عرض مشاركة واحدة
  #9  
قديم 29 محرم 1440هـ/9-10-2018م, 08:46 PM
جمهرة التفاسير جمهرة التفاسير غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 2,953
افتراضي

تفاسير القرن الثامن الهجري

تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({وإذ تقول للّذي أنعم اللّه عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتّق اللّه وتخفي في نفسك ما اللّه مبديه وتخشى النّاس واللّه أحقّ أن تخشاه فلمّا قضى زيدٌ منها وطرًا زوّجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرجٌ في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهنّ وطرًا وكان أمر اللّه مفعولا (37)}.
يقول تعالى مخبرًا عن نبيّه، صلوات اللّه وسلامه عليه، إنّه قال لمولاه زيد بن حارثة وهو الّذي أنعم اللّه عليه، أي: بالإسلام، ومتابعة الرّسول، عليه أفضل الصّلاة والسّلام: {وأنعمت عليه} أي: بالعتق من الرّقّ، وكان سيّدًا كبير الشّأن جليل القدر، حبيبًا إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، يقال له: الحبّ، ويقال لابنه أسامة: الحبّ ابن الحبّ. قالت عائشة، رضي اللّه عنها: ما بعثه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في سريّةٍ إلّا أمّره عليهم، ولو عاش بعده لاستخلفه. رواه أحمد عن سعيد بن محمّدٍ الورّاق ومحمّد بن عبيدٍ، عن وائل بن داود، عن عبد اللّه البهيّ عنها.
وقال البزّار: حدّثنا خالد بن يوسف، حدّثنا أبو عوانة (ح)، وحدّثنا محمّد بن معمر، حدّثنا أبو داود، حدّثنا أبو عوانة، أخبرني عمران بن أبي سلمة، عن أبيه: حدّثني أسامة بن زيدٍ قال: كنت في المسجد، فأتاني العبّاس وعليّ بن أبي طالبٍ، رضي اللّه عنهما، فقالا يا أسامة، استأذن لنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فأتيت رسول اللّه فأخبرته، فقلت: عليٌّ والعبّاس يستأذنان؟ فقال: "أتدري ما حاجتهما؟ " قلت: لا يا رسول اللّه. فقال: "لكنّي أدري"، قال: فأذن لهما. قالا يا رسول اللّه، جئناك لتخبرنا: أيّ أهلك أحبّ إليك؟ فقال: "أحبّ أهلي إليّ فاطمة بنت محمّدٍ" قالا يا رسول اللّه، ما نسألك عن فاطمة. قال: "فأسامة بن زيد بن حارثة، الّذي أنعم اللّه عليه وأنعمت عليه".
وكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قد زوّجه بابنة عمّته زينب بنت جحشٍ الأسديّة -وأمّها أميمة بنت عبد المطّلب -وأصدقها عشرة دنانير، وستّين درهمًا، وخمارا، وملحفة، ودرعًا، وخمسين مدّا من طعامٍ، وعشرة أمدادٍ من تمرٍ. قاله مقاتل بن حيّان، فمكثت عنده قريبًا من سنةٍ أو فوقها، ثمّ وقع بينهما، فجاء زيدٌ يشكوها إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فجعل رسول اللّه يقول له: "أمسك عليك زوجك، واتّق اللّه". قال اللّه تعالى: {وتخفي في نفسك ما اللّه مبديه وتخشى النّاس واللّه أحقّ أن تخشاه}.
ذكر ابن جريرٍ، وابن أبي حاتمٍ هاهنا آثارًا عن بعض السّلف، رضي اللّه عنهم، أحببنا أن نضرب عنها صفحا لعدم صحّتها فلا نوردها.
وقد روى الإمام أحمد هاهنا أيضًا حديثًا، من رواية حمّاد بن زيدٍ، عن ثابتٍ، عن أنسٍ فيه غرابةٌ تركنا سياقه أيضًا.
وقد روى البخاريّ أيضًا بعضه مختصرًا فقال: حدّثنا محمّد بن عبد الرّحيم، حدّثنا معلّى بن منصورٍ، عن حمّاد بن زيدٍ، حدّثنا ثابتٌ، عن أنس بن مالكٍ قال: إنّ هذه الآية: {وتخفي في نفسك ما اللّه مبديه} نزلت في شأن زينب بنت جحشٍ، وزيد بن حارثة، رضي اللّه عنهما.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا عليّ بن هاشم بن مرزوقٍ، حدّثنا ابن عيينة، عن عليّ بن زيد بن جدعان قال: سألني عليّ بن الحسين ما يقول الحسن في قوله: {وتخفي في نفسك ما اللّه مبديه [وتخشى النّاس واللّه أحقّ أن تخشاه]} ؟ فذكرت له فقال: لا ولكنّ اللّه أعلم نبيّه أنّها ستكون من أزواجه قبل أن يتزوّجها، فلمّا أتاه زيدٌ ليشكوها إليه قال: اتّق اللّه، وأمسك عليك زوجك. فقال: قد أخبرتك أنّي مزوّجكها، وتخفي في نفسك ما اللّه مبديه.
وهكذا روي عن السّدّي أنّه قال نحو ذلك.
وقال ابن جريرٍ: حدّثني إسحاق بن شاهين، حدّثني خالدٌ، عن داود عن عامرٍ، عن عائشة، رضي اللّه عنها، أنّها قالت: لو كتم محمّدٌ صلّى اللّه عليه وسلّم شيئًا ممّا أوحي إليه من كتاب اللّه، لكتم: {وتخفي في نفسك ما اللّه مبديه وتخشى النّاس واللّه أحقّ أن تخشاه}.
وقوله: {فلمّا قضى زيدٌ منها وطرًا زوّجناكها}: الوطر: هو الحاجة والأرب، أي: لمّا فرغ منها، وفارقها، زوّجناكها، وكان الّذي ولي تزويجها منه هو اللّه، عزّ وجلّ، بمعنى: أنّه أوحى إليه أن يدخل عليها بلا وليٍّ ولا مهرٍ ولا عقدٍ ولا شهودٍ من البشر.
قال الإمام أحمد: حدّثنا هاشمٌ -يعني: ابن القاسم أبو النّضر -حدّثنا سليمان بن المغيرة، عن ثابتٍ، عن أنسٍ، رضي اللّه عنه، قال: لمّا انقضت عدّة زينب قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لزيد بن حارثة: "اذهب فاذكرها عليّ". فانطلق حتّى أتاها وهي تخمّر عجينها، قال: فلمّا رأيتها عظمت في صدري -حتّى ما أستطيع أن أنظر إليها -أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ذكرها، فولّيتها ظهري ونكصت على عقبي، وقلت: يا زينب، أبشري، أرسلني رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يذكرك. قالت: ما أنا بصانعة شيئا حتى أؤامر ربّي، عزّ وجلّ. فقامت إلى مسجدها، ونزل القرآن، وجاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فدخل عليها بغير إذنٍ. ولقد رأيتنا حين دخلت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أطعمنا عليها الخبز واللّحم، فخرج النّاس وبقي رجالٌ يتحدّثون في البيت بعد الطّعام، فخرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم [واتّبعته] فجعل يتتبّع حجر نسائه يسلّم عليهنّ، ويقلن: يا رسول اللّه، كيف وجدت أهلك؟ فما أدري أنا أخبرته أنّ القوم قد خرجوا أو أخبر. قال: فانطلق حتّى دخل البيت، فذهبت أدخل معه، فألقى السّتر بيني وبينه، ونزل الحجاب، ووعظ القوم بما وعظوا به: {لا تدخلوا بيوت النّبيّ إلا أن يؤذن لكم} الآية.
ورواه مسلمٌ والنّسائيّ من طرقٍ، عن سليمان بن المغيرة، به.
وقد روى البخاريّ، رحمه اللّه، عن أنس بن مالكٍ، رضي اللّه عنه، أنّ زينب بنت جحشٍ كانت تفخر على أزواج النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فتقول: زوّجكنّ أهاليكن وزوجني الله من فوق سبع سموات.
وقد قدّمنا في "سورة النّور" عن محمّد بن عبد اللّه بن جحشٍ قال: تفاخرت زينب وعائشة، فقالت زينب، رضي اللّه عنها: أنا الّتي نزل تزويجي من السّماء، وقالت عائشة: أنا الّتي نزل عذري من السّماء، فاعترفت لها زينب، رضي اللّه عنها.
وقال ابن جريرٍ: حدّثنا ابن حميدٍ، حدّثنا جريرٌ، عن المغيرة، عن الشّعبيّ قال: كانت زينب تقول للنّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم إنّي لأدلّ عليك بثلاثٍ، ما من نسائك امرأةٌ تدلّ بهنّ: إنّ جدّي وجدّك واحدٌ، وإنّي أنكحنيك اللّه من السّماء، وإنّ السّفير جبريل عليه السلام.
وقوله: {لكي لا يكون على المؤمنين حرجٌ في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهنّ وطرًا} أي: إنّما أبحنا لك تزويجها وفعلنا ذلك؛ لئلّا يبقى حرجٌ على المؤمنين في تزويج مطلّقات الأدعياء، وذلك أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم كان قبل النّبوّة قد تبنّى زيد بن حارثة، فكان يقال له: "زيد بن محمّدٍ"، فلمّا قطع اللّه هذه النّسبة بقوله تعالى: {وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم واللّه يقول الحقّ وهو يهدي السّبيل ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند اللّه}، ثمّ زاد ذلك بيانًا وتأكيدًا بوقوع تزويج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بزينب بنت جحشٍ لمّا طلّقها زيد بن حارثة؛ ولهذا قال في آية التحريم: {وحلائل أبنائكم الّذين من أصلابكم} [النّساء:23] ليحترز من الابن الدّعي؛ فإنّ ذلك كان كثيرًا فيهم.
وقوله: {وكان أمر اللّه مفعولا} أي: وكان هذا الأمر الّذي وقع قد قدّره اللّه تعالى وحتّمه، وهو كائنٌ لا محالة، كانت زينب في علم اللّه ستصير من أزواج النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم). [تفسير ابن كثير: 6/ 424-426]

تفسير قوله تعالى: {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({ما كان على النّبيّ من حرجٍ فيما فرض اللّه له سنّة اللّه في الّذين خلوا من قبل وكان أمر اللّه قدرًا مقدورًا (38)}.
يقول تعالى: {ما كان على النّبيّ من حرجٍ فيما فرض اللّه له} أي: فيما أحلّ له وأمره به من تزويج زينب الّتي طلّقها دعيّه زيد بن حارثة.
وقوله: {سنّة اللّه في الّذين خلوا من قبل} أي: هذا حكم اللّه في الأنبياء قبله، لم يكن ليأمرهم بشيءٍ وعليهم في ذلك حرج، وهذا ردٌّ على من توهّم من المنافقين نقصًا في تزويجه امرأة زيدٍ مولاه ودعيه، الّذي كان قد تبنّاه.
{وكان أمر اللّه قدرًا مقدورًا} أي: وكان أمره الّذي يقدّره كائنًا لا محالة، وواقعًا لا محيد عنه ولا معدل، فما شاء [اللّه] كان، وما لم يشأ لم يكن). [تفسير ابن كثير: 6/ 427]

تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({الّذين يبلّغون رسالات اللّه ويخشونه ولا يخشون أحدًا إلا اللّه وكفى باللّه حسيبًا (39) ما كان محمّدٌ أبا أحدٍ من رجالكم ولكن رسول اللّه وخاتم النّبيّين وكان اللّه بكلّ شيءٍ عليمًا (40)}.
يمدح تعالى: {الّذين يبلّغون رسالات اللّه} أي: إلى خلقه ويؤدّونها بأمانتها {ويخشونه} أي: يخافونه ولا يخافون أحدًا سواه فلا تمنعهم سطوة أحدٍ عن إبلاغ رسالات اللّه، {وكفى باللّه حسيبًا} أي: وكفى باللّه ناصرًا ومعينًا. وسيّد النّاس في هذا المقام -بل وفي كلّ مقامٍ- محمّدٍ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم؛ فإنّه قام بأداء الرّسالة وإبلاغها إلى أهل المشارق والمغارب، إلى جميع أنواع بني آدم، وأظهر اللّه كلمته ودينه وشرعه على جميع الأديان والشّرائع، فإنّه قد كان النّبيّ يبعث إلى قومه خاصّةً، وأمّا هو، صلوات اللّه عليه، فإنّه بعث إلى جميع الخلق عربهم وعجمهم، {قل يا أيّها النّاس إنّي رسول اللّه إليكم جميعًا} [الأعراف: 158]، ثمّ ورث مقام البلاغ عنه أمّته من بعده، فكان أعلى من قام بها بعده أصحابه، رضي اللّه عنهم، بلّغوا عنه كما أمرهم به في جميع أقواله وأفعاله وأحواله، في ليله ونهاره، وحضره وسفره، وسرّه وعلانيته، فرضي اللّه عنهم وأرضاهم. ثمّ ورثه كلّ خلفٍ عن سلفهم إلى زماننا هذا، فبنورهم يقتدي المهتدون، وعلى منهجهم يسلك الموفّقون. فنسأل اللّه الكريم المنّان أن يجعلنا من خلفهم.
قال الإمام أحمد: حدّثنا ابن نمير، أخبرنا الأعمش، عن عمرو بن مرّة، عن أبي البختري، عن أبي سعيدٍ الخدريّ، رضي اللّه عنه، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "لا يحقرنّ أحدكم نفسه أن يرى أمر اللّه فيه مقالٌ ثمّ لا يقوله، فيقول اللّه: ما يمنعك أن تقول فيه؟ فيقول: ربّ، خشيت النّاس. فيقول: فأنا أحقّ أن يخشى ".
ورواه أيضًا عن عبد الرّزّاق، عن الثّوريّ، عن زبيدٍ، عن عمرو بن مرّة.
ورواه ابن ماجه، عن أبي كريب، عن عبد اللّه بن نميرٍ وأبي معاوية، كلاهما عن الأعمش، به). [تفسير ابن كثير: 6/ 427-428]

تفسير قوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله: {ما كان محمّدٌ أبا أحدٍ من رجالكم}، نهى [تعالى] أنّ يقال بعد هذا: "زيد بن محمّدٍ" أي: لم يكن أباه وإن كان قد تبنّاه، فإنّه، صلوات اللّه عليه وسلامه، لم يعش له ولدٌ ذكرٌ حتّى بلغ الحلم؛ فإنّه ولد له القاسم، والطّيّب، والطّاهر، من خديجة فماتوا صغارًا، وولد له إبراهيم من مارية القبطيّة، فمات أيضًا رضيعًا، وكان له من خديجة أربع بناتٍ: زينب، ورقيّة، وأمّ كلثومٍ، وفاطمة، رضي اللّه عنهم أجمعين، فمات في حياته ثلاثٌ وتأخّرت فاطمة حتّى أصيبت به، صلوات اللّه وسلامه عليه، ثمّ ماتت بعده لستّة أشهرٍ.
وقوله: {ولكن رسول اللّه وخاتم النّبيّين وكان اللّه بكلّ شيءٍ عليمًا} كقوله: {اللّه أعلم حيث يجعل رسالته} [الأنعام:124] فهذه الآية نصٌّ في أنّه لا نبيّ بعده، وإذا كان لا نبيّ بعده فلا رسول [بعده] بطريق الأولى والأحرى؛ لأنّ مقام الرّسالة أخصّ من مقام النّبوّة، فإنّ كلّ رسولٍ نبيٌّ، ولا ينعكس. وبذلك وردت الأحاديث المتواترة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من حديث جماعةٍ من الصّحابة.
قال الإمام أحمد: حدّثنا أبو عامرٍ الأزديّ، حدّثنا زهير بن محمّدٍ، عن عبد اللّه بن محمّد بن عقيلٍ، عن الطّفيل بن أبيّ بن كعبٍ، عن أبيه، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "مثلي في النّبيّين كمثل رجلٍ بنى دارًا فأحسنها وأكملها، وترك فيها موضع لبنة لم يضعها، فجعل النّاس يطوفون بالبنيان ويعجبون منه، ويقولون: لو تمّ موضع هذه اللّبنة؟ فأنا في النّبيّين موضع تلك اللّبنة".
ورواه التّرمذيّ، عن بندار، عن أبي عامرٍ العقديّ، به، وقال: حسنٌ صحيحٌ.
حديثٌ آخر: قال الإمام أحمد: حدّثنا عفّان، حدّثنا عبد الواحد بن زيادٍ، حدّثنا المختار بن فلفل، حدّثنا أنس بن مالكٍ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "إن الرّسالة والنّبوّة قد انقطعت، فلا رسول بعدي ولا نبيّ." قال: فشقّ ذلك على النّاس قال: قال: ولكنّ المبشّرات". قالوا: يا رسول اللّه، وما المبشّرات؟ قال: "رؤيا الرّجل المسلم، وهي جزءٌ من أجزاء النّبوّة".
وهكذا روى التّرمذيّ عن الحسن بن محمّدٍ الزّعفرانيّ، عن عفّان بن مسلمٍ، به وقال: صحيحٌ غريبٌ من حديث المختار بن فلفل.
حديثٌ آخر: قال أبو داود الطّيالسيّ: حدّثنا سليم بن حيّان، عن سعيد بن ميناء، عن جابر بن عبد اللّه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجلٍ بنى دارًا فأكملها وأحسنها إلّا موضع لبنة، فكان من دخلها فنظر إليها قال: ما أحسنها إلّا موضع هذه اللّبنة! فأنا موضع اللّبنة، ختم بي الأنبياء، عليهم السّلام".
ورواه البخاريّ، ومسلمٌ، والتّرمذيّ من طرقٍ، عن سليم بن حيّان، به. وقال التّرمذيّ: صحيحٌ غريبٌ من هذا الوجه.
حديثٌ آخر: قال الإمام أحمد: حدّثنا أبو معاوية، حدّثنا الأعمش، عن أبي صالحٍ، عن أبي سعيدٍ الخدريّ، رضي اللّه عنه، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: مثلي ومثل النّبيّين [من قبلي] كمثل رجلٍ بنى دارًا فأتمّها إلّا لبنة واحدةً، فجئت أنا فأتممت تلك اللّبنة". انفرد بإخراجه مسلمٌ من رواية الأعمش، به.
حديثٌ آخر: قال [الإمام] أحمد: حدّثنا يونس بن محمّدٍ، حدّثنا حمّاد بن زيدٍ، حدّثنا عثمان بن عبيد الرّاسبيّ قال: سمعت أبا الطّفيل قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم: "لا نبوّة بعدي إلّا المبشّرات". قال: قيل: وما المبشّرات يا رسول اللّه؟ قال: "الرّؤيا الحسنة -أو قال -الرّؤيا الصّالحة."
حديثٌ آخر: قال الإمام أحمد: حدّثنا عبد الرّزّاق، أخبرنا معمر، عن همّام بن منبّه قال: هذا ما حدّثنا أبو هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "إنّ مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجلٍ ابتنى بيوتًا فأحسنها وأكملها وأجملها، إلّا موضع لبنة من زاويةٍ من زواياها، فجعل النّاس يطوفون ويعجبهم البنيان ويقولون: ألا وضعت هاهنا لبنةً فيتمّ بنيانك؟! " قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "فكنت أنا اللّبنة".
أخرجاه من حديث عبد الرّزّاق.
حديثٌ آخر: عن أبي هريرة أيضًا: قال الإمام مسلمٌ: حدّثنا يحيى بن أيّوب وقتيبة وعليّ بن حجرٍ قالوا: حدّثنا إسماعيل بن جعفرٍ، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة، رضي اللّه عنه، أنّ رسول اللّه صلّى الله عليه وسلم قال: "فضلت على الأنبياء بستٍّ: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرّعب، وأحلّت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهورًا ومسجدًا، وأرسلت إلى الخلق كافّةً، وختم بي النبيون".
ورواه التّرمذيّ وابن ماجه، من حديث إسماعيل بن جعفرٍ، وقال التّرمذيّ: حسنٌ صحيحٌ.
حديثٌ آخر: قال الإمام أحمد: حدّثنا أبو معاوية، حدّثنا الأعمش، عن أبي صالحٍ، عن أبي سعيدٍ الخدريّ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "مثلي ومثل الأنبياء من قبلي، كمثل رجلٍ بنى دارًا فأتمّها إلّا موضع لبنةٍ واحدةٍ، فجئت أنا فأتممت تلك اللّبنة".
ورواه مسلمٌ عن أبي بكر بن أبي شيبة، وأبي كريب، كلاهما عن أبي معاوية، به.
حديثٌ آخر: قال الإمام أحمد: حدّثنا عبد الرّحمن بن مهديٍّ، حدّثنا معاوية بن صالحٍ عن سعيد بن سويد الكلبيّ، عن عبد الأعلى بن هلالٍ السّلميّ، عن العرباض بن سارية قال: قال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: "إنّي عند اللّه لخاتم النّبيّين وإنّ آدم لمنجدل في طينته."
حديثٌ آخر: قال الزّهريّ: أخبرني محمّد بن جبير بن مطعمٍ، عن أبيه، رضي اللّه عنه، قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: "إنّ لي أسماءٌ: أنا محمّدٌ، وأنا أحمد، وأنا الماحي الّذي يمحو اللّه تعالى بي الكفر، وأنا الحاشر الّذي يحشر النّاس على قدمي، وأنا العاقب الّذي ليس بعده نبيٌّ." أخرجاه في الصّحيحين.
وقال الإمام أحمد: حدّثنا يحيى بن إسحاق، حدّثنا ابن لهيعة، عن عبد اللّه بن هبيرة، عن عبد الرّحمن بن جبيرٍ قال: سمعت عبد اللّه بن عمرٍو يقول: خرج علينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يومًا كالمودّع، فقال: "أنا محمّدٌ النّبيّ الأمّيّ -ثلاثًا -ولا نبيّ بعدي، أوتيت فواتح الكلم وجوامعه وخواتمه، وعلمت كم خزنة النّار وحملة العرش، وتجوّز بي، وعوفيت وعوفيت أمّتي؛ فاسمعوا وأطيعوا ما دمت فيكم، فإذا ذهب بي فعليكم بكتاب اللّه، أحلّوا حلاله، وحرّموا حرامه". تفرّد به الإمام أحمد.
ورواه [الإمام] أحمد أيضًا عن يحيى بن إسحاق، عن ابن لهيعة، عن عبد اللّه بن هبيرة، عن عبد اللّه بن مريجٍ الخولانيّ، عن أبي قيسٍ -مولى عمرو بن العاص- عن عبد اللّه بن عمرٍو فذكر مثله سواءً .
والأحاديث في هذا كثيرةٌ، فمن رحمة اللّه تعالى بالعباد إرسال محمّدٍ، صلوات اللّه وسلامه عليه، إليهم، ثمّ من تشريفه لهم ختم الأنبياء والمرسلين به، وإكمال الدّين الحنيف له. وقد أخبر تعالى في كتابه، ورسوله في السّنّة المتواترة عنه: أنّه لا نبيّ بعده؛ ليعلموا أنّ كلّ من ادعى هذا المقام بعده فهو كذّابٌ أفّاكٌ، دجّالٌ ضالٌّ مضلٌّ، ولو تخرّق وشعبذ، وأتى بأنواع السّحر والطّلاسم والنيرجيّات، فكلّها محالٌ وضلالٌ عند أولي الألباب، كما أجرى اللّه، سبحانه وتعالى، على يد الأسود العنسي باليمن، ومسيلمة الكذّاب باليمامة، من الأحوال الفاسدة والأقوال الباردة، ما علم كلّ ذي لبٍّ وفهمٍ وحجى أنّهما كاذبان ضالّان، لعنهما اللّه. وكذلك كلّ مدّعٍ لذلك إلى يوم القيامة حتّى يختموا بالمسيح الدّجّال، [فكلّ واحدٍ من هؤلاء الكذّابين] يخلق اللّه معه من الأمور ما يشهد العلماء والمؤمنون بكذب من جاء بها. وهذا من تمام لطف اللّه تعالى بخلقه، فإنّهم بضرورة الواقع لا يأمرون بمعروفٍ ولا ينهون عن منكرٍ إلّا على سبيل الاتّفاق، أو لما لهم فيه من المقاصد إلى غيره، ويكون في غاية الإفك والفجور في أقوالهم وأفعالهم، كما قال تعالى: {هل أنبّئكم على من تنزل الشّياطين * تنزل على كلّ أفّاكٍ أثيمٍ} الآية [الشّعراء:221، 222]. وهذا بخلاف الأنبياء، عليهم السّلام، فإنّهم في غاية البرّ والصّدق والرّشد والاستقامة [والعدل] فيما يقولونه ويفعلونه ويأمرون به وينهون عنه، مع ما يؤيّدون به من الخوارق للعادات، والأدلّة الواضحات، والبراهين الباهرات، فصلوات اللّه وسلامه عليهم دائمًا مستمرا ما دامت الأرض والسموات). [تفسير ابن كثير: 6/ 428-431]

رد مع اقتباس