عرض مشاركة واحدة
  #10  
قديم 29 جمادى الأولى 1435هـ/30-03-2014م, 05:47 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن الثامن الهجري

تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {يا أيّها النّاس كلوا ممّا في الأرض حلالا طيّبًا ولا تتّبعوا خطوات الشّيطان إنّه لكم عدوٌّ مبينٌ (168) إنّما يأمركم بالسّوء والفحشاء وأن تقولوا على اللّه ما لا تعلمون (169)}
لمّا بيّن تعالى أنّه لا إله إلّا هو، وأنّه المستقلّ بالخلق، شرع يبيّن أنّه الرّزّاق لجميع خلقه، فذكر ذلك في مقام الامتنان أنّه أباح لهم أن يأكلوا ممّا في الأرض في حال كونه حلالًا من اللّه طيّبًا، أي: مستطابًا في نفسه غير ضارٍّ للأبدان ولا للعقول، ونهاهم عن اتّباع خطوات الشّيطان، وهي: طرائقه ومسالكه فيما أضلّ أتباعه فيه من تحريم البحائر والسّوائب والوصائل ونحوها ممّا زينه لهم في جاهليّتهم، كما في حديث عياض بن حمار الذي في صحيح مسلمٍ، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه قال:[يقول اللّه تعالى: إنّ كلّ ما أمنحه عبادي فهو لهم حلالٌ] وفيه: [وإنّي خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشّياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرّمت عليهم ما أحللت لهم].
وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه: حدّثنا سليمان بن أحمد، حدّثنا محمّد بن عيسى بن شيبة المصريّ، حدّثنا الحسين بن عبد الرّحمن الاحتياطيّ، حدّثنا أبو عبد اللّه الجوزجانيّ -رفيق إبراهيم بن أدهم -حدّثنا ابن جريج، عن عطاءٍ، عن ابن عبّاسٍ قال: «تليت هذه الآية عند النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: {يا أيّها النّاس كلوا ممّا في الأرض حلالا طيّبًا} فقام سعد بن أبي وقّاصٍ، فقال: «يا رسول اللّه، ادع اللّه أن يجعلني مستجاب الدّعوة»، فقال. «يا سعد، أطب مطعمك تكن مستجاب الدّعوة، والذي نفس محمّدٍ بيده، إنّ الرّجل ليقذف اللّقمة الحرام في جوفه ما يتقبّل منه أربعين يومًا، وأيّما عبدٍ نبت لحمه من السّحت والرّبا فالنّار أولى به».
وقوله: {إنّه لكم عدوٌّ مبينٌ} تنفيرٌ عنه وتحذيرٌ منه، كما قال: {إنّ الشّيطان لكم عدوٌّ فاتّخذوه عدوًّا إنّما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السّعير} [فاطرٍ: 6] وقال تعالى: {أفتتّخذونه وذرّيّته أولياء من دوني وهم لكم عدوٌّ بئس للظّالمين بدلا} [الكهف: 50].
وقال قتادة، والسّدّيّ في قوله: «{ولا تتّبعوا خطوات الشّيطان} كلّ معصيةٍ للّه فهي من خطوات الشّيطان».
وقال عكرمة: «هي نزغات الشّيطان»، وقال مجاهدٌ: «خطاه»، أو قال: «خطاياه».
وقال أبو مجلز: «هي النّذور في المعاصي».
وقال الشّعبيّ: «نذر رجلٌ أن ينحر ابنه فأفتاه مسروقٌ بذبح كبشٍ. وقال: هذا من خطوات الشّيطان».
وقال أبو الضّحى، عن مسروقٍ: أتى عبد اللّه بن مسعودٍ بضرع وملحٍ، فجعل يأكل، فاعتزل رجلٌ من القوم، فقال ابن مسعودٍ: «ناولوا صاحبكم». فقال: «لا أريده». فقال: «أصائمٌ أنت؟» قال: «لا.» قال: «فما شأنك؟» قال: «حرّمت أن آكل ضرعًا أبدًا.» فقال ابن مسعودٍ: «هذا من خطوات الشّيطان، فاطعم وكفّر عن يمينك».
رواه ابن أبي حاتمٍ، وقال أيضًا: حدّثنا أبي، حدّثنا حسّان بن عبد اللّه المصري، عن سليمان التّيميّ، عن أبي رافعٍ، قال: «غضبت على امرأتي»، فقالت: «هي يومًا يهوديّةٌ ويومًا نصرانيّةٌ، وكلّ مملوكٍ لها حرٌّ، إن لم تطلّق امرأتك». فأتيت عبد اللّه بن عمر فقال: «إنّما هذه من خطوات الشّيطان». وكذلك قالت زينب بنت أمّ سلمة، وهي يومئذٍ أفقه امرأةٍ في المدينة. وأتيت عاصمًا وابن عمر فقالا مثل ذلك.
وقال عبد بن حميدٍ: حدّثنا أبو نعيمٍ عن شريكٍ، عن عبد الكريم، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ قال: «ما كان من يمينٍ أو نذرٍ في غضب، فهو من خطوات الشّيطان، وكفّارته كفّارة يمينٍ».
وقال سعيد بن داود في تفسيره: حدّثنا عبادة بن عبّادٍ المهلّبيّ عن عاصمٍ الأحول، عن عكرمة في رجلٍ قال لغلامه: «إن لم أجلدك مائة سوطٍ فامرأته طالقٌ»، قال: «لا يجلد غلامه، ولا تطلّق امرأته هذا من خطوات الشّيطان»). [تفسير ابن كثير: 1/ 478-479]

تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله: {إنّما يأمركم بالسّوء والفحشاء وأن تقولوا على اللّه ما لا تعلمون} أي: إنّما يأمركم عدوّكم الشّيطان بالأفعال السّيّئة، وأغلظ منها الفاحشة كالزّنا ونحوه، وأغلظ من ذلك وهو القول على اللّه بلا علمٍ، فيدخل في هذا كلّ كافرٍ وكلّ مبتدعٍ أيضًا). [تفسير ابن كثير: 1/ 479]

تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({وإذا قيل لهم اتّبعوا ما أنزل اللّه قالوا بل نتّبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئًا ولا يهتدون (170) ومثل الّذين كفروا كمثل الّذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاءً ونداءً صمٌّ بكمٌ عميٌ فهم لا يعقلون (171)}
يقول تعالى: {وإذا قيل} لهؤلاء الكفرة من المشركين: {اتّبعوا ما أنزل اللّه} على رسوله، واتركوا ما أنتم فيه من الضّلال والجهل، قالوا في جواب ذلك: {بل نتّبع ما ألفينا} أي: وجدنا {عليه آباءنا} أي: من عبادة الأصنام والأنداد. قال اللّه تعالى منكرًا عليهم: {أولو كان آباؤهم} أي: الّذين يقتدون بهم ويقتفون أثرهم {لا يعقلون شيئًا ولا يهتدون} أي: ليس لهم فهمٌ ولا هدايةٌ!!.
وروى ابن إسحاق عن محمّد بن أبي محمّدٍ، عن عكرمة أو سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: أنّها نزلت في طائفةٍ من اليهود، دعاهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلى الإسلام، فقالوا: بل نتّبع ما ألفينا عليه آباءنا. فأنزل اللّه هذه الآية). [تفسير ابن كثير: 1/ 480]

تفسير قوله تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (ثمّ ضرب لهم تعالى مثلًا كما قال تعالى: {للّذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السّوء} [النّحل: 60] فقال: {ومثل الّذين كفروا} أي: فيما هم فيه من الغيّ والضّلال والجهل كالدّوابّ السّارحة التي لا تفقه ما يقال لها، بل إذا نعق بها راعيها، أي: دعاها إلى ما يرشدها، لا تفقه ما يقول ولا تفهمه، بل إنّما تسمع صوته فقط.
هكذا روي عن ابن عبّاسٍ، وأبي العالية، ومجاهدٍ، وعكرمة، وعطاءٍ، والحسن، وقتادة، وعطاءٍ الخراسانيّ والرّبيع بن أنسٍ، نحو هذا.
وقيل: إنّما هذا مثلٌ ضرب لهم في دعائهم الأصنام التي لا تسمع ولا تبصر ولا تعقل شيئًا، اختاره ابن جريرٍ، والأوّل أولى؛ لأنّ الأصنام لا تسمع شيئًا ولا تعقله ولا تبصره، ولا بطش لها ولا حياة فيها. وقوله: {صمٌّ بكمٌ عميٌ} أي: صمٌّ عن سماع الحقّ، بكمٌ لا يتفوّهون به، عميٌ عن رؤية طريقه ومسلكه {فهم لا يعقلون} أي: لا يعقلون شيئًا ولا يفهمونه، كما قال تعالى: {والّذين كذّبوا بآياتنا صمٌّ وبكمٌ في الظّلمات من يشأ اللّه يضلله ومن يشأ يجعله على صراطٍ مستقيمٍ} [الأنعام: 39] ). [تفسير ابن كثير: 1/ 480]

تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {يا أيّها الّذين آمنوا كلوا من طيّبات ما رزقناكم واشكروا للّه إن كنتم إيّاه تعبدون (172) إنّما حرّم عليكم الميتة والدّم ولحم الخنزير وما أهلّ به لغير اللّه فمن اضطرّ غير باغٍ ولا عادٍ فلا إثم عليه إنّ اللّه غفورٌ رحيمٌ (173)}
يقول تعالى آمرًا عباده المؤمنين بالأكل من طيبات ما رزقهم تعالى، وأن يشكروه على ذلك، إن كانوا عبيده، والأكل من الحلال سببٌ لتقبّل الدّعاء والعبادة، كما أنّ الأكل من الحرام يمنع قبول الدّعاء والعبادة، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد:
حدّثنا أبو النّضر، حدّثنا الفضيل بن مرزوقٍ، عن عديّ بن ثابتٍ، عن أبي حازمٍ، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «أيّها النّاس، إنّ اللّه طيّبٌ لا يقبل إلّا طيّبًا، وإنّ اللّه أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: {يا أيّها الرّسل كلوا من الطّيّبات واعملوا صالحًا إنّي بما تعملون عليمٌ} [المؤمنون: 51] وقال: {يا أيّها الّذين آمنوا كلوا من طيّبات ما رزقناكم} ثمّ ذكر الرّجل يطيل السّفر أشعث أغبر، يمدّ يديه إلى السّماء: يا ربّ، يا ربّ، ومطعمه حرامٌ ومشربه حرامٌ، وملبسه حرامٌ، وغذي بالحرام، فأنّى يستجاب لذلك».
ورواه مسلمٌ في صحيحه، والتّرمذيّ من حديث فضيل بن مرزوقٍ). [تفسير ابن كثير: 1/ 480-481]

تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (ولمّا امتنّ تعالى عليهم برزقه، وأرشدهم إلى الأكل من طيّبه، ذكر أنّه لم يحرّم عليهم من ذلك إلّا الميتة، وهي التي تموت حتف أنفها من غير تذكيةٍ، وسواءً كانت منخنقةً أو موقوذةً أو متردّية أو نطيحةً أو قد عدا عليها السّبع.
وقد خصّص الجمهور من ذلك ميتة البحر لقوله تعالى: {أحلّ لكم صيد البحر وطعامه متاعًا لكم وللسّيّارة} [المائدة: 96] على ما سيأتي، وحديث العنبر في الصّحيح وفي المسند والموطّأ والسّنن قوله، عليه السّلام، في البحر: «هو الطّهور ماؤه الحلّ ميتته» وروى الشّافعيّ وأحمد وابن ماجه والدّارقطنيّ من حديث ابن عمر مرفوعًا: «أحلّ لنا ميتتان ودمان: السّمك والجراد، والكبد والطّحال»وسيأتي تقرير ذلك في سورة المائدة.
ولبن الميتة وبيضها المتّصل بها نجسٌ عند الشّافعيّ وغيره؛ لأنّه جزءٌ منها. وقال مالكٌ في روايةٍ: هو طاهرٌ إلّا أنّه ينجس بالمجاورة، وكذلك أنفحة الميتة فيها الخلاف والمشهور عندهم أنّها نجسةٌ، وقد أوردوا على أنفسهم أكل الصّحابة من جبن المجوس، فقال القرطبيّ في تفسيره هاهنا: «يخالط اللّبن منها يسيرٌ، ويعفى عن قليل النّجاسة إذا خالط الكثير من المائع». وقد روى ابن ماجه من حديث سيف بن هارون، عن سليمان التّيميّ، عن أبي عثمان النّهديّ، عن سلمان سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن السّمن والجبن والفراء، فقال: «الحلال ما أحلّ اللّه في كتابه، والحرام ما حرّم اللّه في كتابه، وما سكت عنه فهو ممّا عفا عنه».
وكذلك حرّم عليهم لحم الخنزير، سواءٌ ذكّي أو مات حتف أنفه، ويدخل شحمه في حكم لحمه إمّا تغليبًا أو أنّ اللّحم يشمل ذلك، أو بطريق القياس على رأيٍ. و كذلك حرّم عليهم ما أهلّ به لغير اللّه، وهو ما ذبح على غير اسمه تعالى من الأنصاب والأنداد والأزلام، ونحو ذلك ممّا كانت الجاهليّة ينحرون له. وذكر القرطبيّ عن ابن عطيّة أنّه نقل عن الحسن البصريّ: أنّه سئل عن امرأةٍ عملت عرسًا للعبها فنحرت فيه جزورًا فقال: «لا تؤكّل لأنّها ذبحت لصنمٍ»، وأورد القرطبيّ عن عائشة أنّها سئلت عمّا يذبحه العجم في أعيادهم فيهدون منه للمسلمين، فقالت: «ما ذبح لذلك اليوم فلا تأكلوه، وكلوا من أشجارهم». ثمّ أباح تعالى تناول ذلك عند الضّرورة والاحتياج إليها، عند فقد غيرها من الأطعمة، فقال: {فمن اضطرّ غير باغٍ ولا عادٍ} أي: في غير بغيٍ ولا عدوانٍ، وهو مجاوزة الحدّ {فلا إثم عليه} أي: في أكل ذلك {إنّ اللّه غفورٌ رحيمٌ}.
وقال مجاهدٌ: « {فمن اضطرّ غير باغٍ ولا عادٍ}، قاطعًا للسّبيل، أو مفارقًا للأئمّة، أو خارجًا في معصية اللّه، فله الرّخصة، ومن خرج باغيًا أو عاديًا أو في معصية اللّه فلا رخصة له، وإن اضطرّ إليه»، وكذا روي عن سعيد بن جبيرٍ.
وقال سعيدٌ -في روايةٍ عنه -ومقاتل بن حيّان: «غير باغٍ: يعني غير مستحلّه». وقال السّدّيّ: «غير باغٍ يبتغي فيه شهوته»، وقال عطاءٌ الخراسانيّ في قوله:{غير باغٍ} قال: «لا يشوي من الميتة ليشتهيه ولا يطبخه، ولا يأكل إلّا العلقة، ويحمل معه ما يبلّغه الحلال، فإذا بلغه ألقاه وهو قوله: {ولا عادٍ} يقول: «لا يعدو به الحلال».
وعن ابن عبّاسٍ: «لا يشبع منها». وفسّره السّدّيّ بالعدوان. وعن ابن عبّاسٍ {غير باغٍ ولا عادٍ} قال: «{غير باغٍ} في الميتة {ولا عادٍ} في أكله». وقال قتادة: «فمن اضطرّ غير باغٍ ولا عادٍ في أكله: أن يتعدّى حلالًا إلى حرامٍ، وهو يجد عنه مندوحةً».
وحكى القرطبيّ عن مجاهدٍ في قوله: {فمن اضطرّ} «أي: أكره على ذلك بغير اختياره».
مسألةٌ: ذكر القرطبيّ إذا وجد المضطرّ ميتةً وطعام الغير بحيث لا قطع فيه ولا أذًى، فإنّه لا يحلّ له أكل الميتة بل يأكل طعام الغير بلا خلافٍ -كذا قال -ثمّ قال: وإذا أكله، والحالة هذه، هل يضمنه أم لا؟ فيه قولان هما روايتان عن مالكٍ، ثمّ أورد من سنن ابن ماجه من حديث شعبة عن أبي إياسٍ جعفر بن أبي وحشيّة: سمعت عبّاد بن العنزيّ قال: «أصابتنا عامًا مخمصةٌ، فأتيت المدينة. فأتيت حائطًا، فأخذت سنبلًا ففركته وأكلته، وجعلت منه في كسائي، فجاء صاحب الحائط فضربني وأخذ ثوبي، فأتيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فأخبرته، فقال للرّجل: «ما أطعمته إذ كان جائعًا أو ساعيًا، ولا علّمته إذ كان جاهلا». فأمره فردّ إليه ثوبه، وأمر له بوسقٍ من طعامٍ أو نصف وسقٍ»، إسنادٌ صحيحٌ قويٌّ جيّدٌ وله شواهد كثيرةٌ: من ذلك حديث عمرو بن شعيبٍ، عن أبيه، عن جدّه: سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن الثّمر المعلّق، فقال: «من أصاب منه من ذي حاجةٍ بفيه غير متّخذٍ خبنةً فلا شيء عليه»الحديث.
وقال مقاتل بن حيّان في قوله: «{فلا إثم عليه إنّ اللّه غفورٌ رحيمٌ} فيما أكل من اضطرارٍ، وبلغنا -واللّه أعلم -أنّه لا يزاد على ثلاث لقمٍ».
وقال سعيد بن جبيرٍ: «غفورٌ لما أكل من الحرام. رحيمٌ إذ أحلّ له الحرام في الاضطرار».
وقال وكيع: حدّثنا الأعمش، عن أبي الضّحى، عن مسروقٍ قال: «من اضطرّ فلم يأكل ولم يشرب، ثمّ مات دخل النّار».
وهذا يقتضي أنّ أكل الميتة للمضطرّ عزيمةٌ لا رخصةٌ. قال أبو الحسن الطّبريّ -المعروف بالكيا الهرّاسيّ رفيق الغزّاليّ في الاشتغال: وهذا هو الصّحيح عندنا؛ كالإفطار للمريض في رمضان ونحو ذلك ). [تفسير ابن كثير: 1/ 481-483]


رد مع اقتباس