عرض مشاركة واحدة
  #9  
قديم 11 جمادى الأولى 1435هـ/12-03-2014م, 01:13 AM
أروى المطيري أروى المطيري غير متواجد حالياً
فريق تنسيق النصوص
 
تاريخ التسجيل: Sep 2013
المشاركات: 405
افتراضي

حقيقة العين

قالَ ابْنُ القَيِّمِ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الزُّرَعِيُّ الدِّمَشْقِيُّ (ت: 751 هـ): (وقد قالَ غيرُ واحدٍ من المُفَسِّرِينَ في قولِه تعالى:{وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ}[القلم:51]: إنه الإصابةُ بالعينِ فأَرَادُوا أن يُصيبُوا بها رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فنَظَرَ إليه قومٌ من العَائنينَ، وقالُوا: ما رَأَيْنَا مِثْلَه ولا مِثْلَ حُجَّتِه.
وكان طائفةٌ منهم تَمُرُّ به الناقةُ والبقرَةُ السمينةُ فيَعِينُها، ثم يقولُ لِخَادِمِه: خُذِ المِكْتَلَ والدِّرْهَمَ وائتِنَا بشيءٍ من لَحْمِها. فما تَبْرَحُ حتى تَقَعَ فتُنْحَرَ.
وقالَ الكلبيُّ: كان رَجُلٌ من العَرَبِ يَمْكُثُ يومين أو ثلاثةً لا يَأْكُلُ، ثم يَرْفَعُ جانِبَ خِبائِه فتَمُرُّ به الإبِلُ فيَقولُ: لم أَرَ كاليومِ إِبِلاً ولا غَنَمًا أَحْسَنَ من هذه. فما تَذْهَبُ إلا قليلاً حتى يَسْقُطَ منها طائفةٌ، فسَأَلَ الكُفَّارُ هذا الرجُلَ أن يُصيبَ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالعَيْنِ، ويَفْعَلَ به كَفِعْلِه في غيرِه، فعَصَمَ اللهُ رسولَه وحَفِظَه، وأَنْزَلَ عليه:{وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ}[القلم:51] هذا قولُ طائفةٍ.
وقالَتْ طائفةٌ أُخرى منهم ابنُ قُتَيْبَةَ: ليس المرادُ أنهم يُصِيبُونك بالعَيْنِ كما يُصيبُ العائِنُ بعينِه ما يُعجِبُه، وإنما أَرادَ أنهم يَنظُرون إليك إذا قَرَأْتَ القرآنَ نَظَرًا شديدًا بالعَداوةِ والبَغضاءِ يَكادُ يُسْقِطُكَ، قالَ الزجَّاجُ: يعني مِن شِدَّةِ العداوةِ يَكادون بنَظَرِهم نَظَرَ البَغضاءِ أن يَصْرَعُوكَ.
هذا مُستعْمَلٌ في الكلامِ، يقولُ القائلُ: نَظَرَ إليَّ نَظَرًا كادَ يَصْرَعُني.
قالَ: ويَدُلُّ على صِحَّةِ هذا المعنى أنه قَرَنَ هذا النظَرَ بسماعِ القرآنِ، وهم كانوا يَكْرَهون ذلك أَشَدَّ الكراهيةِ، فيُحِدُّون إليه النظَرَ بالبَغضاءِ. قلتُ: النظَرُ الذي يُؤَثِّرُ في المنظورِ قد يكونُ سببُه شِدَّةَ العَداوةِ والحسَدِ فيُؤَثِّرُ نظَرُه فيه كما تُؤَثِّرُ نفسُه بالحَسَدِ ويَقْوَى تأثيرُ النفْسِ عندَ المُقابَلَةِ، فإنَّ العَدُوَّ إذا غابَ عن عَدُوِّه قد يَشْغَلُ نفسَه عنه، فإذا عاينَه قُبُلاً اجْتَمَعَت الهِمَّةُ عليه، وتَوَجَّهَت النفْسُ بكُلِّيَّتِها إليه فيَتَأَثَّرُ بنَظَرِه، حتى إن مِن الناسِ مَن يَسْقُطُ، ومنهم مَن يُحَمُّ، ومنهم مَن يُحْمَلُ إلى بيتِه، وقد شاهدَ الناسُ من ذلك كثيرًا.
وقد يكونُ سببُه الإعجابَ، وهو الذي يُسَمُّونَه بإصابةِ العينِ، وهو أنَّ الناظِرَ يَرى الشيءَ رؤيةَ إعجابٍ به أو استعظامٍ فتَتَكَيَّفُ رُوحُه بكَيْفِيَّةٍ خاصَّةٍ تُؤَثِّرُ في المَعينِ، وهذا هو الذي يَعْرِفه الناسُ من رؤيةِ المَعين فإنهم يَسْتَحْسِنُون الشيءَ ويَعْجَبون منه فيُصابُ بذلك.
قالَ عبدُ الرزَّاقِ بنُ مَعْمَرٍ، عن هِشامِ بنِ قُتَيْبَةَ قالَ: هذا ما حَدَّثَنا أبو هُريرةَ، قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((العَيْنُ حَقٌّ)) وَنَهَى عَنِ الوَشْمِ.
ورَوَى سفيانُ عن عمرِو بنِ دِينارٍ، عن عُروةَ، عن عامِرِ بنِ عُبيدِ بنِ رِفاعةَ، أنَّ أسماءَ بنتَ عُمَيْسٍ قالَتْ: يا رسولَ اللهِ: إنَّ ابْنَيْ جَعْفَرٍ تُصيبُهم العينُ أَفَنَسْتَرْقِي لهم؟ قالَ: ((نَعَمْ، فَلَوْ كَانَ شَيْءٌ يَسْبِقُ القَضَاءَ لَسَبَقَتْهُ العَيْنُ)).
فالكُفَّارُ كانوا يَنظرون إليه نَظَرَ حاسِدٍ شديدِ العَداوةِ، فهو نَظَرٌ يَكادُ يُزْلِقُه لولا حِفْظُ اللهِ وعِصْمَتُه، فهذا أَشَدُّ من نَظَرِ العائِنِ، بل هو جِنْسٌ من نَظَرِ العائنِ، فمَن قالَ: إنه من الإصابةِ بالعَيْنِ. أرادَ هذا المعنى، ومن قالَ: ليس به. أَرادَ أنَّ نَظَرَهم لم يكن نَظَرَ استحسانٍ وإعجابٍ. فالقرآنُ حقٌّ.
وقد رَوَى التِّرْمِذِيُّ من حديثِ أبي سعيدٍ: (أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يَتَعَوَّذُ من عينِ الإنسانِ) فلولا أنَّ العينَ شَرٌّ لم يَتَعَوَّذْ منها.
وفي التِّرْمِذِيِّ من حديثِ عليِّ بنِ المُبارَكِ، عن يَحْيَى بنِ أبي كثيرٍ، حَدَّثَني حابِسُ بنُ حَبَّةَ التَّميميُّ، حَدَّثَنِي أبي، أنه سَمِعَ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقولُ: ((لا شَيْءَ فِي الهَامِ، وَالعَيْنُ حَقٌّ)). وفيه أيضًا من حديثِ وُهَيْبٍ عن ابنِ طاوُسٍ، عن أبيه، عن ابنِ عَبَّاسٍ قالَ: كان رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقولُ: ((لَوْ كَانَ شَيْءٌ سَابِقَ القَدَرِ لَسَبَقَتْهُ العَيْنُ، وَإِذَا اسْتُغْسِلْتُمْ فَاغْسِلُوا)). وفي البابِ عن عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو. وهذا حديثٌ صحيحٌ). [بدائع الفوائد: 231-232]


رد مع اقتباس