشّهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبيرٌ وصدٌّ عن سبيل اللّه وكفرٌ به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند اللّه} [البقرة: 217]، وقال: هاهنا: {إنّ الّذين كفروا ويصدّون عن سبيل اللّه والمسجد الحرام} أي: ومن صفتهم مع كفرهم أنّهم يصدّون عن سبيل اللّه والمسجد الحرام، أي: ويصدّون عن المسجد الحرام من أراده من المؤمنين الّذين هم أحقّ النّاس به في نفس الأمر، وهذا التّركيب في هذه الآية كقوله تعالى: {الّذين آمنوا وتطمئنّ قلوبهم بذكر اللّه ألا بذكر اللّه تطمئنّ القلوب} [الرّعد: 28] أي: ومن صفتهم أنّهم تطمئنّ قلوبهم بذكر اللّه.
وقوله: {الّذي جعلناه للنّاس سواءً العاكف فيه والباد} [أي: يمنعون النّاس عن الوصول إلى المسجد الحرام، وقد جعله اللّه شرعا سواءً، لا فرق فيه بين المقيم فيه والنّائي عنه البعيد الدّار منه، {سواءً العاكف فيه والباد}] ومن ذلك استواء النّاس في رباع مكّة وسكناها، كما قال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ في قوله: {سواءً العاكف فيه والباد} قال: ينزل أهل مكّة وغيرهم في المسجد الحرام.
وقال مجاهدٌ [في قوله]: {سواءً العاكف فيه والباد}: أهل مكّة وغيرهم فيه سواءٌ في المنازل. وكذا قال أبو صالحٍ، وعبد الرّحمن بن سابطٍ، وعبد الرّحمن بن زيد [بن أسلم].
وقال عبد الرّزّاق، عن معمر، عن قتادة: سواءٌ فيه أهله وغير أهله.
وهذه المسألة اختلف فيها الشافعي وإسحاق بن راهويه بمسجد الخيف، وأحمد بن حنبلٍ حاضرٌ أيضًا، فذهب الشّافعيّ، رحمه اللّه إلى أنّ رباع مكّة تملّك وتورّث وتؤجّر، واحتجّ بحديث الزّهريّ، عن عليّ بن الحسين، عن عمرو بن عثمان، عن أسامة بن زيدٍ قال: قلت: يا رسول اللّه، أتنزل غدًا في دارك بمكّة؟ فقال: "وهل ترك لنا عقيل من رباعٍ". ثمّ قال: "لا يرث الكافر المسلم، ولا المسلم الكافر". وهذا الحديث مخرّج في الصّحيحين [وبما ثبت أنّ عمر بن الخطّاب اشترى من صفوان بن أميّة دارًا بمكّة، فجعلها سجنًا بأربعة آلاف درهمٍ. وبه قال طاوسٌ، وعمرو بن دينارٍ.
وذهب إسحاق بن راهويه إلا أنّها تورّث ولا تؤجّر. وهو مذهب طائفةٍ من السلف، ونص عليه مجاهد وعطاء، واحتج إسحاق بن راهويه بما رواه ابن ماجه، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن عيسى ابن يونس، عن عمر بن سعيد بن أبي حسين، عن عثمان بن أبي سليمان، عن علقمة بن نضلة قال: توفي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأبو بكرٍ وعمر، وما تدعى رباع مكّة إلّا] السّوائب، من احتاج سكن، ومن استغنى أسكن.
وقال عبد الرزاق ابن مجاهدٍ، عن أبيه، عن عبد اللّه بن عمرٍو أنّه قال: لا يحلّ بيع دور مكّة ولا كراؤها.
وقال أيضًا عن ابن جريجٍ: كان عطاءٌ ينهى عن الكراء في الحرم، وأخبرني أنّ عمر بن الخطّاب كان ينهي عن تبوّب دور مكّة؛ لأن ينزل الحاجّ في عرصاتها، فكان أوّل من بوّب داره سهيل بن عمرٍو، فأرسل إليه عمر بن الخطّاب في ذلك، فقال: أنظرني يا أمير المؤمنين، إنّي كنت امرأً تاجرًا، فأردت أن أتّخذ بابين يحبسان لي ظهري قال: فذلك إذًا.
وقال عبد الرّزّاق، عن معمر، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ؛ أنّ عمر بن الخطّاب قال: يا أهل مكّة، لا تتّخذوا لدوركم أبوابًا لينزل البادي حيث يشاء.
قال: وأخبرنا معمر، عمّن سمع عطاءً يقول [في قوله]: {سواءً العاكف فيه والباد}، قال: ينزلون حيث شاءوا.
وروى الدّارقطنيّ من حديث ابن أبي نجيح، عن عبد اللّه بن عمرٍو موقوفًا من أكل كراء بيوت مكّة أكل نارًا.
"وتوسّط الإمام أحمد [فيما نقله صالحٌ ابنه] فقال: تملّك وتورّث ولا تؤجّر، جمعًا بين الأدلّة، واللّه أعلم.
وقوله: {ومن يرد فيه بإلحادٍ بظلمٍ نذقه من عذابٍ أليمٍ} قال بعض المفسّرين من أهل العربيّة: الباء هاهنا زائدةٌ، كقوله: {تنبت بالدّهن} [المؤمنون: 20] أي: تنبت الدّهن، وكذا قوله: {ومن يرد فيه بإلحادٍ} تقديره إلحادًا، وكما قال الأعشى:
ضمنت برزق عيالنا أرماحنا = بين المراجل، والصّريح الأجرد
وقال الآخر:
بواد يمان ينبت الشّثّ صدره = وأسفله بالمرخ والشّبهان...
والأجود أنّه ضمّن الفعل هاهنا معنى "يهمّ"، ولهذا عدّاه بالباء، فقال: {ومن يرد فيه بإلحادٍ بظلمٍ} أي: يهمّ فيه بأمرٍ فظيعٍ من المعاصي الكبار.
وقوله: {بظلمٍ} أي: عامدًا قاصدًا أنّه ظلمٌ ليس بمتأوّلٍ، كما قال ابن جريجٍ، عن ابن عبّاسٍ: هو [التّعمّد].
قال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: {بظلمٍ} بشركٍ.
وقال مجاهدٌ: أن يعبد فيه غير اللّه. وكذا قال قتادة، وغير واحدٍ.
وقال العوفي، عن ابن عبّاسٍ: {بظلمٍ} هو أن تستحل من الحرم ما حرّم اللّه عليك من لسانٍ أو قتلٍ، فتظلم من لا يظلمك، وتقتل من لا يقتلك، فإذا فعل ذلك فقد وجب [له] العذاب الأليم.
وقال مجاهدٌ: {بظلمٍ}: يعمل فيه عملًا سيّئًا.
وهذا من خصوصيّة الحرم أنّه يعاقب البادي فيه الشّرّ، إذا كان عازمًا عليه، وإن لم يوقعه، كما قال ابن أبي حاتمٍ في تفسيره:
حدّثنا أحمد بن سنان، حدّثنا يزيد بن هارون، أنبأنا شعبة، عن السّدّي: أنّه سمع مرّة يحدّث عن عبد اللّه -يعني ابن مسعودٍ-في قوله: {ومن يرد فيه بإلحادٍ بظلمٍ} قال: لو أنّ رجلا أراد فيه بإلحادٍ بظلمٍ، وهو بعدن أبين، أذاقه اللّه من العذاب الأليم.
قال شعبة: هو رفعه لنا، وأنا لا أرفعه لكم. قال يزيد: هو قد رفعه، ورواه أحمد، عن يزيد بن هارون، به.
[قلت: هذا الإسناد] صحيحٌ على شرط البخاريّ، ووقفه أشبه من رفعه؛ ولهذا صمم شعبة على وقفه من كلام ابن مسعودٍ. وكذلك رواه أسباطٌ، وسفيان الثّوريّ، عن السّدّيّ، عن مرة، عن ابن مسعودٍ موقوفًا، واللّه أعلم.
وقال الثّوريّ، عن السّدّيّ، عن مرّة، عن عبد اللّه قال: ما من رجلٍ يهمّ بسيّئةٍ فتكتب عليه، ولو أنّ رجلًا بعدن أبين همّ أن يقتل رجلًا بهذا البيت، لأذاقه اللّه من العذاب الأليم. وكذا قال الضّحّاك بن مزاحم.
وقال سفيان [الثّوريّ]، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ "إلحادٌ فيه"، لا واللّه، وبلى واللّه. وروي عن مجاهدٍ، عن عبد اللّه بن عمرٍو، مثله.
وقال سعيد بن جبير: شتم الخادم ظلمٌ فما فوقه.
وقال سفيان الثّوريّ، عن عبد اللّه بن عطاءٍ، عن ميمون بن مهران، عن ابن عبّاسٍ في قوله: {ومن يرد فيه بإلحادٍ بظلمٍ} قال: تجارة الأمير فيه.
وعن ابن عمر: بيع الطّعام [بمكّة] إلحادٌ.
وقال حبيب بن أبي ثابتٍ: {ومن يرد فيه بإلحادٍ بظلمٍ} قال: المحتكر بمكّة. وكذا قال غير واحدٍ.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا عبد اللّه بن إسحاق الجوهريّ، أنبأنا أبو عاصمٍ، عن جعفر بن يحيى، عن عمّه عمارة بن ثوبان، حدّثني موسى بن باذان، عن يعلى بن أميّة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "احتكار الطّعام بمكّة إلحادٌ".
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبو زرعة، حدّثنا يحيى بن عبد اللّه بن بكير، حدّثنا ابن لهيعة، حدّثني عطاء بن دينارٍ، حدّثني سعيد بن جبيرٍ قال: قال ابن عبّاسٍ في قول اللّه: {ومن يرد فيه بإلحادٍ بظلمٍ} قال: نزلت في عبد اللّه بن أنيسٍ، أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بعثه مع رجلين، أحدهما مهاجرٌ والآخر من الأنصار، فافتخروا في الأنساب، فغضب عبد اللّه بن أنيسٍ، فقتل الأنصاريّ، ثمّ ارتدّ عن الإسلام، وهرب إلى مكّة، فنزلت فيه: {ومن يرد فيه بإلحادٍ بظلمٍ} يعني: من لجأ إلى الحرم بإلحادٍ يعني بميلٍ عن الإسلام.
وهذه الآثار، وإن دلّت على أنّ هذه الأشياء من الإلحاد، ولكن هو أعمّ من ذلك، بل فيها تنبيهٌ على ما هو أغلظ منها، ولهذا لمّا همّ أصحاب الفيل على تخريب البيت أرسل اللّه عليهم طيرًا أبابيل {ترميهم بحجارةٍ من سجّيلٍ * فجعلهم كعصفٍ مأكولٍ} [الفيل: 4، 5]، أي: دمّرهم وجعلهم عبرةً ونكالًا لكلّ من أراده بسوءٍ؛ ولذلك ثبت في الحديث أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "يغزو هذا البيت جيشٌ، حتّى إذا كانوا ببيداء من الأرض خسف بأوّلهم وآخرهم" الحديث.
وقال الإمام أحمد: حدّثنا محمّد بن كناسة، حدّثنا إسحاق بن سعيدٍ، عن أبيه قال: أتى عبد اللّه بن عمر عبد اللّه بن الزّبير، فقال: يا ابن الزّبير، إيّاك والإلحاد في حرم اللّه، فإنّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول: "إنّه سيلحد فيه رجلٌ من قريشٍ، لو توزن ذنوبه بذنوب الثّقلين لرجحت"، فانظر لا تكن هو.
وقال أيضًا [في مسند عبد اللّه بن عمرو بن العاص]: حدّثنا هاشم، حدثنا إسحاق بن سعيد، حدّثنا سعيد بن عمرٍو قال: أتى عبد اللّه بن عمرٍو ابن الزّبير، وهو جالسٌ في الحجر فقال: يا بن الزّبير، إيّاك والإلحاد في الحرم، فإنّي أشهد لسمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: "يحلّها ويحلّ به رجلٌ من قريشٍ، ولو وزنت ذنوبه بذنوب الثّقلين لوزنتها". قال: فانظر لا تكن هو.
ولم يخرجه أحدٌ من أصحاب الكتب من هذين الوجهين). [تفسير ابن كثير: 5/ 409-413]

رد مع اقتباس