عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 26 ربيع الثاني 1434هـ/8-03-2013م, 08:52 PM
الصورة الرمزية إشراق المطيري
إشراق المطيري إشراق المطيري غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jun 2010
المشاركات: 885
افتراضي

التفسير اللغوي

تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت:207هـ): (وقوله: {وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلاّ اللّه...}

رفعت {تعبدون} لأنّ دخول "أن" يصلح فيها، فلمّا حذف الناصب رفعت، كما قال الله: {أفغير اللّه تأمرونّي أعبد} (قرأ الآية)، وكما قال: {ولا تمنن تستكثر}، وفي قراءة عبد الله "ولا تمنن أن تستكثر" فهذا وجهٌ من الرفع، فلما لم تأت بالناصب رفعت، وفي قراءة أبيّ: "وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدوا" ومعناها الجزم بالنهى، وليست بجواب لليمين، ألا ترى أنه قد قال: {وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطّور خذوا ما آتيناكم بقوّةٍ} فأمروا، والأمر لا يكون جوابا لليمين؛ لا يكون في الكلام أن تقول: واللّه قم، ولا أن تقول: والله لا تقم، ويدلّ على أنه نهىٌ وجزمٌ أنه قال: {وقولوا للنّاس حسناً} كما تقول: افعلوا ولا تفعلوا، أو لا تفعلوا وافعلوا، وإن شئت جعلت {لا تعبدون} جوابا لليمين؛ لأنّ أخذ الميثاق يمينٌ، فتقول: لا يعبدون، ولا تعبدون، والمعنى واحد.
وإنّما جاز أن تقول (لا يعبدون) و(لا تعبدون) وهم غيّبٌ، كما قال: "قل للّذين كفروا سيغلبون" و"ستغلبون" بالياء والتاء؛ "سيغلبون" بالياء على لفظ الغيب، والتّاء على المعنى؛ لأنه إذا أتاهم أو لقيهم صاروا مخاطبين، وكذلك قولك: استحلفت عبد الله ليقومنّ؛ لغيبته، واستحلفته لتقومنّ، لأني قد كنت خاطبته، ويجوز في هذا: استحلفت عبد الله لأقومنّ؛ أي: قلت له احلف لأقومنّ، كقولك: قل لأقومنّ، فإذا قلت: استحلفت، فأوقعت فعلك على مستحلفٍ جاز فعله أن يكون بالياء والتاء والألف، وإذا كان هو حالفا وليس معه مستحلف كان بالياء وبالألف ولم يكن بالتاء؛ من ذلك: حلف عبد الله ليقومنّ فلم يقم، وحلف عبد الله لأقومنّ؛ لأنهّ كقولك: قال لأقومنّ، ولم يجز بالتّاء؛ لأنه لا يكون مخاطبا لنفسه؛ لأنّ التاء لا تكون إلاّ لرجل تخاطبه، فلما لم يكن مستحلفٌ سقط الخطاب.

وقوله: {قالوا تقاسموا باللّه لنبيّننّه وأهله} فيها ثلاثة أوجهٍ: "لتبيّتنّه" و"ليبيّتنّه" و"لنبيّتنّه" بالتاء والياء والنون، إذا جعلت "تقاسموا" على وجه فعلوا، فإذا جعلتها في موضع جزمٍ قلت: تقاسموا لتبيتنه ولنبيتنه، ولم يجز بالياء، ألا ترى أنكّ تقول للرجل: احلف لتقومنّ، أو احلف لأقومنّ، كما تقول: قل لأقومنّ، ولا يجوز أن تقول للرّجل: احلف ليقومنّ، فيصير كأنّه لآخر، فهذا ما في اليمين). [معاني القرآن: 1/ 53-45]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت:215هـ): ({وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلاّ اللّه وبالوالدين إحساناً وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للنّاس حسناً وأقيموا الصّلاة وآتوا الزّكاة ثمّ تولّيتم إلاّ قليلاً مّنكم وأنتم مّعرضون}
قوله: {وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلاّ اللّه} وقوله: {وبالوالدين إحساناً} فجعله أمراً، كأنّه يقول: "وإحساناً بالوالدين" أي: "أحسنوا إحسانا".
وقال: {وقولوا للنّاس حسناً} فهو على أحد وجهين؛ إمّا أن يكون يراد بـ"الحُسْنِ": "الحَسَنُ" كما تقول: "البَخَل" و"البُخْل"، وإمّا أن يكون جعل "الحُسْن" هو "الحَسَن" في التشبيه كما تقول: "إنّما أنت أكلٌ وشربٌ"، قال الشاعر:

وخيلٍ قد دلفتٌ لها بخيلٍ ....... تحيّـة بينهـم ضـربٌ وجـيـعٌ
"دلفت": "قصدت" فجعل التحية ضربا، وهذه الكلمة في الكلام ليست بكثيرة وقد جاءت في القرآن.
وقد قرأها بعضهم (حَسَنًا) يريد: "قولوا لهم حسناً"، وقال بعضهم (قولوا للناس حسنى) يؤنثها ولم ينّونها، وهذا لا يكاد يكون لا "الحسنى" لا يتكلم بها إلا بالألف واللام، كما لا يتلكم بتذكيرها إلا بالألف واللام [فـ] لو قلت: "جاءني أحسن وأطول" لم يحسن حتّى تقول: "جاءني الأحسن والأطول" فكذلك هذا يقول: "جاءتني الحسنى والطولى"، إلاّ أنهم قد جعلوا أشياء من هذا أسماء نحو "دنيا" و"أولى"، قال الراجز:
في سعي دنيا طال ما قد مدّت
ويقولون: "هي خيرة النساء" ["هنّ خيرات النّساء"] لا يكادون يفردونه وإفراده جائز، وفي كتاب الله عز وجل: {فيهنّ خيراتٌ حسان} وذلك أنه لم يرد "أفعل" وإنما أراد تأنيث الخير لأنه لما وصف فقال: "فلان خيرٌ" أشبه الصفات فأدخل الهاء للمؤنث.
وأما قوله: {وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل} ثم قال: {وقولوا للنّاس حسناً} ثم قال: {ثمّ تولّيتم إلا قليلا منكم} فلأنه خاطبهم من بعدما حدث عنهم وذا في الكلام والشعر كثير، قال الشاعر:
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومةٌ ....... لـديــنــا ولا مـقـلــيــةٌ إن تــقــلّــب
وإنما يريدون: "تقلّيت"، وقال الآخر:
شطّت مزار العاشقين فأصبحت ....... عسـراً عـلـيّ طـلابـك ابـنـةٌ مـخـرم
إنّما أراد: "فأصبحت ابنة مخرمٍ عسراً على طلابها"، وجاز أن يجعل الكلام كأنه خاطبها لأنه حين قال: "شطّت مزار العاشقين" كأنه قال: "شططت مزار العاشقين" لأنه إيّاها يريد بهذا الكلام، ومثله مما يخرج من أوله قوله:
إنّ تميماً خلقت ملموما
فأراد القبيلة بقوله: "خلقت" ثم قال "ملموما" على الحي أو الرجل، ولذلك قال:
مثل الصّفا لا تشتكي الكلوما
ثم قال:
قوماً ترى واحدهم صهميما
فجاء بالجماعة لأنه أراد القبيلة أو الحي، ثم قال:
لا راحم الناس ولا مرحوما
وقال الشاعر:
أقول له والرمـح يأطر متنـه ....... تأمّل خفافاً إنّني أنا ذلكا
و "تبيّن خفافاً"، يريد: "أنا هو"، وفي كتاب الله عز وجل: {حتّى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم} فأخبر بلفظ الغائب وقد كان في المخاطبة لأن ذلك يدل على المعنى، وقال الأسود:
وجفنةٍ كإزاء الحوض مترعةٍ ....... ترى جوانبها بالشّحم مفتونـا
فيكون على أنه حمله على المعنى، أي: ترى كلّ جانبٍ منها، أو جعل صفة الجميع واحدا كنحو ما جاء في الكلام، وقوله "مأطر متنه" يثنى متنه. وكذلك {الحمد للّه ربّ العالمين} ثم قال: {إيّاك نعبد} لأن الذي أخبر عنه هو الذي خاطب، قال رؤبة:
الحمـد لـلّـه الأعــزّ الأجـلـل ....... أنت مليك الناس ربّاً فاقبل
وقال زهير:
فـإنّــي لـــو ألاقــيــك اجـتـهـدنـا ....... وكــــان لــكــلّ مـنــكــرةٍ كــفـــاء
فأبـرئ موضحـات الـرأس منـه ....... وقد يشفى من الجرب الهناء
وقال الله تبارك وتعالى: {ذوقوا فتنتكم هذا الّذي كنتم به تستعجلون} فذكّر بعد التأنيث، كأنه أراد: هذا الأمر الذي كنتم به تستعجلون، ومثله {فلماّ رأى الشّمس بازغةً قال هذا ربّي هذا أكبر فلمّا أفلت} فيكون هذا على: الذي أرى ربّي، أي: هذا الشيء ربي، وهذا يشبه قول المفسرين {أحلّ لكم ليلة الصّيام الرّفث إلى نسائكم} قال: إنّما دخلت "إلى" لأن معنى "الرفث" و"الإفضاء" واحد، فكأنه قال: "الإفضاء إلى نسائكم"، وإنما يقال: "رفث بامرأته" ولا يقال: "إلى امرأته"، وذا عندي كنحو ما يجوز من "إلى" في مكان "الباء" ، في مكانها، وفي مكان "على" في قوله: {فأثابكم غمّاً بغمٍّ} إنما هو "غمّاً على غمٍّ" [وقوله] {ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطارٍ} أي: "على قنطارٍ"، كما تقول: "مررت به" و"مررت عليه"، كما قال الشاعر -وأخبرني من أثق به أنه سمعه من العرب-:
إذا رضيت عليّ بنو قشيرٍ ....... لعمر اللّـه أعجبنـي رضاهـا
يريد: "عنى"، وذا يشبه {وإذا خلوا إلى شياطينهم} لأنك تقول: "خلوت إليه وصنعنا كذا وكذا" و"خلوت به"، وإن شئت جعلتها في معنى قوله: {من أنصاري إلى اللّه} أي: "مع اللّه"، وكما قال: {ونصرناه من القوم} أي: "على القوم"). [معاني القرآن: 1/ 97-100]
قال قطرب محمد بن المستنير البصري (ت: 220هـ تقريباً) : (الحسن وأبو عمرو {لا تعبدون} بالتاء.
ابن أبي إسحاق {لا يعبدون إلا الله}.
الأعرج {وقولوا للناس حسنا}.
الأعمش {حسنا}.
عيسى بن عمر "حسنا" برفع السين). [معاني القرآن لقطرب: 252]
قال قطرب محمد بن المستنير البصري (ت: 220هـ تقريباً) : (وقوله عز وجل {وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون} وقوله {وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون}، وقوله عز وجل {ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا}، وقوله {أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون} فكأن المعنى في هذا: أن مضمر؛ يريد: أخذنا ميثاق بني إسرائيل أن لا تعبدوا، وأن لا تسفكوا دماءكم، ومن آياته أن يريكم البرق؛ لأنها كلها فيها "أن"؛ وهذا مثل قولهم: من شأنه يكرمك، ويحسن إليك؛ المعنى: أن يكرمك، إلا أن الفعل يرتفع إذا صار في موضع الاسم، ولا تعمل "أن" مضمرة هاهنا؛ فهذا الأحسن.
ولو قلت في قوله {ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون}: يجعلها في موضع الحال، كأنه قال: غير عابدين؛ أي أخذنا ميثاقهم هكذا، أو ميثاقكم لا تسفكون؛ أي غير سافكين؛ إلا أن هذا المذهب لا يكون في قوله {ومن آياته يريكم البرق}، إلا على معنى "أن"؛ لأنه غير مستغن إذا قال {ومن آياته} حتى يصله، فليست هاهنا حال.
وأما قول الله عز وجل {قل أفغير الله تأمروني} فتكون على وجه آخر غير إضمار "أن"؛ كأنه قال: أفغير الله أعبد، ثم قال: تأمروني؛ أي فيما تامروني؛ كقولك: زيد شاخص، بلغني؛ أي فيما بلغني، فهذا وجه آخر.
وقال طرفة:
[معاني القرآن لقطرب: 417]
ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى = وأن أشهد اللذات هل أنت مخلد
يريد: أن أحضر الوغى، فرفع لما ذهبت "أن" من لفظه؛ كما قلنا في {لا تعبدون} و{لا تسفكون}؛ وقد حكي لنا بعضهم: أحضر الوغى، بالنصب، كأنه أضمر "أن" وذلك خبيث.
وقد حكى لنا من نثق به: نحن أشغل من نجلس هنا؛ فنصب "نجلس"، وحكى لنا معمر التيمي: أريد أكرمك، وأخشى تلومني؛ يريدك أن أكرمك، وأن تلومني فأضمر وأعمل، وقالوا: عجبت من يبيعها، بالنصب.
وقال الشاعر:
أآظعان ليلى تلكم المتحمله = ونهنهت نفسي بعدما كدت أفعله
بالنصب؛ كأنه نصب بأن.
وقال ابن مقبل:
وما الدهر إلا تارتان فمنهما = أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح
المعنى: أن أموت؛ مثل {ومن آياته يريكم البرق} المعنىك أن يريكم؛ كقوله: من فعله يكرمك؛ أي أن يكرمك.
قال أبو علي: وقد يكون المعنى في بيت ابن مقبل: فمنهما تارة أموت، فلا يضمر "أن" ويكون {ومن آياته يريكم} على هذا؛ أي آية يريكم فيها البرق، وإن أردت: ومن آياته يريكم من البرق، تريد: البرق من آياته، فعلى الجواز.
وقال قيس الرقيات:
[معاني القرآن لقطرب: 418]
فتاتان أما منهما فشبيهة = هلالا وأخرى منهم تشبه الشمسا
كأنه قال: منهما واحدة كذا، وأخرى كذا.
وقال الآخر:
هنالك لا أخشى تنال ظعينتي = إذا حل بيتي بين غول وغلغله
على إضمار "أن" فيما زعم معمر أو غيره.
وقد يجوز {لا تعبدون إلا الله} على الحال؛ أي غير عابدين؛ {وإذ أخذنا ميثاقكم} غير سافكين، إلا أن الحال لا يجوز في {ومن آياته يريكم}؛ لأن هذا غير مستغن، لو قلت {ومن آياته} لم يكن كلامًا.
وأما {تأمروني أعبد} فقد يكون على وجه آخر؛ كأنه قال: أفغير الله أعبد ثم قال {تأمروني} أي فيما تامرونني، كقولك: زيد شاخص بلغني؛ أي فيما بلغني.
وقد يكون {ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون} على مثل: أقسمت عليه لا يفعل، وأقسمت عليه ليفعلن؛ فإذا قلت: استحلفته ليفعلن ذلك، جاز أيضًا لأفعلن ذلك، كأنه قال: حلف لأفعلن ذلك؛ ويجوز: استحلفته لتفعلن؛ كأنه قال: فقلت له: لتفعلن ذلك؛ وإذا قلت: حلف عليه ليفعلن ذلك، ولأفعلن ذلك؛ ذهبت التاء للمخاطبة). [معاني القرآن لقطرب: 419]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت:237هـ): (و"الميثاق": العهد). [غريب القرآن وتفسيره: 75]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت:276هـ): ({وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلّا اللّه} أمرناهم بذلك فقبلوه، وهو أخذ الميثاق عليهم.
{وبالوالدين إحساناً} أي: وصّيناهم بالوالدين إحسانا، مختصر كما قال: {وقضى ربّك ألّا تعبدوا إلّا إيّاه وبالوالدين إحساناً} أي: ووصى بالوالدين). [تفسير غريب القرآن: 56]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلّا اللّه وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للنّاس حسنا وأقيموا الصّلاة وآتوا الزّكاة ثمّ تولّيتم إلّا قليلا منكم وأنتم معرضون} القراءة على ضربين، (تعبدون) و(يعبدون) بالياء والتاء، وقد روي وجه ثالث لا يؤخذ به لأنه مخالف للمصحف، قرأ ابن مسعود: (لا تعبدوا).
ورفع {لا تعبدون} -بالتاء- على ضربين، على أن يكون (لا) جواب القسم لأن أخذ الميثاق بمنزلة القسم، والدليل على ذلك قوله: {وإذ أخذ اللّه ميثاق الّذين أوتوا الكتاب لتبيّننّه للنّاس} فجاء جواب القسم باللام فكذلك هو بالنفي بـ"لا"، ويجوز أن يكون رفعه على إسقاط "أن" على معنى "ألا تعبدوا" فلما سقطت "أن" رفعت، وهذا مذهب الأخفش وغيره من النحويين،
فأما القراءة بالتاء؛ فعلى معنى الخطاب والحكاية، كأنّه قيل: قلنا لهم لا تعبدون إلا الله، وأمّا (لا يعبدون) بالياء فإنهم غيب، وعلامة الغائب الياء.
ومعنى "أخذ الميثاق والعهد" قد بيّناه قبل هذا الموضع.
وقوله عزّ وجلّ: {وبالوالدين إحسانا} نصب على معنى: وأحسنوا بالوالدين إحسانا، بدل من اللفظ (أحسنوا).
{وذي القربى واليتامى}: جمع على فعالى، كما جمع أسير على أسارى، يقال: يَتِم يَيْتَم يُتْمًا ويَتْمًا إذا فقد أباه، هذا للإنسان فأمّا غيره فيتمه من قبل أمه.
أخبرني بذلك محمد بن يزيد، عن الرياشي، عن الأصمعي: إن اليتيم في الناس من قبل الأب، وفي غير الناس من قبل الأم،
{والمساكين} مأخوذ من السكون، وأحدهم مسكين كأنّه قد أسكنه الفقر.
وقوله عزّ وجلّ: {وقولوا للنّاس حسنا} فيها ثلاثة أقوال:
(حسْنًا) بالتنوين وإسكان السين، و(حسَنًا) بالتنوين وفتح السين، وروى الأخفش (حسنى) غير منون.
فأما الوجهان الأولان؛ فقرأهما الناس، وهما جيدان بالغان في اللغة، وأما "حسنى" فكان لا ينبغي أن يقرأ به لأنه باب الأفعل والفعلى، نحو الأحسن والحسنى، والأفضل والفضلى، لا يستعمل إلا بالألف واللام، كما قال اللّه عزّ وجلّ: {إنّ الّذين سبقت لهم منّا الحسنى} وقال: {للّذين أحسنوا الحسنى وزيادة}.
وفي قوله {حسنا} بالتنوين قولان:
المعنى: قولوا للناس قولا ذا حسن، وزعم الأخفش أنّه يجوز أن يكون (حُسْنًا) في معنى (حَسَنًا)، فأمّا (حُسْنًا) فصفة، المعنى: قولا حسنا،
وتفسير: {قولوا للناس حسنا} مخاطبة لعلماء اليهود، قيل لهم: اصدقوا في صفة النبي -صلى الله عليه وسلم-.
{وأقيموا الصّلاة وآتوا الزّكاة} اعلموا أنه قد أخذ عليهم الميثاق وعهد عليهم فيه بالصدق في صفة النبي -صلى الله عليه وسلم-.
وقوله عزّ وجلّ: {ثمّ تولّيتم إلّا قليلا منكم} يعني أوائلهم الذين أخذ عليهم الميثاق،
وقوله {وأنتم معرضون} أي: وأنتم -أيضا- كأوائلكم في الإعراض عمّا عهد إليكم فيه،
ونصب {إلّا قليلا} على الاستثناء، والمعنى: استثني قليلا منكم). [معاني القرآن: 1/ 162-164]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت:437هـ): ("المِيثَاقَ": العهد). [العمدة في غريب القرآن: 79]

تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84)}
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({لا تسفكون دماءكم} سفك دمه: أي صبّ دمه، كما يسفح نحي السمن: يهريقه). [مجاز القرآن: 1/ 45]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت:215هـ): ({وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم مّن دياركم ثمّ أقررتم وأنتم تشهدون}
[وقوله] {وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم} فرفع هذا، لأنه كلّ ما كان من الفعل على "يفعل هو" و"تفعل أنت" و"أفعلٌ أنا" و"نفعل نحن" فهو أبداً مرفوع، لا تعمل فيه إلا الحروف التي ذكرت لك من حروف النصب أو حروف الجزم والأمر والنهي والمجازاة، وليس شيء من ذلك ههنا وإنما رفع لموقعه في موضع الأسماء، ومعنى هذا الكلام حكاية، كأنه قال: "استحلفناهم لا يعبدون" أي: قلنا لهم: "واللّه لا تعبدون"، وذلك أنها تقرأ (يعبدون) و{تعبدون}.
قال: {وحفظاً مّن كلّ شيطان مّاردٍ * لاّ يسّمّعون إلى الملأ الأعلى ويقذفون} فإن شئت جعلت "لا يسّمّعون" مبتدأ، وإن شئت قلت: هو في معنى "أن لا لا يسّمّعوا" فلما حذفت "أن" ارتفع، كما تقول: "أتيتك تعطيني وتحسن إليّ وتنظر في حاجتي"، ومثله: "مره يعطيني" إن شئت جعلته على "فهو يعطيني"، وإن شئت على "أن يعطيني"، فلما ألقيت "أن" ارتفع، قال الشاعر:
ألا أيّـهـذا الـزاجـري أحـضــر الـوغــى ....... وأن أتبع اللّذّات هل أنت مخلدي
فـ"أحضر" في معنى "أن أحضر"). [معاني القرآن: 1/ 100-101]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت:276هـ): ({وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم} أي: لا يسفك بعضكم دم بعض.
{ولا تخرجون أنفسكم من دياركم} أي: لا يخرج بعضكم بعضا من داره ويغلبه عليها.
{ثمّ أقررتم} أي: ثمّ قبلتم ذلك وأقررتم به.
{وأنتم تشهدون} على ذلك). [تفسير غريب القرآن: 56-57]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثمّ أقررتم وأنتم تشهدون} يقال: سفكت الدم أسفكه سفكا إذا صببته، ورفع {لا تسفكون} على القسم، وعلى حذف "أن" كما وصفنا في قوله: {لا تعبدون}، ومثل حذف "أن" قول طرفة:
ألا أيّـهــذا الــزاجــري أحــضــر الــوغــى ....... وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي
وواحد الدماء دم -يا هذا- مخفف، وأصله "دمى" في قول أكثر النحويين، ودليل من قال إن أصله دمي قول الشاعر:
فلـو أنّـا عـلـى حـجـر ذبحـنـا ....... جرى الدّميان بالخبر اليقين
وقال قوم: أصله "دمي" إلا إنّه لما حذف ورد إليه ما حذف منه حركت الميم لتدل الحركة على أنه استعمل محذوفا.
وقوله عز وجل: {ولا تخرجون أنفسكم من دياركم} عطف على {لا تسفكون دماءكم}.
وقوله: {ثم أقررتم} أي: اعترفتم بأن هذا أخذ عليكم في العهد وأخذ على آبائكم، وأنتم أيها الباقون المخاطبون تشهدون أن هذا حق). [معاني القرآن: 1/ 164-165]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت:437هـ): ({لا تسفكون دماءكم} أي: لا يسفك بعضكم دماء بعض، وكذلك {ولا تخرجون أنفسكم من دياركم}).[تفسير المشكل من غريب القرآن: 30]

تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت:207هـ): (وقوله: {وهو محرّمٌ عليكم إخراجهم...}
إن شئت جعلت {هو} كناية عن الإخراج، {وتخرجون فريقاً مّنكم مّن ديارهم} أي: وهو محرّم عليكم؛ يريد: إخراجهم محرّم عليكم، ثم أعاد الإخراج مرة أخرى تكريرا على "هو" لمّا حال بين الإخراج وبين "هو" كلامٌ، فكان رفع الإخراج بالتكرير على "هو" وإن شئت جعلت "هو" عمادا ورفعت الإخراج بـ{محرم}؛ كما قال الله جل وعزّ: {وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمّر} فالمعنى -والله أعلم-: ليس بمزحزحه من العذاب التّعمير؛ فإن قلت: إن العرب إنما تجعل العماد في الظّنّ لأنّه ناصب، وفي "كان" و"ليس" لأنهما يرفعان، وفي "إنّ" وأخواتها لأنهن ينصبن، ولا ينبغي للواو وهي لا تنصب ولا ترفع ولا تخفض أن يكون لها عمادٌ،
قلت: لم يوضع العماد على أن يكون لنصب أو لرفع أو لخفض، إنما وضع في كل موضع يبتدأ فيه بالاسم قبل الفعل، فإذا رأيت الواو في موضع تطلب الاسم دون الفعل صلح في ذلك العماد؛ كقولك: أتيت زيدا وأبوه قائم، فقبيحٌ أن تقول: أتيت زيدا وقائم أبوه، وأتيت زيدا ويقوم أبوه؛ لأنّ الواو تطلب الأب، فلما بدأت بالفعل وإنما تطلب الواو الاسم أدخلوا لها "هو" لأنّه اسمٌ .
قال الفراء: سمعت بعض العرب يقول: كان مرّة وهو ينفع النّاس أحسابهم، وأنشدني بعض العرب:
فـأبــلــغ أبـــــا يــحــيــى إذا مــــــا لـقـيــتــه ....... علـى العيـس فـي آباطهـا عـرقٌ يبـس
بـــــــأنّ الــسّـــلامـــي الــــــــذي بــضـــريّـــةٍ ....... أمير الحمى قد باع حقّي بني عبس
بـــثــــوبٍ وديــــنــــارٍ وشــــــــاةٍ ودرهــــــــمٍ ....... فـهـل هــو مـرفـوعٌ بـمـا هـــا هـنــا رأس
فجعل مع "هل" العماد وهي لا ترفع ولا تنصب؛ لأن "هل" تطلب الأسماء أكثر من طلبها فاعلا؛ قال: وكذلك "ما" و"أمّا"، تقول: ما هو بذاهب أحدٌ، وأمّا هو فذاهبٌ زيد، لقبح أمّا ذاهب فزيد). [معاني القرآن: 1/ 50-52]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت:215هـ): ({ثمّ أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقاً مّنكم مّن ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرّمٌ عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعضٍ فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلاّ خزيٌ في الحياة الدّنيا ويوم القيامة يردّون إلى أشدّ الّعذاب وما اللّه بغافلٍ عمّا تعملون}
قال: (تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان) فجعلها من "تتظاهرون" وأدغم التاء في الظاء وبها نقرأ، وقد قرئت {تظاهرون} مخففة بحذف التاء الآخرة لأنّها زائدة لغير معنى، وقال: (وإن يأتوكم أسرى) وقرئت {أسارى}، وذلك لأن "أسير" "فعيل"، وهو يشبه "مريضاً" لأنّ به عيبا كما بالمريض، وهذا "فعيل" مثله، وقد قالوا في جماعة "المريض": "مرضى"، وقالوا: "أسارى" فجعلوها مثل "سكارى" و"كسالى"، لأنّ جمع "فعلان" الذي به علة قد يشارك جمع "فعيل" وجمع "فعل" نحو: "حبطٌ" و"حبطى" و"حباطى" و"حبجٌ" و"حبجى" و"حباجى"، وقد قالوا: "أسارى" كما قالوا: "سكارى".
وقال بعضهم: (تفدوهم) من "تفدى"، وبعضهم: {تفادوهم} من "فادى" يفادي" وبها نقرأ، وكل ذلك صواب.
وقال: {فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلاّ خزيٌ}، وقال: {ما هذا إلاّ بشرٌ مّثلكم} و{وما أمرنا إلاّ واحدةٌ} رفع، لأن كل ما لا تحسن فيه الباء من خبر "ما" فهو رفع، لأن "ما" لا تشبه في ذلك الموضع بالفعل، وإنما تشبه بالفعل في الموضع الذي تحسن فيه الباء، لأنها حينئذ تكون في معنى "ليس" لا يشركها معه شيء، وذلك قول الله عز وجل: {ما هذا بشراً}، وتميم ترفعه، لأنه ليس من لغتهم أن يشبهوا "ما" بالفعل.
وقال: {ثمّ أنتم هؤلاء} وفي موضع آخر {ها أنتم هؤلاء} كبعض ما ذكرنا وهو كثير في كلام العرب، وردّد التنبيه توكيدا، وتقول: "ها أنا هذا" و"ها أنت هذا" فتجعل "هذا" للذي يخاطب، وتقول: "هذا أنت"، وقد جاء أشد من ذا، قال الله عز وجل: {ما إنّ مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوّة} والعصبة هي تنوء بالمفاتيح، قال:
تنوء بها فتثقلها....... عجيزتـهـا......
يريد: "تنوء بعجزيتها"، أي: "لا تقوم إلا جهدا بعد جهد"، قال الشاعر:
مثل القنافذ هدّاجون قد بلغت ....... نجران أو بلغـت سوآتهـم هجـر
وهو يريد أن السوآت بلغت هجراً، و"هجر" رفعٌ لأنّ القصيدة مرفوعة، ومثل ذا قول الشاعر:
وتـلـحـق خــيــلٌ لا هــــوادة بـيـنـهـا ....... وتشقى الرّماح بالضياطرة الحمر
والضياطرة هم يشقون بالرماح، و"الضياطرة" هم العظام وواحدهم "ضيطار" مثل "بيطار"، ومثل قول الشاعر:
لقد خفت حتّى ما تزيد مخافتي ....... عـلـى وعــلٍ بــذي الفـقـارة عـاقــل
يريد: حتى ما تزيد مخافة وعلٍ على مخافتي). [معاني القرآن: 1/ 101-103]
قال قطرب محمد بن المستنير البصري (ت: 220هـ تقريباً) : (وقراءة الحسن {تظاهرون} خفيف لا يثقل الظاء، وقد جاء عنه {تظاهرون} على تتظاهرون بالتثقيل.
أبو جعفر "تظاهرون} من ظاهرت بضم التاء والتخفيف.
الأعرج {وإن يأتوكم أسارى}.
الحسن {أسرى تقادوهم}.
[معاني القرآن لقطرب: 252]
الأعمش {أسرى تقدوهم}.
أبو عمرو {أسارى تفدوهم}.
الحسن "تردون إلى أشد العذاب".
وهي قراءة أبي عمرو أيضًا {وما الله بغافل عما تعملون}.
الأعرج {يردون} ). [معاني القرآن لقطرب: 253]
قال قطرب محمد بن المستنير البصري (ت: 220هـ تقريباً) : (وقوله {تظاهرون عليهم} يريد: تتظاهرون، ومثله {تصدى} و{فأنت عنه تلهى} يريد: تتصدى وتتلهى، و{على من تنزل الشياطين} أي تتنزل؛ العرب تحذف إحدى التاءين هاهنا لاجتماعها متحركتين، فالمحذوفة الثانية؛ لأن الأولى جاءت لمعنى تدل عليه، كما تدل في تفعل ونفعل؛ وقالوا: هذه مسئلة لا توهم؛ فأبقوا المضمومة وهي الأولى، لأن الأصل لا تتوهم.
وقال الراجز فحذف:
أولاك أوتاد الجبال الصيم = لا تشتكي محلا ولا تكلم
يريد: تتكلم). [معاني القرآن لقطرب: 322]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت:276هـ): ({ثمّ أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم} وقد بينت معنى هذه الآية في المشكل.
{تظاهرون}: تعاونون، والتّظاهر: التعاون، ومنه قوله: {إن تتوبا إلى اللّه فقد صغت قلوبكما وإن تظاهرا عليه} أي: تعاونا عليه، و"اللّه ظهير" أي: عون. وأصل التّظاهر من الظّهر، فكأنّ التظاهر: أن يجعل كلّ واحد من الرجلين أو من القوم، الآخر له ظهرا يتقوّى به ويستند إليه). [تفسير غريب القرآن: 57]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): ({ثمّ أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرّم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلّا خزي في الحياة الدّنيا ويوم القيامة يردّون إلى أشدّ العذاب وما اللّه بغافل عمّا تعملون}
{ثم أنتم هؤلاء} الخطاب وقع لليهود من بني قريظة وبني النضير لأنهم نكثوا، فقتل بعضهم بعضا، وأخرج بعضهم بعضا من ديارهم وهذا نقض عهدهم
وقوله عزّ وجلّ: {تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان} قرئت بالتخفيف والتشديد، {تظاهرون} و(تظّاهرون)، فمن قرأ بالتشديد؛ فالأصل فيه (تتظاهرون) فأدغم التاء في الظاء لقرب المخرجين، ومن قرأ بالتخفيف؛ فالأصل فيه -أيضا- (تتظاهرون) فحذفت التاء الثانية لاجتماع تاءين.
وتفسير {تظاهرون}: تتعاونون، يقال: قد ظاهر فلان فلانا إذا عاونه، منه قوله {وكان الكافر على ربه ظهيرا} أي: معينا.
وقوله عزّ وجلّ: {بالإثم والعدوان} العدوان: الإفراط في الظلم؛ ويقال: عدا فلان في ظلمه عدوا وعدوا وعدوانا وعداء، هذا كله معناه: المجاوزة في الظلم. وقوله عزّ وجلّ: {ولا تعدوا في السّبت} إنما هو من هذا، أي: لا تظلموا فيه.
وقوله عزّ وجلّ: {وإن يأتوكم أسارى تفادوهم} القراءة في هذا على وجوه:
(أسرى تَفْدوهم) و(أسرى تُفَادوهم)، و{أُسَارى تفادوهم}، ويجوز (أَسَارى) ولا أعلم أحد قرأ بها، وأصل الجمع "فُعالى".
أعلم الله مناقضتهم في كتابه وأنه قد حرّم عليهم قتلهم وإخراجهم من ديارهم، وأنهم يفادونهم إذا أسروا ويقتلونهم ويخرجونهم من ديارهم، فوبّخهم فقال: {فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلّا خزي في الحياة الدّنيا} يعني: ما نال بني قريظة وبني النضير، لأن بني النضير أجلوا إلى الشام،
و(بني) قريظة أبيدوا -حكم فيهم بقتل المقاتلة وسبي الذراري- فقال الله عزّ وجلّ: {ذلك لهم خزي في الدّنيا}، ولغيرهم من سائر الكفار: الخزي في الدنيا: القتل وأخذ الجزية مع الذلة والصغار.
ثم أعلم اللّه عزّ وجلّ أن ذلك غير مكفر عن ذنوبهم، وأنهم صائرون بعد ذلك إلى عذاب عظيم، فقال: {ذلك لهم خزي في الدّنيا ويوم القيامة يردّون إلى أشدّ العذاب وما اللّه بغافل عمّا تعملون}.
ومعنى {ثمّ أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم}
{هؤلاء} في معنى "الذين"، و{تقتلون} صلة لـ{هؤلاء}، كقولك: ثم أنتم الذين تقتلون أنفسكم، ومثله قوله: {وما تلك بيمينك يا موسى}.
وقوله عزّ وجلّ: {وهو محرم عليكم إخراجهم}
{هو} على ضربين:
جائز أن يكون بإضمار الإخراج الذي تقدم ذكره، قال: {وتخرجون فريقا منكم من ديارهم ... وهو محرم عليكم إخراجهم}، ثم بين -لتراخي الكلام- أن ذلك الذي حرم الإخراج.
وجائز أن يكون للقصة والحديث والخبر، كأنه قال: والخبر محرم عليكم إخراجهم، كما قال عزّ وجلّ: {قل هو اللّه أحد} أي: الأمر الذي هو الحق توحيد اللّه عزّ وجلّ .
{خزي} يقال في الشر والسوء: خزي الرجل خزيا، ويقال في الحياء: خزي يخزي خزاية.
ومعنى {يردون إلى أشد العذاب}، و{عذاب عظيم}، و{عذاب أليم} أن العذاب على ضربين، على قدر المعاصي.
والدليل على ذلك قوله عزّ وجلّ: {فأنذرتكم نارا تلظّى * لا يصلاها إلّا الأشقى * الّذي كذّب وتولّى} فهذه النار الموصوفة ههنا لا يدخلها إلا الكفار). [معاني القرآن: 1/ 165-168]
قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت:345هـ):{تظاهرون}: تعاونون). [ياقوتة الصراط: 175]
قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت:345هـ):{الخزي}: المباعدة من الخير). [ياقوتة الصراط: 175]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت:437هـ): ({تظاهرون} أي: تعاونون). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 30]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت:437هـ): ({تَظَاهَرُونَ}: تعاونون). [العمدة في غريب القرآن: 79]

تفسير قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)}


رد مع اقتباس