عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 21 ربيع الثاني 1434هـ/3-03-2013م, 09:58 AM
ريم الحربي ريم الحربي غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jan 2010
الدولة: بلاد الحرمين
المشاركات: 2,656
افتراضي تفسير السلف

تفسير السلف


تفسير قوله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آَيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآَيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109)}
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {وأقسموا باللّه جهد أيمانهم لئن جاءتهم آيةٌ ليؤمننّ بها قل إنّما الآيات عند اللّه وما يشعركم أنّها إذا جاءت لا يؤمنون}.
يقول تعالى ذكره: حلف باللّه هؤلاء العادلون باللّه جهد حلفهم، وذلك أوكد ما قدروا عليه من الأيمان وأصعبها وأشدّها: {لئن جاءتهم آيةٌ} يقول: قالوا: نقسم باللّه لئن جاءتنا آيةٌ تصدّق ما تقول يا محمّد مثل الّذي جاء من قبلنا من الأمم. {ليؤمننّ بها} يقول: قالوا: لنصدّقنّ بمجيئها بك، وأنّك للّه رسولٌ مرسلٌ، وأنّ ما جئتنا به حقٌّ من عند اللّه.
وقيل: {ليؤمننّ بها}، فأخرج الخبر عن الآية والمعنى لمجيء الآية.
يقول لنبيّه صلّى اللّه عليه وسلّم: {قل إنّما الآيات عند اللّه} وهو القادر على إتيانكم بها دون كلّ أحدٍ من خلقه. {وما يشعركم} يقول: وما يدريكم {أنّها إذا جاءت لا يؤمنون}.
وذكر أنّ الّذين سألوه الآية من قومه هم الّذين آيس اللّه نبيّه من إيمانهم من مشركي قومه.
وبنحو الّذي قلنا في ذلك قال أهل التّأويل.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثني محمّد بن عمرٍو، قال: حدّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدّثنا عيسى، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، في قول اللّه: {لئن جاءتهم آيةٌ ليؤمننّ بها} إلى قوله: {يجهلون}، سألت قريشٌ محمّدًا صلّى اللّه عليه وسلّم أن يأتيهم بآيةٍ، واستحلفهم ليؤمننّ بها.
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا أبو حذيفة، قال: حدّثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ: {لئن جاءتهم آيةٌ ليؤمننّ بها}، ثمّ ذكر مثله.
- حدّثنا هنّادٌ، قال: حدّثنا يونس بن بكيرٍ، قال: حدّثنا أبو معشرٍ، عن محمّد بن كعبٍ القرظيّ، قال: كلّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قريشًا، فقالوا: يا محمّد، تخبرنا أنّ موسى كان معه عصًا يضرب بها الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينًا، وتخبرنا أنّ عيسى كان يحيي الموتى، وتخبرنا أنّ ثمود كانت لهم ناقةٌ، فأتنا بشيءٍ من الآيات حتّى نصدّقك، فقال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: «أيّ شيءٍ تحبّون أن آتيكم به؟» قالوا: تجعل لنا الصّفا ذهبًا، فقال لهم: «فإن فعلت تصدّقوني؟» قالوا: نعم واللّه، لئن فعلت لنتّبعك أجمعون، فقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يدعو، فجاءه جبريل عليه السّلام فقال: لك ما شئت إن شئت أصبح ذهبًا، ولئن أرسل آيةً فلم يصدّقوا عند ذلك لنعذّبنّهم، وإن شئت فاتركهم حتّى يتوب تائبهم. فقال: «بل يتوب تائبهم»، فأنزل اللّه تعالى: {وأقسموا باللّه} إلى قوله: {يجهلون}). [جامع البيان: 9/ 484-485]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {وما يشعركم أنّها إذا جاءت لا يؤمنون}.
اختلف أهل التّأويل في المخاطبين بقوله: {وما يشعركم أنّها إذا جاءت لا يؤمنون} فقال بعضهم: خوطب بقوله: {وما يشعركم} المشركون المقسمون باللّه لئن جاءتهم آيةٌ ليؤمننّ، وانتهى الخبر عند قوله: {وما يشعركم}، ثمّ استؤنف الحكم عليهم بأنّهم لا يؤمنون عند مجيئها استئنافًا مبتدأً.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثني محمّد بن عمرٍو، قال: حدّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدّثنا عيسى، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، في قول اللّه: {وما يشعركم} قال: ما يدريكم؟ قال: ثمّ أخبر عنهم أنّهم لا يؤمنون.
- حدّثني المثنّى قال: حدّثنا أبو حذيفة قال: حدّثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ: {وما يشعركم}: وما يدريكم أنّها إذا جاءت؟ قال: أوجب عليهم أنّها إذا جاءت {لا يؤمنون}.
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا إسحاق، قال: سمعت عبد اللّه بن زيدٍ، يقول: إنّما الآيات عند اللّه، ثمّ تستأنف فيقول: {أنّها إذا جاءت لا يؤمنون}.
- حدّثنا القاسم قال: حدّثنا الحسين قال: حدّثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ، قوله: {إنّما الآيات عند اللّه وما يشعركم}: وما يدريكم أنّكم تؤمنون إذا جاءت، ثمّ استقبل يخبر عنهم فقال: {إذا جاءت لا يؤمنون}.
وعلى هذا التّأويل قراءة من قرأ ذلك بكسر ألف: (إنّها)، على أنّ قوله: (إنّها إذا جاءت لا يؤمنون) خبر مبتدأٍ منقطعٌ عن الأوّل.
وممّن قرأ ذلك كذلك بعض قرّاء المكّيّين والبصريّين.
وقال آخرون منهم: بل ذلك خطابٌ من اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه، قالوا: وذلك أنّ الّذين سألوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أن يأتي بآيةٍ، المؤمنون به، قالوا: وإنّما كان سبب مسألتهم إيّاه ذلك أنّ المشركين حلفوا أنّ الآية إذا جاءت آمنوا واتّبعوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فقال أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: سل يا رسول اللّه ربّك ذلك، فسأل، فأنزل اللّه فيهم وفي مسألتهم إيّاه ذلك: قل للمؤمنين بك يا محمّد: إنّما الآيات عند اللّه، وما يشعركم أيّها المؤمنون بأنّ الآيات إذا جاءت هؤلاء المشركين باللّه أنّهم لا يؤمنون به، ففتحوا الألف من (أنّ).
وممّن قرأ ذلك كذلك عامّة قرّاء أهل المدينة والكوفة، وقالوا: أدخلت (لا) في قوله: {لا يؤمنون} صلةً، كما أدخلت في قوله: {ما منعك ألاّ تسجد}، وفي قوله: {وحرامٌ على قريةٍ أهلكناها أنّهم لا يرجعون}، وإنّما المعنى: وحرامٌ عليهم أن يرجعوا، وما منعك أن تسجد.
وقد تأوّل قومٌ قرءوا ذلك بفتح الألف من: {أنّها} بمعنى: لعلّها، وذكروا أنّ ذلك كذلك في قراءة أبيّ بن كعبٍ.
وقد ذكر عن العرب سماعًا منها: اذهب إلى السّوق أنّك تشتري لي شيئًا، بمعنى: لعلّك تشتري.
وقد قيل: إنّ قول عديّ بن زيدٍ العباديّ:
أعاذل ما يدريك أنّ منيّتي ....... إلى ساعةٍ في اليوم أو في ضحى الغد
بمعنى: لعلّ منيّتي، وقد أنشدوني بيت دريد بن الصّمّة:
ذريني أطوّف في البلاد لأنّني ....... أرى ما ترين أو بخيلاً مخلّدا
بمعنى: لعلّني. والّذي أنشدني أصحابنا عن الفرّاء: لعلّني أرى ما ترين
وقد أنشد أيضًا بيت توبة بن الحميّر:
لعلّك يا تيسًا نزا في مريرةٍ ....... معذّب ليلى أن تراني أزورها
لهنّك يا تيسًا) بمعنى: لأنّك الّتي في معنى لعلّك.
وأنشد بيت أبي النّجم العجليّ:
قلت لشيبان ادن من لقائه ....... إنّا نغدّي القوم من شوائه
يعني: لعلّنا نغدّي القوم.
وأولى التّأويلات في ذلك بتأويل الآية، قول من قال: ذلك خطابٌ من اللّه للمؤمنين به من أصحاب رسوله، أعني قوله: {وما يشعركم أنّها إذا جاءت لا يؤمنون}، وأنّ قوله: {أنّها} بمعنى: (لعلّها).
وإنّما كان ذلك أولى تأويلاته بالصّواب لاستفاضة القراءة في قرّاء الأمصار بالياء من قوله: {لا يؤمنون}.
ولو كان قوله: {وما يشعركم} خطابًا للمشركين، لكانت القراءة في قوله: {لا يؤمنون} بالتّاء، وذلك وإن كان قد قرأه بعض قرّاء المكّيّين كذلك، فقراءةٌ خارجةٌ عمّا عليه قرّاء الأمصار، وكفى بخلاف جميعهم لها دليلاً على ذهابها وشذوذها.
وإنّما معنى الكلام: وما يدريكم أيّها المؤمنون لعلّ الآيات إذا جاءت هؤلاء المشركين لا يؤمنون، فيعاجلوا بالنّقمة والعذاب عند ذلك ولا يؤخّروا به). [جامع البيان: 9/ 486-489]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): ({وأقسموا باللّه جهد أيمانهم لئن جاءتهم آيةٌ ليؤمننّ بها قل إنّما الآيات عند اللّه وما يشعركم أنّها إذا جاءت لا يؤمنون (109)}
قوله تعالى: {وأقسموا باللّه}
- قرئ على يونس بن عبد الأعلى ثنا ابن وهبٍ ثنا سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيحٍ عن مجاهدٍ في قول اللّه: {وأقسموا باللّه جهد أيمانهم}، قال: هي يمينٌ.
- حدّثنا أبو بجيرٍ المحاربيّ ثنا عبد الرّحيم بن عبد الرّحمن المحاربيّ عن زائدة قال: قرأ سليمان الأعمش، وزعم أنّ يحيى بن وثّابٍ يقرأ: وأقسموا باللّه جهد أيمانهم، وهو الحلف.
قوله:{لئن جاءتهم آيةٌ ليؤمننّ بها}
- حدّثنا حجّاج بن حمزة ثنا شبابة ثنا ورقاء عن ابن أبي نجيحٍ عن مجاهدٍ
: قوله: {وأقسموا باللّه جهد أيمانهم لئن جاءتهم آيةٌ ليؤمننّ بها}، سألت قريشٌ محمّدًا صلّى الله عليه وسلّم أن يأتيهم بآيةٍ استحلفهم ليؤمننّ بها.
قوله: {قل إنّما الآيات عند اللّه، وما يشعركم}
- وبه عن مجاهدٍ: قوله: قل إنّما الآيات عند اللّه وما يشعركم أنّها إذا جاءت لا يؤمنون، قال: ما يدريكم.
قوله: {أنّها إذا جاءت لا يؤمنون}
- وبه عن مجاهدٍ
: قوله: أنّها إذا جاءت لا يؤمنون، ثمّ أوجب عليهم أنّهم لا يؤمنون.
- حدّثنا الحسين بن الحسن ثنا إبراهيم بن عبد اللّه الهرويّ ثنا حجّاج بن محمّدٍ عن ابن جريجٍ أخبرني ابن كثيرٍ أنّه سمع مجاهدًا، في قوله: وما يشعركم أنّها إذا جاءت لا يؤمنون، قال: وما يدريكم أنّكم تؤمنون إذا جاءتهم. ثمّ استقبل يخبر فقال: إنّما هي إذا جاءت لا يؤمنون). [تفسير القرآن العظيم: 4/ 1368]
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمنِ بنُ الحَسَنِ الهَمَذَانِيُّ (ت: 352هـ):
(نا إبراهيم قال نا آدم قال ثنا ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد واقسموا بالله قال سألت قريش محمدا صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بآية وحلفوا له ليؤمنن بها فقال الله عز وجل وما يشعركم يقول وما يدريكم أنهم مؤمنون ثم أوجب عليهم أنهم لا يؤمنون). [تفسير مجاهد: 221]
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمنِ بنُ الحَسَنِ الهَمَذَانِيُّ (ت: 352هـ): (ثنا إبراهيم قال حدثنا آدم قال ثنا ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد وأقسموا بالله سألت قريش محمدا صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بآية حلفوا له ليؤمنن بها).[تفسير مجاهد: 222]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (أخرج أبو الشيخ عن ابن عباس قال: أنزلت في قريش {وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم} يا معشر المسلمين {أنها إذا جاءت لا يؤمنون} إلا أن يشاء الله فيجبرهم على الإسلام.
- وأخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي قال كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا فقالوا: يا محمد تخبرنا أن موسى كان معه عصا يضرب بها الحجر وأن عيسى كان يحيى الموتى وأن ثمود كان لهم ناقة فأتنا من الآيات حتى نصدقك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أي شيء تحبون أن آتيكم به» قالوا: تجعل لنا الصفا ذهبا، قال: «فإن فعلت تصدقوني» قالوا: نعم، والله لئن فعلت لنتبعنك أجمعون، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوا فجاءه جبريل فقال له: إن شئت أصبح ذهبا، فإن لم يصدقوا عند ذلك لنعذبهم وإن شئت فاتركهم حتى يتوب تائبهم فقال: «بل يتوب تائبهم»، فأنزل الله: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم}، إلى قوله: {يجهلون}.
- وأخرج أبو الشيخ عن ابن جريح {وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية} في المستهزئين هم الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية فنزل فيهم {وأقسموا بالله} حتى {ولكن أكثرهم يجهلون}.
- وأخرج ابن أبي شيبة عن مجاهد قال: القسم يمين ثم قرأ {وأقسموا بالله جهد أيمانهم}.
- وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن عباس قال: القسم يمين.
- وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها} قال: سألت قريشا محمدا صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بآية فاستحلفهم ليؤمنن بها {قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم} قال: ما يدريكم ثم أوجب عليهم أنهم لا يؤمنون {ونقلب أفئدتهم} قال: نحول بينهم وبين الإيمان لو جاءتهم كل آية كما حلنا بينهم وبينه أول مرة {ونذرهم في طغيانهم يعمهون} قال: يترددون
- وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ من وجه آخر عن مجاهد في قوله: {وما يشعركم} قال: وما يدريكم أنكم تؤمنون إذا جاءت ثم استقبل يخبر فقال: إنها إذا جاءت لا يؤمنون.
- وأخرج أبو الشيخ عن النضر بن شميل قال: سأل رجل الخليل بن أحمد عن قوله: {وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون} فقال: إنها لعلها ألا ترى أنك تقول: اذهب إنك تأتينا بكذا وكذا يقول: لعلك). [الدر المنثور: 6/ 170-172]

تفسير قوله تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)}
قال عبد الله بن المبارك بن واضح المروزي (ت: 181هـ): (أخبرنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، قال: حدثني إسماعيل بن عبدالله، قال: حدثتني أم الدرداء أنه أغشي على أبي الدرداء فأفاق، فإذا بلال ابنه عنده، قال: قم فاخرج عني، ثم قال: من يعمل لمثل مضجعي هذا، من يعمل لمثل ساعتي هذه، {ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون} [سورة الأنعام: 110]، أبيتم، ثم يغمى عليه، فيلبث لبثًا، ثم يفيق، ثم يقول مثل ذلك، فلم يزل يرددها حتى قبض). [الزهد لابن المبارك: 2/ 15-16]
قال أبو بكرٍ عبدُ الله بنُ محمدٍ ابنُ أبي شيبةَ العبسيُّ (ت: 235هـ): (حدّثنا عليّ بن إسحاق، عن ابن مباركٍ، عن عبد الرّحمن بن يزيد بن جابرٍ، قال: أخبرني إسماعيل بن عبيد الله، قال: حدّثتني أمّ الدّرداء، أنّه أغمي على أبي الدّرداء فأفاق، فإذا بلالٌ ابنه عنده، فقال: قم فاخرج عنّي، ثمّ قال: من يعمل لمثل مضجعي هذا، من يعمل لمثل ساعتي هذه، {ونقلّب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أوّل مرّةٍ ونذرهم في طغيانهم يعمهون}، قالت: ثمّ يغمى عليه فيلبث لبثًا، ثمّ يفيق فيقول مثل ذلك، فلم يزل يردّدها حتّى قبض). [مصنف ابن أبي شيبة: 19/ 184]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {ونقلّب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أوّل مرّةٍ}.

قال أبو جعفرٍ: اختلف أهل التّأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معنى ذلك: لو أنّا جئناهم بآيةٍ كما سألوا ما آمنوا كما لم يؤمنوا بما قبلها أوّل مرّةٍ، لأنّ اللّه حال بينهم وبين ذلك.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثني محمّد بن سعدٍ، قال: حدّثني أبي قال: حدّثني عمّي قال: حدّثني أبي، عن أبيه، عن ابن عبّاسٍ، قوله: {ونقلّب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أوّل مرّةٍ} الآية، قال: لمّا جحد المشركون ما أنزل اللّه لم تثبت قلوبهم على شيءٍ، وردّت عن كلّ أمرٍ.
- حدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ، في قوله: {ونقلّب أفئدتهم وأبصارهم} قال: نمنعهم من ذلك كما فعلنا بهم أوّل مرّةٍ. وقرأ: {كما لم يؤمنوا به أوّل مرّةٍ}.
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ: {ونقلّب أفئدتهم وأبصارهم} قال: نحول بينهم وبين الإيمان، ولو جاءتهم كلّ آيةٍ فلا يؤمنون، كما حلنا بينهم وبين الإيمان أوّل مرّةٍ.
وقال آخرون: معنى ذلك: ونقلّب أفئدتهم وأبصارهم، لو ردّوا من الآخرة إلى الدّنيا فلا يؤمنون، كما فعلنا بهم ذلك، فلم يؤمنوا في الدّنيا. قالوا: وذلك نظير قوله: {ولو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه}.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا عبد اللّه بن صالحٍ، قال: حدّثني معاوية بن صالحٍ، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ، قال: أخبر اللّه، سبحانه ما العباد قائلون قبل أن يقولوه وعملهم قبل أن يعملوه، قال: {ولا ينبّئك مثل خبيرٍ}: {أن تقول نفسٌ يا حسرتا على ما فرّطت في جنب اللّه وإن كنت لمن السّاخرين. أو تقول لو أنّ اللّه هداني لكنت من المتّقين. أو تقول حين ترى العذاب لو أنّ لي كرّةً فأكون من المحسنين}، يقول: من المهتدين. فأخبر اللّه سبحانه أنّهم لو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه، وإنّهم لكاذبون، وقال: {ونقلّب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أوّل مرّةٍ} قال: لو ردّوا إلى الدّنيا لحيل بينهم وبين الهدى، كما حلنا بينهم وبينه أوّل مرّةٍ وهم في الدّنيا.
وأولى التّأويلات في ذلك عندي بالصّواب أن يقال: إنّ اللّه جلّ ثناؤه أخبر عن هؤلاء الّذين أقسموا باللّه جهد أيمانهم لئن جاءتهم آيةٌ ليؤمننّ بها، أنّه يقلّب أفئدتهم وأبصارهم ويصرّفها كيف شاء، وأنّ ذلك بيده يقيمه إذا شاء ويزيغه إذا أراد، وأنّ قوله: {كما لم يؤمنوا به أوّل مرّةٍ} دليلٌ على محذوفٍ من الكلام، وأنّ قوله: (كما) تشبيه ما بعده بشيءٍ قبله.
وإذ كان ذلك كذلك، فالواجب أن يكون معنى الكلام: ونقلّب أفئدتهم فنزيغها عن الإيمان، وأبصارهم عن رؤية الحقّ ومعرفة موضع الحجّة، وإن جاءتهم الآية الّتي سألوها فلا يؤمنوا باللّه ورسوله وما جاء به من عند اللّه كما لم يؤمنوا بتقليبنا إيّاها قبل مجيئها مرّةً قبل ذلك.
وإذا كان ذلك تأويله كانت الهاء من قوله: {كما لم يؤمنوا به} كناية ذكر التّقليب).[جامع البيان: 9/ 490-492]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {ونذرهم في طغيانهم يعمهون}.
يقول تعالى ذكره: ونذر هؤلاء المشركين الّذين أقسموا باللّه جهد أيمانهم لئن جاءتهم آيةٌ ليؤمننّ بها عند مجيئها في تمرّدهم على اللّه واعتدائهم في حدوده، يتردّدون لا يهتدون لحقٍ، ولا يبصرون صوابًا، قد غلب عليهم الخذلان واستحوذ عليهم الشّيطان). [جامع البيان: 9/ 492]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): ({ونقلّب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أوّل مرّةٍ ونذرهم في طغيانهم يعمهون (110)}
قوله تعالى: {ونقلّب أفئدتهم وأبصارهم}
- أخبرنا محمّد بن سعدٍ العوفيّ فيما كتب إليّ، حدّثني أبي حدّثني عمّي عن أبيه عن عطيّة عن ابن عبّاسٍ: قوله: {ونقلّب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أوّل مرة}، قال: لمّا جحد المشركون ما أنزل اللّه، لم تثبت قلوبهم على شيءٍ وردّت عن كلّ أمرٍ.
- حدّثنا أبي ثنا إبراهيم بن موسى أنا هشامٌ عن ابن جريجٍ أخبرني ابن كثيرٍ عن مجاهدٍ أنّه قال: ونقلّب أفئدتهم نحول بينهم وبين الإيمان لو جاءتهم آيةٌ كما حلنا بينهم وبينه أوّل مرّةٍ.
- أخبرنا أبو يزيد القراطيسيّ فيما كتب إليّ ثنا أصبغ بن الفرج قال:
سمعت عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم في قوله: ونقلّب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أوّل مرّةٍ، قال: نمنعه من ذلك كما فعلنا بهم أوّل مرّةٍ. وقرأ: كما لم يؤمنوا به أوّل مرّةٍ.
- حدّثنا أبي ثنا هشام بن عمّارٍ ثنا الوليد عن شعيب بن رزيقٍ عن عطاءٍ الخرساني عن عكرمة في قوله: ونقلّب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة قال عكرمة: جاءهم محمّدٌ بالبيّنات، فلم يؤمنوا به، فقلّبنا أبصارهم وأفئدتهم، ولو جاءتهم كلّ آيةٍ مثل ذلك لم يؤمنوا، إلا أن يشاء اللّه.
- حدّثنا أبي ثنا أبو صالحٍ حدّثني معاوية بن صالحٍ عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عبّاسٍ: قوله: كما لم يؤمنوا به أوّل مرّةٍ، ثمّ قال: لو ردّوا إلى الدّنيا لحيل بينهم وبين الهدى كما حلنا بينهم وبينه أوّل مرّةٍ وهم في الدّنيا.
قوله: {ونذرهم}
- حدّثنا موسى بن أبي موسى الأنصاريّ ثنا هارون بن حاتمٍ ثنا عبد الرّحمن بن أبي حمّادٍ عن أسباطٍ عن السّدّيّ عن أبي مالكٍ: قوله: {ونذرهم} يعني نتخلّى عنهم.
قوله: {في طغيانهم}
- حدّثنا أبو زرعة ثنا منجاب بن الحارث ثنا بشر بن عمارة عن أبي روقٍ عن الضّحّاك عن ابن عبّاسٍ: قوله: {في طغيانهم}، في كفرهم.
- حدّثنا عصام بن روّادٍ ثنا آدم ثنا أبو جعفرٍ الرّازيّ عن الرّبيع بن أنسٍ عن أبي العالية، في قوله: في طغيانهم، يعني: في ضلالتهم.
وروي عن السّدّيّ نحو قول ابن عبّاسٍ وقتادة والرّبيع نحو قول أبي العالية.
قوله تعالى:
{يعمهون}
الوجه الأول:
- حدّثنا أبي ثنا أبو صالحٍ كاتب اللّيث حدّثني معاوية بن صالحٍ عن عليّ ابن أبي طلحة عن ابن عبّاسٍ، قوله:
{يعمهون}، قال: يتمادون. وروي عن السّدّيّ نحو ذلك.
الوجه الثّاني:
- حدّثنا أبو زرعة ثنا منجاب أنا بشرٌ عن أبي روقٍ عن الضّحّاك عن ابن عبّاسٍ، قوله:
{يعمهون} قال: في كفرهم يتردّدون.
وروي عن أبي العالية ومجاهدٍ وأبي مالكٍ والرّبيع بن أنسٍ مثل ذلك.
الوجه الثّالث:
- حدّثنا عليّ بن الحسين ثنا عثمان بن أبي شيبة ثنا معاوية بن هشامٍ ثنا سفيان عن الأعمش: في طغيانهم يعمهون قال: يلعبون).[تفسير القرآن العظيم: 4/ 1369-1370]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة} قال: لما جحد المشركون ما أنزل الله لم تثبت قلوبهم على شيء وردت عن كل أمر.
- وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله: {ونقلب أفئدتهم} الآية، قال: جاءهم محمد بالبينات فلم يؤمنوا به فقلبنا أبصارهم وأفئدتهم ولو جاءتهم كل آية مثل ذلك لم يؤمنوا إلا أن يشاء الله.
- وأخرج ابن المبارك وأحمد في الزهد، وابن أبي شيبة والبيهقي في شعب الإيمان، وابن عساكر عن أم الدرداء، أن أبا الدرداء لما احتضر جعل يقول: من يعمل لمثل يومي هذا: من يعمل لمثل ساعتي هذه من يعمل لمثل مضجعي هذا ثم يقول: {ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون} ثم يغمى عليه ثم يفيق فيقولها حتى قبض). [الدر المنثور: 6/ 172-173]

تفسير قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111)}
قال محمدُ بنُ إسماعيلَ بن إبراهيم البخاريُّ (ت: 256هـ) :(حدّثنا حفص بن عمر، حدّثنا شعبة، عن عمرٍو، عن أبي وائلٍ، عن عبد اللّه رضي اللّه عنه، قال: «لا أحد أغير من اللّه، ولذلك حرّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا شيء أحبّ إليه المدح من اللّه، ولذلك مدح نفسه» قلت: سمعته من عبد اللّه؟ قال: نعم، قلت: ورفعه؟ قال: نعم {وكيلٌ} [الأنعام: 102] : «حفيظٌ ومحيطٌ به» . {قبلًا} [الأنعام: 111] : " جمع قبيلٍ، والمعنى: أنّه ضروبٌ للعذاب، كلّ ضربٍ منها قبيلٌ "). [صحيح البخاري: 6/ 57] (م)
- قال أحمدُ بنُ عَلَيِّ بنِ حجرٍ العَسْقَلانيُّ (ت: 852هـ): (قوله قبلًا جمع قبيلٍ والمعنى أنّه ضروبٌ للعذاب كلّ ضربٍ منها قبيلٌ انتهى هو من كلام أبي عبيدة أيضًا لكن بمعناه قال في قوله تعالى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا قال فمعنى حشرنا جمعنا وقبلًا جمع قبيلٍ أي صنف وروى بن جريرٍ عن مجاهدٍ قال قبلًا أي أفواجًا قال بن جريرٍ أي حشرنا عليهم كلّ شيءٍ قبيلةً قبيلةً صنفًا صنفًا وجماعةً جماعةً فيكون القبل جمع قبيل الّذي هو جمع قبيلةٍ فيكون القبل جمع الجمع قال أبو عبيدة ومن قرأها قبلًا أي بكسر القاف فإنّه يقول معناها عيانًا انتهى ويجوز أن يكون بمعنى ناحيةٍ يقول لي قبل فلان كذا أي من جهته فهو نصبٌ على الظّرفيّة وقال آخرون قبلًا أي مقابلًا انتهى وقد روى بن أبي حاتم وبن جريرٍ من طريق عليّ بن أبي طلحة عن بن عبّاس في قوله كل شيء قبلا أي معاينةً فكأنّه قرأها بكسر القاف وهي قراءة أهل المدينة وبن عامرٍ مع أنّه يجوز أن يكون بالضّمّ ومعناه المعاينة يقول رأيته قبلا لآدبرا إذا أتيته من قبل وجهه وتستوي على هذا القراءتان قال بن جريرٍ ويحتمل أن يكون القبل جمع قبيلٍ وهو الضّمين والكفيل أي وحشرنا عليهم كلّ شيءٍ كفيلًا يكفلون لهم أنّ الّذي نعدهم حقٌّ وهو بمعنى قوله في الآية الأخرى أو تأتي باللّه والملائكة قبيلا انتهى ولم أر من فسره بأصناف العذاب فليحرّر هذا تنبيهٌ ثبت هذا والّذي بعده لأبي ذرٍّ عن المستملي والكشميهنيّ حسب). [فتح الباري: 8/ 296]
- قال محمودُ بنُ أحمدَ بنِ موسى العَيْنِيُّ (ت: 855هـ) : (قبلاً جمع قبيلٍ والمعنى أنّه ضروبٌ للعذاب كلّ ضربٍ منها قبيلٌ قبلا أشار به إلى قوله تعالى: {وحشرنا عليهم كل شيء قبلا} ثمّ قال قبلا جمع قبيل، وفي التّفسير: قبلا جمع قبيلة، يعني: فوجا فوجا وصنفًا صنفا. وقال الأخفش: أي قبيلاً قبيلاً. والقبيل في غير هذا الموضع بمعنى الكفيل، وبمعنى العريف وبمعنى الجماعة يكون من الثّلاثة فصاعدا من قوم شتّى مثل الرّوم والزنج والعرب، والجمع: قبل، بضمّتين قوله: والمعنى أشار به إلى أن معنى قبيل ضروب يعني أنواعا للعذاب كل ضرب أي كل نوع من تلك الضروب، قبيل: أي نوع، وقرأ بعضهم: قبلا بكسر القاف وفتح الباء من المقابلة والمعاينة. وقرأ آخرون قبلا بضمهما بمعنى عيانًا قاله عليّ بن أبي طلحة عن ابن عبّاس، وبه قال قتادة وعبد الرّحمن ابن أبي زيد بن أسلم. وقال مجاهد: قبلا أفواجًا قبيلاً قبيلاً).[عمدة القاري: 18/ 228-229]
- قال أحمدُ بنُ محمدِ بن أبي بكرٍ القَسْطَلاَّنيُّ (ت: 923هـ) : (وقوله: {وحشرنا عليهم كل شيء} ({قبلًا}) . هو (جمع قبيل، والمعنى أنه ضروب للعذاب كل ضرب منها قبيل). قال أبو عبيدة: وحشرنا جمعنا. وقبلًا جمع قبيل أي صنف. وقال مجاهد: قبلًا أفواجًا قبيلًا قبيلًا أي تعرض عليهم كل أمة من الأمم فتخبرهم بصدق الرسل فيما جاؤوهم به ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله. وقال ابن جرير ويحتمل أن يكون القبل جمع قبيل وهو الضمين والكفيل أي وحشرنا عليهم كل شيء كفلاء يكفلون لهم أن الذي نعدهم حق وهو معنى قوله في الآية الأخرى: أو تأتي بالله والملائكة قبيلًا. اهـ.
وبالكفيل فسره البيضاوي كالزمخشري والسمرقندي وابن عادل وغيرهم. قال في الفتح: ولم أر من فسره بأصناف العذاب فليحرر). [إرشاد الساري: 7/ 122]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {ولو أنّنا نزّلنا إليهم الملائكة وكلّمهم الموتى وحشرنا عليهم كلّ شيءٍ قبلاً ما كانوا ليؤمنوا إلاّ أن يشاء اللّه ولكنّ أكثرهم يجهلون}.
يقول تعالى ذكره لنبيّه محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم: يا محمّد، ايئس من فلاح هؤلاء العادلين بربّهم الأوثان والأصنام، القائلين لك: لئن جئتنا بآيةٍ لنؤمننّ لك، فإنّنا لو {نزّلنا إليهم الملائكة} حتّى يروها عيانًا، {وكلّمهم الموتى} بإحيائنا إيّاهم، حجّةً لك ودلالةً على نبوّتك، وأخبروهم أنّك محقٌّ فيما تقول، وأنّ ما جئتهم به حقٌّ من عند اللّه، {وحشرنا عليهم كلّ شيءٍ} فجعلناهم لك {قبلاً} ما آمنوا ولا صدّقوك، ولا اتّبعوك، {إلاّ أن يشاء اللّه} ذلك لمن شاء منهم. {ولكنّ أكثرهم يجهلون} يقول: ولكنّ أكثر هؤلاء المشركين يجهلون أنّ ذلك كذلك، يحسبون أنّ الإيمان إليهم والكفر بأيديهم، متى شاءوا آمنوا، ومتى شاءوا كفروا. وليس ذلك كذلك، ذلك بيدي، لا يؤمن منهم إلاّ من هديته له فوفّقته، ولا يكفر إلاّ من خذلته عن الرّشد فأضللته.
وقيل: إنّ ذلك نزل في المستهزئين برسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، وما جاء به من عند اللّه، من مشركي قريشٍ.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثنا حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، قال: نزلت في المستهزئين الّذين سألوا النّبيّ -صلّى اللّه عليه وسلّم- الآية، فقال: قل يا محمّد: إنّما الآيات عند اللّه، وما يشعركم أنّها إذا جاءت لا يؤمنون. ونزل فيهم: {ولو أنّنا نزّلنا إليهم الملائكة وكلّمهم الموتى وحشرنا عليهم كلّ شيءٍ قبلاً}.
وقال آخرون: إنّما قيل: {ما كانوا ليؤمنوا} يراد به أهل الشّقاء، وقيل: {إلاّ أن يشاء اللّه} فاستثنى ذلك من قوله: {ليؤمنوا}، يراد به أهل الإيمان والسّعادة.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا عبد اللّه بن صالحٍ، قال: حدّثني معاوية بن صالحٍ، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ، قوله: {ولو أنّنا نزّلنا إليهم الملائكة وكلّمهم الموتى وحشرنا عليهم كلّ شيءٍ قبلاً ما كانوا ليؤمنوا}: وهم أهل الشّقاء. ثمّ قال: {إلاّ أن يشاء اللّه}: وهم أهل السّعادة الّذين سبق لهم في علمه أن يدخلوا في الإيمان.
وأولى القولين في ذلك بالصّواب قول ابن عبّاسٍ، لأنّ اللّه جلّ ثناؤه عمّ بقوله: {ما كانوا ليؤمنوا} القوم الّذين تقدّم ذكرهم في قوله: {وأقسموا باللّه جهد أيمانهم لئن جاءتهم آيةٌ ليؤمننّ بها}.
وقد يجوز أن يكون الّذين سألوا الآية كانوا هم المستهزئين الّذين قال ابن جريجٍ: إنّهم عنوا بهذه الآية، ولكن لا دلالة في ظاهر التّنزيل على ذلك، ولا خبر تقوم به حجّةٌ بأنّ ذلك كذلك. والخبر من اللّه خارجٌ مخرج العموم، فالقول بأنّ ذلك عني به أهل الشّقاء منهم أولى لما وصفنا.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: {وحشرنا عليهم كلّ شيءٍ قبلاً}، فقرأته قرّاء أهل المدينة: (قبلاً) بكسر القاف وفتح الباء، بمعنى معاينةً، من قول القائل: لقيته قبلاً: أي معاينةً ومجاهرةً.
وقرأ ذلك عامّة قرّاء الكوفيّين والبصريّين: وحشرنا عليهم كلّ شيءٍ {قبلاً} بضمّ القاف والباء.
وإذا قرئ كذلك كان له من التّأويل ثلاثة أوجهٍ: أحدها أن يكون القبل جمع قبيلٍ كالرّغف الّتي هي جمع رغيفٍ، والقضب الّتي هي جمع قضيبٍ، ويكون القبل: الضمناء والكفلاء، وإذا كان ذلك معناه، كان تأويل الكلام: وحشرنا عليهم كلّ شيءٍ كفلاء يكفلون لهم بأنّ الّذي نعدهم على إيمانهم باللّه إن آمنوا، أو نوعدهم على كفرهم باللّه إن هلكوا على كفرهم، ما آمنوا إلاّ أن يشاء اللّه.
والوجه الآخر: أن يكون (القبل) بمعنى المقابلة والمواجهة، من قول القائل: أتيتك قبلاً لا دبرًا، إذا أتاه من قبل وجهه.
والوجه الثّالث: أن يكون معناه: وحشرنا عليهم كلّ شيءٍ قبيلةً قبيلةً، صنفًا صنفًا، وجماعةً جماعةً. فيكون القبل حينئذٍ جمع قبيلٍ الّذي هو جمع قبيلةٍ، فيكون القبل جمع الجمع.
وبكلّ ذلك قد قالت جماعةٌ من أهل التّأويل.
ذكر من قال: معنى ذلك: معاينةٌ.
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا عبد اللّه بن صالحٍ، قال: حدّثني معاوية بن صالحٍ، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: {وحشرنا عليهم كلّ شيءٍ قبلاً} يقول: معاينةً.
- حدّثنا بشرٌ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة: {وحشرنا عليهم كلّ شيءٍ قبلاً} حتّى يعاينوا ذلك معاينةً، {ما كانوا ليؤمنوا إلاّ أن يشاء اللّه}.
ذكر من قال: معنى ذلك: قبيلةً قبيلةً، صنفًا صنفًا.
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا إسحاق، قال: حدّثنا عبد اللّه بن يزيد، من قرأ: {قبلاً} معناه: قبيلاً قبيلاً.
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، قال: قال مجاهدٌ: {قبلاً}: أفواجًا، قبيلاً قبيلاً.
- حدّثني المثنّى قال: حدّثنا إسحاق قال: حدّثنا أحمد بن يونس، عن أبي خيثمة قال: حدّثنا أبان بن تغلب قال: حدّثني طلحة، أنّ مجاهدًا قرأ في الأنعام: {كلّ شيءٍ قبلاً} قال: قبائل، قبيلاً وقبيلاً وقبيلاً.
ذكر من قال: معناه: مقابلةٌ:
- حدّثني محمّد بن سعدٍ، قال: حدّثني أبي قال: حدّثني عمّي قال: حدّثني أبي، عن أبيه، عن ابن عبّاسٍ، قوله: {ولو أنّنا نزّلنا إليهم الملائكة وكلّمهم الموتى وحشرنا عليهم كلّ شيءٍ قبلاً} يقول: لو استقبلهم ذلك كلّه، لم يؤمنوا إلاّ أن يشاء اللّه.
- حدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ، في قوله: {وحشرنا عليهم كلّ شيءٍ قبلاً} قال: حشروا إليهم جميعًا، فقابلوهم وواجهوهم.
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا إسحاق، قال: حدّثنا عبد اللّه بن يزيد، قرأ عيسى: {قبلاً} ومعناه: عيانًا.
وأولى القراءتين في ذلك بالصّواب عندنا، قراءة من قرأ: {وحشرنا عليهم كلّ شيءٍ قبلاً} بضمّ القاف والباء، لما ذكرنا من احتمال ذلك الأوجه الّتي بيّنّا من المعاني، وأنّ معنى القبل داخلٌ فيه، وغير داخلٍ في القبل معاني القبل.
وأمّا قوله: {وحشرنا عليهم} فإنّ معناه: وجمعنا عليهم، وسقنا إليهم). [جامع البيان: 9/ 492-496]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): ({ولو أنّنا نزّلنا إليهم الملائكة وكلّمهم الموتى وحشرنا عليهم كلّ شيءٍ قبلًا ما كانوا ليؤمنوا إلّا أن يشاء اللّه ولكنّ أكثرهم يجهلون (111)}
قوله تعالى: {ولو أنّنا نزّلنا إليهم الملائكة وكلّمهم الموتى}
- أخبرنا محمّد بن سعدٍ العوفيّ فيما كتب إليّ حدّثني أبي حدّثني عمّي عن أبيه عن عطيّة عن ابن عبّاسٍ قوله: ولو أنّنا نزّلنا إليهم الملائكة وكلّمهم الموتى وحشرنا عليهم كلّ شيءٍ قبلا، يقول: لو استقبلهم ذلك كلّه لم يؤمنوا إلا أن يشاء اللّه.
قوله: {قبلا}
- حدّثنا أبي ثنا أبو صالحٍ حدّثني معاوية بن صالحٍ عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عبّاسٍ: وحشرنا عليهم كلّ شيءٍ قبلا، يقول: معاينةً.
قوله: {ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء اللّه ... الآية}.
- حدّثنا حجّاج بن حمزة ثنا شبابة ثنا ورقاء عن ابن أبي نجيحٍ عن مجاهدٍ: قوله: ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء اللّه ولكنّ أكثرهم يجهلون قال: سألت قريشٌ محمّدًا صلّى الله عليه وسلّم أن يأتيهم بآيةٍ استحلفهم ليؤمننّ بها.
- حدّثنا أبي ثنا أبو صالحٍ كاتب اللّيث حدّثني معاوية بن صالحٍ عن عليّ ابن أبي طلحة عن ابن عبّاسٍ: قوله: ما كانوا ليؤمنوا وهم أهل الشّقاء، ثمّ قال: إلا أن يشاء اللّه وهم أهل السّعادة، الّذين سبق لهم في علمه أن يدخلوا في الإيمان).[تفسير القرآن العظيم: 4/ 1370-1371]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس: {وحشرنا عليهم كل شيء قبلا} قال: معانية {ما كانوا ليؤمنوا} أي أهل الشقاء {إلا أن يشاء الله} أي أهل السعادة الذين سبق لهم في عمله أن يدخلوا في الإيمان.
- وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عن قتادة: {وحشرنا عليهم كل شيء قبلا} أي فعاينوا ذلك معاينة.
- وأخرج أبو الشيخ عن مجاهد: {وحشرنا عليهم كل شيء قبلا} قال: أفواجا قبيلا).[الدر المنثور: 6/ 173]


رد مع اقتباس