الموضوع: سورة الأحقاف
عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 27 محرم 1434هـ/10-12-2012م, 08:38 PM
أم حذيفة أم حذيفة غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: May 2011
المشاركات: 1,054
افتراضي

قوله تعالى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ ۖ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9)}

قال الوليد بن محمد الموقّري الأموي (ت:182هـ): حدثني محمد بن مسلم بن عبد الله بن شِهَاب الزهري (ت: 124هـ)قال: (وفي حم الأحقاف قوله تعالى: {قل ما كنت بدعاً من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم}.
نسختها هذه الآية، قوله تعالى: {إنا فتحتنا لك فتحاً مبيناً. ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر}.... إلى قوله: {ويهديك صراطاً مستقيماً}.
فعلم سبحانه ما يفعل به من الكرامة، فقال رجلٌ من الأنصار: قد حدثك ربك ما يفعل بك من الكرامة فهنيئاً لك يا رسول الله، فما يفعل بنا نحن؟ فقال سبحانه: {وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلاً كبيراً}. وقال تعالى: {ليدخل المؤمنين والمؤمنات جناتٍ تجري من تحتها الأنهار}.
فبين تعالى في هذه الآية كيف يفعل به وبهم).
[الناسخ والمنسوخ للزهري: 33]
قال محمد بن كثيرٍ العَبْدي (ت:223هـ) عن همّام بن يحيى البصري قال:(وعن قوله عز وجل: {وما أدري ما يفعل بي ولا بكم} قد أعلم الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم ما يفعل به فأنزل الله عز وجل بيان ذلك فقال : {إنا فتحنا لك فتحا مبينا} إلى قوله : {نصرا عزيزا}
عن قتادة عن أنس بن مالك إن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم مرجعه من الحديبية والنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه مخالطون الحزن والكآبة وقد حيل بينهم وبين مناسكهم فنحروا الهدي بالحديبية فحدثهم أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه أنزلت علي آية أحب إلي من الدنيا جميعا فتلاها نبي الله صلى الله عليه وسلم فقال رجل من القوم هنيئا مريئا يا نبي الله قد بين الله عز وجل لك ما يفعل بك فماذا يفعل بنا فأنزل الله عز وجل : {بعدها ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ويكفر عنهم سيئاتهم وكان ذلك عند الله فوزا عظيما}
حدثنا همام رجل يقال له أبو عبد الله قال سمعت السدي يقول: ما كان في القرآن من خبر فإنما أخبر به العليم الخبير بعلم فليس منه منسوخ إنما هو من الأخبار وأخبر عن الأمم الماضية ما صنعوا وما صنع بهم وعما هو كائن بعد فناء الدنيا فإنما المنسوخ فيما أحل أو حرم
قال حدثنا همام عن الكلبي في هذه الآية {ما أدري ما يفعل بي ولا بكم} قال رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام رؤيا كأنه مر بأرض ذات شجر ونخل فقال له بعض أصحابه: رؤياك التي رأيت؟ فقال: ما أدري ما يفعل بي ولا بكم أنزل بمكة أو اخرج منها إلى غيرها أو أتحول منها إلى غيرها).

[الناسخ والمنسوخ لقتادة: 1/46]
قَالَ أَبو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بْنُ حَزْمٍ الأَنْدَلُسِيُّ (ت: 320 هـ): (أولاهما قوله تعالى: {قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلي وما أنا إلا نذير مبين} [9 / الأحقاف / 46] نسخت بقوله تعالى: {إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر...} الآية [2 / الفتح / 48]. ). [الناسخ والمنسوخ لابن حزم: 56]
قالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النَّحَّاسُ (ت: 338 هـ): ( قال جلّ وعزّ: {قل ما كنت بدعًا من الرّسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم} [الأحقاف: 9]
قرئ على محمّد بن جعفر بن حفصٍ، عن يوسف بن موسى، قال: حدّثنا حسين بن عليٍّ الجعفيّ، عن سفيان، {وما أدري ما يفعل بي ولا بكم} [الأحقاف: 9] قال: «يرون أنّها نزلت قبل الفتح»
وفي رواية الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ،: نسخها {إنّا فتحنا لك فتحًا مبينًا ليغفر لك اللّه ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر} [الفتح: 2] الآية "
قال أبو جعفرٍ: محالٌ أن يكون في هذا ناسخٌ ولا منسوخٌ من جهتين إحداهما أنّه خبرٌ والآخر أنّ من أوّل السّورة إلى هذا الموضع فيه خطّابٌ للمشركين واحتجاجٌ عليهم وتوبيخٌ لهم فوجب أن يكون هذا أيضًا خطابًا للمشركين كما كان ما قبله وما بعده
ومحالٌ أن يقول صلّى الله عليه وسلّم للمشركين {وما أدري ما يفعل بي ولا بكم} [الأحقاف: 9] في الآخرة
ولم يزل صلّى الله عليه وسلّم من أوّل مبعثه إلى وفاته يخبر أنّ من مات على الكفر يخلّد في النّار ومن مات على الإيمان واتّبعه وأطاعه فهو في الجنّة، فقد درى صلّى الله عليه وسلّم ما يفعل به وبهم وليس يجوز أن يقول لهم: ما أدري ما يفعل بي ولا بكم في الآخرة فيقولوا كيف نتّبعك وأنت لا تدري أتصير إلى خفضٍ ودعةٍ أم إلى عذابٍ وعقابٍ
والصّحيح في معنى الآية قول الحسن كما قرئ على محمّد بن جعفر بن حفصٍ، عن يوسف بن موسى، قال: حدّثنا وكيعٌ، قال: حدّثنا أبو بكرٍ الهذليّ، عن الحسن، {وما أدري ما يفعل بي ولا بكم} [الأحقاف: 9] : «في الدّنيا»
قال أبو جعفرٍ: وهذا أصحّ قولٍ وأحسنه لا يدري صلّى الله عليه وسلّم ما يلحقه وإيّاهم من مرضٍ وصحّةٍ ورخصٍ وغلاءٍ وغنًى وفقرٍ، ومثله {ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسّني السّوء} [الأعراف: 188] ). [الناسخ والمنسوخ للنحاس: 2/627-629]

قَالَ هِبَةُ اللهِ بنُ سَلامَةَ بنِ نَصْرٍ المُقْرِي (ت: 410 هـ): ( الآية الأولى قوله تعالى {قل ما كنت بدعاً من الرسل} أي أول نبي بعث هذا محكم {وما أدري ما يفعل بي ولا بكم} هو المنسوخ قال الشّيخ هبة الله ليس في كتاب الله منسوخ طال حكمه كهذه الآية عمل بها في مكّة عشر سنين وعيره به المشركون وهاجرا إلى المدينة فبقي ستّ سنين يعيرهم المنافقون بها وكان المشركون يقولون كيف يجوز لنا اتّباع رجل لا يدري ما يفعل به ولا بأصحابه وكذا قال المنافقون من أهل المدينة فلمّا كان عام الحديبية خرج النّبي (صلى الله عليه وسلم) على أصحابه ووجهه يتهلّل فرحا فقال لقد نزلت عليّ اليوم آية أو قال آيات هي أحب إليّ من حمر النعم أو قال ممّا طلعت عليهالشّمس فقال له أصحابه وما ذلك يا رسول الله فقرأ عليهم {إنّا فتحنا لك فتحاً مبيناً} إلى قوله {وكان الله عليما حكيما} فقال له أصحابه ليهنك ما نزل فيك فقد أعلمك الله ما يفعل بك فماذا يفعل؟ بنا فنزلت {وبشّر المؤمنين بأنّ لهم من الله فضلاً كبيرا} ونزلت {ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنّات تجري من تحتها الأنهار} إلى قوله تعالى {عظيما} فقال المنافقون من المدينة والمشركون من أهل مكّة قد أعلمه الله ما يفعل به وما يفعل بأصحابه فماذا يفعل بنا فنزلت {بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليمًا} ونزلت {ويعذب المنافقين والمنافقات} من أهل المدينة {والمشركين والمشركات} الآية من أهل مكّة وغيرها من المشركين {الظانين باللّه ظن السوء عليهم دائرة السوء} إلى قوله {وساءت مصيرا} فقال عبد الله بن أبي السّلولي: هب محمّدًا غلب اليهود وهزمهم فكيف له قدرة بفارس والروم فنزلت {وللّه جنود السّماوات والأرض} هم أكثر من فارس والروم {وكان الله عزيزًا} أي منيعا في سلطانه {حكيما} في تدبيره وصنعه وليس في كتاب الله سبع كلمات نسختها سبع آيات إلّا هذه
وقد اختلف المفسّرون في قوله تعالى {ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخّر} فقال قوم {ما تقدم من ذنبك} قبل الرسالة {وما تأخّر} بعدها وقال آخرون {ما تقدم من ذنبك} أي من ذنب أبيك آدم {وما تأخّر} من ذنوب أمتك لأن به تيب على آدم وهو الشافع لأمته فمن بذلك عليه وقال آخرون {ما تقدم} من ذنب أبيك إبراهيم {وما تأخّر} من ذنب النّبيين فبه تيب عليهم وقيل {ما تقدم من ذنبك} يوم بدر {وما تأخّر} يوم هوازن وذلك أنه قال يوم بدر اللّهمّ إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض أبدا فأوحى الله تعالى إليه من أين لك أنّي لا أعبد في الأرض فكان هذا الذّنب المتقدّم وأما المتأخر فقال يوم هوازن وقد انهزم أصحابه لعمّه العبّاس وابن عمه أبي سفيان بن الحارث ناولاني كفا من حصباء الوادي فناولاه فاستقبل به وجوه المشركين وقال شاهت الوجوه وكانوا أربعين ألف فما بقي منهم رجل حتّى امتلأت عيناه رملا وحصى وانهزم القوم عن آخرهم فلمّا رجع أصحابه إليه قال لو لم أرمهم ما انصرفوا أي لم ينهزموا فنزلت {وما رميت إذ رميت ولكنّ الله رمى} وعلى هذا معارضة لقائل يقول أثبت الله له الرّمي ثمّ نفاه عنه فالجواب عن ذلك أن الرّمي يحتوي على أربعة أشياء على القبض والإرسال والتبليغ والإصابة فكان القبض والإرسال من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) والتبليغ والإصابة من الله تعالى ).
[الناسخ والمنسوخ لابن سلامة: 160-164]
قَالَ مَكِّيُّ بنُ أبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ) : (قوله تعالى: {قل ما كنت بدعًا من الرّسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم} [الأحقاف: 9]:
روي عن ابن عباس أنه قال: نسخها: {إنّا فتحنا لك فتحًا مبينًا} [الفتح: 1] الآية وإلى هذا ذهب ابن حبيب - لأن الله جلّ ذكره قد أعلمه حاله وأنه مغفورٌ له كلّ ذنوبه في الآخرة.
قال أبو محمد: وهذا إنما يجوز على قول من قال: معنى الآية:
وما أدري ما يفعل بي ولا بكم في الآخرة.
فأما من قال معناه: وما أدري ما يفعل بي ولا بكم في الدنيا من تقلّب الأحوال فيها، فالآية عنده محكمةٌ - وهو قول الحسن - وهو قولٌ
[حسن - لأن النبي عليه السلام إنما نفى عن نفسه علم الغيب فيما يحدث عليه وعليهم في الدنيا، ألا ترى إلى قوله: {إن أتّبع إلاّ ما يوحى إليّ} [الأحقاف: 9] يريد في الدنيا.
وأيضًا فإن الآية خبرٌ، ولا ينسخ الخبر.
وأيضًا، فإنه صلى الله عليه وسلم قد علم أن من مات على الكفر فهو مخلدٌ في النار، فكيف يقول: وما أدري ما يفعل بي ولا بكم في الآخرة. وقد أعلمه الله ما يؤول إليه أمر الكفار في الآخرة. وهذا مثل قوله: {ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسّني السّوء} [الأعراف: 188]، أي: لو علمت الغيب لتحفظت من الضّرّ، فلم يلحقني في الدنيا ضرٌّ.
والظاهر أنّ الآية محكمةٌ نزلت في أمور الدنيا). [الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه: 411-412]
قَالَ أبو الفَرَجِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَلِيٍّ ابْنُ الجَوْزِيِّ (ت: 597هـ): ( ذكر الآية الأولى: قوله تعالى: {وما أدري ما يفعل بي ولا بكم}.
اختلف (المفسّرون) في هذا على قولين:
أحدهما: أنّه راجعٌ إلى الدّنيا، ثمّ لهؤلاء فيه قولان:
أحدهما: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم رأى في المنام أنّه يهاجر إلى أرضٍ ذات نخلٍ وشجرٍ وماءٍ، فقصّها على أصحابه ثمّ مكثوا برهةً لا يرون ذلك فقالوا يا رسول اللّه: متى نهاجر فسكت فنزلت هذه الآية ومعناها: لا أدري أخرج إلى الموضع الّذي رأيته في منامي أم لا رواه أبو صالحٍ عن ابن عبّاسٍ رضي اللّه عنهما.
قال عطيّة ما أدري هل يتركني بمكّة أو يخرجني منها.
والثّاني: ما أدري هل أخرج كما أخرج الأنبياء قبلي أو أقتل كما قتلوا، أو لا أدري ما يفعل بكم، أتعذّبون أم تؤجرون أتصدّقون أم تكذّبون، قاله الحسن.
والقول الثّاني: أنّه راجعٌ إلى الآخرة.
أخبرنا المبارك بن عليٍّ، قال: أبنا أحمد بن الحسين، قال: أبنا البرمكيّ، قال: أبنا محمّد بن إسماعيل، أبنا أبو بكر بن أبي داود، قال: بنا يعقوب بن سفيان، قال: بنا أبو صالحٍ، قال: حدّثني معاوية بن صالحٍ، عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عبّاسٍ رضي اللّه عنهما {وما أدري ما يفعل بي ولا بكم} فأنزل اللّه بعدها {ليغفر لك اللّه ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر} وقال: {ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنّاتٍ} فأعلمه ما يفعل به وبالمؤمنين وممّن ذهب إلى نحو هذا أنسٌ وعكرمة وقتادة وقد زعم قومٌ أنّ هذا من النّاسخ والمنسوخ فروى الضّحّاك عن ابن عبّاسٍ، قال: نسختها {إنّا فتحنا لك فتحاً مبيناً} الآية.
وأخبرنا المبارك بن عليٍّ، قال: أبنا أحمد بن الحسين، قال: أبنا البرمكيّ، قال: أبنا محمد بن إسماعيل، قال: بنا أبو بكر ابن أبي داود قال: بنا محمد بن قهزاذ قال: حدّثني عليّ بن الحسين بن واقدٍ، قال: حدّثني أبي، وأبنا محمّد بن أبي منصورٍ، قال: أبنا عليّ بن أيّوب، قال: أبنا أبو عليّ بن شاذان، قال: أبنا أبو بكرٍ النجاد، قال: بنا أحمد بن محمّدٍ، عن عليّ بن الحسين، عن أبيه، عن يزيد النّحويّ عن عكرمة عن ابن عبّاسٍ رضي اللّه عنهما {وما أدري ما يفعل بي} نسختها الآية الّتي في الفتح، فخرج إلى النّاس فبشرّهم بالّذي غفر له، ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر، فقال رجلٌ من المؤمنين هنيئًا لك يا نبيّ اللّه: قد علمنا الآن ما يفعل بك فماذا يفعل بنا؟ فأنزل اللّه في سورة الأحزاب {وبشّر المؤمنين بأنّ لهم من اللّه فضلاً كبيراً} وقال: {ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنّاتٍ تجري من تحتها الآنهار}.
قلت: والقول بنسخها لا يصحّ لأنّه إذا خفي عليه علم شيءٍ ثمّ أعلم به لم يدخل ذلك في ناسخٍ ولا منسوخٍ، وقال النّحّاس: محالٌ أن يقول رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم للمشركين ما أدري ما يفعل بي ولا بكم في الآخرة ولم يزل يخبر أنّ من مات على الكفر يخلّد في النّار، ومن مات على الإيمان فهو في الجنّة، فقد درى ما يفعل به وبهم في الآخرة، والصّحيح في معنى الآية قول الحسن
{وما أدري ما يفعل بي ولا بكم} في الدّنيا ).[نواسخ القرآن: 462-465]

قالَ أبو الفَرَجِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَلِيٍّ ابْنِ الْجَوْزِيِّ (ت:597هـ): ( {وما أدري ما يفعل بي ولا بكم} اختلفوا هل المراد بذلك الدنيا أما الآخرة فمن قال الآخرة قال: نسخت بقوله {ليغفر لك اللّه ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر} وقوله {ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنّاتٍ} ومن قال الدنيا قال: ما أدري ما يجري علينا من أمور الدنيا وهذا الصحيح ولا يتصور النسخ في مثل هذه الآية وإذا لم يعلم الحالة ثم أعلم بها له لم يلزم ذلك نسخا).[المصَفَّى بأكُفِّ أهلِ الرسوخ: 53]
قالَ عَلَمُ الدِّينِ عليُّ بنُ محمَّدٍ السَّخَاوِيُّ (ت:643هـ): (الأولى قوله عز وجل: {وما أدري ما يفعل بي ولا بكم} الآية [الأحقاف: 9]، قال أبو القاسم هبة الله بن سلامة: وليس في كتاب الله عز وجل منسوخ طال حكمه كهذه الآية، عمل بها بمكة عشر سنين وعيره به المشركون ثم هاجروا إلى المدينة فبقوا ست سنين يعيرهم المنافقون، فلما كان عام الحديبية خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه ووجهه يتهلل فقال: ((لقد نزلت علي اليوم آية،-أو قال: آيات- هي أحب إلي من حمر النعم، -أو قال: مما طلعت عليه الشمس)) فقال له أصحابه: (وما ذلك يا رسول الله)، فقرأ عليهم:
(( {إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله..} )) إلى قوله عز وجل: (( {... وكان الله عليما حكيما} الآية [الفتح: 1-4] )) فقال له أصحابه: (ليهنك ما أنزل الله فيك، فقد أعلمك ما يفعل بك، فماذا يفعل بنا؟) فنزلت: {وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا} الآية [الأحزاب: 47].
وقوله عز وجل: {ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار..} إلى قوله: {.. فوزا عظيما} [الفتح: 5] فقال المنافقون والمشركون: قد أعلمه الله ما يفعل به وما يفعل بأصحابه فماذا يفعل بنا؟ فنزلت: {بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما} [النساء: 138] ونزلت: {ويعذب المنافقين والمنافقات} الآية [الفتح: 6] من أهل المدينة {والمشركين والمشركات} الآية [الفتح: 6] من أهل مكة وغيرهم {الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء} الآية [الفتح: 6].وقال ابن أبي: هب أنه غلب اليهود فكيف له قدرة بفارس والروم؟ فنزلت: {ولله جنود السموات والأرض} الآية [الفتح: 4] أكثر من فارس والروم.
قال: وليس في كتاب الله عز وجل كلمات منسوخة نسختها سبع آيات إلا هذه.
وقال مكي بن أبي طالب رحمه الله: روي عن ابن عباس أنه قال: (نسخها: {إنا فتحنا لك فتحا مبينا} الآية [الفتح: 1]). قال: وإلى هذا ذهب ابن حبيب؛ لأن الله عز وجل ذكره قد أعلمه حاله وأنه مغفور له كل ذنوبه في الآخرة.
قال مكي: وهذا إنما يجوز على قول من قال: معناها ما يفعل بي ولا بكم في الآخرة.
قال: فأما من قال: ما يفعل بي ولا بكم في الدنيا من تقلب الأحوال فيها فالآية عنده محكمة، وهو قول الحسن رحمه الله، وهو قول حسن؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما نفى عن نفسه علم الغيب فيما يحدث عليه وعليهم في الدنيا، قال: ألا ترى إلى قوله: {إن أتبع إلا ما يوحى إلي} الآية [الأحقاف: 9] يريد في الدنيا؛ قال: وأيضا فإن الآية خبر ولا ينسخ الخبر، وأيضا فإنه صلى الله عليه وسلم قد علم أن من مات على الكفر فهو مخلد في النار، فكيف يقول: ما أدري ما يفعل بي ولا بكم في الآخرة، وقد أعلمه الله عز وجل بما يؤول إليه أمر الكفار في الآخرة، وهذا مثل قوله: {ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء} الآية [الأعراف: 188] أي: لو علمت الغيب لتحفظت من الضر فلم يلحقني في الدنيا ضر، قال: فالظاهر أن الآية محكمة، نزلت في أمور الدنيا.
وأقول مستعينا بالله: إن الآية محكمة على كل حال: قول مكي إن نسخها إنما يجوز على قول من قال: ما يفعل بي ولا بكم في الآخرة دون الدنيا؛ لأن الله قد أعلمه أنه مغفور له في الآخرة فليست بمنسوخة، وإن كان الله عز وجل قد أعلمه بذلك؛ لأن المعنى: إني لا أعلم من الأمور شيئا إلا ما أعلمني به الله عز وجل، ويدل على ذلك قوله عز وجل:
{إن أتبع إلا ما يوحى إلي} الآية [الأحقاف: 9] وليس لي من علم الغيب شيء؛ لأنهم كانوا يسألونه عن المغيبات، فأمر بأن يقول: ما أنا ببدع من الرسل خارج عما كانوا عليه، إذ كانوا إنما يفوهون بما يوحى إليهم ولا يخبرون بغير ذلك.
{قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي} الآية [يونس: 15] فإعلامه بعد ذلك بما يكون منه في الآخرة لا يكون ناسخا لهذا.
وأما قول هبة الله: فقال المشركون، وقال المؤمنون: فما يكون منا؟ فأنزل الله عز وجل كذا وكذا إلى آخر ما ذكره فكلام غير مستقيم: أما ما ذكره عن المؤمنين وما أنزل فيهم من قوله عز وجل: {وبشر المؤمنين} الآية [الأحزاب: 47] فلا يكون ناسخا لهذه الآية؛ لأن قوله عز وجل: {قل ما كنت بدعا من الرسل..} الآية [الأحقاف: 9] إنما هو خطاب للمشركين فكيف ينسخه: {وبشر المؤمنين} الآية [الأحزاب: 47]، وكذلك قوله في المنافقين.
وأما ما ذكره عن المشركين في قوله عز وجل: {والمشركين والمشركات...} الآية [الفتح: 6] فليس بناسخ لهذه الآية؛ لأن الإعلام وقع بتعذيب المشركين والمشركات ولم يقع بتعذيب المخاطبين ولا أعلم بما يفعل بهم، ولقد آمن منهم جمع كثير وعدد كثير، فليس في الإعلام بتعذيب الكافرين والمنافقين وفوز المؤمنين ونعيمهم في الآخرة نسخ لقوله سبحانه:
{وما أدري ما يفعل بي ولا بكم} الآية [الأحقاف: 9]؛ لأن ذاك إعلام بعاقبة الفريقين من المؤمنين وغيرهم، وهذا خطاب لقوم لا يدرى من أي الفريقين هم في الآخرة ). [جمال القراء: 1/367-364]

روابط ذات صلة:
- أقوال المفسرين


رد مع اقتباس