عرض مشاركة واحدة
  #10  
قديم 30 جمادى الأولى 1435هـ/31-03-2014م, 07:52 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن الثامن الهجري

تفسير قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {ومن النّاس من يعجبك قوله في الحياة الدّنيا ويشهد اللّه على ما في قلبه وهو ألدّ الخصام (204) وإذا تولّى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنّسل واللّه لا يحبّ الفساد (205) وإذا قيل له اتّق اللّه أخذته العزّة بالإثم فحسبه جهنّم ولبئس المهاد (206) ومن النّاس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة اللّه واللّه رءوفٌ بالعباد (207)}
قال السّدّيّ: «نزلت في الأخنس بن شريق الثّقفيّ، جاء إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، وأظهر الإسلام وفي باطنه خلاف ذلك». وعن ابن عبّاسٍ: «أنّها نزلت في نفرٍ من المنافقين تكلّموا في خبيب وأصحابه الّذين قتلوا بالرّجيع وعابوهم، فأنزل اللّه في ذمّ المنافقين ومدح خبيب وأصحابه: {ومن النّاس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة اللّه}».
وقيل: «بل ذلك عامٌّ في المنافقين كلّهم وفي المؤمنين كلّهم». وهذا قول قتادة، ومجاهدٍ، والرّبيع ابن أنسٍ، وغير واحدٍ، وهو الصّحيح.
وقال ابن جريرٍ: حدّثني يونس، أخبرنا ابن وهبٍ، أخبرني اللّيث بن سعدٍ، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلالٍ، عن القرظيّ، عن نوف -وهو البكاليّ، وكان ممّن يقرأ الكتب -قال: «إنّي لأجد صفة ناسٍ من هذه الأمّة في كتاب اللّه المنزّل: قوم يحتالون على الدّنيا بالدّين، ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم أمرّ من الصّبر، يلبسون للنّاس مسوك الضّأن، وقلوبهم قلوب الذّئاب. يقول اللّه تعالى: فعليّ يجترئون! وبي يغترون! حلفت بنفسي لأبعثنّ عليهم فتنةً تترك الحليم فيها حيران». قال القرظيّ: «تدبّرتها في القرآن، فإذا هم المنافقون، فوجدتها: {ومن النّاس من يعجبك قوله في الحياة الدّنيا ويشهد اللّه على ما في قلبه} الآية».
وحدّثني محمّد بن أبي معشرٍ، أخبرني أبي أبو معشرٍ نجيح قال: سمعت سعيدًا المقبريّ يذاكر محمّد بن كعبٍ القرظيّ، فقال سعيدٌ: «إنّ في بعض الكتب: إنّ لله عبادًا ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم أمرّ من الصّبر، لبسوا للنّاس مسوك الضّأن من اللّين، يجترّون الدّنيا بالدّين. قال اللّه تعالى: عليّ تجترئون! وبي تغترّون!. وعزّتي لأبعثنّ عليهم فتنةً تترك الحليم منهم حيران». فقال محمّد بن كعبٍ: «هذا في كتاب اللّه». فقال سعيدٌ: «وأين هو من كتاب اللّه؟» قال: «قول اللّه: {ومن النّاس من يعجبك قوله في الحياة الدّنيا} الآية». فقال سعيدٌ: «قد عرفت فيمن أنزلت هذه الآية». فقال محمّد بن كعبٍ: «إنّ الآية تنزل في الرّجل، ثمّ تكون عامّةً بعد». وهذا الذي قاله القرظيّ حسنٌ صحيحٌ.
وأمّا قوله: {ويشهد اللّه على ما في قلبه} فقرأه ابن محيصنٍ: "ويشهد الله" بفتح الياء، وضمّ الجلالة {على ما في قلبه} ومعناها: أنّ هذا وإن أظهر لكم الحيل لكنّ اللّه يعلم من قلبه القبيح، كقوله تعالى: {إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنّك لرسول اللّه واللّه يعلم إنّك لرسوله واللّه يشهد إنّ المنافقين لكاذبون} [المنافقون: 1].
وقراءة الجمهور بضمّ الياء، ونصب الجلالة {ويشهد اللّه على ما في قلبه} ومعناه: أنّه يظهر للنّاس الإسلام ويبارز اللّه بما في قلبه من الكفر والنّفاق، كقوله تعالى: {يستخفون من النّاس ولا يستخفون من اللّه} الآية [النّساء: 108] هذا معنى ما رواه ابن إسحاق، عن محمّد بن أبي محمّدٍ، عن عكرمة، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ.
وقيل: معناه أنّه إذا أظهر للنّاس الإسلام حلف وأشهد اللّه لهم: أنّ الذي في قلبه موافقٌ للسانه. وهذا المعنى صحيحٌ، وقاله عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم، واختاره ابن جريرٍ، وعزاه إلى ابن عبّاسٍ، وحكاه عن مجاهدٍ، واللّه أعلم.
وقوله: {وهو ألدّ الخصام} الألدّ في اللّغة: هو الأعوج، {وتنذر به قومًا لدًّا} [مريم:97] أي: عوجًا. وهكذا المنافق في حال خصومته، يكذب، ويزورّ عن الحقّ ولا يستقيم معه، بل يفتري ويفجر، كما ثبت في الصّحيح عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه قال: «آية المنافق ثلاثٌ: إذا حدّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر».
وقال البخاريّ: حدّثنا قبيصة، حدّثنا سفيان، عن ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة ترفعه قال: «أبغض الرّجال إلى اللّه الألدّ الخصم».
قال: وقال عبد اللّه بن يزيد: حدّثنا سفيان، حدّثني ابن جريجٍ، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «إن أبغض الرّجال إلى اللّه الألدّ الخصم».
وهكذا رواه عبد الرّزّاق، عن معمر في قوله: {وهو ألدّ الخصام} عن ابن جريجٍ، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال:«إنّ أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم»). [تفسير ابن كثير: 1/ 562-563]

تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله: {وإذا تولّى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنّسل واللّه لا يحبّ الفساد} أي: هو أعوج المقال، سيّئ الفعال، فذلك قوله، وهذا فعله: كلامه كذب، واعتقاده فاسدٌ، وأفعاله قبيحةٌ.
والسّعي هاهنا هو: القصد. كما قال إخبارًا عن فرعون: {ثمّ أدبر يسعى* فحشر فنادى* فقال أنا ربّكم الأعلى* فأخذه اللّه نكال الآخرة والأولى* إنّ في ذلك لعبرةً لمن يخشى} [النّازعات: 22-26]، وقال تعالى: {يا أيّها الّذين آمنوا إذا نودي للصّلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر اللّه} [الجمعة: 9] أي: اقصدوا واعمدوا ناوين بذلك صلاة الجمعة، فإنّ السّعي الحسّيّ إلى الصّلاة منهيٌّ عنه بالسّنّة النّبويّة: «إذا أتيتم الصّلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، وأتوها وعليكم السكينة والوقار».
فهذا المنافق ليس له همّةٌ إلّا الفساد في الأرض، وإهلاك الحرث، وهو: محل نماء الزّروع والثّمار والنّسل، وهو: نتاج الحيوانات الّذين لا قوام للنّاس إلّا بهما.
وقال مجاهدٌ: «إذا سعى في الأرض فسادًا، منع اللّه القطر، فهلك الحرث والنّسل». {واللّه لا يحبّ الفساد} أي: لا يحبّ من هذه صفته، ولا من يصدر منه ذلك). [تفسير ابن كثير: 1/ 564]

تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله: {وإذا قيل له اتّق اللّه أخذته العزّة بالإثم} أي: إذا وعظ هذا الفاجر في مقاله وفعاله، وقيل له: اتّق اللّه، وانزع عن قولك وفعلك، وارجع إلى الحقّ -امتنع وأبى، وأخذته الحميّة والغضب بالإثم، أي: بسبب ما اشتمل عليه من الآثام، وهذه الآية شبيهةٌ بقوله تعالى: {وإذا تتلى عليهم آياتنا بيّناتٍ تعرف في وجوه الّذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالّذين يتلون عليهم آياتنا قل أفأنبّئكم بشرٍّ من ذلكم النّار وعدها اللّه الّذين كفروا وبئس المصير} [الحجّ: 72]، ولهذا قال في هذه الآية: {فحسبه جهنّم ولبئس المهاد} أي: هي كافيته عقوبةً في ذلك). [تفسير ابن كثير: 1/ 564]

تفسير قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله: {ومن النّاس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة اللّه} لمّا أخبر عن المنافقين بصفاتهم الذّميمة، ذكر صفات المؤمنين الحميدة، فقال: {ومن النّاس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة اللّه}
قال ابن عبّاسٍ، وأنسٌ، وسعيد بن المسيّب، وأبو عثمان النّهديّ، وعكرمة، وجماعةٌ: «نزلت في صهيب بن سنان الرّوميّ، وذلك أنّه لمّا أسلم بمكّة وأراد الهجرة، منعه النّاس أن يهاجر بماله، وإن أحبّ أن يتجرّد منه ويهاجر، فعل. فتخلّص منهم وأعطاهم ماله، فأنزل اللّه فيه هذه الآية، فتلقّاه عمر بن الخطّاب وجماعةٌ إلى طرف الحرّة. فقالوا: «ربح البيع». فقال: «وأنتم فلا أخسر اللّه تجارتكم، وما ذاك؟ فأخبروه أنّ اللّه أنزل فيه هذه الآية». ويروى أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال له:«ربح البيع صهيب، ربح البيع صهيب».
قال ابن مردويه: حدّثنا محمّد بن إبراهيم، حدّثنا محمّد بن عبد اللّه بن رستة، حدثنا سليمان ابن داود، حدّثنا جعفر بن سليمان الضبعي، حدّثنا عوفٌ، عن أبي عثمان النّهديّ، عن صهيبٍ قال: «لمّا أردت الهجرة من مكّة إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قالت لي قريشٌ: يا صهيب، قدمت إلينا ولا مال لك، وتخرج أنت ومالك! واللّه لا يكون ذلك أبدًا. فقلت لهم: أرأيتم إن دفعت إليكم مالي تخلّون عنّي؟ قالوا: نعم. فدفعت إليهم مالي، فخلّوا عنّي، فخرجت حتّى قدمت المدينة. فبلغ ذلك النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فقال: «ربح صهيب، ربح صهيبٌ» مرّتين.
وقال حمّاد بن سلمة، عن عليّ بن زيد، عن سعيد بن المسيّب قال: «أقبل صهيبٌ مهاجرًا نحو النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فاتّبعه نفر من قريشٍ، فنزل عن راحلته، وانتثل ما في كنانته. ثمّ قال يا معشر قريشٍ، قد علمتم أنّي من أرماكم رجلًا وأنتم واللّه لا تصلون إليّ حتّى أرمي كلّ سهمٍ في كنانتي، ثمّ أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه شيء، ثمّ افعلوا ما شئتم، وإن شئتم دللتكم على مالي وقنيتي بمكّة وخلّيتم سبيلي؟ قالوا: نعم. فلمّا قدم على النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «ربح البيع، ربح البيع». قال: ونزلت: {ومن النّاس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة اللّه واللّه رءوفٌ بالعباد}
وأمّا الأكثرون فحملوا ذلك على أنّها نزلت في كلّ مجاهد في سبيل اللّه، كما قال تعالى: {إنّ اللّه اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأنّ لهم الجنّة يقاتلون في سبيل اللّه فيقتلون ويقتلون وعدًا عليه حقًّا في التّوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من اللّه فاستبشروا ببيعكم الّذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم} [التّوبة: 111]. ولمّا حمل هشام بن عامرٍ بين الصّفّين، أنكر عليه بعض النّاس، فردّ عليهم عمر بن الخطّاب وأبو هريرة وغيرهما، وتلوا هذه الآية: {ومن النّاس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة اللّه واللّه رءوفٌ بالعباد} ). [تفسير ابن كثير: 1/ 564-565]


رد مع اقتباس