عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 29 جمادى الأولى 1434هـ/9-04-2013م, 09:05 AM
أم صفية آل حسن أم صفية آل حسن غير متواجد حالياً
عضو جديد
 
تاريخ التسجيل: Apr 2013
المشاركات: 2,594
افتراضي

التفسير اللغوي

تفسير قوله تعالى: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)}
قال يَحيى بن سلاَّم بن أبي ثعلبة البصري (ت: 200هـ): (قوله: {وذا النّون} [الأنبياء: 87] يعني يونس.
وقال في آيةٍ أخرى: {كصاحب الحوت} [القلم: 48] والحوت، النّون.
{إذ ذهب مغاضبًا} [الأنبياء: 87] يعني مكابدًا لدين ربّه في تفسير الحسن.
{فظنّ أن لن نقدر عليه} [الأنبياء: 87] قال قتادة: فظنّ أن لن نعاقبه بما صنع.
قال: وبلغنا أنّ يونس دعا قومه زمانًا إلى اللّه عزّ وجلّ، فلمّا طال ذلك وأبوا
[تفسير القرآن العظيم: 1/335]
أوحى اللّه إليه أنّ العذاب يأتيهم يوم كذا وكذا.
فلمّا دنا الوقت تنحّى عنهم، فلمّا كان قبل الوقت بيومٍ جاء فجعل يطوف بالمدينة وهو يبكي ويقول: غدًا يأتيكم العذاب.
فسمعه رجلٌ منهم، فانطلق إلى الملك فأخبره أنّه سمع يونس يبكي ويقول: غدًا يأتيكم العذاب.
فلمّا سمع ذلك الملك دعا قومه، فأخبرهم بذلك وقال: إن كان هذا حقًّا فسيأتيكم العذاب غدًا، فاجتمعوا حتّى ننظر في أمرنا.
فاجتمعوا، فخرجوا من المدينة من الغد، فنظروا فإذا بظلمةٍ وريحٍ شديدةٍ قد أقبلت نحوهم.
فعلموا أنّه الحقّ، ففرّقوا بين الصّبيان وبين أمّهاتهم، وبين البهائم وبين أمّهاتها، ولبسوا الشّعر، وجعلوا الرّماد والتّراب على رءوسهم تواضعًا للّه وتضرّعوا إليه، وبكوا، وآمنوا.
فصرف اللّه عنهم العذاب.
واشترط بعضهم على بعضٍ ألا يكذب منهم أحدٌ كذبةً إلا قطعوا لسانه.
فجاء يونس من الغد، فنظر فإذا المدينة على حالها، وإذا النّاس داخلون وخارجون.
فقال: أمرني ربّي أن أخبر قومي أنّ العذاب يأتيهم فلم يأتهم، فكيف ألقاهم؟ فانطلق حتّى انتهى إلى ساحل البحر، فإذا سفينةٌ في البحر، فأشار إليهم، فأتوه، فحملوه ولا يعرفونه.
فانطلق إلى ناحيةٍ من السّفينة، فتقنّع ورقد.
فما مضى إلا قليلًا حتّى جاءتهم ريحٌ كادت تغرق السّفينة.
فاجتمع أهل السّفينة، فدعوا اللّه ثمّ قالوا: أيقظوا الرّجل يدعو اللّه معنا ففعلوا.
فدعا اللّه معهم، فرفع اللّه تبارك وتعالى عنهم تلك الرّيح.
ثمّ انطلق إلى مكانه فرقد.
فجاءت ريحٌ كادت السّفينة تغرق.
فأيقظوه ودعوا اللّه، فارتفعت الرّيح.
ثمّ انطلق إلى مكانه فرقد.
فجاءت ريحٌ كادت السّفينة تغرق، فأيقظوه ودعوا اللّه، فارتفعت.
فتفكّر العبد الصّالح يونس فقال: هذا من خطيئتي أو قال: من ذنبي أو كما قال.
فقال لأهل السّفينة: شدّوني وثاقًا وألقوني في البحر.
فقالوا: ما كنّا لنفعل وحالك حالك، ولكنّا نقترع، فمن
[تفسير القرآن العظيم: 1/336]
أصابته القرعة ألقيناه في البحر.
فاقترعوا، فأصابته القرعة، فقال: قد أخبرتكم، فقالوا: ما كنّا لنفعل ولكن اقترعوا الثّانية، فاقترعوا، فأصابته القرعة.
ثمّ اقترعوا الثّالثة فأصابته القرعة وهو قوله عزّ وجلّ: {فساهم فكان من المدحضين} [الصافات: 141] أي: من المقروعين.
ويقال: من المسهومين، يعني أنّه وقع السّهم عليه.
فانطلق إلى صدر السّفينة ليلقي نفسه في البحر، فإذا هو بحوتٍ فاتحٍ فاه، ثمّ انطلق إلى ذنب السّفينة، فإذا هو بالحوت فاتحٍ فاه، ثمّ جاء إلى جانب السّفينة، فإذا هو بالحوت فاتحٍ فاه، ثمّ جاء إلى الجانب الآخر، فإذا هو بالحوت فاتحٍ فاه، فلمّا رأى ذلك ألقى نفسه في البحر، فالتقمه الحوت.
فأوحى اللّه تبارك وتعالى إلى الحوت: إنّي لم أجعله لك رزقًا ولكن جعلت بطنك له سجنًا.
فمكث في بطن الحوت أربعين ليلةً.
{فنادى في الظّلمات} [الأنبياء: 87] كما قال اللّه: {أن لا إله إلا أنت سبحانك إنّي كنت من الظّالمين} [الأنبياء: 87] ). [تفسير القرآن العظيم: 1/337]
قال يَحيى بن سلاَّم بن أبي ثعلبة البصري (ت: 200هـ): (قوله: {فنادى في الظّلمات} [الأنبياء: 87] يعني ظلمة البحر، وظلمة اللّيل، وظلمة بطن الحوت.
وهو تفسير السّدّيّ.
{أن لا إله إلا أنت سبحانك إنّي كنت من الظّالمين} [الأنبياء: 87] يعني بخطيئته). [تفسير القرآن العظيم: 1/338]
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ: (ت: 207هـ):
(وقوله: {فظنّ أن لّن نّقدر عليه...}

يريد أن لن نقدر عليه من العقوبة ما قدرنا.
وقوله: {فنادى في الظّلمات أن لاّ اله إلاّ أنت} يقال: ظلمة البحر، وبطن الحوت ومِعاها (مقصور) الذي كان فيه يونس فتلك الظلمات). [معاني القرآن: 2/209]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ) : ( {وذا النّون إذ ذّهب مغاضباً فظنّ أن لّن نّقدر عليه فنادى في الظّلمات أن لاّ إله إلاّ أنت سبحانك إنّي كنت من الظّالمين}
وقال: {إذ ذّهب مغاضباً فظنّ أن لّن نّقدر عليه} أي: لن نقدر عليه العقوبة، لأنه قد أذنب بتركه قومه وإنما غاضب بعض الملوك ولم يغاضب ربه كان بالله عز وجل أعلم من ذلك). [معاني القرآن: 3/8]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ) : ( {وذا النّون}: ذا الحوت. والنون: الحوت.
{فظنّ أن لن نقدر عليه} أي نضيق عليه. يقال: فلان مقدّر عليه، ومقتّر عليه في رزقه. وقال: {وأمّا إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه}، أي ضيّق عليه في رزقه). [تفسير غريب القرآن: 287]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): (يقول الله سبحانه: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ}.
{فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ}، أي لن نضيّق عليه، وأنّا نخلّيه ونهمله. والعرب تقول: فلان مقدّر عليه في الرزق، ومقتّر عليه، بمعنى واحد، أي مضيّق عليه.
ومنه قوله تعالى: {وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ}. وقدر- بالتخفيف والتثقيل- قال أبو عمرو بن العلاء: قتر وقتّر وقدر وقدّر، بمعنى واحد، أي ضيّق.
فعاقبه الله عن حميّته وأنفته وإباقته، وكراهيته العفو عن قومه، وقبول إنابتهم- بالحبس له، والتّضييق عليه في بطن الحوت.
وفي رواية أبي صالح: أن ملكا من ملوك بني إسرائيل كان أمره بالمسير إلى نينوى ليدعو أهلها بأمر شعياء النبي صلّى الله عليه وسلم، فأنف من أن يكون ذهابه إليهم بأمر أحد غير الله تعالى، فخرج مغاضبا للملك، فعاقبه الله بالتقام الحوت.
قال: فلما قذفه الحوت بعثه الله إلى قومه فدعاهم. وأقام بينهم حتى آمنوا). [تأويل مشكل القرآن: 409-408] (م)
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ( {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}.
يستوحش كثير من الناس من أن يلحقوا بالأنبياء ذنوبا، ويحملهم التنزيه لهم، صلوات الله عليهم، على مخالفة كتاب الله جلّ ذكره، واستكراه التأويل، وعلى أن يلتمسوا لألفاظه المخارج البعيدة بالحيل الضعيفة التي لا تخيل عليهم،
أو على من علم منهم- أنّها ليست لتلك الألفاظ بشكل، ولا لتلك المعاني بلفق.
كتأوّلهم في قوله تعالى: {وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} أي: بشم من أكل الشجرة. وذهبوا إلى قول العرب: غوى الفصيل: إذا أكثر من اللبن حتى يبشم. وذلك غوى- بفتح الواو- يغوي غيّا. وهو من البشم غوي- بكسر الواو- يغوى غوى.
قال الشاعر يذكر قوسا:
معطّفة الأثناء ليس فصيلها = برازئها درّا ولا ميّت غوى
وأراد بالفصيل: السّهم. يقول: ليس يرزؤها درّا، ولا يموت بشما، ولو وجد أيضا في (عصى) مثل هذا السّنن لركبوه، وليس في (غوى) شيء إلا ما في (عصى) من معنى الذّنب؛
لأن العاصي لله التّارك لأمره غاو في حاله تلك، والغاوي عاص. والغيّ ضدّ الرّشد، كما أن المعصية ضد الطاعة.
وقد أكل آدم، صلّى الله عليه وسلم، من الشجرة التي نهي عنها باستزلال إبليس وخدائعه إيّاه بالله والقسم به إنه لمن الناصحين، حتى دلّاه بغرور. ولم يكن ذنبه عن إرصاد وعداوة وإرهاص كذنوب أعداء الله. فنحن نقول: (عصى وغوى)، كما قال الله تعالى، ولا نقول: آدم (عاص ولا غاو)، لأن ذلك لم يكن عن اعتقاد متقدّم ولا نيّة صحيحة،
كما تقول لرجل قطع ثوبا وخاطه: قد قطعه وخاطه، ولا تقل: خائط ولا خيّاط حتى يكون معاودا لذلك الفعل، معروفا به.
وكتأولهم في قوله سبحانه: ولقد همّت به وهمّ بها أنها همّت بالمعصية، وهمّ بالفرار منها! وقال (بعضهم): وهمّ بضربها! والله تعالى يقول: {لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ}.
أفتراه أراد الفرار منها. أو الضرب لها، فلما رأى البرهان أقام عندها وأمسك عن ضربها؟! هذا ما ليس به خفاء ولا يغلط متأوّله.
ولكنها همّت منه بالمعصية همّ نيّة واعتقاد، وهمّ نبي الله صلّى الله عليه وسلم، همّا عارضا بعد طول المراودة، وعند حدوث الشهوة التي أتي أكثر الأنبياء في هفواتهم منها.
وقد روي في الحديث: أنه ليس من نبي إلا وقد أخطأ أو همّ بخطيئة غير يحيى بن زكريا، عليهما السلام، لأنّه كان حصورا لا يأتي النساء ولا يريدهنّ.
فهذا يدلّك على أنّ أكثر زلّات الأنبياء من هذه الجهة، وإن كانوا لم يأتوا في شيء منها فاحشة، بنعم الله عليهم ومنّه، فإن الصغير منهم كبير لما آتاهم الله من المعرفة،
واصطفاهم له من الرسالة، وأقام عليهم من الحجّة. ولذلك قال يوسف، صلّى الله عليه وسلم: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ}،
يريد ما أضمره وحدّث به نفسه عند حدوث الشّهوة.
وقد وضع الله تعالى الحرج عمّن همّ بخطيئة ولم يعملها.
وقالوا في قوله: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا}: إنه غاضب قومه! استيحاشا من أن يكون مع تأييد الله وعصمته وتوفيقه وتطهيره، يخرج مغاضبّا لربّه. ولم يذهب مغاضبا لربّه ولا لقومه، لأنّه بعث إليهم فدعاهم برهة من الدّهر فلم يستجيبوا، ووعدهم عن الله فلم يرغبوا، وحذّرهم بأسه فلم يرهبوا، وأعلمهم أنّ العذاب نازل عليهم لوقت ذكره لهم، ثم إن اعتزلهم ينتظر هلكتهم. فلما حضر الوقت أو قرب فكّر القوم واعتبروا، فتابوا إلى الله وأنابوا، وخرجوا بالمراضيع وأطفالها يجأرون ويتضرّعون، فكشف الله تعالى عنهم العذاب، ومتّعهم إلى حين.
فإن كان نبي الله، صلّى الله عليه وسلم، ذهب مغاضبا على قومه قبل أن يؤمنوا، فإنما راغم من استحق في الله أن يراغم، وهجر من وجب أن يهجر، واعتزل من علم أن قد حقّت عليه كلمة العذاب. فبأيّ ذنب عوقب بالتهام الحوت، والحبس في الظّلمات، والغمّ الطويل؟.
وما الأمر الذي ألام فيه فنعاه الله عليه إذ يقول: {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ} والمليم: الذي أجرم جرما استوجب به الّلوم.
ولم أخرجه من أولي العزم من الرّسل، حين يقول لنبيه، صلّى الله عليه وسلم: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ}.
وإن كان الغضب عليهم بعد أن آمنوا، فهذا أغلظ مما أنكروا، وأفحش مما استقبحوا، كيف يجوز أن يغضب على قومه حين آمنوا، ولذلك انتخب وبه بعث، وإليه دعا؟!.
وما الفرق بين عدو الله ووليّه إن كان وليّه يغضب من إيمان مائة ألف أو يزيدون؟.
والقول في هذا أنّ المغاضبة: المفاعلة من الغضب، والمفاعلة تكون من اثنين، تقول: غاضبت فلانا مغاضبة وتغاضبنا: إذا غضب كلّ واحد منكما على صاحبه، كما تقول: ضاربته مضاربة، وقاتلته مقاتلة، وتضاربنا وتقاتلنا.
وقد تكون المفاعلة من واحد، فنقول: غاضبت من كذا: أي غضبت، كما تقول:سافرت وناولت، وعاطيت الرّجل، وشارفت الموضع، وجاوزت، وضاعفت، وظاهرت، وعاقبت.
ومعنى المغاضبة هاهنا: الأنفة، لأن الأنف من الشيء يغضب، فتسمّى الأنفة غضبا، والغضب أنفة، إذا كان كل واحد بسبب من الآخر، تقول: غضبت لك من كذا، وأنت تريد أنفت،
قال الشاعر:
غضبت لكم أن تساموا اللّفاء= بشجناء من رحم توصل
يروى مرة: (أنفت لكم)، ومرة: (غضبت لكم)، لأنّ المعنيين متقاربان.
وكذلك (العبد) أصله: الغضب. ثم قد تسمّى الأنفة عبدا.
وقال الشاعر:
وأعبد أن تهجى تميم بدارم
يريد: آنف.
وحكى أبو عبيد، عن أبي عمرو، أنه قال في قوله تعالى: {فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ}: هو من الغضب والأنفة. ففسّر الحرف بالمعنيين لتقاربهما.
فكأنّ نبيّ الله، صلّى الله عليه وسلم، لمّا أخبرهم عن الله أنّه منزل العذاب عليهم لأجل، ثم بلغه بعد مضيّ الأجل أنّه لم يأتهم ما وعدهم- خشي أن ينسب إلى الكذب ويعيّر به، ويحقّق عليه، لاسيّما ولم تكن قرية آمنت عند حضور العذاب فنفعها إيمانها غير قومه، فدخلته الأنفة والحميّة، وكان مغيظا بطول ما عاناه من تكذيبهم وهزئهم وأذاهم واستخفافهم بأمر الله، مشتهيا لأن ينزل بأس الله بهم. هذا إلى ضيق صدره، وقلّة صبره على ما صبر على مثله أولوا العزم من الرّسل.
وقد روي في الحديث أنه كان ضيّق الصدر، فلما حمّل أعباء النّبوّة تفسّخ تحتها تفسّخ الرّبع تحت الحمل الثّقيل، فمضى على وجهه مضيّ الآبق النّادّ.
يقول الله سبحانه: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ}.
{فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} أي: لن نضيّق عليه، وأنّا نخلّيه ونهمله. والعرب تقول: فلان مقدّر عليه في الرزق، ومقتّر عليه، بمعنى واحد، أي مضيّق عليه.
ومنه قوله تعالى: {وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ}. وقدر- بالتخفيف والتثقيل- قال أبو عمرو بن العلاء: قتر وقتّر وقدر وقدّر، بمعنى واحد، أي ضيّق.
فعاقبه الله عن حميّته وأنفته وإباقته، وكراهيته العفو عن قومه، وقبول إنابتهم- بالحبس له، والتّضييق عليه في بطن الحوت.
وفي رواية أبي صالح: أن ملكا من ملوك بني إسرائيل كان أمره بالمسير إلى نينوى ليدعو أهلها بأمر شعياء النبي صلّى الله عليه وسلم، فأنف من أن يكون ذهابه إليهم بأمر أحد غير الله تعالى، فخرج مغاضبا للملك، فعاقبه الله بالتقام الحوت.
قال: فلما قذفه الحوت بعثه الله إلى قومه فدعاهم. وأقام بينهم حتى آمنوا). [تأويل مشكل القرآن: 409-402]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ) : (وقوله: {وذا النّون إذ ذهب مغاضبا فظنّ أن لن نقدر عليه فنادى في الظّلمات أن لا إله إلّا أنت سبحانك إنّي كنت من الظّالمين}
{ذا النّون} يونس، والنون السمكة، والمعنى واذكر ذا النون، ويروى أنه ذهب مغاضبا قومه، وقيل إنه ذهب مغاضبا ملكا من الملوك.
{فظنّ أن لن نقدر عليه}.
أي ظن أن لن نقدّر عليه ما قدّرناه من كونه في بطن الحوت، ويقدر بمعنى يقدّر.
وقد جاء هذا في التفسير، وقد روي عن الحسن أنه قال عبد أبق من ربّه، وتأويل قول الحسن أنه هرب من عذاب ربّه، لا أن يونس ظن أن الهرب ينجيه من اللّه - عزّ وجلّ -
ولا من قدره.
وقوله: {فنادى في الظّلمات أن لا إله إلّا أنت}.
{في الظلمات} وجهان، أحدهما يعنى به ظلمة الليل وظلمة البحر.
وظلمة بطن الحوت، ويجوز أن يكون {نادى في الظلمات} أن يكون أكثر دعائه وندائه كان في ظلمات الليل.
والأجود التفسير الأول لأنه في بطن الحوت لا أحسبه كان يفصل بين ظلمة الليل وظلمة غيره ولكنه أول ما صادف ظلمة الليل ثم ظلمة البحر ثم ظلمة بطن الحوت.
وجائز أن يكون الظلمات اتفقت في وقت واحد، فتكون ظلمة بطن الحوت في الليل والبحر نهاية في الشّدّة). [معاني القرآن: 3/402]
قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت:345 هـ) : ( {وذا النون إذ ذهب مغاضبا} قال ثعلب: معناه:
مغاضبا الملك). [ياقوتة الصراط: 363-362]
قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت:345 هـ) : ( {فظن أن لن نقدر عليه} هو من: التقدير، وليس هو من: القدرة، يقال: قدر الله لك الخير يقدره،
ويقدره تقديرا، بمعنى: قدره. قال: ومنه الخبر: ' فاقدروا له '، أي: ' قدروا له ' فهذا كله من التقدير، ونقول من القدرة: قدرت على الشيء اقدر عليه قدرة،
وفي لغة أخرى: قدرت عليه أقدر قدرة). [ياقوتة الصراط: 364-363]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({وذَا النُّونِ}:أي ذا الحوت، وهو يونس صلوات الله عليه. {فظن أن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ}: أي نضيق عليه).[تفسير المشكل من غريب القرآن: 156]

تفسير قوله تعالى: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)}
قال يَحيى بن سلاَّم بن أبي ثعلبة البصري (ت: 200هـ): (قال اللّه تبارك وتعالى: {فاستجبنا له ونجّيناه من الغمّ وكذلك ننجي المؤمنين} [الأنبياء: 88] فأوحى اللّه إلى الحوت أن يلقيه إلى البرّ.
قال اللّه: {فنبذناه بالعراء وهو سقيمٌ} [الصافات: 145] وهو ضعيفٌ مثل الصّبيّ الرّضيع.
فأصابته حرارة الشّمس، فأنبت اللّه عليه تبارك وتعالى {شجرةً من
[تفسير القرآن العظيم: 1/337]
يقطينٍ} [الصافات: 146] وهي القرع، فأظلّته فنام، فاستيقظ وقد يبست، فحزن عليها، فأوحى اللّه إليه: أحزنت على هذه الشّجرة وأردت أن أهلك مائة ألفٍ من خلقي أو يزيدون؟ فعلم عند ذلك أنّه قد ابتلي.
فانطلق، فإذا هو بذودٍ من غنمٍ.
فقال للرّاعي: اسقني لبنًا.
فقال: ما هاهنا شاةٌ لها لبنٌ.
فأخذ شاةً منها فمسح بيده على ظهرها، فدرّت فشرب من لبنها.
فقال له الرّاعي: من أنت يا عبد اللّه؟ أخبرني.
فقال له: أنا يونس.
فانطلق الرّاعي إلى قومه، فبشّرهم به.
فأخذوه وجاءوا معه إلى موضع الغنم فلم يجدوا يونس.
فقالوا: إنّا قد شرطنا لربّنا ألا يكذب منّا أحدٌ إلا قطعنا لسانه.
فتكلّمت الشّاة بإذن اللّه فقالت: قد شرب من لبني.
وقالت شجرةٌ كان استظلّ تحتها: قد استظلّ بظلّي، فطلبوه فأصابوه، فرجع إليهم.
فكان فيهم حتّى قبضه اللّه.
وهي مدينةٌ يقال لها: نينوى من أرض الموصل، وهي على دجلةٍ.
- نا يحيى قال: وحدّثنا عثمان أنّ عبد اللّه بن عبّاسٍ قال: في دجلة ركب السّفينة، وفيها التقمه الحوت ثمّ أفضى به إلى البحر.
فدار في البحر ثمّ رجع في دجلة، فثمّ نبذه بالعراء، وهو البرّ). [تفسير القرآن العظيم: 1/338]
قال يَحيى بن سلاَّم بن أبي ثعلبة البصري (ت: 200هـ): (تفسير السّدّيّ.
{فاستجبنا له ونجّيناه من الغمّ وكذلك ننجي المؤمنين} [الأنبياء: 88]
- نا يونس بن أبي إسحاق، عن إبراهيم بن محمّد بن سعد بن مالكٍ، عن
[تفسير القرآن العظيم: 1/338]
أبيه، عن جدّه سعدٍ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: " دعوة ذي النّون إذ دعا وهو في بطن الحوت: {لا إله إلا أنت سبحانك إنّي كنت من الظّالمين} [الأنبياء: 87] ".
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «فإنّه لم يدع بها مسلمٌ ربّه في شيءٍ إلا استجاب اللّه له»). [تفسير القرآن العظيم: 1/339]
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ: (ت: 207هـ):
(وقوله: {وكذلك ننجي المؤمنين...}

القراء يقرءونها بنونين، وكتابها بنون واحدة. وذلك أن النون الأولى متحركة والثانية ساكنة، فلا تظهر السّاكنة على اللسان، فلمّا خفيت حذفت.
وقد قرأ عاصم - فيما أعلم - (نجّي) بنونٍ واحدةٍ ونصب (المؤمنين) كأنه احتمل اللحن ولا نعلم لها جهة إلاّ تلك؛ لأن ما لم يسمّ فاعله إذا خلا باسم رفعه، إلا أن يكون أضمر المصدر في نجّي فنوى به الرفع ونصب (المؤمنين)
فيكون كقولك: ضرب الضرب زيداً، ثم تكنى عن الضرب فتقول: ضرب زيداً. وكذلك نجّي النجاء المؤمنين). [معاني القرآن: 2/210]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ) : (ومن ذلك قوله في سورة الأنبياء: {وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} كتبت في المصاحف بنون واحدة،
وقرأها القرّاء جميعا ننجي بنونين إلا عاصم بن أبي النّجود فإنه كان يقرؤها بنون واحدة، ويخالف القرّاء جميعا، ويرسل الياء فيها على مثال (فعل).
فأما من قرأها بنونين، وخالف الكتاب، فإنه اعتل بأن النون تخفى عند الجيم، فأسقطها كاتب المصحف لخفائها، ونيّته إثباتها.
واعتلّ بعض النحويين لعاصم فقالوا: أضمر المصدر، كأنه قال: نجّي النجاء المؤمنين، كما تقول: ضرب الضرب زيدا، ثم تضمر الضّرب، فتقول: ضرب زيدا.
وكان أبو عبيد يختار في هذا الحرف مذهب عاصم كراهية أن يخالف الكتاب، ويستشهد عليه حرفا في سورة الجاثية، كان يقرأ به أبو جعفر المدني،
وهو قوله: {لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} أي ليجزى الجزاء قوما.
وأنشدني بعض النحويين:
ولو ولدت فقيرةُ جروَ كلب = لسُبَّ بذلك الجرو الكلابا).
[تأويل مشكل القرآن: 54-55]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ) : (وقوله: {فاستجبنا له ونجّيناه من الغمّ وكذلك ننجي المؤمنين}
{وكذلك ننجي المؤمنين}
الذي في المصحف بنون واحدة، كتبت، لأن النون الثانية تخفى مع الجيم، فأمّا ما روي عن عاصم بنون واحدة فلحن لا وجه له، لأن ما لا يسمّى فاعله لا يكون بغير فاعل.
وقد قال بعضهم: نجّي النجاء المؤمنين.
وهذا خطأ بإجماع النحويين كلهم، لا يجوز ضرب زيدا -، تريد ضرب الضرب زيدا لأنك إذا قلت ضرب زيد فقد علم أنه الذي ضربه ضرب، فلا فائدة في إضماره وإقامته مع الفاعل.
ورواية أبي بكر بن عياش في قوله نجّي المؤمنين يخالف قراءة أبي عمرو ننجي بنونين). [معاني القرآن: 3/403]

رد مع اقتباس