عرض مشاركة واحدة
  #10  
قديم 28 جمادى الأولى 1435هـ/29-03-2014م, 07:37 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن الثامن الهجري

تفسير قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {أتأمرون النّاس بالبرّ وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون (44) }
يقول تعالى: كيف يليق بكم -يا معشر أهل الكتاب، وأنتم تأمرون النّاس بالبرّ، وهو جماع الخير-أن تنسوا أنفسكم، فلا تأتمروا بما تأمرون النّاس به، وأنتم مع ذلك تتلون الكتاب، وتعلمون ما فيه على من قصر في أوامر اللّه؟ أفلا تعقلون ما أنتم صانعون بأنفسكم؛ فتنتبهوا من رقدتكم، وتتبصّروا من عمايتكم. وهذا كما قال عبد الرّزّاق عن معمر، عن قتادة في قوله تعالى: {أتأمرون النّاس بالبرّ وتنسون أنفسكم} قال: «كان بنو إسرائيل يأمرون النّاس بطاعة اللّه وبتقواه، وبالبرّ، ويخالفون، فعيّرهم اللّه، عزّ وجلّ». وكذلك قال السّدّيّ.
وقال ابن جريجٍ: «{أتأمرون النّاس بالبرّ} أهل الكتاب والمنافقون كانوا يأمرون النّاس بالصّوم والصّلاة، ويدعون العمل بما يأمرون به النّاس، فعيّرهم اللّه بذلك، فمن أمر بخيرٍ فليكن أشدّ النّاس فيه مسارعةً».
وقال محمّد بن إسحاق، عن محمّدٍ، عن عكرمة أو سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: {وتنسون أنفسكم} «أي: تتركون أنفسكم {وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون} أي: تنهون النّاس عن الكفر بما عندكم من النّبوّة والعهد من التّوراة، وتتركون أنفسكم، أي: وأنتم تكفرون بما فيها من عهدي إليكم في تصديق رسولي، وتنقضون ميثاقي، وتجحدون ما تعلمون من كتابي».
وقال الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ في هذه الآية، يقول: «أتأمرون النّاس بالدّخول في دين محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم وغير ذلك ممّا أمرتم به من إقام الصّلاة، وتنسون أنفسكم».
وقال أبو جعفر بن جريرٍ: حدّثني عليّ بن الحسن، حدّثنا مسلم الجرمي، حدّثنا مخلد بن الحسين، عن أيّوب السّختيانيّ، عن أبي قلابة في قول اللّه تعالى: {أتأمرون النّاس بالبرّ وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب} قال: قال أبو الدّرداء: «لا يفقه الرّجل كلّ الفقه حتّى يمقت النّاس في ذات اللّه، ثمّ يرجع إلى نفسه فيكون لها أشدّ مقتًا».
وقال عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم في هذه الآية: «هؤلاء اليهود إذا جاء الرّجل يسألهم عن الشّيء ليس فيه حقٌّ ولا رشوة ولا شيء أمروه بالحق، فقال الله تعالى: {أتأمرون النّاس بالبرّ وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون}».
والغرض أنّ اللّه تعالى ذمّهم على هذا الصّنيع ونبّههم على خطئهم في حقّ أنفسهم، حيث كانوا يأمرون بالخير ولا يفعلونه، وليس المراد ذمّهم على أمرهم بالبرّ مع تركهم له، بل على تركهم له، فإنّ الأمر بالمعروف [معروفٌ] وهو واجبٌ على العالم، ولكنّ [الواجب و] الأولى بالعالم أن يفعله مع أمرهم به، ولا يتخلّف عنهم، كما قال شعيبٌ، عليه السّلام: {وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا باللّه عليه توكّلت وإليه أنيب} [هودٍ: 88]. فكلٌّ من الأمر بالمعروف وفعله واجبٌ، لا يسقط أحدهما بترك الآخر على أصحّ قولي العلماء من السّلف والخلف. وذهب بعضهم إلى أنّ مرتكب المعاصي لا ينهى غيره عنها، وهذا ضعيفٌ، وأضعف منه تمسّكهم بهذه الآية؛ فإنّه لا حجّة لهم فيها. والصّحيح أنّ العالم يأمر بالمعروف، وإن لم يفعله، وينهى عن المنكر وإن ارتكبه، [قال مالكٌ عن ربيعة: سمعت سعيد بن جبيرٍ يقول له: «لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتّى لا يكون فيه شيءٌ ما أمر أحدٌ بمعروفٍ ولا نهى عن منكرٍ». وقال مالكٌ: «وصدق من ذا الّذي ليس فيه شيءٌ؟» قلت] ولكنّه -والحالة هذه-مذمومٌ على ترك الطّاعة وفعله المعصية، لعلمه بها ومخالفته على بصيرةٍ، فإنّه ليس من يعلم كمن لا يعلم؛ ولهذا جاءت الأحاديث في الوعيد على ذلك، كما قال الإمام أبو القاسم الطّبرانيّ في معجمه الكبير: حدّثنا أحمد بن المعلّى الدّمشقيّ والحسن بن عليٍّ المعمريّ، قالا حدّثنا هشام بن عمار، حدثنا علي بن سليمان الكلبيّ، حدّثنا الأعمش، عن أبي تميمة الهجيمي، عن جندب بن عبد اللّه، رضي اللّه عنه، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «مثل العالم الّذي يعلّم النّاس الخير ولا يعمل به كمثل السّراج يضيء للنّاس ويحرق نفسه».
هذا حديثٌ غريبٌ من هذا الوجه.
حديثٌ آخر: قال الإمام أحمد بن حنبلٍ في مسنده: حدّثنا وكيع، حدّثنا حمّاد بن سلمة، عن عليّ بن زيدٍ هو ابن جدعان، عن أنس بن مالكٍ، رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «مررت ليلة أسري بي على قومٍ شفاههم تقرض بمقاريض من نارٍ. قال: قلت: من هؤلاء؟ » قالوا: خطباء من أهل الدّنيا ممّن كانوا يأمرون النّاس بالبرّ وينسون أنفسهم، وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون؟.
ورواه عبد بن حميدٍ في مسنده، وتفسيره، عن الحسن بن موسى، عن حمّاد بن سلمة به.
ورواه ابن مردويه في تفسيره، من حديث يونس بن محمّدٍ المؤدّب، والحجّاج بن منهال، كلاهما عن حمّاد بن سلمة، به.
وكذا رواه يزيد بن هارون، عن حمّاد بن سلمة به.
ثمّ قال ابن مردويه: حدّثنا محمّد بن عبد اللّه بن إبراهيم، حدّثنا موسى بن هارون، حدّثنا إسحاق بن إبراهيم التّستريّ ببلخٍ، حدّثنا مكّيّ بن إبراهيم، حدّثنا عمر بن قيسٍ، عن عليّ بن زيدٍ عن ثمامة، عن أنسٍ، قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: «مررت ليلة أسري بي على أناسٍ تقرض شفاههم وألسنتهم بمقاريض من نارٍ. قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ »قال: هؤلاء خطباء أمّتك، الّذين يأمرون النّاس بالبرّ وينسون أنفسهم.
وأخرجه ابن حبّان في صحيحه، وابن أبي حاتمٍ، وابن مردويه -أيضًا-من حديث هشامٍ الدّستوائيّ، عن المغيرة -يعني ابن حبيبٍ-ختن مالك بن دينارٍ، عن مالك بن دينارٍ، عن ثمامة، عن أنس بن مالكٍ، قال: لمّا عرج برسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم مرّ بقومٍ تقرض شفاههم، فقال: «يا جبريل، من هؤلاء؟ » قال: هؤلاء الخطباء من أمّتك يأمرون النّاس بالبرّ وينسون أنفسهم؛ أفلا يعقلون؟.
حديثٌ آخر: قال الإمام أحمد: حدّثنا يعلى بن عبيدٍ، حدّثنا الأعمش، عن أبي وائلٍ، قال: قيل لأسامة -وأنا رديفه-: ألا تكلّم عثمان؟ فقال: إنّكم ترون أنّي لا أكلّمه إلّا أسمعكم. إنّي لا أكلّمه فيما بيني وبينه ما دون أن أفتتح أمرًا -لا أحبّ أن أكون أوّل من افتتحه، واللّه لا أقول لرجلٍ إنّك خير النّاس. وإن كان عليّ أميرًا -بعد أن سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول، قالوا: وما سمعته يقول؟ قال: سمعته يقول: «يجاء بالرّجل يوم القيامة فيلقى في النّار، فتندلق به أقتابه، فيدور بها في النّار كما يدور الحمار برحاه، فيطيف به أهل النّار، فيقولون: يا فلان ما أصابك؟ ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ فيقول: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه».
ورواه البخاريّ ومسلمٌ، من حديث سليمان بن مهران الأعمش، به نحوه.
[وقال أحمد: حدّثنا سيّار بن حاتمٍ، حدّثنا جعفر بن سليمان عن ثابتٍ عن أنسٍ، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «إنّ اللّه يعافي الأمّيّين يوم القيامة ما لا يعافي العلماء». وقد ورد في بعض الآثار: أنّه يغفر للجاهل سبعين مرّةً حتّى يغفر للعالم مرّةً واحدةً، ليس من يعلم كمن لا يعلم. وقال تعالى: {قل هل يستوي الّذين يعلمون والّذين لا يعلمون إنّما يتذكّر أولو الألباب} [الزّمر: 9]. وروى ابن عساكر في ترجمة الوليد بن عقبة عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «إنّ أناسًا من أهل الجنّة يطّلعون على أناسٍ من أهل النّار فيقولون: بم دخلتم النّار؟ فواللّه ما دخلنا الجنّة إلّا بما تعلّمنا منكم، فيقولون: إنّا كنّا نقول ولا نفعل».رواه من حديث الطّبرانيّ عن أحمد بن يحيى بن حيّان الرّقيّ عن زهير بن عبّادٍ الرّواسيّ عن أبي بكرٍ الدّاهريّ عن عبد اللّه بن حكيمٍ عن إسماعيل بن أبي خالدٍ عن الشّعبيّ عن الوليد بن عقبة فذكره].
وقال الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ: إنّه جاءه رجلٌ، فقال: يا ابن عبّاسٍ، إنّي أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، قال: «أو بلغت ذلك؟»قال: أرجو. قال: «إن لم تخش أن تفتضح بثلاث آياتٍ من كتاب اللّه فافعل». قال: وما هنّ؟ قال: «قوله عزّ وجلّ {أتأمرون النّاس بالبرّ وتنسون أنفسكم} أحكمت هذه؟».قال: لا. قال: فالحرف الثّاني. قال: «قوله تعالى: {لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتًا عند اللّه أن تقولوا ما لا تفعلون} [الصّفّ: 2، 3] أحكمت هذه؟».قال: لا. قال: فالحرف الثّالث. قال: «قول العبد الصّالح شعيب، عليه السلام: {وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه} [هودٍ: 88] أحكمت هذه الآية؟».قال: لا. قال: «فابدأ بنفسك».
رواه ابن مردويه في تفسيره.
وقال الطّبرانيّ حدّثنا عبدان بن أحمد، حدّثنا زيد بن الحريش، حدّثنا عبد اللّه بن خراش، عن العوّام بن حوشبٍ، عن [سعيد بن] المسيّب بن رافعٍ، عن ابن عمر، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «من دعا النّاس إلى قولٍ أو عملٍ ولم يعمل هو به لم يزل في ظلّ سخط اللّه حتّى يكفّ أو يعمل ما قال، أو دعا إليه».
إسناده فيه ضعفٌ، وقال إبراهيم النّخعيّ: إنّي لأكره القصص لثلاث آياتٍ قوله تعالى: {أتأمرون النّاس بالبرّ وتنسون أنفسكم} وقوله {يا أيّها الّذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتًا عند اللّه أن تقولوا ما لا تفعلون} [الصّفّ: 2، 3] وقوله إخبارًا عن شعيبٍ: {وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا باللّه عليه توكّلت وإليه أنيب} [هودٍ: 88].
وما أحسن ما قال مسلم بن عمرٍو:

ما أقبح التّزهيد من واعظٍ ....... يزهّد النّاس ولا يزهد
لو كان في تزهيده صادقًا ....... أضحى وأمسى بيته المسجد
إن رفض النّاس فما باله ....... يستفتح النّاس ويسترقد
الرّزق مقسومٌ على من ترى ....... يسقى له الأبيض والأسود

وقال بعضهم: جلس أبو عثمان الحيريّ الزّاهد يومًا على مجلس التّذكير فأطال السّكوت، ثمّ أنشأ يقول:

وغير تقيٍّ يأمر النّاس بالتّقى ....... طبيبٌ يداوي والطّبيب مريض

قال: فضجّ النّاس بالبكاء. وقال أبو العتاهية الشّاعر:

وصفت التّقى حتّى كأنّك ذو تقى ....... وريح الخطايا من شأنك تقطع

وقال أبو الأسود الدّؤليّ:

لا تنه عن خلقٍ وتأتي مثله ....... عارٌ عليك إذا فعلت عظيم
فابدأ بنفسك فانهها عن غيّها ....... فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
فهناك يقبل إن وعظت ويقتدى ....... بالقول منك وينفع التّعليم

وذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الواحد بن زيدٍ البصريّ العابد الواعظ قال: دعوت اللّه أن يريني رفيقي في الجنّة، فقيل لي في المنام: هي امرأةٌ في الكوفة يقال لها: ميمونة السّوداء، فقصدت الكوفة لأراها. فقيل لي: هي ترعى غنمًا بوادٍ هناك، فجئت إليها فإذا هي قائمةٌ تصلّي والغنم ترعى حولها وبينهنّ الذّئاب لا ينفرن منه، ولا يسطو الذّئاب عليهنّ. فلمّا سلّمت قالت: يا ابن زيدٍ، ليس الموعد هنا إنّما الموعد ثمّ، فسألتها عن شأن الذّئاب والغنم. فقالت: إنّي أصلحت ما بيني وبين سيّدي فأصلح ما بين الذّئاب والغنم. فقلت لها: عظيني. فقالت: يا عجبًا من واعظٍ يوعظ، ثمّ قالت: يا ابن زيدٍ، إنّك لو وضعت موازين القسط على جوارحك لخبرتك بمكتوم مكنون ما فيها، يا ابن زيدٍ، إنّه بلغني ما من عبدٍ أعطى من الدّنيا شيئًا فابتغى إليه تائبًا إلّا سلبه اللّه حبّ الخلوة وبدّله بعد القرب البعد وبعد الأنس الوحشة ثمّ أنشأت تقول:

يا واعظًا قام لا حساب ....... يزجر قوما عن الذنوب
تنه عنه وأنت السّقيم حقًّا ....... هذا من المنكر العجيب
تنه عن الغيّ والتّمادي ....... وأنت في النّهي كالمريب
لو كنت أصلحت قبل هذا ....... غيّك أو تبت من قريبٍ
كان لما قلت يا حبيبي ....... موضع صدقٍ من القلوب

). [تفسير ابن كثير: 1 / 246 -251]

تفسير قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {واستعينوا بالصّبر والصّلاة وإنّها لكبيرةٌ إلّا على الخاشعين (45) الّذين يظنّون أنّهم ملاقو ربّهم وأنّهم إليه راجعون (46) }
يقول تعالى آمرًا عبيده، فيما يؤمّلون من خير الدّنيا والآخرة، بالاستعانة بالصّبر والصّلاة، كما قال مقاتل بن حيّان في تفسير هذه الآية: «
استعينوا على طلب الآخرة بالصّبر على الفرائض، والصّلاة.».
فأمّا الصّبر فقيل: إنّه الصّيام، نصّ عليه مجاهدٌ.
[قال القرطبيّ وغيره: ولهذا سمّي رمضان شهر الصّبر كما نطق به الحديث].
وقال سفيان الثّوريّ، عن أبي إسحاق، عن جريّ بن كليب، عن رجلٍ من بني سليمٍ، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «الصّوم نصف الصّبر».
وقيل: المراد بالصّبر الكفّ عن المعاصي؛ ولهذا قرنه بأداء العبادات وأعلاها: فعل الصّلاة.
قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا عبد اللّه بن حمزة بن إسماعيل، حدّثنا إسحاق بن سليمان، عن أبي سنان، عن عمر بن الخطّاب، رضي اللّه عنه، قال: «الصّبر صبران: صبرٌ عند المصيبة حسنٌ، وأحسن منه الصّبر عن محارم الله».
[قال] وروي عن الحسن البصريّ نحو قول عمر.
وقال ابن المبارك عن ابن لهيعة عن مالك بن دينارٍ، عن سعيد بن جبيرٍ، قال: «الصّبر اعتراف العبد للّه بما أصاب فيه، واحتسابه عند اللّه ورجاء ثوابه، وقد يجزع الرّجل وهو يتجلّد، لا يرى منه إلّا الصّبر».
وقال أبو العالية في قوله: {واستعينوا بالصّبر والصّلاة} «على مرضاة اللّه، واعلموا أنّها من طاعة اللّه».
وأمّا قوله: {والصّلاة} فإنّ الصّلاة من أكبر العون على الثّبات في الأمر، كما قال تعالى: {اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصّلاة إنّ الصّلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر اللّه أكبر} الآية [العنكبوت: 45].
وقال الإمام أحمد: حدّثنا خلف بن الوليد، حدّثنا يحيى بن زكريّا بن أبي زائدة، عن عكرمة بن عمّارٍ، عن محمّد بن عبد اللّه الدّؤليّ، قال: قال عبد العزيز أخو حذيفة، قال حذيفة، يعني ابن اليمان: «كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إذا حزبه أمرٌ صلّى». ورواه أبو داود [عن محمّد بن عيسى عن يحيى بن زكريّا عن عكرمة بن عمّارٍ كما سيأتي].
وقد رواه ابن جريرٍ، من حديث ابن جريج، عن عكرمة بن عمّارٍ، عن محمّد بن عبيد بن أبي قدامة، عن عبد العزيز بن اليمان، عن حذيفة، قال: «كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إذا حزبه أمرٌ فزع إلى الصّلاة».
[ورواه بعضهم عن عبد العزيز ابن أخي حذيفة؛ ويقال: أخي حذيفة مرسلًا عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم؛ وقال محمّد بن نصرٍ المروزيّ في كتاب الصّلاة: حدّثنا سهل بن عثمان أبو مسعودٍ العسكريّ، حدّثنا يحيى بن زكريّا بن أبي زائدة قال: قال عكرمة بن عمّارٍ: قال محمّد بن عبد اللّه الدّؤليّ: قال عبد العزيز: قال حذيفة: «رجعت إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم ليلة الأحزاب وهو مشتملٌ في شملةٍ يصلّي، وكان إذا حزبه أمرٌ صلّى». وحدّثنا عبيد اللّه بن معاذٍ، حدّثنا أبي، حدّثنا شعبة عن أبي إسحاق سمع حارثة بن مضرّبٍ سمع عليًّا يقول: «لقد رأيتنا ليلة بدرٍ وما فينا إلّا نائمٌ غير رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يصلّي ويدعو حتى أصبح».].
قال ابن جريرٍ: وروي عنه، عليه الصّلاة والسّلام، أنّه مرّ بأبي هريرة، وهو منبطحٌ على بطنه، فقال له: «اشكنب درد».[قال: نعم] قال: «قم فصلّ فإنّ الصّلاة شفاءٌ».[ومعناه: أيوجعك بطنك؟ قال: نعم]. قال ابن جريرٍ: وقد حدّثنا محمّد بن العلاء ويعقوب بن إبراهيم، قالا حدّثنا ابن عليّة، حدّثنا عيينة بن عبد الرّحمن، عن أبيه: أنّ ابن عبّاسٍ نعي إليه أخوه قثم وهو في سفرٍ، فاسترجع، ثمّ تنحّى عن الطّريق، فأناخ فصلّى ركعتين أطال فيهما الجلوس، ثمّ قام يمشي إلى راحلته وهو يقول: «{واستعينوا بالصّبر والصّلاة وإنّها لكبيرةٌ إلا على الخاشعين}».
وقال سنيد، عن حجّاجٍ، عن ابن جريرٍ: {واستعينوا بالصّبر والصّلاة} قال: «إنّهما معونتان على رحمة اللّه».
والضّمير في قوله: {وإنّها} عائدٌ إلى الصّلاة، نصّ عليه مجاهدٌ، واختاره ابن جريرٍ.
ويحتمل أن يكون عائدًا على ما يدلّ عليه الكلام، وهو الوصيّة بذلك، كقوله تعالى في قصّة قارون: {وقال الّذين أوتوا العلم ويلكم ثواب اللّه خيرٌ لمن آمن وعمل صالحًا ولا يلقّاها إلا الصّابرون} [القصص: 80] وقال تعالى: {ولا تستوي الحسنة ولا السّيّئة ادفع بالّتي هي أحسن فإذا الّذي بينك وبينه عداوةٌ كأنّه وليٌّ حميمٌ * وما يلقّاها إلا الّذين صبروا وما يلقّاها إلا ذو حظٍّ عظيمٍ} [فصّلت: 34، 35] أي: وما يلقّى هذه الوصيّة إلّا الّذين صبروا {وما يلقّاها} أي: يؤتاها ويلهمها {إلا ذو حظٍّ عظيمٍ}
وعلى كلّ تقديرٍ، فقوله تعالى: {وإنّها لكبيرةٌ} أي: مشقّةٌ ثقيلةٌ إلّا على الخاشعين. قال ابن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: «يعني المصدّقين بما أنزل اللّه». وقال مجاهدٌ: «المؤمنين حقًّا». وقال أبو العالية: «إلّا على الخاشعين الخائفين».، وقال مقاتل بن حيّان: «إلّا على الخاشعين يعني به المتواضعين». وقال الضّحّاك: {وإنّها لكبيرةٌ} قال: «إنّها لثقيلةٌ إلّا على الخاضعين لطاعته، الخائفين سطواته، المصدّقين بوعده ووعيده».
وهذا يشبه ما جاء في الحديث: «لقد سألت عن عظيمٍ، وإنّه ليسيرٌ على من يسّره اللّه عليه».
وقال ابن جريرٍ: معنى الآية: واستعينوا أيّها الأحبار من أهل الكتاب، بحبس أنفسكم على طاعة اللّه وبإقامة الصّلاة المانعة من الفحشاء والمنكر، المقرّبة من رضا اللّه، العظيمة إقامتها إلّا على المتواضعين للّه المستكينين لطاعته المتذللين من مخافته.
هكذا قال، والظّاهر أنّ الآية وإن كانت خطابًا في سياق إنذار بني إسرائيل، فإنّهم لم يقصدوا بها على سبيل التّخصيص، وإنّما هي عامّةٌ لهم، ولغيرهم. واللّه أعلم). [تفسير ابن كثير: 1 / 251 -254]

تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله تعالى: {الّذين يظنّون أنّهم ملاقو ربّهم وأنّهم إليه راجعون} هذا من تمام الكلام الّذي قبله، أي: وإنّ الصّلاة أو الوصاة لثقيلةٌ إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقو ربّهم، أي: [يعلمون أنّهم] محشورون إليه يوم القيامة، معروضون عليه، وأنّهم إليه راجعون، أي: أمورهم راجعةٌ إلى مشيئته، يحكم فيها ما يشاء بعدله، فلهذا لمّا أيقنوا بالمعاد والجزاء سهل عليهم فعل الطّاعات وترك المنكرات.
فأمّا قوله: {يظنّون أنّهم ملاقو ربّهم} قال ابن جريرٍ، رحمه اللّه: العرب قد تسمّي اليقين ظنًّا، والشّكّ ظنًّا، نظير تسميتهم الظّلمة سدفة، والضّياء سدفة، والمغيث صارخًا، والمستغيث صارخًا، وما أشبه ذلك من الأسماء الّتي يسمّى بها الشّيء وضدّه، كما قال دريد بن الصّمّة:

فقلت لهم ظنّوا بألفي مدجّجٍ ...... سراتهم في الفارسيّ المسرّد

يعني بذلك تيقّنوا بألفي مدجّجٍ يأتيكم، وقال عميرة بن طارقٍ:

بأن يعتزوا قومي وأقعد فيكم ....... وأجعل منّي الظنّ غيبًا مرجّما

يعني: وأجعل منّي اليقين غيبًا مرجّمًا، قال: والشّواهد من أشعار العرب وكلامها على أنّ الظّنّ في معنى اليقين، أكثر من أن تحصر، وفيما ذكرنا لمن وفّق لفهمه كفايةٌ، ومنه قول اللّه تعالى: {ورأى المجرمون النّار فظنّوا أنّهم مواقعوها} [الكهف: 53].
ثمّ قال ابن جريرٍ: حدّثنا محمّد بن بشّارٍ، حدّثنا أبو عاصمٍ، حدّثنا سفيان، عن جابرٍ، عن مجاهدٍ، قال: «كلّ ظنٍّ في القرآن يقينٌ، أي: ظننت وظنوا».
وحدّثني المثنّى، حدّثنا إسحاق، حدّثنا أبو داود الحفريّ، عن سفيان عن ابن أبي نجيح، عن مجاهدٍ، قال: «كلّ ظنٍّ في القرآن فهو علمٌ». وهذا سندٌ صحيحٌ.
وقال أبو جعفرٍ الرّازيّ، عن الرّبيع بن أنسٍ، عن أبي العالية، في قوله تعالى: {الّذين يظنّون أنّهم ملاقو ربّهم} قال: «الظّنّ هاهنا يقينٌ».
قال ابن أبي حاتمٍ: وروي عن مجاهدٍ، والسّدّيّ، والرّبيع بن أنسٍ، وقتادة نحو قول أبي العالية.
وقال سنيد، عن حجّاجٍ، عن ابن جريجٍ: {الّذين يظنّون أنّهم ملاقو ربّهم} «علموا أنّهم ملاقو ربّهم، كقوله: {إنّي ظننت أنّي ملاقٍ حسابيه} [الحاقّة: 20] يقول: علمت».
وكذا قال عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم.
قلت: وفي الصّحيح: «أنّ اللّه تعالى يقول للعبد يوم القيامة: ألم أزوّجك، ألم أكرمك، ألم أسخّر لك الخيل والإبل، وأذرك ترأس وتربّع؟ فيقول: بلى. فيقول اللّه تعالى: أفظننت أنّك ملاقيّ؟ فيقول: لا. فيقول اللّه: اليوم أنساك كما نسيتني». وسيأتي مبسوطًا عند قوله: {نسوا اللّه فنسيهم} [التّوبة: 67] إن شاء اللّه، واللّه تعالى أعلم). [تفسير ابن كثير: 1 / 254 -255]

تفسير قوله تعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي الّتي أنعمت عليكم وأنّي فضّلتكم على العالمين (47) }
يذكّرهم تعالى سالف نعمه على آبائهم وأسلافهم، وما كان فضّلهم به من إرسال الرّسل منهم وإنزال الكتب عليهم وعلى سائر الأمم من أهل زمانهم، كما قال تعالى: {ولقد اخترناهم على علمٍ على العالمين} [الدّخان: 32]، وقال تعالى: {وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة اللّه عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكًا وآتاكم ما لم يؤت أحدًا من العالمين} [المائدة: 20].
وقال أبو جعفرٍ الرّازيّ، عن الرّبيع بن أنسٍ، عن أبي العالية، في قوله تعالى: {وأنّي فضّلتكم على العالمين} قال: «بما أعطوا من الملك والرّسل والكتب على عالم من كان في ذلك الزّمان؛ فإنّ لكلّ زمانٍ عالمًا».
وروي عن مجاهدٍ، والرّبيع بن أنسٍ، وقتادة، وإسماعيل بن أبي خالدٍ نحو ذلك، ويجب الحمل على هذا؛ لأنّ هذه الأمّة أفضل منهم؛ لقوله تعالى خطابًا لهذه الأمّة: {كنتم خير أمّةٍ أخرجت للنّاس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون باللّه ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرًا لهم} [آل عمران: 110] وفي المسانيد والسّنن عن معاوية بن حيدة القشيري، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «أنتم توفون سبعين أمّةً، أنتم خيرها وأكرمها على اللّه». والأحاديث في هذا كثيرةٌ تذكر عند قوله تعالى: {كنتم خير أمّةٍ أخرجت للنّاس}
[وقيل: المراد تفضيلٌ بنوعٍ ما من الفضل على سائر النّاس، ولا يلزم تفضيلهم مطلقًا، حكاه فخر الدّين الرّازيّ وفيه نظرٌ. وقيل: إنّهم فضّلوا على سائر الأمم لاشتمال أمّتهم على الأنبياء منهم، حكاه القرطبيّ في تفسيره، وفيه نظر؛ لأن {العالمين} عام يشتمل من قبلهم ومن بعدهم من الأنبياء، فإبراهيم الخليل قبلهم وهو أفضل من سائر أنبيائهم، ومحمّدٌ بعدهم وهو أفضل من جميع الخلق وسيّد ولد آدم في الدّنيا والآخرة، صلوات اللّه وسلامه عليه وعلى إخوانه من الأنبياء والمرسلين] ). [تفسير ابن كثير: 1 / 255]

تفسير قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {واتّقوا يومًا لا تجزي نفسٌ عن نفسٍ شيئًا ولا يقبل منها شفاعةٌ ولا يؤخذ منها عدلٌ ولا هم ينصرون (48) }
لمّا ذكّرهم [اللّه] تعالى بنعمه أوّلًا عطف على ذلك التّحذير من حلول نقمه بهم يوم القيامة فقال: {واتّقوا يومًا} يعني: يوم القيامة {لا تجزي نفسٌ عن نفسٍ شيئًا} أي: لا يغني أحدٌ عن أحدٍ كما قال: {ولا تزر وازرةٌ وزر أخرى} [الأنعام: 164]، وقال: {لكلّ امرئٍ منهم يومئذٍ شأنٌ يغنيه} [عبس: 37]، وقال: {يا أيّها النّاس اتّقوا ربّكم واخشوا يومًا لا يجزي والدٌ عن ولده ولا مولودٌ هو جازٍ عن والده شيئًا} [لقمان: 33]، فهذه أبلغ المقامات: أنّ كلًّا من الوالد وولده لا يغني أحدهما عن الآخر شيئًا، وقوله تعالى: {ولا يقبل منها شفاعةٌ} يعني عن الكافرين، كما قال: {فما تنفعهم شفاعة الشّافعين} [المدّثّر: 48]، وكما قال عن أهل النّار: {فما لنا من شافعين * ولا صديقٍ حميمٍ} [الشّعراء: 110، 111]، وقوله: {ولا يؤخذ منها عدلٌ} أي: لا يقبل منها فداءٌ، كما قال تعالى: {إنّ الّذين كفروا وماتوا وهم كفّارٌ فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبًا ولو افتدى به} [آل عمران: 91] وقال: {إنّ الّذين كفروا لو أنّ لهم ما في الأرض جميعًا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبّل منهم ولهم عذابٌ أليمٌ} [المائدة: 36] وقال تعالى: {وإن تعدل كلّ عدلٍ لا يؤخذ منها} [الأنعام: 70]، وقال: {فاليوم لا يؤخذ منكم فديةٌ ولا من الّذين كفروا} الآية [الحديد: 15]، فأخبر تعالى أنّهم إن لم يؤمنوا برسوله ويتابعوه على ما بعثه به، ووافوا اللّه يوم القيامة على ما هم عليه، فإنّه لا ينفعهم قرابة قريبٍ ولا شفاعة ذي جاهٍ، ولا يقبل منهم فداءٌ، ولو بملء الأرض ذهبًا، كما قال تعالى: {من قبل أن يأتي يومٌ لا بيعٌ فيه ولا خلّةٌ ولا شفاعةٌ} [البقرة: 254]، وقال: {لا بيعٌ فيه ولا خلالٌ} [إبراهيم: 31].
[وقال سنيدٌ: حدّثني حجّاجٌ، حدّثني ابن جريجٍ، قال: قال مجاهدٌ: قال ابن عبّاسٍ: {ولا يؤخذ منها عدلٌ} قال: «بدلٌ، والبدل: الفدية»، وقال السّدّيّ: « أمّا عدلٌ فيعدلها من العذاب يقول: لو جاءت بملء الأرض ذهبا تفتدي به ما تقبّل منها»، وكذا قال عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم،]. وقال أبو جعفرٍ الرّازيّ، عن الرّبيع بن أنسٍ، عن أبي العالية، في قوله: {ولا يؤخذ منها عدلٌ} «يعني: فداءٌ».
قال ابن أبي حاتمٍ: وروي عن أبي مالكٍ، والحسن، وسعيد بن جبيرٍ، وقتادة، والرّبيع بن أنسٍ، نحو ذلك.
وقال عبد الرّزّاق: أنبأنا الثّوريّ، عن الأعمش، عن إبراهيم التّيميّ، عن أبيه عن عليٍّ، رضي اللّه عنه، في حديثٍ طويلٍ، قال: «والصّرف والعدل: التّطوّع والفريضة».
وكذا قال الوليد بن مسلمٍ، عن عثمان بن أبي العاتكة، عن عمير بن هانئ.
وهذا القول غريبٌ هنا، والقول الأوّل أظهر في تفسير هذه الآية، وقد ورد حديثٌ يقوّيه، وهو ما قال ابن جريرٍ: حدّثني نجيح بن إبراهيم، حدّثنا عليّ بن حكيمٍ، حدّثنا حميد بن عبد الرّحمن، عن أبيه، عن عمرو بن قيسٍ الملائيّ، عن رجلٍ من بني أميّة -من أهل الشّام أحسن عليه الثّناء -قال: قيل: يا رسول اللّه، ما العدل؟ قال: «العدل الفدية».
وقوله تعالى: {ولا هم ينصرون} أي: ولا أحد يغضب لهم فينصرهم وينقذهم من عذاب اللّه، كما تقدّم من أنّه لا يعطف عليهم ذو قرابةٍ ولا ذو جاهٍ ولا يقبل منهم فداءٌ. هذا كلّه من جانب التّلطّف، ولا لهم ناصرٌ من أنفسهم، ولا من غيرهم، كما قال: {فما له من قوّةٍ ولا ناصرٍ} [الطّارق: 10] أي: إنّه تعالى لا يقبل فيمن كفر به فدية ولا شفاعةً، ولا ينقذ أحدًا من عذابه منقذٌ، ولا يجيره منه أحدٌ، كما قال تعالى: {وهو يجير ولا يجار عليه} [المؤمنون: 88]. وقال: {فيومئذٍ لا يعذّب عذابه أحدٌ * ولا يوثق وثاقه أحدٌ} [الفجر: 25 - 26]، وقال: {ما لكم لا تناصرون * بل هم اليوم مستسلمون} [الصّافّات: 25، 26]، وقال: {فلولا نصرهم الّذين اتّخذوا من دون اللّه قربانًا آلهةً بل ضلّوا عنهم} الآية [الأحقاف: 28].
وقال الضّحّاك عن ابن عبّاسٍ في قوله: {ما لكم لا تناصرون} ما لكم اليوم لا تمانعون منّا؟ هيهات ليس ذلك لكم اليوم.
قال ابن جريرٍ: وتأويل قوله: {ولا هم ينصرون} يعني: إنّهم يومئذٍ لا ينصرهم ناصرٌ، كما لا يشفع لهم شافعٌ، ولا يقبل منهم عدلٌ ولا فديةٌ، بطلت هنالك المحاباة واضمحلّت الرّشى والشّفاعات، وارتفع من القوم التّعاون والتّناصر، وصار الحكم إلى عدل الجبّار الّذي لا ينفع لديه الشّفعاء والنّصراء، فيجزي بالسّيّئة مثلها وبالحسنة أضعافها وذلك نظير قوله تعالى: {وقفوهم إنّهم مسئولون* ما لكم لا تناصرون* بل هم اليوم مستسلمون} [الصافات: 24 -26] ). [تفسير ابن كثير: 1 / 256 -257]


رد مع اقتباس