عرض مشاركة واحدة
  #8  
قديم 16 جمادى الآخرة 1435هـ/16-04-2014م, 04:05 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن السادس الهجري


تفسير قوله تعالى: {تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (
قوله تعالى: يا أيّها الّذين آمنوا أوفوا بالعقود أحلّت لكم بهيمة الأنعام إلاّ ما يتلى عليكم غير محلّي الصّيد وأنتم حرمٌ إنّ اللّه يحكم ما يريد (1) يا أيّها الّذين آمنوا لا تحلّوا شعائر اللّه ولا الشّهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمّين البيت الحرام يبتغون فضلاً من ربّهم ورضواناً
قال علقمة: كل ما في القرآن يا أيّها الّذين آمنوا فهو مدني. وقد تقدم القول في مثل هذا. ويقال:
وفى وأوفى بمعنى واحد، وأمر الله تعالى المؤمنين عامة بالوفاء بالعقود. وهي الربوط في القول كان ذلك في تعاهد على بر أو في عقدة نكاح أو بيع أو غيره. ولفظ المؤمنين يعم مؤمني أهل الكتاب. إذ بينهم وبين الله عقد في أداء الأمانة فيما في كتابهم من أمر محمد صلى الله عليه وسلم ولفظ «العقود» يعم عقود الجاهلية المبنية على بر مثل دفع الظلم ونحوه، وأما في سائر تعاقدهم على الظلم والغارات فقد هدمه الإسلام فإنما معنى الآية أمر جميع المؤمنين بالوفاء على عقد جار على رسم الشريعة وفسر الناس لفظ «العقود» بالعهود.
وذكر بعضهم من العقود أشياء على جهة المثال فمن ذلك قول قتادة (أوفوا بالعقود) معناه بعهد الجاهلية. روي لنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: أوفوا بعقد الجاهلية ولا تحدثوا عقدا في الإسلام.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وفقه هذا الحديث أن عقد الجاهلية كان يخص المتعاقدين، إذ كان الجمهور على ظلم وضلال، والإسلام قد ربط الجميع وجعل المؤمنين إخوة فالذي يريد أن يختص به المتعاقدان قد ربطهما إليه الشرع مع غيرهم من المسلمين اللهم إلا أن يكون التعاهد على دفع نازلة من نوازل الظلامات فيلزم في الإسلام التعاهد على دفع ذلك والوفاء بذلك العهد، وأما عهد خاص لما عسى أن يقع يختص المتعاهدون بالنظر فيه والمنفعة كما كان في الجاهلية فلا يكون ذلك في الإسلام.
قال الطبري: وذكر أن فرات بن حيان العجلي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حلف الجاهلية، فقال لعلك تسأل عن حلف لجيم وتيم الله، قال نعم يا نبي الله، قال لا يزيده الإسلام إلا شدة. وقال ابن عباس رضي الله عنه أوفوا بالعقود معناه بما أحل الله وبما حرم وبما فرض وبما حد في جميع الأشياء، قاله مجاهد وغيره.
وقال محمد بن كعب القرظي وابن زيد وغيرهما «العقود» في الآية هي كل ما ربطه المرء على نفسه من بيع أو نكاح أو غيره.
وقال ابن زيد وعبد الله بن عبيدة: العقود خمس: عقدة الإيمان وعقدة النكاح وعقدة العهد وعقدة البيع وعقدة الحلف.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وقد تنحصر إلى أقل من خمس، وقال ابن جريج قوله تعالى: أوفوا بالعقود قال: هي العقود التي أخذها الله على أهل الكتاب أن يعملوا بما جاءهم، وقال ابن شهاب قرأت كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كتب لعمرو بن حزم حين بعثه إلى نجران وفي صدره: هذا بيان من الله ورسوله يا أيّها الّذين آمنوا أوفوا بالعقود فكتب الآيات منها إلى قوله: إنّ اللّه سريع الحساب [المائدة: 4].
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وأصوب ما يقال في تفسير هذه الآية أن تعمم ألفاظها بغاية ما تتناول فيعمم لفظ المؤمنين جملة من مظهر الإيمان إن لم يبطنه وفي المؤمنين حقيقة ويعمم لفظ العقود في كل ربط بقول موافق للحق والشرع. ومن لفظ العقد قول الحطيئة:
قوم إذا عقدوا عقدا لجارهم = شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا
وقوله تعالى: أحلّت لكم بهيمة الأنعام خطاب لكل من التزم الإيمان على وجهه وكماله وكانت للعرب سنن في «الأنعام» من السائبة والبحيرة والحام وغير ذلك فنزلت هذه الآية رافعة لجميع ذلك، واختلف في معنى بهيمة الأنعام فقال السدي والربيع وقتادة والضحاك: هي «الأنعام» كلها.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: كأنه قال أحلت لكم «الأنعام» فأضاف الجنس إلى أخص منه. وقال الحسن: بهيمة الأنعام الإبل والبقر والغنم. وروي عن عبد الله بن عمر أنه قال بهيمة الأنعام الأجنة التي تخرج عند الذبح للأمهات فهي تؤكل دون ذكاة، وقال ابن عباس: هذه الأجنة من بهيمة الأنعام، قال الطبري: وقال قوم بهيمة الأنعام وحشها كالظباء وبقر الوحش والحمر وغير ذلك. وذكره غير الطبري عن الضحاك.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا قول حسن، وذلك أن «الأنعام» هي الثمانية الأزواج وما انضاف إليها من سائر الحيوان يقال له أنعام بمجموعه معها وكان المفترس من الحيوان كالأسد وكل ذي ناب قد خرج عن
حد «الأنعام» فصار له نظر ما، ف بهيمة الأنعام هي الراعي من ذوات الأربع وهذه على ما قيل إضافة الشيء إلى نفسه كدار الآخرة ومسجد الجامع، وما هي عندي إلا إضافة الشيء إلى جنسه وصرح القرآن بتحليلها.
واتفقت الآية وقول النبي عليه الصلاة والسلام «كل ذي ناب من السباع حرام»، ويؤيد هذا المنزع الاستثناءان بعد إذ أحدهما استثني فيه أشخاص نالتها صفات ما وتلك الصفات واقعات كثيرا في الراعي من الحيوان. والثاني استثني فيه حال للمخاطبين وهي الإحرام والحرم، والصيد لا يكون إلا من غير الثمانية الأزواج، فترتب الاستثناءان في الراعي من ذوات الأربع. والبهيمة في كلام العرب ما أبهم من جهة نقص النطق والفهم ومنه باب مبهم وحائط مبهم، وليل بهيم، وبهمة، للشجاع الذي لا يدرى من أين يؤتى له.
وقوله تعالى: إلّا ما يتلى عليكم استثناء ما تلي في قوله تعالى: حرّمت عليكم الميتة والدّم ولحم الخنزير [المائدة: 3]. وما في موضع نصب على أصل الاستثناء وأجاز بعض الكوفيين أن تكون في موضع رفع على البدل وعلى أن تكون إلّا عاطفة وذلك لا يجوز عند البصريين إلا من نكرة أو ما قاربها من أسماء الأجناس نحو قولك جاء الرجال إلا زيد كأنك قلت غير زيد بالرفع وقوله: غير محلّي الصّيد نصب غير على الحال من الكاف والميم في قوله أحلّت لكم، وقرأ ابن أبي عبلة «غير» بالرفع ووجهها الصفة للضمير في يتلى لأن «غير محلي الصيد» هو في المعنى بمنزلة غير مستحل إذا كان صيدا أو يتخرج على الصفة ل بهيمة على مراعاة معنى الكلام كما ذكرت.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وقد خلط الناس في هذا الموضع في نصب «غير» وقدروا فيها تقديمات وتأخيرات وذلك كله غير مرضيّ لأن الكلام على اطراده متمكن استثناء بعد استثناء وحرم جميع حرام وهو المحرم ومنه قول الشاعر:
فقلت لها فيئي إليك فإنني = حرام وإني بعد ذاك لبيب
أي ملبّ وقرأ الحسن وإبراهيم ويحيى بن وثاب «حرم» بسكون الراء. قال أبو الحسن هذه لغة تميمية يقولون في رسل رسل وفي كتب كتب ونحوه، وقوله: إنّ اللّه يحكم ما يريد تقوية لهذه الأحكام الشرعية المخالفة لمعهود أحكام العرب أي فأنت أيها السامع لنسخ تلك العهود التي عهدت تنبه فإن الله الذي هو مالك الكل يحكم ما يريد لا معقب لحكمه. وهذه الآية مما تلوح فصاحتها وكثرة معانيها على قلة ألفاظها لكل ذي بصر بالكلام ولمن عنده أدنى إبصار فإنها تضمنت خمسة أحكام: الأمر بالوفاء بالعقود وتحليل بهيمة الأنعام واستثناء ما تلي بعد واستثناء حال الإحرام فيما يصاد وما يقتضيه معنى الآية من إباحة الصيد لمن ليس بمحرم، وحكى النقاش أن أصحاب الكندي قالوا للكندي: أيها الحكيم اعمل لنا مثل هذا القرآن فقال نعم أعمل مثل بعضه فاحتجب أياما كثيرة ثم خرج فقال: والله ما أقدر عليه ولا يطيق هذا أحد إني فتحت المصحف فخرجت سورة المائدة فنظرت فإذا هو قد أمر بالوفاء ونهى عن النكث وحلل تحليلا عاما ثم استثنى استثناء بعد استثناء ثم أخبر عن قدرته وحكمته في سطرين ولا يستطيع أن يأتي أحد بهذا إلا في أجلاد). [المحرر الوجيز: 3/81-85]

رد مع اقتباس