عرض مشاركة واحدة
  #8  
قديم 18 شعبان 1435هـ/16-06-2014م, 02:05 PM
أم إسماعيل أم إسماعيل غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Dec 2010
المشاركات: 4,914
افتراضي

تفاسير القرن السادس الهجري

تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: وإذ يمكر بك الّذين كفروا الآية، يشبه أن يكون قوله وإذ معطوفا على قوله إذ أنتم قليلٌ [الأنفال: 26]، وهذا تذكير بحال مكة وضيقها مع الكفرة وجميل صنع الله تعالى في جمعها، ويحتمل أن يكون ابتداء كلام، وهذا كله على أن الآية مدنية كسائر السورة وهذا هو الصواب، وحكى الطبري عن عكرمة ومجاهد أن هذه الآية مكية، وحكي عن ابن زيد أنها نزلت عقب كفاية الله رسوله المستهزئين بما أحله بكل واحد منهم، الحديث المشهور، ويحتمل عندي قول عكرمة ومجاهد هذه مكية أن أشارا إلى القصة لا إلى الآية، والمكر المخاتلة والتداهي، تقول: فلان يمكر بفلان إذا كان يستدرجه ويسوقه إلى هوة وهو يظهر جميلا وتسترا بما يريد، ويقال أصل المكر الفتل، قاله ابن فورك فكأن الماكر بالإنسان يفاتله حتى يوقعه، ومن المكر الذي هو الفتل قولهم للجارية المعتدلة اللحم: ممكورة، فمكر قريش بالنبي صلى الله عليه وسلم كان تدبيرهم ما يسوءه وسعيهم في فساد حاله وإطفاء نوره، وتدبير قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الخصال الثلاث لم يزل قديما من لدن ظهوره لكن إعلانهم لا يسمى مكرا وما استسروا به هو المكر، وقد ذكر الطبري بسند أن أبا طالب قال للنبي صلى الله عليه وسلم يا محمد ماذا يدبر فيك قومك، قال: يريدون أن أقتل أو أسجن أو أخرج، قال أبو طالب من أعلمك هذا؟
قال: ربي، قال: إن ربك لرب صدق فاستوص به خيرا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل هو يا عم يستوصي بي خيرا.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا المكر الذي ذكره الله في هذه الآية هو بإجماع من المفسرين إشارة إلى
اجتماع قريش في دار الندوة بمحضر إبليس في صورة شيخ نجدي على ما نص ابن إسحاق في سيره، الحديث بطوله، وهو الذي كان خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة بسببه، ولا خلاف أن ذلك كان بعد موت أبي طالب، ففي القصة أن أبا جهل قال: الرأي أن نأخذ من كل بطن في قريش فتى قويا جلدا فيجتمعون ثم يأخذ كل واحد منهم سيفا ويأتون محمدا في مضجعه فيضربونه ضربة رجل واحد، فلا يقدر بنو هاشم على قتال قريش بأسرها، فيأخذون العقل ونستريح منه، فقال النجدي: صدق الفتى، هذا الرأي لا أرى غيره. فافترقوا على ذلك فأخبر الله بذلك نبيه صلى الله عليه وسلم، وأذن له في الخروج إلى المدينة فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من ليلته، وقال لعلي بن أبي طالب التفّ في بردي الحضرمي واضطجع في مضجعي فإنه لا يضرك شيء، ففعل علي وجاء فتيان قريش فجعلوا يرصدون الشخص وينتظرون قيامه فيثورون به، فلما قام رأوا عليا فقالوا له أين صاحبك؟ قال: لا أدري. وفي السير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عليهم وهم في طريقه فطمس الله عيونهم عنه، وجعل على رأس كل واحد منهم ترابا ومضى لوجهه فجاءهم رجل فقال ما تنتظرون، قالوا محمدا، قال إني رأيته الآن جائيا من ناحيتكم وهو لا محالة وضع التراب على رؤوسكم، فمد كل واحد يده إلى رأسه، وجاؤوا إلى مضجع النبي صلى الله عليه وسلم فوجدوا عليا فركبوا وراءه حينئذ كل صعب وذلول وهو بالغار،
ومعنى ليثبتوك ليسجنوك فتثبت، قاله السدي وعطاء وابن أبي كثير، وقال ابن عباس ومجاهد: معناه ليوثقوك، وقال الطبري وقال آخرون المعنى ليسحروك.
وقرأ يحيى بن وثاب فيما ذكر أبو عمرو الداني «ليثّبتوك» وهذه أيضا تعدية بالتضعيف، وحكى النقاش عن يحيى بن وثاب أنه قرأ «ليبيتوك» من البيات، وهذا أخذ مع القتل فيضعف من هذه الجهة، وقال أبو حاتم معنى ليثبتوك أي بالجراحة، كما يقال أثبتته الجراحة، وحكاه النقاش عن أهل اللغة ولم يسم أحدا، وقوله تعالى: ويمكر اللّه معناه يفعل أفعالا منها تعذيب لهم وعقوبة ومنها ما هو إبطال لمكرهم ورد له ودفع في صدره حتى لا ينجع، فسمى ذلك كله باسم الذنب الذي جاء ذلك من أجله، ولا يحسن في هذا المعنى إلا هذا وأما أن ينضاف المكر إلى الله عز وجل على ما يفهم في اللغة فغير جائز أن يقال، وقد ذكر ابن فورك في هذا ما يقرب من هذا الذي ضعفناه، وإنما قولنا ويمكر الله كما تقول في رجل شتم الأمير فقتله الأمير هذا هو الشتم فتسمى العقوبة باسم الذنب، وقوله خير الماكرين أي أقدرهم وأعزهم جانبا.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وفي هذه الجهة أعني القدرة والعزة يقع التفضيل لأن مكرة الكفار لهم قدرة ما، فوقع التفضيل لمشاركتهم بها، وأما من جهة الصلاح الذي فيما يعلمه الله تعالى فلا مشاركة للكفار بصلاح، فيتعذر التفضيل على مذهب سيبويه والبصريين إلا على ما قد بيناه في ألفاظ العموم مثل خير واجب ونحو هذا إذ لا يخلو من اشتراك ولو على معتقد من فرقة أو أحد). [المحرر الوجيز: 4/ 171-173]

تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلاّ أساطير الأوّلين (31) وإذ قالوا اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارةً من السّماء أو ائتنا بعذابٍ أليمٍ (32)
الضمير في عليهم عائد على الكفار، و «الآيات» هنا آيات القرآن خاصة بقرينة قوله تتلى، وقد سمعنا يريد وقد سمعنا هذا المتلو لو نشاء لقلنا مثله وقد سمعنا نظيره على ما روي أن النضر سمع أحاديث أهل الحيرة من العباد فلو نشاء لقلنا مثله من القصص والأنباء فإن هذه إنما هي أساطير من قد تقدم، أي قصصهم المكتوبة المسطورة، وأساطير جمع أسطورة، ويحتمل أن يكون جمع أسطار ولا يكون جمع أسطر كما قال الطبري، لأنه كان يجيء أساطر دون ياء، هذا هو قانون الباب، وقد شذ منه شيء كصيرف قالوا في جمعه صياريف، والذي تواترت به الروايات عن ابن جريج والسدي وابن جبير الذي قال هذه المقالة هو النضر بن الحارث، وذلك أنه كان كثير السفر إلى فارس والحيرة، فكان قد سمع من قصص الرهبان والأناجيل، وسمع من أخبار رستم وإسبنديار، فلما سمع القرآن ورأى فيه من أخبار الأنبياء والأمم، قال: لو شئت لقلت مثل هذا، وكان النضر من مردة قريش النائلين من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزلت فيه آيات من كتاب الله، وقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم صبرا بالصفراء منصرفه من بدر في موضع يقال له الأثيل وكان أسره المقداد، فلما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بضرب عنقه قال المقداد: أسيري يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه كان يقول في كتاب الله ما قد علمتم، ثم أعاد المقداد مقالته حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم أغن المقداد من فضلك»، فقال المقداد: هذا الذي أردت، فضرب عنق النضر، وحكى الطبري عن سعيد بن جبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل يوم بدر صبرا ثلاثة نفر، المطعم بن عدي، والنضر بن الحارث، وعقبة بن أبي معيط.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا وهم عظيم في خبر المطعم، فقد كان مات قبل يوم بدر، وفيه قال النبي صلى الله عليه وسلم: لو كان المطعم حيا وكلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له يعني أسرى بدر). [المحرر الوجيز: 4/ 174-175]

تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله وإذ قالوا اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك الآية، روي عن مجاهد وابن جبير وعطاء والسدي أن قائل هذه المقالة هو النضر بن الحارث الذي تقدم ذكره، وفيه نزلت هذه الآية.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وترتب أن يقول النضر بن الحارث مقالة وينسبها القرآن إلى جميعهم، لأن النضر كان فيهم موسوما بالنبل والفهم مسكونا إلى قوله، فكان إذا قال قولا قاله منهم كثير واتبعوه عليه حسبما يفعله الناس أبدا بعلمائهم وفقهائهم، والمشار إليه بـ«هذا» هو القرآن وشرع محمد صلى الله عليه وسلم، والذي حملهم على هذه المقالة هو الحسد، وذلك أنهم استبعدوا أن يكرم الله عليهم محمدا صلى الله عليه وسلم هذه الكرامة، وعميت بصائرهم عن الهدى، وصمموا على أن هذا ليس بحق، فقالوا هذه المقالة كما يقول الإنسان لأمر قد تحقق بزعمه إنه لم يكن، إن كان كذا وكذا ففعل الله بي وصنع، وحكى ابن فورك أن هذه المقالة خرجت مخرج العناد مع علمهم بأنه حق، وكذلك ألزم بعض أهل اليمن معاوية بن أبي سفيان القصة المشهورة في باب الأجوبة، وحكاه الطبري عن محمد بن قيس ويزيد بن رومان.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا بعيد التأويل ولا يقول هذا على جهة العناد عاقل، ويجوز في العربية رفع الحقّ على أنه خبر هو والجملة خبر كان، قال الزجّاج: ولا أعلم أحدا قرأ بهذا الجائز وقراءة الناس إنما هي بنصب «الحقّ» على أن يكون خبر «كان» ويكون هو فصلا، فهو حينئذ اسم وفيه معنى الإعلام بأن الذي بعده خبر ليس بصفة. وفأمطر إنما يستعمل في المكروه ومطر في الرحمة كذا قال أبو عبيدة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ويعارض هذه قوله هذا عارضٌ ممطرنا [الأحقاف: 24] لأنهم ظنوها سحابة رحمة، وقولهم من السّماء مبالغة وإغراق وهذان النوعان اللذان اقترحوهما هما السالفان في الأمم عافانا الله وعفا عنا ولا أضلنا بمنّه ويمنه). [المحرر الوجيز: 4/ 175-176]

تفسير قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون (33) وما لهم ألاّ يعذّبهم اللّه وهم يصدّون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلاّ المتّقون ولكنّ أكثرهم لا يعلمون (34)
قالت فرقة: نزلت هذه الآية كلها بمكة، وقالت فرقة: نزلت كلها بعد وقعة بدر حكاية عما مضى، وقال ابن أبزى: نزل قوله وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم بمكة إثر قولهم أو ائتنا بعذابٍ أليمٍ [الأنفال: 32] ونزل قوله وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون عند خروج النبي صلى الله عليه وسلم عن مكة في طريقه إلى المدينة، وقد بقي بمكة مؤمنون يستغفرون، ونزل قوله وما لهم إلى آخر الآية بعد بدر عند ظهور العذاب عليهم.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وأجمع المتأولون على أن معنى قوله وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم، أن الله عز وجل لم يعذب قط أمة ونبيها بين أظهرها، فما كان ليعذب هذه وأنت فيهم، بل كرامتك لديه أعظم، قال: أراه عن أبي زيد سمعت من العرب من يقول «ما كان ليعذبهم» بفتح اللام وهي لغة غير معروفة ولا مستعملة في القرآن، واختلفوا في معنى قوله وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون فقال ابن عباس وابن أبزى وأبو مالك والضحاك ما مقتضاه: إن الضمير في قوله معذّبهم يعود على كفار مكة والضمير في قوله وهم عائد على المؤمنين الذين بقوا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، أي وما كان الله ليعذب الكفار والمؤمنون بينهم يستغفرون.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ويدفع في صدر هذا القول أن المؤمنين الذين رد الضمير عليهم لم يجر لهم ذكر، وقال ابن عباس أيضا ما مقتضاه: أن يقال الضميران عائدان على الكفار، وذلك أنهم كانوا يقولون في دعائهم غفرانك، ويقولون لبيك لا شريك لك، ونحو هذا مما هو دعاء واستغفار، فجعله الله أمنة من عذاب الدنيا، وعلى هذا تركب قول أبي موسى الأشعري وابن عباس إن الله جعل من عذاب الدنيا أمنتين، كون
الرسول صلى الله عليه وسلم مع الناس والاستغفار، فارتفعت الواحدة وبقي الاستغفار إلى يوم القيامة، وقال قتادة: الضمير للكفار، وقوله وهم يستغفرون، جملة في موضع الحال أن لو كانت، فالمعنى وما كان الله معذبهم وهم بحال توبة واستغفار من كفرهم لو وقع ذلك منهم، واختاره الطبري، ثم حسن الزجر والتوقيف بعد هذا بقوله وما لهم ألّا يعذّبهم اللّه وقال الزجّاج ما معناه، إن الضمير في قوله وهم عائد على الكفار.
والمراد به من سبق له في علم الله أن يسلم ويستغفر، فالمعنى: وما كان الله ليعذب الكفار وفيهم من يستغفر ويؤمن في ثاني حال، وحكاه الطبري عن ابن عباس.
وقال مجاهد في كتاب الزهراوي: المراد بقوله وهم يستغفرون ذرية المشركين يومئذ الذين سبق لهم في علم الله أن يكونوا مؤمنين، فالمعنى: وما كان الله ليعذبهم وذريتهم يستغفرون ويؤمنون، فنسب الاستغفار إليهم، إذ ذريتهم منهم، وذكره مكي ولم ينسبه، وفي الطبري عن فرقة أن معنى يستغفرون يصلون، وعن أخرى يسلمون ونحو هذا من الأقوال التي تتقارب مع قول قتادة،
وقوله عز وجل: وما لهم ألّا يعذّبهم اللّه توعد بعذاب الدنيا، فتقديره وما يعلمهم أو يدريهم ونحو هذا من الأفعال التي توجب أن تكون «أن» في موضع نصب، وقال الطبري: تقديره وما يمنعهم من أن يعذبوا، والظاهر في قوله وما أنها استفهام على جهة التقرير والتوبيخ والسؤال، وهذا أفصح في القول وأقطع لهم في الحجة، ويصح أن تكون ما نافية ويكون القول إخبارا، أي وليس لهم ألا يعذبوا وهم يصدون، وقوله وهم يصدّون على التأويلين جملة في موضع الحال، ويصدّون في هذا الموضع معناه يمنعون غيرهم، فهو متعدّ كما قال الشاعر: [الوافر]
صددت الكأس عنا أمّ عمرو
وقد تجيء صد عير متعدّ كما أنشد أبو علي: [البسيط]
صدت خليدة عنّا ما تكلّمنا
والضمير في قوله أولياؤه عائد على الله عز وجل من قوله يعذّبهم اللّه، أو على المسجد الحرام، كل ذلك جيد، روي الأخير عن الحسن، والضمير الآخر تابع للأول، وقوله ولكنّ أكثرهم لا يعلمون معناه لا يعلمون أنهم ليسوا بأوليائه بل يظنون أنهم أولياؤه، وقوله أكثرهم ونحن نجد كلهم بهذه الصفة، لفظ خارج إما على أن تقول إنه لفظ خصوص أريد به العموم وهذا كثير في كلام العرب، ومنه حكى سيبويه من قولهم: قل من يقول ذلك، وهم يريدون لا يقوله أحد.
وإما أن يقول: إنه أراد بقوله أكثرهم أن يعلم ويشعر أن بينهم وفي خلالهم قوما قد جنحوا إلى الإيمان ووقع لهم علم وإن كان ظاهرهم الكفر فاستثارهم من الجميع بقوله أكثرهم وكذلك كانت حال مكة وأهلها، فقد كان فيهم العباس وأم الفضل وغيرها، وحكى الطبري عن عكرمة قال الحسن بن أبي الحسن: إن قوله وما لهم ألّا يعذّبهم اللّه، ناسخ لقوله وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وفي هذا نظر، لأنه خبر لا يدخله نسخ). [المحرر الوجيز: 4/ 177-180]

تفسير قوله تعالى: {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: وما كان صلاتهم عند البيت إلاّ مكاءً وتصديةً فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون (35)
قرأ الجمهور «وما كان صلاتهم» بالرفع «عند البيت إلا مكاء» بالنصب «وتصدية» كذلك، وروي عن عاصم أنه قرأ: «صلاتهم» بالنصب «إلا مكاء وتصدية» بالرفع، ورويت عن سليمان الأعمش بخلاف عنه فيما حكى أبو حاتم، وذكر أبو علي عن الأعمش أنه قال في قراءة عاصم: أفإن لحن عاصم تلحن أنت؟
قال أبو الفتح: وقد روي الحرف كذلك عن أبان بن تغلب، قال قوم: وهذه القراءة خطأ لأنه جعل الاسم نكرة والخبر معرفة، قال أبو حاتم: فإن قيل إن المكاء والتصدية اسم جنس واسم الجنس معرفا ومنكرا واحد في التعريف، قيل إن استعماله هكذا لا يجوز إلا في ضرورة الشعر، كما قال حسان: [الوافر].
كأنّ سبيئة من بيت رأس = يكون مزاجها عسل وماء
ولا يقاس على ذلك، فأما أبو الفتح فوجه هذه القراءة بما ذكرناه من تعريف اسم الجنس وبعد ذلك يرجح قراءة الناس قال أبو علي الفارسي: وإنما ذهب من ذهب إلى هذه القراءة لما رأى الفعل أن الصلاة مؤنثة ورأى المسند إليها ليس فيه علامة تأنيث فأراد تعليقه بمذكر وهو المكاء، وأخطأ في ذلك، فإن العرب تعلق الفعل لا علامة فيه بالمؤنث، ومنه قوله تعالى: وأخذ الّذين ظلموا الصّيحة [هود: 67] وقوله فانظر كيف كان عاقبة مكرهم [النمل: 51] وكيف كان عاقبة المفسدين [الأعراف: 86- 103، النمل: 14] ونحو هذا مما أسند فيه الفعل دون علامة إلى المؤنث، والمكاء على وزن الفعال الصفير قاله ابن عباس والجمهور،
فقد يكون بالفم وقد يكون بالأصابع والكف في الفم، قال مجاهد وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وقد يشارك الأنف يقال مكا يمكو إذا صفر، ومنه قول عنترة: [الكامل]
وخليل غانية تركت مجدلا = تمكو فريصته كشدق الأعلم
ومنه قول الشاعر:
فكأنما يمكو بأعصم عاقل = ... ... ... ...
يصف رجلا فر به حيوان ومنه قول الطرماح: [الكامل]
فنحا لأولاها بطعنة محفظ = تمكو جوانبها من الإنهار
ومكت است الدابة إذا صفرت يقال ولا تمكو إلا است مكشوفة ومن هذا قيل للاست مكوة قال أبو علي: فالهمزة في مكاءً منقلبة عن واو.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ومن هذا قيل للطائر المكّاء لأنه يمكو أي يصفر في تغريده، ووزنه فعّال بشد
العين كخطاف، والأصوات في الأكثر تجيء على فعال بتخفيف العين كالبكاء والصراخ والدعاء والجؤار والنباح ونحوه، وروي عن قتادة أن المكاء صوت الأيدي وذلك ضعيف، وروي عن أبي عمرو أنه قرأ «إلا مكا» بالقصر، و «التصدية» عبر عنها أكثر الناس بأنها التصفيق، وقتادة بأنه الضجيج والصياح، وسعيد بن جبير بأنها الصد والمنع، ومن قال التصفيق قال: إنما كان للمنع عن ذكر الله ومعارضة لقراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم للقرآن، و «التصدية» يمكن أن تكون من صدى يصدى إذا صوت والصدى الصوت، ومنه قول الطرماح يصف الأروية: [الطويل]
لها كلما ريعت صداة وركدة = بمصران أعلى ابني شمام البوائن
فيلتئم على هذا الاشتقاق قول من قال: هو التصفيق، وقول من قال الضجيج، ولا يلتئم عليه قول من قال هو الصد والمنع إلا أن يجعل التصويت إنما يقصد به المنع، ففسر اللفظ بالمقصود لا بما يخصه من معناه، ويمكن أن تكون «التصدية» من صد يصد استعمل الفعل مضعفا للمبالغة والتكثير لا ليعدى فقيل صدد، وذلك أن الفعل الذي يتعدى إذا ضعف فإنما يضعف للتكثير، إذ التعدي حاصل قبل التضعيف، وذلك نحو قوله وغلّقت الأبواب [يوسف: 23] والذي يضعف ليعدى هو كقولهم علم وغرم فإذا قلنا في صد صدد ففعل في الصحيح يجيء مصدره في الأكثر على تفعيل وفي الأقل على تفعلة مثل كمل تكميلا وتكملة وغير ذلك، بخلاف المعتل فإنه يجيء في الأكثر على تفعلة مثل عزى وتعزية وفي الشاذ على تفعيل، مثل قول الشاعر: [الرجز] بات ينزي دلوه تنزّيا وإذا كان فعل في الصحيح يتسق فيه المثلان رفض فيه تفعلة مثل قولنا تصدية وصير إلى تفعيل لتحول الياء بين المثلين كتخفيف وتشديد، فلما سلكوا مصدر صدد المسلك المرفوض أصلح ذلك بأن إبدال أحد المثلين ياء كبدلهم في تظننت ونحوه، فجاء «تصدية»، فعلى هذا الاشتقاق يلتئم قول من قال التصدية الصد عن البيت والمنع، ويمكن أن تكون التصدية من صد يصد بكسر الصاد في المستقبل إذا ضج، ويبدل أيضا على هذا أحد المثلين، ومنه قوله تعالى: إذا قومك منه يصدّون [الزخرف: 57] بكسر الصاد، ذكره النحاس، وذهب أكثر المفسرين إلى أن «المكاء والتصدية» إنما أحدثها الكفار عند مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم لتقطع عليه وعلى المؤمنين قراءتهم وصلاتهم ويخلط عليهم، فكان المصلي إذا قام يقرأ من المؤمنين اكتنفه من الكفار عن يمينه وشماله من يمكو ويصدي حتى تختلط عليه قراءته، فلما نفى الله تعالى ولايتهم للبيت أمكن أن يعترض معترض بأن يقول، وكيف لا نكون أولياءه ونحن نسكنه ونصلي عنده؟ فقطع الله هذا الاعتراض بأن قال وما كان صلاتهم إلا المكاء والتصدية، وهذا كما يقول رجل أنا أفعل الخير فيقال له ما فعلك الخير إلا أن تشرب الخمر وتقتل، أي هذه عادتك وغايتك.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والذي مر بي من أمر العرب في غير ما ديوان أن المكاء والتصدية كان من فعل العرب قديما قبل الإسلام على جهة التقرب به والتشرع، ورأيت عن بعض أقوياء العرب أنه كان يمكو على الصفا فيسمع من جبل حراء، وبينهما أربعة أميال، وعلى هذا يستقيم تعييرهم وتنقصهم بأن شرعهم وصلاتهم وعبادتهم لم تكن رهبة ولا رغبة، إنما كانت مكاء وتصدية من نوع اللعب، ولكنهم كانوا يتزيدون فيها وقت النبي صلى الله عليه وسلم ليشغلوه وأمته عن القراءة والصلاة، وقوله فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون إشارة إلى عذابهم ببدر بالسيف قاله ابن جريج والحسن والضحاك، فيلزم من هذا أن هذه الآية الأخيرة نزلت بعد بدر ولا بد.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والأشبه أن الكل نزل بعد بدر حكاية عما مضى والله ولي التوفيق برحمته).[المحرر الوجيز: 4/ 180-185]


رد مع اقتباس