عرض مشاركة واحدة
  #10  
قديم 28 جمادى الأولى 1435هـ/29-03-2014م, 07:00 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن الثامن الهجري

تفسير قوله تعالى: {وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35)}
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنّة وكلا منها رغدًا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشّجرة فتكونا من الظّالمين (35)}
يقول اللّه تعالى إخبارًا عمّا أكرم به آدم بعد أن أمر الملائكة بالسّجود له، فسجدوا إلّا إبليس: إنّه أباحه الجنّة يسكن منها حيث يشاء، ويأكل منها ما شاء رغدًا، أي: هنيئًا واسعًا طيّبًا.
وروى الحافظ أبو بكر بن مردويه، من حديث محمّد بن عيسى الدّامغانيّ، حدّثنا سلمة بن الفضل، عن ميكائيل، عن ليثٍ، عن إبراهيم التّيميّ، عن أبيه، عن أبي ذرٍ: قال: قلت: يا رسول اللّه؛ أريت آدم، أنبيًّا كان؟ قال:«نعم، نبيًّا رسولًا كلّمه اللّه قبلا فقال: {اسكن أنت وزوجك الجنّة}».
- وقد اختلف في الجنّة الّتي أسكنها آدم، أهي في السّماء أم في الأرض؟ والأكثرون على الأوّل [وحكى القرطبيّ عن المعتزلة والقدريّة القول بأنّها في الأرض]، وسيأتي تقرير ذلك في سورة الأعراف، إن شاء اللّه تعالى،
- وسياق الآية يقتضي أنّ حوّاء خلقت قبل دخول آدم الجنّة، وقد صرّح بذلك محمّد بن إسحاق، حيث قال: «لمّا فرغ اللّه من معاتبة إبليس، أقبل على آدم وقد علّمه الأسماء كلّها، فقال: {يا آدم أنبئهم بأسمائهم} إلى قوله: {إنّك أنت العليم الحكيم}».
قال:«ثمّ ألقيت السّنة على آدم -فيما بلغنا عن أهل الكتاب من أهل التّوراة وغيرهم من أهل العلم، عن ابن عبّاسٍ وغيره- ثمّ أخذ ضلعًا من أضلاعه من شقه الأيسر، ولأم مكانه لحمًا، وآدم نائمٌ لم يهبّ من نومه، حتّى خلق اللّه من ضلعه تلك زوجته حوّاء، فسوّاها امرأةً ليسكن إليها. فلمّا كشف عنه السّنة وهبّ من نومه، رآها إلى جنبه، فقال -فيما يزعمون واللّه أعلم-: لحمي ودمي وروحي. فسكن إليها. فلمّا زوّجه اللّه، وجعل له سكنًا من نفسه، قال له قبلا{يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنّة وكلا منها رغدًا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشّجرة فتكونا من الظّالمين}».
- ويقال: إنّ خلق حوّاء كان بعد دخوله الجنّة، كما قال السّدّيّ في تفسيره، ذكره عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابن عبّاسٍ، وعن مرّة، عن ابن مسعودٍ، وعن ناسٍ من الصّحابة: «أخرج إبليس من الجنّة، وأسكن آدم الجنّة، فكان يمشي فيها وحشًا ليس له زوجٌ يسكن إليه، فنام نومةً فاستيقظ، وعند رأسه امرأةٌ قاعدةٌ خلقها اللّه من ضلعه، فسألها: ما أنت؟ قالت: امرأةٌ. قال: ولم خلقت؟ قالت: لتسكن إليّ. قالت له الملائكة -ينظرون ما بلغ من علمه-: ما اسمها يا آدم؟ قال: حوّاء. قالوا: ولم سمّيت حوّاء؟ قال: إنّها خلقت من شيءٍ حيٍّ. قال اللّه: {يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنّة وكلا منها رغدًا حيث شئتما}».
وأمّا قوله: {ولا تقربا هذه الشّجرة} فهو اختبارٌ من اللّه تعالى وامتحانٌ لآدم. وقد اختلف في هذه الشّجرة ما هي؟
- فقال السّدّيّ، عمّن حدّثه، عن ابن عبّاسٍ: «الشجرة التي نهي عنها آدم، عليه السلام، هي الكرم». وكذا قال سعيد بن جبيرٍ، والسّدّيّ، والشّعبيّ، وجعدة بن هبيرة، ومحمّد بن قيسٍ.
- وقال السّدّيّ -أيضًا- في خبرٍ ذكره، عن أبي مالكٍ وعن أبي صالحٍ، عن ابن عبّاسٍ -وعن مرّة، عن ابن مسعودٍ، وعن ناسٍ من الصّحابة: «{ولا تقربا هذه الشّجرة} هي الكرم،
وتزعم يهود أنّها الحنطة».
- وقال ابن جريرٍ وابن أبي حاتمٍ: حدّثنا محمّد بن إسماعيل بن سمرة الأحمسيّ، حدّثنا أبو يحيى الحمّاني، حدّثنا النّضر أبو عمر الخرّاز، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ، قال: «الشجرة التي نهي عنها آدم، عليه السلام، هي السّنبلة».
- وقال عبد الرّزّاق: أنبأنا ابن عيينة وابن المبارك، عن الحسن بن عمارة، عن المنهال بن عمرٍو، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ، قال: «هي السّنبلة».
- وقال محمّد بن إسحاق، عن رجلٍ من أهل العلم، عن حجّاجٍ، عن مجاهدٍ، عن ابن عبّاسٍ، قال: «هي البرّ».
- وقال ابن جريرٍ: وحدّثني المثنّى بن إبراهيم، حدّثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا القاسم، حدثني رجلٌ من بني تميمٍ، أنّ ابن عبّاسٍ كتب إلى أبي الجلد يسأله عن الشّجرة الّتي أكل منها آدم، والشّجرة الّتي تاب عندها آدم. فكتب إليه أبو الجلد: «سألتني عن الشّجرة الّتي نهي عنها آدم، عليه السّلام، وهي السّنبلة، وسألتني عن الشّجرة الّتي تاب عندها آدم وهي الزّيتونة».
وكذلك فسّره الحسن البصريّ، ووهب بن منبّه، وعطيّة العوفي، وأبو مالكٍ، ومحارب بن دثار، وعبد الرّحمن بن أبي ليلى.
- وقال محمّد بن إسحاق، عن بعض أهل اليمن، عن وهب بن منبّهٍ: أنّه كان يقول: «هي البر، ولكنّ الحبّة منها في الجنّة ككلى البقر، ألين من الزّبد وأحلى من العسل».
- وقال سفيان الثّوريّ، عن حصينٍ، عن أبي مالكٍ: {ولا تقربا هذه الشّجرة} قال: «النّخلة».
- وقال ابن جريرٍ، عن مجاهدٍ: {ولا تقربا هذه الشّجرة} قال: «تينةٌ». وبه قال قتادة وابن جريجٍ.
- وقال أبو جعفرٍ الرّازيّ، عن الرّبيع بن أنسٍ، عن أبي العالية: «كانت الشّجرة من أكل منها أحدث، ولا ينبغي أن يكون في الجنّة حدثٌ»،
- وقال عبد الرّزّاق: حدّثنا عمر بن عبد الرّحمن بن مهرب قال: سمعت وهب بن منبّهٍ يقول: «لمّا أسكن اللّه آدم وزوجته الجنّة، ونهاه عن أكل الشّجرة، وكانت شجرةً غصونها متشعّبٌ بعضها من بعضٍ، وكان لها ثمرٌ تأكله الملائكة لخلدهم، وهي الثّمرة الّتي نهى اللّه عنها آدم وزوجته».
فهذه أقوالٌ ستّةٌ في تفسير هذه الشّجرة.
قال الإمام العلّامة أبو جعفر بن جريرٍ، رحمه اللّه: والصّواب في ذلك أن يقال: إنّ اللّه جلّ ثناؤه نهى آدم وزوجته عن أكل شجرةٍ بعينها من أشجار الجنّة، دون سائر أشجارها، فأكلا منها، ولا علم عندنا بأيّ شجرةٍ كانت على التّعيين؟ لأنّ اللّه لم يضع لعباده دليلًا على ذلك في القرآن ولا من السّنّة الصّحيحة.
وقد قيل: كانت شجرة البرّ.
وقيل: كانت شجرة العنب،
وقيل: كانت شجرة التّين.
وجائزٌ أن تكون واحدةً منها، وذلك علمٌ، إذا علم ينفع العالم به علمه، وإن جهله جاهلٌ لم يضرّه جهله به، واللّه أعلم. [وكذلك رجّح الإمام فخر الدّين الرّازيّ في تفسيره وغيره، وهو الصواب]). [تفسير ابن كثير: 1/ 233-235]

تفسير قوله تعالى: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36)}
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({فأزلّهما الشّيطان عنها فأخرجهما ممّا كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعضٍ عدوٌّ ولكم في الأرض مستقرٌّ ومتاعٌ إلى حينٍ (36)}
وقوله تعالى: {فأزلّهما الشّيطان عنها} يصحّ أن يكون الضّمير في قوله: {عنها} عائدًا إلى الجنّة، فيكون معنى الكلام كما قال [حمزة و] عاصم بن بهدلة، وهو ابن أبي النّجود، فأزالهما، أي: فنجّاهما.
ويصحّ أن يكون عائدًا على أقرب المذكورين، وهو الشّجرة، فيكون معنى الكلام كما قال الحسن وقتادة {فأزلّهما} أي: من قبيل الزّلل، فعلى هذا يكون تقدير الكلام {فأزلّهما الشّيطان عنها} أي: بسببها، كما قال تعالى: {يؤفك عنه من أفك} [الذّاريات: 9] أي: يصرف بسببه من هو مأفوكٌ؛ ولهذا قال تعالى: {فأخرجهما ممّا كانا فيه} أي: من اللّباس والمنزل الرّحب والرّزق الهنيء والرّاحة.
{وقلنا اهبطوا بعضكم لبعضٍ عدوٌّ ولكم في الأرض مستقرٌّ ومتاعٌ إلى حينٍ} أي: قرارٌ وأرزاقٌ وآجالٌ {إلى حينٍ} أي: إلى وقتٍ مؤقّتٍ ومقدارٍ معيّنٍ، ثمّ تقوم القيامة.
وقد ذكر المفسّرون من السّلف كالسّدّي بأسانيده، وأبي العالية، ووهب بن منبّه وغيرهم، هاهنا أخبارًا إسرائيليّةً عن قصّة الحيّة، وإبليس، وكيف جرى من دخول إبليس إلى الجنّة ووسوسته، وسنبسط ذلك إن شاء اللّه، في سورة الأعراف، فهناك القصّة أبسط منها هاهنا، واللّه الموفّق.
وقد قال ابن أبي حاتمٍ هاهنا: حدّثنا عليّ بن الحسن بن إشكاب، حدّثنا عليّ بن عاصمٍ، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن أبيّ بن كعبٍ، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «إنّ اللّه خلق آدم رجلًا طوالا كثير شعر الرّأس، كأنّه نخلةٌ سحوق، فلمّا ذاق الشّجرة سقط عنه لباسه، فأوّل ما بدا منه عورته، فلمّا نظر إلى عورته جعل يشتد في الجنّة، فأخذت شعره شجرةٌ، فنازعها، فناداه الرّحمن: يا آدم، منّي تفرّ! فلمّا سمع كلام الرّحمن قال: يا ربّ، لا ولكن استحياءً».
قال: وحدّثني جعفر بن أحمد بن الحكم القومشيّ سنة أربعٍ وخمسين ومائتين، حدّثنا سليم بن منصور بن عمّارٍ، حدّثنا عليّ بن عاصمٍ، عن سعيدٍ، عن قتادة، عن أبيّ بن كعبٍ، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «لمّا ذاق آدم من الشّجرة فرّ هاربًا؛ فتعلّقت شجرةٌ بشعره، فنودي: يا آدم، أفرارًا منّي؟ قال: بل حياء منك، قال: يا آدم اخرج من جواري؛ فبعزّتي لا يساكنني فيها من عصاني، ولو خلقت مثلك ملء الأرض خلقًا ثمّ عصوني لأسكنتهم دار العاصين».
هذا حديثٌ غريبٌ، وفيه انقطاعٌ، بل إعضالٌ بين قتادة وأبيّ بن كعبٍ، رضي اللّه عنهما.
وقال الحاكم: حدّثنا أبو بكر بن بالويه، عن محمّد بن أحمد بن النّضر، عن معاوية بن عمرٍو، عن زائدة، عن عمّار بن معاوية البجلي، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ، قال: «ما أسكن آدم الجنّة إلّا ما بين صلاة العصر إلى غروب الشّمس». ثمّ قال: صحيحٌ على شرط الشّيخين، ولم يخرجاه.
وقال عبد بن حميدٍ في تفسيره: حدّثنا روح، عن هشامٍ، عن الحسن، قال:«لبث آدم في الجنّة ساعةً من نهارٍ، تلك السّاعة ثلاثون ومائة سنةٍ من أيّام الدّنيا».
وقال أبو جعفرٍ الرّازيّ، عن الرّبيع بن أنسٍ، قال: «خرج آدم من الجنّة للسّاعة التّاسعة أو العاشرة، فأخرج آدم معه غصنًا من شجر الجنّة، على رأسه تاجٌ من شجر الجنّة وهو الإكليل من ورق الجنّة».
وقال السّدّيّ: «قال اللّه تعالى: {اهبطوا منها جميعًا} فهبطوا فنزل آدم بالهند، ونزل معه الحجر الأسود، وقبضةٌ من ورق الجنّة فبثّه بالهند، فنبتت شجرة الطّيب، فإنّما أصل ما يجاء به من الهند من الطّيب من قبضة الورق الّتي هبط بها آدم، وإنّما قبضها آدم أسفًا على الجنّة حين أخرج منها».
وقال عمران بن عيينة، عن عطاء بن السّائب، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ، قال: «أهبط آدم من الجنّة بدحنا، أرض الهند».
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبو زرعة، حدّثنا عثمان بن أبي شيبة، حدّثنا جريرٌ، عن عطاءٍ، عن سعيدٍ عن ابن عبّاسٍ قال: «أهبط آدم، عليه السّلام، إلى أرضٍ يقال لها: دحنا، بين مكّة والطّائف».
وعن الحسن البصريّ قال: «أهبط آدم بالهند، وحوّاء بجدّة، وإبليس بدستميسان من البصرة على أميالٍ، وأهبطت الحيّة بأصبهان». رواه ابن أبي حاتمٍ.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا محمّد بن عمّار بن الحارث، حدّثنا محمّد بن سعيد بن سابقٍ، حدّثنا عمرو بن أبي قيسٍ، عن ابن عديٍّ، عن ابن عمر، قال:«أهبط آدم بالصّفا، وحوّاء بالمروة».
وقال رجاء بن سلمة: «أهبط آدم، عليه السّلام، يداه على ركبتيه مطأطئًا رأسه، وأهبط إبليس مشبّكًا بين صابعه رافعًا رأسه إلى السّماء».
وقال عبد الرّزّاق: قال معمر: أخبرني عوف عن قسامة بن زهيرٍ، عن أبي موسى، قال: «إنّ اللّه حين أهبط آدم من الجنّة إلى الأرض، علّمه صنعة كلّ شيءٍ، وزوّده من ثمار الجنّة، فثماركم هذه من ثمار الجنّة، غير أنّ هذه تتغيّر وتلك لا تتغيّر».
وقال الزّهريّ عن عبد الرّحمن بن هرمز الأعرج، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللّه صلّى الله عليه وسلم: «خير يومٍ طلعت فيه الشّمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنّة، وفيه أخرج منها» رواه مسلمٌ والنّسائيّ.
وقال فخر الدّين: اعلم أنّ في هذه الآيات تهديدًا عظيمًا عن كلّ المعاصي من وجوهٍ:
الأوّل: أنّ من تصوّر ما جرى على آدم بسبب إقدامه على هذه الزّلّة الصّغيرة كان على وجلٍ شديدٍ من المعاصي، قال الشّاعر:
يا ناظرًا يرنو بعيني راقدٍ ....... ومشاهدًا للأمر غير مشاهد
تصل الذّنوب إلى الذّنوب وترتجي ....... درج الجنان ونيل فوز العابد
أنسيت ربّك حين أخرج آدمًا ....... منها إلى الدّنيا بذنبٍ واحد
قال فخر الدّين عن فتحٍ الموصليّ أنّه قال: «كنّا قومًا من أهل الجنّة فسبانا إبليس إلى الدّنيا، فليس لنا إلّا الهمّ والحزن حتّى نردّ إلى الدّار الّتي أخرجنا منها».
فإن قيل: فإذا كانت جنّة آدم الّتي أسكنها في السّماء كما يقوله الجمهور من العلماء، فكيف يمكّن إبليس من دخول الجنّة، وقد طرد من هنالك طردًا قدريًّا، والقدريّ لا يخالف ولا يمانع؟
فالجواب: أنّ هذا بعينه استدلّ به من يقول: إنّ الجنّة الّتي كان فيها آدم في الأرض لا في السّماء، وقد بسطنا هذا في أوّل كتابنا البداية والنّهاية، وأجاب الجمهور بأجوبةٍ، أحدها: أنّه منع من دخول الجنّة مكرّمًا، فأمّا على وجه الرّدع والإهانة، فلا يمتنع؛
- ولهذا قال بعضهم: كما جاء في التّوراة أنّه دخل في فم الحيّة إلى الجنّة،
- وقد قال بعضهم: يحتمل أنّه وسوس لهما وهو خارج باب الجنّة،
- وقال بعضهم: يحتمل أنّه وسوس لهما وهو في الأرض، وهما في السّماء، ذكرها الزّمخشريّ وغيره.
وقد أورد القرطبيّ هاهنا أحاديث في الحيّات وقتلهنّ وبيان حكم ذلك، فأجاد وأفاد). [تفسير ابن كثير: 1/ 235-238]

تفسير قوله تعالى: {فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)}
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({فتلقّى آدم من ربّه كلماتٍ فتاب عليه إنّه هو التّوّاب الرّحيم (37)}
قيل: إنّ هذه الكلمات مفسّرةٌ بقوله تعالى: {قالا ربّنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننّ من الخاسرين} [الأعراف: 23] روي هذا عن مجاهدٍ، وسعيد بن جبيرٍ، وأبي العالية، والرّبيع بن أنسٍ، والحسن، وقتادة، ومحمّد بن كعبٍ القرظي، وخالد بن معدان، وعطاءٍ الخراسانيّ، وعبد الرّحمن بن زيد بن أسلم، وقال أبو إسحاق السّبيعي، عن رجلٍ من بني تميمٍ، قال: أتيت ابن عبّاسٍ، فسألته: [قلت]: ما الكلمات الّتي تلقّى آدم من ربّه؟ قال: «علم [آدم] شأن الحج».
وقال سفيان الثّوريّ، عن عبد العزيز بن رفيع، أخبرني من سمع عبيد بن عمير، وفي روايةٍ: [قال]: أخبرني مجاهدٌ، عن عبيد بن عميرٍ، أنّه قال: قال آدم: يا ربّ، خطيئتي الّتي أخطأت شيءٌ كتبته عليّ قبل أن تخلقني، أو شيءٌ ابتدعته من قبل نفسي؟ قال: بل شيءٌ كتبته عليك قبل أن أخلقك. قال: فكما كتبته عليّ فاغفر لي. قال: فذلك قوله تعالى: {فتلقّى آدم من ربّه كلماتٍ}.
وقال السّدّيّ، عمّن حدّثه، عن ابن عبّاسٍ: {فتلقّى آدم من ربّه كلماتٍ}، قال: «قال آدم، عليه السّلام: يا ربّ، ألم تخلقني بيدك؟ قيل له: بلى. ونفخت فيّ من روحك؟ قيل له: بلى. وعطست فقلت: يرحمك اللّه، وسبقت رحمتك غضبك؟ قيل له: بلى، وكتبت عليّ أن أعمل هذا؟ قيل له: بلى. قال: أفرأيت إن تبت هل أنت راجعي إلى الجنّة؟ قال: نعم».
وهكذا رواه العوفيّ، وسعيد بن جبيرٍ، وسعيد بن معبد، عن ابن عبّاسٍ، بنحوه. ورواه الحاكم في مستدركه من حديث سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ، وقال: صحيح الإسناد، ولم يخرّجاه وهكذا فسّره السّدّيّ وعطيّة العوفي.
وقد روى ابن أبي حاتمٍ هاهنا حديثًا شبيهًا بهذا فقال: حدّثنا عليّ بن الحسين بن إشكاب، حدّثنا عليّ بن عاصمٍ، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن أبيّ بن كعبٍ، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «قال آدم، عليه السّلام: أرأيت يا ربّ إن تبت ورجعت، أعائدي إلى الجنّة؟ قال: نعم. فذلك قوله: {فتلقّى آدم من ربّه كلماتٍ}».
وهذا حديثٌ غريبٌ من هذا الوجه وفيه انقطاعٌ.
وقال أبو جعفرٍ الرّازيّ، عن الرّبيع بن أنسٍ، عن أبي العالية، في قوله تعالى: {فتلقّى آدم من ربّه كلماتٍ} قال: «إنّ آدم لمّا أصاب الخطيئة قال: يا ربّ، أرأيت إن تبت وأصلحت؟ قال اللّه: إذن أرجعك إلى الجنّة فهي من الكلمات. ومن الكلمات أيضًا: {ربّنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننّ من الخاسرين} [الأعراف: 23] ».
وقال ابن أبي نجيح، عن مجاهدٍ أنّه كان يقول في قول اللّه تعالى: {فتلقّى آدم من ربّه كلماتٍ} قال: «الكلمات: اللّهمّ لا إله إلّا أنت سبحانك وبحمدك، ربّ إنّي ظلمت نفسي فاغفر لي إنّك خير الغافرين، اللّهمّ لا إله إلّا أنت سبحانك وبحمدك، ربّ إنّي ظلمت نفسي فارحمني، إنّك خير الرّاحمين. اللّهمّ لا إله إلّا أنت سبحانك وبحمدك، ربّ إنّي ظلمت نفسي فتب عليّ، إنّك أنت التّوّاب الرحيم».
وقوله تعالى: {إنّه هو التّوّاب الرّحيم} أي: إنّه يتوب على من تاب إليه وأناب، كقوله: {ألم يعلموا أنّ اللّه هو يقبل التّوبة عن عباده} [التّوبة: 104] وقوله: {ومن يعمل سوءًا أو يظلم نفسه ثمّ يستغفر اللّه يجد اللّه غفورًا رحيمًا} [النّساء: 11]، وقوله: {ومن تاب وعمل صالحًا فإنّه يتوب إلى اللّه متابًا} [الفرقان: 71] وغير ذلك من الآيات الدّالّة على أنّه تعالى يغفر الذّنوب ويتوب على من يتوب وهذا من لطفه بخلقه ورحمته بعبيده، لا إله إلّا هو التّوّاب الرّحيم.
وذكرنا في المسند الكبير من طريق سليمان بن سليمٍ عن ابن بريدة وهو سليمان عن أبيه عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «لمّا أهبط اللّه آدم إلى الأرض طاف بالبيت سبعًا، وصلّى خلف المقام ركعتين، ثمّ قال: اللّهمّ إنّك تعلم سرّي وعلانيتي فاقبل معذرتي، وتعلم حاجتي فأعطني سؤلي، وتعلم ما عندي فاغفر ذنوبي، أسألك إيمانًا يباشر قلبي، ويقينًا صادقًا حتّى أعلم أنّه لن يصيبني إلّا ما كتبت لي. قال فأوحى اللّه إليه إنّك قد دعوتني بدعاءٍ أستجيب لك فيه ولمن يدعوني به، وفرّجت همومه وغمومه، ونزعت فقره من بين عينيه، وأجرت له من وراء كلّ تاجر زينة الدّنيا وهي كلمات عهدٍ وإن لم يزدها» رواه الطبراني في معجمه الكبير). [تفسير ابن كثير: 1/ 238-240]

تفسير قوله تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)}
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({قلنا اهبطوا منها جميعًا فإمّا يأتينّكم منّي هدًى فمن تبع هداي فلا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون (38) والّذين كفروا وكذّبوا بآياتنا أولئك أصحاب النّار هم فيها خالدون (39)}
يقول تعالى مخبرًا عمّا أنذر به آدم وزوجته وإبليس حتّى أهبطهم من الجنّة، والمراد الذّرّيّة: أنّه سينزل الكتب، ويبعث الأنبياء والرّسل؛ كما قال أبو العالية:«الهدى: الأنبياء والرّسل والبيان»،
وقال مقاتل بن حيّان: «الهدى: محمّدٌ صلّى اللّه عليه وسلّم».
وقال الحسن:«الهدى: القرآن».
وهذان القولان صحيحان، وقول أبي العالية أعمّ.
{فمن تبع هداي} أي: من أقبل على ما أنزلت به الكتب وأرسلت به الرّسل {فلا خوفٌ عليهم} أي: فيما يستقبلونه من أمر الآخرة {ولا هم يحزنون} على ما فاتهم من أمور الدّنيا، كما قال في سورة طه: {قال اهبطا منها جميعًا بعضكم لبعضٍ عدوٌّ فإمّا يأتينّكم منّي هدًى فمن اتّبع هداي فلا يضلّ ولا يشقى} [طه: 123] قال ابن عبّاسٍ:«فلا يضلّ في الدّنيا ولا يشقى في الآخرة».
{ومن أعرض عن ذكري فإنّ له معيشةً ضنكًا ونحشره يوم القيامة أعمى} [طه: 124] كما قال هاهنا: {والّذين كفروا وكذّبوا بآياتنا أولئك أصحاب النّار هم فيها خالدون} أي: مخلّدون فيها، لا محيد لهم عنها، ولا محيص.
وقد أورد ابن جريرٍ، رحمه اللّه، هاهنا حديثًا ساقه من طريقين، عن أبي مسلمة سعيد بن يزيد، عن أبي نضرة المنذر بن مالك بن قطعة عن أبي سعيدٍ -واسمه سعد بن مالك بن سنان الخدري- قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «أمّا أهل النّار الّذين هم أهلها فإنّهم لا يموتون فيها ولا يحيون، لكنّ أقوامًا أصابتهم النّار بخطاياهم، أو بذنوبهم فأماتتهم إماتةً، حتّى إذا صاروا فحمًا أذن في الشّفاعة». وقد رواه مسلمٌ من حديث شعبة عن أبي سلمة به.
[وذكر هذا الإهباط الثّاني لما تعلّق به ما بعده من المعنى المغاير للأوّل، وزعم بعضهم أنّه تأكيدٌ وتكريرٌ، كما تقول: قم قم، وقال آخرون: بل الإهباط الأوّل من الجنّة إلى السّماء الدّنيا، والثّاني من سماء الدّنيا إلى الأرض، والصّحيح الأوّل، واللّه تعالى أعلم بأسرار كتابه]). [تفسير ابن كثير: 1/ 240-241]


رد مع اقتباس