عرض مشاركة واحدة
  #18  
قديم 18 محرم 1439هـ/8-10-2017م, 05:46 PM
جمهرة علوم القرآن جمهرة علوم القرآن غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 7,975
افتراضي

المناظرة الكبرى في خلق القرآن

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (المناظرة الكبرى في خلق القرآن
ولمّا رأى إسحاق بن حنبل عمُّ الإمام أحمد بن محمد بن حنبل أنَّ حبس ابن أخيه قد طال تردّد إلى الأمراء وقادة الجيوش وأصحاب السلطان وكلّمهم ليشفعوا في إطلاقه؛ فلمّا أيس منهم دخل على نائب بغداد إسحاق بن إبراهيم بن الحسين المصعبي؛ فذكّره بما كان لحنبل جدّ الإمام أحمد ووالد إسحاق بن حنبل من المكانة والإعانة في حروب بني العباس، وكان حنبل جاراً للحسين جدّ إسحاق بن إبراهيم بمرو؛ فذكّره بذلك وعرّفه؛ فقال إسحاق: قد بلغني ذلك.

ثم خلصا في تحاورهما إلى أن يناظره العلماء والفقهاء فمن أفلحت حجّته كان أغلب، وكان يريد بذلك أن يوجد وسيلة يخرج بها الإمام أحمد من سجنه.
ثم دخل إسحاق بن حنبل على ابن أخيه الإمام أحمد في السجن بصحبة الحاجب فقال له: (يا أبا عبد الله قد أجاب أصحابُك، وقد أعذرتَ فيما بينك وبين الله، وقد أجاب أصحابك والقوم، وبقيت أنت في الحبس والضيق!!).
فقال: (يا عمّ! إذا أجاب العالِم تقيّةً والجاهل يجهل فمتى يتبيّن الحق؟!!).
فأمسك عنه.
وكان ذلك في العشر الأواخر من رمضان سنة 219هـ؛ فمكثوا أياما حتى أَبلغ إسحاق بن إبراهيم الخليفةَ بالأمر؛ ثم أحضر الإمام أحمد من سجنه، إلى دار إسحاق بن إبراهيم ومنعت عنه زيارة أقاربه، ووجّه إليه اثنين من مناظري المعتزلة:
أحدهما أبو شعيب الحجام والآخر محمد بن رباح؛ فناظراه؛ فلم تقم لهما حجّة عليه، فكانا إذا ناظراه بعلم الكلام لم يجبهما، وإذا استدلا عليه بشيء من الكتاب والسنّة ردّ عليهما خطأهما في الاستدلال.
وكان مما سألاه عن القرآن: هل هو مخلوق ؟
فقال لهم: ما تقولون في علم الله هل هو مخلوق؟
فتورّط ابن الحجّام فالتزم أن علم الله مخلوق؛ فكفّره الإمام أحمد، وأنكر ابنُ رباح على صاحبه هذا الالتزام، وقاما من عنده.
فدخل إسحاق بن إبراهيم على الإمام أحمد فكلّمه بكلام ليّن ليثنيه عن موقفه من مسألة خلق القرآن، وكان مما قال له: يا أحمد إني عليك مشفق، وإن بيننا وبينك حُرمة، وقد حلف الخليفة لئن لم تجب ليقتلنَّك.
فقال له الإمام أحمد: ما عندي في هذا الأمر إلا الأمر الأول.
فحوّله من ليلته إلى غرفة مظلمة في دار الخليفة، وزيدت عليه القيود حتى أثقلته.
قال الإمام أحمد: (وحملت على دابّة والأقياد عليّ، وما معي أحد يمسكني؛ ظننتُ أنّي سأخرّ على وجهي من ثقل القيود، وسلّم الله؛ حتى انتهيت إلى الدار؛ فأدخلتُ إلى الدار في جوف الليل، وأغلق عليّ الباب، وأقعد عليه رجلان، وليس في البيت سراج، فقمت أصلّي ولا أعرف القبلة، فصليت فلما أصبحت فإذا أنا على القبلة).
فلما أصبح أحضر إلى مجلس الخليفة واجتمع القضاة وأهل الكلام من المعتزلة وزعيمهم ابن أبي دؤاد، وحضر المجلس بعض الأمراء وقادة الجيوش.
وكان المعتزلة من قبل يحقّرون شأن الإمام أحمد بن حنبل عند الخليفة ويزعمون أنّه شابّ حديث السنّ جاهل مبتدع يحبّ التصدّر والرياسة.
فلمّا رآه الخليفة قال: أليس زعمتم لي أنه حدَث؟ أليس هذا شيخاً مكتهلاً؟
وكان الإمام أحمد قد بلغ الخامسة والخمسين من عمره عام المحنة؛ فأدني من الخليفة وعليه قيوده الثقيلة؛ فسلّم عليه ثم أجلس.
قال الإمام أحمد: فلما مكثت ساعة، قلت له: يا أمير المؤمنين، تأذن لي في الكلام؟
قال: تكلّم.
قلت له: إلامَ دعا إليه ابن عمّك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قال: إلى شهادة أن لا إله إلا الله.
قلت: فأنا أشهد أن لا إله إلا الله.
ثم قلت له: إن جدّكَ ابن عباس حكى أن وفد عبد القيس لما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم بالإيمان بالله.
قال: فذكرت الحديث كلّه ، وقلت له: يا أمير المؤمنين؛ فإلى ما أُدعى وهذه شهادتي وإخلاصي لله بالتوحيد؟!!
يا أمير المؤمنين دعوة بعد دعوة محمد صلى الله عليه وسلم؟!!
قال: فسكت.
وأُلقي في نفس المعتصم هيبة أبي عبد الله، وقال له: لولا أنّك كنت في يدِ مَن كان قبلي لما عرضتُ لك.
ثم قال: ناظروه وكلّموه.
فقال ابن أبي دؤاد لعبد الرحمن القزاز كلّمه؛ فقال: ما تقول في القرآن؟
فقال الإمام أحمد: ما تقول في العلم؟
فسكت عبد الرحمن.
فقال الإمام أحمد: القرآن من علم الله، ومن زعم أنّ علم الله مخلوق فقد كفر بالله، وكان يستدلّ على ذلك بقول الله تعالى: {ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم}.
فسكت عبد الرحمن القزاز ولم يردّ شيئاً.
فقالوا بينهم: يا أمير المؤمنين كفّرنا وكفّرك! فلم يلتفت إلى ذلك منهم.
ثم جعلوا يتكلمون من هاهنا ومن هاهنا، وكان الإمام أحمد وحده والمعتزلة نحو خمسين؛ هذا يدلي بشبهة، وهذا يعترض على حجة، وهذا ينزع باستدلال لغوي، وهذا يورد رواية معلولة، وهذا يورد حجّة كلامية؛ فكان إذا ذكروا له شيئاً من الكتاب والسنة واللغة أجابهم وردّ شبهتهم ، وإذا أوردوا عليه شيئا من علم الكلام لم يجبهم، وقال: لا أدري ما هذا، إيتوني بشيء من الكتاب والسنة.
حتى ضجر منه ابن أبي دؤاد وقال له: وأنت لا تقول إلا ما في كتاب الله أو سنّة رسوله؟
فقال الإمام أحمد: وهل يقوم الإسلام إلا بالكتاب والسنة؟!!
وذكر الإمام أحمد فيما بعد أن ابن أبي دؤاد لم يكن صاحب علم ولا حجّة ولا قدرة على المناظرة، إنما كان يستعين ببرغوث البصري وجماعته فإذا انقطع أحدهم عرض ابن أبي دؤاد فتكلم ليوهم أن صاحبه لم ينقطع.

قال الإمام أحمد: (ولقد احتجوا بشيء ما يقوى قلبي ولا ينطلق لساني أن أحكيه، وأنكروا الرواية والآثار، وما ظننتهم على هذا حتى سمعت مقالاتهم).
واستمرّت المناظرة، وجعل صوتُ الإمام أحمد يعلو على أصواتهم، وحجّته تدحض حججهم، ووهبه الله قوّة قلب وحسن جواب وحجّة قاطعة؛ فما أسرع ما كان يقطع حججهم ويردّ على شبههم، وما أسرع ما ينقطع أحدهم.
فلما طالت المناظرة قال ابن أبي دؤاد: هو والله يا أمير المؤمنين ضالُّ مضلٌّ مبتدع، وهؤلاء قضاتك والفقهاء فسَلْهُم؛ يقصد جماعته من المعتزلة.
فقال لهم الخليفة: ما تقولون؟
فقالوا: يا أمير المؤمنين هو ضالٌّ مضلٌّ مبتدع.
قال الإمام أحمد: وما كان في القوم أرأف بي ولا أرحم من أبي إسحاق المعتصم ؛ فأمّا الباقون فأرادوا قتلي، وشاركوا فيه لو أطاعهم وأجابهم إلى ذلك.
ثم صُرفوا من المجلس في ذلك اليوم، واجتمعوا من الغد حتى إذا كان آخر النهار؛ قال لهم المعتصم: انصرفوا، وأبقى عنده الإمام أحمد وعبد الرحمن بن إسحاق؛ فلمّا خلا بهما ذكر المعتصم للإمام أحمد أنّ مؤدّبه صالح الرشيدي كان جالساً في ذلك الموضع، وأشار إلى موضع من الدار، وخالفه في مسألة القرآن؛ فأمر به فسُحب ووطئ.
وأراد بذلك أن يرهب الإمام أحمد عن مخالفته في هذه المسألة، وكان يحبّ أن يجيب الإمام أحمد لأنه كان رأس أهل الحديث فإذا أجاب طمع أن يجيبه الناس.
وكان مما قاله المعتصم: والله إنه لفقيه، والله إنّه لعالم، ولوددت أنّه معي يصلح من شأني، فإن أجابني إلى ما أريد لأطلقنّ عنه.
ثم قال: يا أحمد! ويحك! لقد غمّني أمرُك، ولقد أسهرتَ ليلي، ولولا أنّك كنت في يدِ مَن كان قبلي ما عرضت لك، ولا امتحنتُ أحداً بعدك، ولو أنّه وراء حائطي هذا.
فقال الإمام أحمد: يا أمير المؤمنين ما أعطوني شيئاً من كتاب الله ولا سنّة عن رسول الله.
فرُدَّ الإمامُ أحمد إلى الموضع الذي كان فيه، ووجّه إليه اثنين من المعتزلة يناظرانه فكانا معه حتى حضر الإفطار وجيء بالطعام؛ فأكلا ولم يأكل الإمام أحمد إلا ما يقيم به أوده، وجعل نفسه بمنزلة المضطر.
فلما كان اليوم الثالث من مناظرته وذلك صبيحة خمس وعشرين من رمضان؛ دخل ابن أبي دؤاد على الإمام أحمد فقال له: يا أحمد؛ إنّه قد حلف أن يضربك ضرباً شديداً ، وأن يحبسك في أضيق الحبوس.
وكلّ ذلك ترهيب منهم طمعاً في أن يجيبهم ليتّبعهم العامّة على هذا القول.
ثم قال له ابن أبي دؤاد: يا أحمد والله ما هو القتل بالسيف، يا أحمد إنما هو ضرب بعد ضرب.
فلمّا أدخل على الخليفة في اليوم الثالث، وعنده ابن أبي دؤاد وأصحابه؛ قال المعتصم: أنا عليك شفيق، لقد أسهرت ليلي، كيف بليتُ بك؟!! ويحك! اتّق الله في نفسك وفي دمك.
ثم قال لهم: ناظروه وكلّموه؛ فدار بينهم كلام كثير، وكان مما احتجّ به عليهم الإمام أحمد أن احتجّ بقول الله تعالى: {ألا له الخلق والأمر} ففرّق بين الخلق والأمر، والقرآن من أمر الله تعالى كما قال تعالى: {وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا}.
ثم قال الإمام أحمد للخليفة المعتصم: علام تدعوني إليه؟ لا من كتاب الله ، ولا من سنّة نبيه، تأويلٌ تأوَّلوه، ورأيٌ رأوه، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن جدال في القرآن، وقال: (( المراء في القرآن كفر ))، ولستُ صاحبَ مِرَاءٍ ولا كلام، وإنما أنا صاحبُ آثارٍ وأخبارٍ؛ فاللهَ اللهَ في أمري؛ فارجع إلى الله، فوالله لو رأيتُ أمراً وصحّ لي وتبيّنته لَصِرْتُ إليه.
قال أحمد: فأمسك الخليفة، وكأنَّ أمره قد لان لمّا سمع كلامي ومحاورتي، عرف فلم يُترك، وكان أحلمهم وأوقرهم وأشدّهم عليّ تحنُّنا إلا أنّهم لم يتركوه، واكتنفه إسحاق وابن أبي دؤاد؛ فقالا له: ليس من التدبير تَخْلِيَته هكذا يا أمير المؤمنين، ابلُ فيه عذراً يا أمير المؤمنين، هذا يناوئ خليفتين!! هذا هلاك العامة!!
وقال برغوث البصري وشعيب: يا أمير المؤمنين كافر حلال الدم، اضربْ عنقه، ودمه في أعناقنا.
وقالا: إنّه ضالّ مضلّ.
قال أحمد: (ولم يكن في القوم أشدّ تكفيراً ولا أخبث منهما).
فاشتدّ الخليفة عند ذلك وعزم على ضربه؛ فدعا بالعقابين والسياط والجلادين؛ فلمّا صار الإمام أحمد بين العقابين وعظ الخليفة، وكان مما قال له: (يا أمير المؤمنين، اللهَ اللهَ، إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: (( لا يحلّ دم امرئ مسلم يشهد أن لا إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث... )) الحديث.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله؛ فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم)) فبمَ تستحلّ دمي ولم آت شيئاً من هذا يا أمير المؤمنين؟!!
يا أمير المؤمنين: اذكر وقوفك بين يدي الله كوقوفي بين يديك، يا أمير المؤمنين راقب اللهَ).

فكأنّه أمسك ولان، لكنّه لم يُترك؛ فقال ابن أبي دؤاد وخاف أن يكون منه عطف أو رأفة: يا أمير المؤمنين إنّه ضالّ مضلّ كافر بالله.
فقوي عزمُ الخليفةِ على ضرب الإمام أحمد؛ فدعا بكرسي فوضع له؛ فجلس عليه، وابن أبي دؤاد وأصحابه قيام على رأسه.
فقال أحد الحراس للإمام أحمد: خذ الخشبتين بيدك وشدّ عليهما؛ فلم يتبيّن أحمد كلامه؛ فتخلّعت يداه بعد ذلك من الضرب.
ثم قال المعتصم للجلادين: أروني سياطكم؛ فنظر فيها؛ فقال: إيتوني بغيرها؛ فأتوه بغيرها.
ثم قال لهم: تقدّموا؛ وقال لهم: ادنوا واحداً واحداً، ثم قال لأوّلهم: أوجعْ قطع الله يدك.
قال الإمام أحمد: فتقدّم فضربني سوطين، ثمّ تأخر.
ثم قال للآخر: ادن، شدّ قطع الله يدك، ثم جاء آخر ؛ فلم يزالوا كذلك حتى أغمي على الإمام أحمد، فوقف المعتصم عليه وهم محدقون به حتى أفاق، فقال له: يا أحمد ، ويلك تقتل نفسك، ويحك أجبني، أُطلق عنك.
وأجلب الحاضرون عليه: أمير المؤمنين قائم على رأسك، إمامك يسألك أن تجيبه، يريدون أن يجيبهم إلى مقالتهم.
وضربه عُجيف - أحد قادة جيوش المعتصم - بقائمة سيفه، وقال له: تريد تغلب هؤلاء كلهم؟!!
وجعل بعضهم يقول: يا أمير المؤمنين دمه في عنقي.
فرجع إلى الكرسي، وقال للجلاد: ادنه، أوجع قطع الله يدك، ولم يزل يدعو واحداً واحداً ، وكلّ واحد يضربه سوطين ثمّ يتنحّى، حتى يكون ذلك أشدّ في الضرب، حتى أغمي عليه مرّة أخرى، ثمّ ترك حتى أفاق؛ فقام إليه ثانية، فكرر عليه مقالته فلم يجبه، ثم أعاد ضربه مرة ثالثة حتى أغمي عليه، ثم ترك حتى أفاق، ثمّ قام إليه الثالثة؛ فجعل يقول: يا أحمد أجبني.
قال أحمد: وجعل عبد الرحمن يقول لي: أصحابك يحيى وفلان وفلان، أليس قد أجابوا؟
فلم يجبهم، وعزم على احتمال الضرب والأذى.
وقال المعتصم لابن أبي دؤاد: لقد ارتبكت في أمر هذا الرجل.
فقال له: يا أمير المؤمنين، إنّه والله كافر مشرك، قد أشرك من غير وجه؛ فلا يزال به حتى يصرفه عما يريد.
فأعيدَ عليه الضربُ حتى ضرب نيّفاً وثلاثين سوطاً، وأغمي عليه ؛ ثم سحبوه وكبّوه على وجهه وداسوه، فلمّا رأى المعتصم أنّه لا يتحرّك دخله الرعب، وأمر بتخليته.
فلم يفق إلا وهو في حجرة قد أطلقت عنه الأقياد.
وأراد الخليفة أن يطلق سراحه بعد الضرب؛ فقال ابن أبي دؤاد: يا أمير المؤمنين احبسه؛ فإنّه فتنة، يا أمير المؤمنين إنّه ضالّ مضلّ، وإن أخليته فتنتَ به الناس.
فلم يلتفت إليه الخليفة، وأخذه الندم والارتباك.
وجيء الإمام أحمد بسويق ليشرب؛ فأبى، وقال: لا أفطر، ثم قال: (لي ولهم موقف بين يدي الله عزّ وجل).
فنقلت هذه الكلمة إلى الخليفة؛ فقال: يخلّى سبيله الساعة.
وأمر أن يُكْسَى كسوة حسنة، مبطّنة وقميصا وطيلسانا وخفّا وقلنسوة، وأن يحمل إلى منزله.
وكان نائبُ بغداد قد أخذ عمَّ الإمام أحمد وبعض أقاربه من الليل وأوقفهم؛ فعلمَ الناسُ أنّه سيحدث في شأن أحمد حدثٌ؛ فاجتمع الناس في الميدان والطرقات، وأغلقت الأسواق، واجتمع الناس؛ فبينا هم كذلك إذ خرج عليهم الإمام أحمد على دابّة عليه كسوة حسنة، وابن أبي دؤاد عن يمينه، وإسحاق بن إبراهيم عن يساره.
وأُخِذ إلى دار إسحاق بن إبراهيم ؛ فبعث إلى جيرانه ومشايخ المجالس ؛ فجمعهم وأدخلوا عليه ؛ فقال لهم: هذا أحمد بن حنبل، إن كان فيكم من يعرفه، وإلا فليعرف.
ثم حملوه على دابّة إلى داره يشيّعه نائب بغداد والناس.
قال حنبل بن إسحاق - وهو ابن عمّ الإمام أحمد-: فلمّا صار إلى باب الدار؛ ذهب لينزل فاحتضنته ولم أعلم؛ فوقعت يدي على موضع الضربة فصاح وآلمه ذلك، ولم أعلم فنحّيت يدي؛ فنزل متوكّئا عليَّ، وأغلق الباب، ودخلنا معه، ورمى بنفسه على وجهه لا يقدر أن يتحرّك إلا بجهد، وخلع ما كان عليه من اللباس الذي كسوه، فأمر به فبيع، وتصدّق بثمنه.
وجاء رجل من أهل السجن يقال له " أبو الصبح"، يعالج من الضرب والجراحات؛ فقال: (قد رأيت مَن ضُرب الضرب العظيم، ما رأيت ضرباً مثل هذا؛ هذا ضرب التلف).
وكان لبعض الجراحات غور؛ فسبرها بالميل ؛ فلم يجدها نقبت، وعافاه الله من ذلك، ورأى بعض اللحم قد مات من الضرب؛ فقطعه بسكين، فلم يزل أثر الضرب في ظهره.

وجعل يضع له الدواء ويصنع له المراهم حتى تعافى بعد أيام، وقوي على شهود الصلاة مع المسلمين، وكان كهلاً في الخامسة والخمسين من عمره لمّا ضُرِبَ رحمه الله ورفع درجته.
قال عليّ بن المديني: (إنّ الله عزّ وجلّ أعزّ هذا الدين برجلين ليس لهما ثالث: أبو بكر الصديق يوم الردّة، وأحمد بن حنبل يوم المحنة). رواه الخطيب البغدادي وعبد الغني المقدسي.

ولم تنته المحنة بهذا عن المسلمين، لكنّهم كفّوا عن امتحان الإمام أحمد، فلم يعرض له المعتصم بقيّة حياته حتى مات سنة 226هـ.
وجرت في خلافته حروب واضطرابات شغلته كثيراً ؛ منها فتنة بابك الخرّمي، واستبداد الأفشين، وخيانات بعض العسكر، وحروب بينه وبين الروم؛ فأمكنه الله من قتل بابك الخرّمي وقتل الأفشين وأصحابه، وردّ عدوان الرّوم وفتح عمّورية.
ولم يزل الإمام أحمد بعدَ أن برئ من الضرب يحضر الجمعة والجماعة، ويحدّث ويفتي، حتى مات المعتصم.
ثم إنّ الإمام أحمد قد عفا عن المعتصم، وجعله في حلّ، وعفا عن كلّ من آذاه في تلك المحنة إلا من كان صاحب بدعة.
جاءه رجلٌ حسن الهيئة كأنّه كان مع السلطان؛ فجلس عنده حتى انصرف جلساؤه ثم دنا منه؛ فقال له: يا أبا عبد الله؛ اجعلني في حلّ.
قال: من ماذا؟
قال: كنت حاضراً يوم ضُربتَ، وما أعنتُ ولا تكلمتُ، إلا أنّي حضرتُ ذلك.
فأطرق الإمام أحمد رثم رفع رأسه إليه؛ فقال: أحدث لله توبةً، ولا تعدْ إلى مثل ذلك الموقف.
فقال له: يا أبا عبد الله أنا تائب إلى الله تعالى من السلطان.
فقال الإمام أحمد: فأنت في حلٍّ وكلّ من ذكرني إلا مبتدع.
ثم قال: قد جعلت أبا إسحاق [يعني المعتصم]في حلّ، ورأيت الله عزّ وجل يقول: {وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم}
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر بالعفو في قضية مسطح.
ثم قال: العفو أفضل، وما ينفعك أن يعذّب أخوك المسلم بسببك، ولكن تعفو وتصفح عنه؛ فيغفر الله لك كما وعدك). [الإيمان بالقرآن:61 - 73]


رد مع اقتباس