عرض مشاركة واحدة
  #10  
قديم 28 جمادى الأولى 1435هـ/29-03-2014م, 11:01 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن الثامن الهجري

تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({وإذ قال موسى لقومه إنّ اللّه يأمركم أن تذبحوا بقرةً قالوا أتتّخذنا هزوًا قال أعوذ باللّه أن أكون من الجاهلين (67)}
يقول تعالى: واذكروا -يا بني إسرائيل-نعمتي عليكم في خرق العادة لكم في شأن البقرة، وبيان القاتل من هو بسببها وإحياء اللّه المقتول، ونصّه على من قتله منهم. [مسألة الإبل تنحر والغنم تذبح واختلفوا في البقر فقيل: تذبح، وقيل: تنحر، والذّبح أولى لنصّ القرآن ولقرب منحرها من مذبحها. قال ابن المنذر: ولا أعلم خلافًا صحيحًا بين ما ينحر أو نحر ما يذبح، غير أنّ مالكًا كره ذلك. وقد يكره الإنسان ما لا يحرّم، وقال أبو عبد اللّه: أعلم أنّ نزول قصّة البقرة على موسى، عليه السّلام، في أمر القتيل قبل نزول القسامة في التّوراة.
بسط القصّة] -كما قال ابن أبي حاتمٍ-: حدّثنا الحسن بن محمّد بن الصّبّاح، حدّثنا يزيد بن هارون، أنبأنا هشام بن حسّان، عن محمّد بن سيرين، عن عبيدة السّلمانيّ، قال: «كان رجلٌ من بني إسرائيل عقيمًا لا يولد له، وكان له مالٌ كثيرٌ، وكان ابن أخيه وارثه، فقتله ثمّ احتمله ليلًا فوضعه على باب رجلٍ منهم، ثمّ أصبح يدّعيه عليهم حتّى تسلّحوا، وركب بعضهم إلى بعضٍ، فقال ذوو الرّأي منهم والنّهى: علام يقتل بعضكم بعضًا وهذا رسول اللّه فيكم؟ فأتوا موسى، عليه السّلام، فذكروا ذلك له، فقال: {إنّ اللّه يأمركم أن تذبحوا بقرةً قالوا أتتّخذنا هزوًا قال أعوذ باللّه أن أكون من الجاهلين}» قال: «فلو لم يعترضوا [البقر] لأجزأت عنهم أدنى بقرةٍ، ولكنّهم شدّدوا فشدّد عليهم، حتّى انتهوا إلى البقرة الّتي أمروا بذبحها فوجدوها عند رجلٍ ليس له بقرةٌ غيرها، فقال: واللّه لا أنقصها من ملء جلدها ذهبًا، فأخذوها بملء جلدها ذهبًا فذبحوها، فضربوه ببعضها فقام فقالوا: من قتلك؟ فقال: هذا، لابن أخيه. ثمّ مال ميّتًا، فلم يعط من ماله شيئًا، فلم يورّث قاتلٌ بعد».
ورواه ابن جريرٍ من حديث أيّوب، عن محمّد بن سيرين، عن عبيدة بنحوٍ من ذلك واللّه أعلم.
ورواه عبد بن حميدٍ في تفسيره: أنبأنا يزيد بن هارون، به.
ورواه آدم بن أبي إياسٍ في تفسيره، عن أبي جعفرٍ -هو الرّازيّ-عن هشام بن حسّان، به. وقال آدم بن أبي إياسٍ في تفسيره: أنبأنا أبو جعفرٍ الرّازيّ، عن الرّبيع، عن أبي العالية، في قول اللّه تعالى: {إنّ اللّه يأمركم أن تذبحوا بقرةً} قال: «كان رجلٌ من بني إسرائيل، وكان غنيًّا، ولم يكن له ولدٌ، وكان له قريبٌ وكان وارثه، فقتله ليرثه، ثمّ ألقاه على مجمع الطّريق، وأتى موسى، عليه السّلام، فقال له: إنّ قريبي قتل وإنّي إلى أمرٍ عظيمٍ، وإنّي لا أجد أحدًا يبيّن [لي] من قتله غيرك يا نبيّ اللّه. قال: فنادى موسى في النّاس، فقال: أنشد اللّه من كان عنده من هذا علمٌ إلّا بيّنه لنا»، [قال]: «فلم يكن عندهم علمٌ، فأقبل القاتل على موسى عليه السّلام، فقال له: أنت نبيّ اللّه فاسأل لنا ربّك أن يبيّن لنا، فسأل ربّه فأوحى اللّه إليه: {إنّ اللّه يأمركم أن تذبحوا بقرةً} فعجبوا من ذلك، فقالوا: {أتتّخذنا هزوًا قال أعوذ باللّه أن أكون من الجاهلين* قالوا ادع لنا ربّك يبيّن لنا ما هي قال إنّه يقول إنّها بقرةٌ لا فارضٌ} يعني: لا هرمةٌ {ولا بكرٌ} يعني: ولا صغيرةٌ {عوانٌ بين ذلك} أي: نصفٌ بين البكر والهرمة {قالوا ادع لنا ربّك يبيّن لنا ما لونها قال إنّه يقول إنّها بقرةٌ صفراء فاقعٌ لونها} أي: صافٍ لونها {تسرّ النّاظرين} أي: تعجب النّاظرين {قالوا ادع لنا ربّك يبيّن لنا ما هي إنّ البقر تشابه علينا وإنّا إن شاء اللّه لمهتدون * قال إنّه يقول إنّها بقرةٌ لا ذلولٌ} أي: لم يذلّلها العمل {تثير الأرض} يعني: وليست بذلولٍ تثير الأرض {ولا تسقي الحرث}»، يقول: «ولا تعمل في الحرث {مسلّمةٌ} يعني: مسلّمةٌ من العيوب {لا شية فيها}»، يقول: «لا بياض فيها {قالوا الآن جئت بالحقّ فذبحوها وما كادوا يفعلون}»، قال: «ولو أنّ القوم حين أمروا أن يذبحوا بقرةً، استعرضوا بقرةً من البقر فذبحوها، لكانت إيّاها، ولكنّهم شدّدوا على أنفسهم فشدّد عليهم، ولولا أنّ القوم استثنوا فقالوا: {وإنّا إن شاء اللّه لمهتدون} لما هدوا إليها أبدًا. فبلغنا أنّهم لم يجدوا البقرة الّتي نعتت لهم إلّا عند عجوزٍ عندها يتامى، وهي القيّمة عليهم، فلمّا علمت أنّه لا يزكو لهم غيرها، أضعفت عليهم الثّمن. فأتوا موسى فأخبروه أنّهم لم يجدوا هذا النّعت إلّا عند فلانةٍ، وأنّها سألتهم أضعاف ثمنها. فقال لهم موسى: إنّ اللّه قد كان خفّف عليكم فشدّدتم على أنفسكم فأعطوها رضاها وحكمها. ففعلوا، واشتروها فذبحوها، فأمرهم موسى، عليه السّلام، أن يأخذوا عظمًا منها فيضربوا به القتيل، ففعلوا، فرجع إليه روحه، فسمّى لهم قاتله، ثمّ عاد ميّتًا كما كان، فأخذ قاتله -وهو الّذي كان أتى موسى فشكا إليه [مقتله] -فقتله اللّه على أسوأ عمله».
وقال محمّد بن جريرٍ: حدّثني ابن سعدٍ حدّثني أبي، حدّثني عمّي، حدّثني أبي، عن أبيه [عن جدّه] عن ابن عبّاسٍ، في قوله في شأن البقرة: «وذلك أنّ شيخًا من بني إسرائيل على عهد موسى، عليه السّلام، كان مكثرًا من المال، وكان بنو أخيه فقراء لا مال لهم، وكان الشّيخ لا ولد له وبنو أخيه ورثته فقالوا: ليت عمّنا قد مات فورثنا ماله، وإنّه لمّا تطاول عليهم ألّا يموت عمّهم، أتاهم الشّيطان فقال لهم: هل لكم إلى أن تقتلوا عمّكم، فترثوا ماله، وتغرموا أهل المدينة الّتي لستم بها ديته، وذلك أنّهما كانتا مدينتين، كانوا في إحداهما وكان القتيل إذا قتل فطرح بين المدينتين قيس ما بين القتيل والقريتين فأيّهما كانت أقرب إليه غرمت الدّية، وأنّهم لمّا سوّل لهم الشّيطان ذلك، وتطاول عليهم ألّا يموت عمّهم عمدوا إليه فقتلوه، ثمّ عمدوا فطرحوه على باب المدينة الّتي ليسوا فيها. فلمّا أصبح أهل المدينة جاء بنو أخي الشّيخ، فقالوا: عمّنا قتل على باب مدينتكم، فواللّه لتغرمنّ لنا دية عمّنا. قال أهل المدينة: نقسم باللّه ما قتلنا ولا علمنا قاتلًا ولا فتحنا باب مدينتنا منذ أغلق حتّى أصبحنا. وإنّهم عمدوا إلى موسى، عليه السّلام، فلمّا أتوه قال بنو أخي الشّيخ: عمّنا وجدناه مقتولًا على باب مدينتهم. وقال أهل المدينة: نقسم باللّه ما قتلناه ولا فتحنا باب المدينة من حين أغلقناه حتّى أصبحنا، وإنّه جبريل جاء بأمر السّميع العليم إلى موسى، عليه السّلام، فقال: قل لهم: {إنّ اللّه يأمركم أن تذبحوا بقرةً} فتضربوه ببعضها».
وقال السّدّيّ: {وإذ قال موسى لقومه إنّ اللّه يأمركم أن تذبحوا بقرةً} قال: «كان رجلٌ من بني إسرائيل مكثرًا من المال وكانت له ابنةٌ، وكان له ابن أخٍ محتاجٌ، فخطب إليه ابن أخيه ابنته، فأبى أن يزوّجه، فغضب الفتى، وقال: واللّه لأقتلنّ عمّي، ولآخذنّ ماله، ولأنكحنّ ابنته، ولآكلنّ ديته. فأتاه الفتى وقد قدم تجّارٌ في بعض أسباط بني إسرائيل، فقال: يا عمّ انطلق معي فخذ لي من تجارة هؤلاء القوم، لعلّي أن أصيب منها فإنّهم إذا رأوك معي أعطوني. فخرج العمّ مع الفتى ليلًا فلمّا بلغ الشّيخ ذلك السّبط قتله الفتى، ثمّ رجع إلى أهله. فلمّا أصبح جاء كأنّه يطلب عمّه، كأنّه لا يدري أين هو، فلم يجده. فانطلق نحوه، فإذا هو بذلك السّبط مجتمعين عليه، فأخذهم وقال: قتلتم عمّي، فأدّوا إليّ ديته فجعل يبكي ويحثو التّراب على رأسه، وينادي: واعماه. فرفعهم إلى موسى، فقضى عليهم بالدّية، فقالوا له: يا رسول اللّه، ادع اللّه لنا حتّى يبيّن لنا من صاحبه، فيؤخذ صاحب الجريمة فواللّه إنّ ديته علينا لهيّنةٌ، ولكنّا نستحيي أن نعيّر به فذلك حين يقول اللّه تعالى: {وإذ قتلتم نفسًا فادّارأتم فيها واللّه مخرجٌ ما كنتم تكتمون} فقال لهم موسى، عليه السّلام: {إنّ اللّه يأمركم أن تذبحوا بقرةً} قالوا: نسألك عن القتيل وعمّن قتله، وتقول: اذبحوا بقرةً. أتهزأ بنا! {قال أعوذ باللّه أن أكون من الجاهلين} قال ابن عبّاسٍ: فلو اعترضوا بقرةً فذبحوها لأجزأت عنهم، ولكنّهم شدّدوا وتعنّتوا [على] موسى فشدّد اللّه عليهم. فقالوا: {ادع لنا ربّك يبيّن لنا ما هي قال إنّه يقول إنّها بقرةٌ لا فارضٌ ولا بكرٌ عوانٌ بين ذلك} والفارض: الهرمة الّتي لا تلد، والبكر الّتي لم تلد إلّا ولدًا واحدًا. والعوان: النّصف الّتي بين ذلك، الّتي قد ولدت وولد ولدها {فافعلوا ما تؤمرون* قالوا ادع لنا ربّك يبيّن لنا ما لونها قال إنّه يقول إنّها بقرةٌ صفراء فاقعٌ لونها}»، قال: «نقيٌّ لونها {تسرّ النّاظرين}»، قال: «تعجب النّاظرين {قالوا ادع لنا ربّك يبيّن لنا ما هي إنّ البقر تشابه علينا وإنّا إن شاء اللّه لمهتدون* قال إنّه يقول إنّها بقرةٌ لا ذلولٌ تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلّمةٌ لا شية فيها} من بياضٍ ولا سوادٍ ولا حمرةٍ {قالوا الآن جئت بالحقّ} فطلبوها فلم يقدروا عليها.
وكان رجلٌ في بني إسرائيل، من أبرّ النّاس بأبيه، وإنّ رجلًا مرّ به معه لؤلؤٌ يبيعه، وكان أبوه نائمًا تحت رأسه المفتاح، فقال له الرّجل: تشتري منّي هذا اللّؤلؤ بسبعين ألفًا؟ فقال له الفتى: كما أنت حتّى يستيقظ أبي فآخذه منك بثمانين ألفًا. فقال الآخر: أيقظ أباك وهو لك بستّين ألفًا، فجعل التّاجر يحطّ له حتّى بلغ ثلاثين ألفًا، وزاد الآخر على أن ينتظر أباه حتّى يستيقظ حتّى بلغ مائة ألفٍ، فلمّا أكثر عليه قال: واللّه لا أشتريه منك بشيءٍ أبدًا، وأبى أن يوقظ أباه، فعوّضه اللّه من ذلك اللّؤلؤ أن جعل له تلك البقرة، فمرّت به بنو إسرائيل يطلبون البقرة وأبصروا البقرة عنده، فسألوه أن يبيعهم إيّاها بقرةً ببقرةٍ، فأبى، فأعطوه ثنتين فأبى، فزادوه حتّى بلغوا عشرًا، فأبى، فقالوا: واللّه لا نتركك حتّى نأخذها منك. فانطلقوا به إلى موسى، عليه السّلام، فقالوا: يا نبيّ اللّه، إنّا وجدناها عند هذا فأبى أن يعطيناها وقد أعطيناه ثمنًا فقال له موسى: أعطهم بقرتك. فقال: يا رسول اللّه، أنا أحقّ بمالي. فقال: صدقت. وقال للقوم: أرضوا صاحبكم، فأعطوه وزنها ذهبًا، فأبى، فأضعفوا له مثل ما أعطوه وزنها، حتّى أعطوه وزنها عشر مرّاتٍ ذهبًا، فباعهم إيّاها وأخذ ثمنها، فذبحوها. قال: اضربوه ببعضها، فضربوه بالبضعة الّتي بين الكتفين، فعاش، فسألوه: من قتلك؟ فقال لهم: ابن أخي، قال: أقتله، فآخذ ماله، وأنكح ابنته. فأخذوا الغلام فقتلوه».
وقال سنيدٌ: حدّثنا حجّاجٌ، هو ابن محمّدٍ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ، وحجّاجٍ، عن أبي معشرٍ، عن محمّد بن كعبٍ القرظيّ ومحمّد بن قيسٍ -دخل حديث بعضهم في حديث بعضٍ-قالوا: «إنّ سبطًا من بني إسرائيل لمّا رأوا كثرة شرور النّاس، بنوا مدينةً فاعتزلوا شرور النّاس، فكانوا إذا أمسوا لم يتركوا أحدًا منهم خارجًا إلّا أدخلوه، وإذا افتتحوا قام رئيسهم فنظر وأشرف، فإذا لم ير شيئًا فتح المدينة، فكانوا مع النّاس حتّى يمسوا»، قال:«وكان رجلٌ من بني إسرائيل له مالٌ كثيرٌ، ولم يكن له وارثٌ غير أخيه، فطال عليه حياته فقتله ليرثه، ثمّ حمله فوضعه على باب المدينة، ثمّ كمن في مكانٍ هو وأصحابه»، قال: «فأشرف رئيس المدينة على باب المدينة فنظر، فلم ير شيئًا ففتح الباب، فلمّا رأى القتيل ردّ الباب، فناداه أخو المقتول وأصحابه: هيهات! قتلتموه ثمّ تردّون الباب. وكان موسى لمّا رأى القتل كثيرًا في أصحابه بني إسرائيل، كان إذا رأى القتيل بين ظهراني القوم أخذهم، فكاد يكون بين أخي المقتول وبين أهل المدينة قتالٌ، حتّى لبس الفريقان السّلاح، ثمّ كفّ بعضهم عن بعضٍ، فأتوا موسى فذكروا له شأنهم. قالوا: يا رسول اللّه، إنّ هؤلاء قتلوا قتيلًا ثمّ ردّوا الباب، وقال أهل المدينة: يا رسول اللّه قد عرفت اعتزالنا الشّرور وبنينا مدينةً، كما رأيت، نعتزل شرور النّاس، واللّه ما قتلنا ولا علمنا قاتلًا. فأوحى اللّه تعالى إليه أن يذبحوا بقرةً فقال لهم موسى: {إنّ اللّه يأمركم أن تذبحوا بقرةً}».
وهذه السّياقات [كلّها] عن عبيدة وأبي العالية والسّدّيّ وغيرهم، فيها اختلافٌ ما، والظّاهر أنّها مأخوذةٌ من كتب بني إسرائيل وهي ممّا يجوز نقلها ولكن لا نصدّق ولا نكذّب فلهذا لا نعتمد عليها إلّا ما وافق الحقّ عندنا، واللّه أعلم). [تفسير ابن كثير: 1 / 293 -298]

تفسير قوله تعالى: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({قالوا ادع لنا ربّك يبيّن لنا ما هي قال إنّه يقول إنّها بقرةٌ لا فارضٌ ولا بكرٌ عوانٌ بين ذلك فافعلوا ما تؤمرون (68) قالوا ادع لنا ربّك يبيّن لنا ما لونها قال إنّه يقول إنّها بقرةٌ صفراء فاقعٌ لونها تسرّ النّاظرين (69)}
أخبر تعالى عن تعنّت بني إسرائيل وكثرة سؤالهم لرسولهم. ولهذا لمّا ضيّقوا على أنفسهم ضيّق عليهم، ولو أنّهم ذبحوا أيّ بقرةٍ كانت لوقعت الموقع عنهم، كما قال ابن عبّاسٍ وعبيدة وغير واحدٍ، ولكنّهم شدّدوا فشدّد عليهم، فقالوا: {ادع لنا ربّك يبيّن لنا ما هي} ما هذه البقرة؟ وأيّ شيءٍ صفتها؟
قال ابن جريرٍ: حدّثنا أبو كريبٍ، حدّثنا عثّام بن عليٍّ، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرٍو، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ، قال: «لو أخذوا أدنى بقرةٍ اكتفوا بها، ولكنّهم شدّدوا فشدّد اللّه عليهم».
إسنادٌ صحيحٌ، وقد رواه غير واحدٍ عن ابن عبّاسٍ. وكذا قال عبيدة، والسّدّيّ، ومجاهدٌ، وعكرمة، وأبو العالية وغير واحدٍ.
وقال ابن جريجٍ: قال [لي] عطاءٌ: «لو أخذوا أدنى بقرةٍ كفتهم». قال ابن جريجٍ: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «إنّما أمروا بأدنى بقرةٍ، ولكنّهم لمّا شدّدوا على أنفسهم شدّد اللّه عليهم؛ وايم اللّه لو أنّهم لم يستثنوا ما بيّنت لهم آخر الأبد».
{قال إنّه يقول إنّها بقرةٌ لا فارضٌ ولا بكرٌ} أي: لا كبيرةً هرمةً ولا صغيرة لم يلحقها الفحل، كما قاله أبو العالية، والسّدّيّ، ومجاهدٌ، وعكرمة، وعطيّة العوفيّ، وعطاءٌ الخراسانيّ ووهب بن منبّهٍ، والضّحّاك، والحسن، وقتادة، وقاله ابن عبّاسٍ أيضًا.
وقال الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ {عوانٌ بين ذلك} [يقول: «نصفٌ] بين الكبيرة والصّغيرة، وهي أقوى ما يكون من الدّوابّ والبقر وأحسن ما تكون». وروي عن عكرمة، ومجاهدٍ، وأبي العالية، والرّبيع بن أنسٍ، وعطاءٍ الخراسانيّ، والضّحّاك نحو ذلك.
وقال السّدّيّ: «العوان: النّصف الّتي بين ذلك الّتي ولدت، وولد ولدها».
وقال هشيمٌ، عن جويبرٍ، عن كثير بن زيادٍ، عن الحسن في البقرة: «كانت بقرةً وحشيّةً».). [تفسير ابن كثير: 1 / 298 -299]

تفسير قوله تعالى: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقال ابن جريجٍ، عن عطاءٍ، عن ابن عبّاسٍ: «من لبس نعلًا صفراء لم يزل في سرورٍ ما دام لابسها، وذلك قوله تعالى: {صفراء فاقعٌ لونها تسرّ النّاظرين}». وكذا قال مجاهدٌ، ووهب بن منبّهٍ: «أنّها كانت صفراء».
وعن ابن عمر: «كانت صفراء الظّلف». وعن سعيد بن جبيرٍ: «كانت صفراء القرن والظّلف».
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا نصر بن عليٍّ، حدّثنا نوح بن قيسٍ، أنبأنا أبو رجاءٍ، عن الحسن في قوله: {بقرةٌ صفراء فاقعٌ لونها} قال: «سوداء شديدة السّواد».
وهذا غريبٌ، والصّحيح الأوّل، ولهذا أكّد صفرتها بأنّه {فاقعٌ لونها}
وقال عطيّة العوفيّ: «{فاقعٌ لونها} تكاد تسودّ من صفرتها».
وقال سعيد بن جبيرٍ: {فاقعٌ لونها} قال: «صافية اللّون». وروي عن أبي العالية، والرّبيع بن أنسٍ، والسّدّيّ، والحسن، وقتادة نحوه.
وقال شريكٌ، عن مغراء عن ابن عمر: {فاقعٌ لونها} قال: «صافٍ».
وقال العوفيّ في تفسيره، عن ابن عبّاسٍ: «{فاقعٌ لونها} شديدة الصّفرة، تكاد من صفرتها تبيضّ».
وقال السّدّيّ: «{تسرّ النّاظرين} أي: تعجب النّاظرين» وكذا قال أبو العالية، وقتادة، والرّبيع بن أنسٍ.
[وفي التّوراة: أنّها كانت حمراء، فلعلّ هذا خطأٌ في التّعريب أو كما قال الأوّل: إنّها كانت شديدة الصّفرة تضرب إلى حمرةٍ وسوادٍ، والله أعلم].
وقال وهب بن منبّهٍ: «إذا نظرت إلى جلدها يخيّل إليك أنّ شعاع الشّمس يخرج من جلدها».). [تفسير ابن كثير: 1 / 299 -300]

تفسير قوله تعالى: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({قالوا ادع لنا ربّك يبيّن لنا ما هي إنّ البقر تشابه علينا وإنّا إن شاء اللّه لمهتدون (70)}
وقوله: {إنّ البقر تشابه علينا} أي: لكثرتها، فميّز لنا هذه البقرة وصفها وحلّها لنا {وإنّا إن شاء اللّه} إذا بيّنتها لنا {لمهتدون} إليها.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أحمد بن يحيى الأوديّ الصّوفيّ، حدّثنا أبو سعيدٍ أحمد بن داود الحدّاد، حدّثنا سرور بن المغيرة الواسطيّ، ابن أخي منصور بن زاذان، عن عبّاد بن منصورٍ، عن الحسن، عن أبي رافعٍ، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «لولا أنّ بني إسرائيل قالوا: {وإنّا إن شاء اللّه لمهتدون} لما أعطوا، ولكن استثنوا».
ورواه الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره من وجهٍ آخر، عن سرور بن المغيرة، عن زاذان، عن عبّاد بن منصورٍ، عن الحسن، عن حديث أبي رافعٍ، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «لولا أنّ بني إسرائيل قالوا: {وإنّا إن شاء اللّه لمهتدون} ما أعطوا أبدًا، ولو أنّهم اعترضوا بقرةً من البقر فذبحوا لأجزأت عنهم، ولكنّهم شدّدوا، فشدّد اللّه عليهم».
وهذا حديثٌ غريبٌ من هذا الوجه، وأحسن أحواله أن يكون من كلام أبي هريرة، كما تقدّم مثله عن السّدّيّ، واللّه أعلم). [تفسير ابن كثير: 1 / 300]

تفسير قوله تعالى: {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآَنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({قال إنّه يقول إنّها بقرةٌ لا ذلولٌ تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلّمةٌ لا شية فيها قالوا الآن جئت بالحقّ فذبحوها وما كادوا يفعلون (71)}
{قال إنّه يقول إنّها بقرةٌ لا ذلولٌ تثير الأرض ولا تسقي الحرث} أي: إنّها ليست مذلّلةً بالحراثة ولا معدّة للسّقي في السّانية، بل هي مكرّمةٌ حسنةٌ صبيحةٌ {مسلّمةٌ} صحيحةٌ لا عيب فيها {لا شية فيها} أي: ليس فيها لونٌ غير لونها.
وقال عبد الرّزّاق، عن معمرٍ، عن قتادة {مسلّمةٌ} يقول: «لا عيب فيها»، وكذا قال أبو العالية والرّبيع، وقال مجاهدٌ: «{مسلّمةٌ} من الشّية».
وقال عطاءٌ الخراسانيّ: «{مسلّمةٌ} القوائم والخلق {لا شية فيها}»، قال مجاهدٌ: «لا بياض ولا سواد». وقال أبو العالية والرّبيع، والحسن وقتادة: «ليس فيها بياضٌ». وقال عطاءٌ الخراسانيّ: {لا شية فيها} قال: «لونها واحدٌ بهيمٌ». وروي عن عطيّة العوفيّ، ووهب بن منبّهٍ، وإسماعيل بن أبي خالدٍ، نحو ذلك. وقال السّدّيّ: «{لا شية فيها} من بياضٍ ولا سوادٍ ولا حمرةٍ»، وكلّ هذه الأقوال متقاربةٌ [في المعنى، وقد زعم بعضهم أنّ المعنى في ذلك قوله تعالى: {إنّها بقرةٌ لا ذلولٌ} ليست بمذلّلةٍ بالعمل ثمّ استأنف فقال: {تثير الأرض} أي: يعمل عليها بالحراثة لكنّها لا تسقي الحرث، وهذا ضعيفٌ؛ لأنّه فسّر الذّلول الّتي لم تذلّل بالعمل بأنّها لا تثير الأرض ولا تسقي الحرث كذا قرّره القرطبيّ وغيره]
{قالوا الآن جئت بالحقّ} قال قتادة: «الآن بيّنت لنا»، وقال عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم: «وقبل ذلك -واللّه -قد جاءهم الحقّ».
{فذبحوها وما كادوا يفعلون} قال الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ: «كادوا ألّا يفعلوا، ولم يكن ذلك الذي أرادوا، لأنّهم أرادوا ألّا يذبحوها».
يعني أنّهم مع هذا البيان وهذه الأسئلة، والأجوبة، والإيضاح ما ذبحوها إلّا بعد الجهد، وفي هذا ذمٌّ لهم، وذلك أنّه لم يكن غرضهم إلّا التّعنّت، فلهذا ما كادوا يذبحونها.
وقال محمّد بن كعبٍ، ومحمّد بن قيسٍ: «{فذبحوها وما كادوا يفعلون} لكثرة ثمنها».
وفي هذا نظرٌ؛ لأنّ كثرة ثمنها لم يثبت إلّا من نقل بني إسرائيل، كما تقدّم من حكاية أبي العالية والسّدّيّ، ورواه العوفيّ عن ابن عبّاسٍ. وقال عبيدة، ومجاهدٌ، ووهب بن منبّهٍ، وأبو العالية، وعبد الرّحمن بن زيد بن أسلم: «إنّهم اشتروها بمالٍ كثيرٍ» وفيه اختلافٌ، ثمّ قد قيل في ثمنها غير ذلك. وقال عبد الرّزّاق: أنبأنا ابن عيينة، أخبرني محمّد بن سوقة، عن عكرمة، قال: «ما كان ثمنها إلّا ثلاثة دنانير» وهذا إسنادٌ جيّدٌ عن عكرمة، والظّاهر أنّه نقله عن أهل الكتاب أيضًا.
وقال ابن جريرٍ: وقال آخرون: لم يكادوا أن يفعلوا ذلك خوف الفضيحة، إن اطّلع اللّه على قاتل القتيل الذي اختصموا فيه.
ولم يسنده عن أحدٍ، ثمّ اختار أنّ الصّواب في ذلك أنّهم لم يكادوا يفعلوا ذلك لغلاء ثمنها، وللفضيحة. وفي هذا نظرٌ، بل الصّواب -واللّه أعلم-ما تقدّم من رواية الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ، على ما وجّهناه. وباللّه التّوفيق.
مسألةٌ: استدلّ بهذه الآية في حصر صفات هذه البقرة حتّى تعيّنت أو تمّ تقييدها بعد الإطلاق على صحّة السّلم في الحيوان كما هو مذهب مالكٍ والأوزاعيّ واللّيث والشّافعيّ وأحمد وجمهور العلماء سلفًا وخلفًا بدليل ما ثبت في الصّحيحين عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: «لا تنعت المرأة المرأة لزوجها كأنّه ينظر إليها». وكما وصف النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم إبل الدّية في قتل الخطأ وشبه العمد بالصّفات المذكورة بالحديث، وقال أبو حنيفة والثّوريّ والكوفيّون: لا يصحّ السّلم في الحيوان لأنّه لا تنضبط أحواله، وحكى مثله عن ابن مسعودٍ وحذيفة بن اليمان وعبد الرّحمن بن سمرة وغيرهم). [تفسير ابن كثير: 1 / 300 -301]

تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({وإذ قتلتم نفسًا فادّارأتم فيها واللّه مخرجٌ ما كنتم تكتمون (72) فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي اللّه الموتى ويريكم آياته لعلّكم تعقلون (73)}
قال البخاريّ: {فادّارأتم} اختلفتم. وهكذا قال مجاهدٌ فيما رواه ابن أبي حاتمٍ، عن أبيه، عن أبي حذيفة، عن شبل عن ابن أبي نجيح، عن مجاهدٍ، أنّه قال في قوله تعالى: {وإذ قتلتم نفسًا فادّارأتم فيها} «اختلفتم».
وقال عطاءٌ الخراساني، والضّحّاك: «اختصمتم فيها». وقال ابن جريجٍ {وإذ قتلتم نفسًا فادّارأتم فيها} قال: «قال بعضهم أنتم قتلتموه».
وقال آخرون: بل أنتم قتلتموه. وكذا قال عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم.
{واللّه مخرجٌ ما كنتم تكتمون} قال مجاهدٌ: «ما تغيبون». وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا عمرو بن مسلمٍ البصريّ، حدّثنا محمّد بن الطّفيل العبديّ، حدّثنا صدقة بن رستم، سمعت المسيّب بن رافعٍ يقول: «ما عمل رجلٌ حسنةً في سبعة أبياتٍ إلّا أظهرها اللّه، وما عمل رجلٌ سيّئةً في سبعة أبياتٍ إلّا أظهرها اللّه، وتصديق ذلك في كلام اللّه: {واللّه مخرجٌ ما كنتم تكتمون* فقلنا اضربوه ببعضها}». هذا البعض أيّ شيءٍ كان من أعضاء هذه البقرة فالمعجزة حاصلةٌ به.). [تفسير ابن كثير: 1 / 302]

تفسير قوله تعالى: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({فقلنا اضربوه ببعضها} هذا البعض أيّ شيءٍ كان من أعضاء هذه البقرة فالمعجزة حاصلةٌ به.
وخرق العادة به كائنٌ، وقد كان معيّنًا في نفس الأمر، فلو كان في تعيينه لنا فائدةٌ تعود علينا في أمر الدّين أو الدّنيا لبيّنه اللّه تعالى لنا، ولكن أبهمه، ولم يجئ من طريقٍ صحيحٍ عن معصومٍ بيانه فنحن نبهمه كما أبهمه اللّه.
ولهذا قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أحمد بن سنانٍ، حدّثنا عفّان بن مسلمٍ، حدّثنا عبد الواحد بن زيادٍ حدّثنا الأعمش، عن المنهال بن عمرٍو، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ، قال: «إنّ أصحاب بقرة بني إسرائيل طلبوها أربعين سنةً حتّى وجدوها عند رجلٍ في بقرٍ له، وكانت بقرةً تعجبه»، قال: «فجعلوا يعطونه بها فيأبى، حتّى أعطوه ملء مسكها دنانير، فذبحوها، فضربوه -يعني القتيل-بعضوٍ منها، فقام تشخب أوداجه دمًا [فسألوه] فقالوا له: من قتلك؟ قال: قتلني فلانٌ».
وكذا قال الحسن، وعبد الرّحمن بن زيد بن أسلم: «إنّه ضرب ببعضها».
وفي روايةٍ عن ابن عبّاسٍ: «إنّهم ضربوه بالعظم الذي يلي الغضروف».
وقال عبد الرّزّاق: أنبأنا معمر، قال: قال أيّوب، عن ابن سيرين، عن عبيدة: ضربوا القتيل ببعض لحمها. وقال معمرٌ: قال قتادة: «فضربوه بلحم فخذها فعاش، فقال: قتلني فلانٌ».
وقال أبو أسامة، عن النّضر بن عربيٍّ، عن عكرمة: {فقلنا اضربوه ببعضها} [قال] «فضرب بفخذها فقام، فقال: قتلني فلانٌ».
قال ابن أبي حاتمٍ: وروي عن مجاهدٍ، وقتادة، نحو ذلك.
وقال السّدّيّ: «فضربوه بالبضعة التي بين الكتفين فعاش، فسألوه، فقال: قتلني ابن أخي».
وقال أبو العالية: «أمرهم موسى، عليه السّلام، أن يأخذوا عظمًا من عظامها، فيضربوا به القتيل، ففعلوا، فرجع إليه روحه، فسمّى لهم قاتله ثمّ عاد ميّتًا كما كان».
وقال عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم: «فضربوه ببعض آرابها». [وقيل: بلسانها، وقيل: بعجب ذنبها].
وقوله: {كذلك يحيي اللّه الموتى} أي: فضربوه فحيي. ونبّه تعالى على قدرته وإحيائه الموتى بما شاهدوه من أمر القتيل: جعل تبارك وتعالى ذلك الصّنع حجّةً لهم على المعاد، وفاصلًا ما كان بينهم من الخصومة والفساد، واللّه تعالى قد ذكر في هذه السّورة ما خلقه في إحياء الموتى، في خمسة مواضع: {ثمّ بعثناكم من بعد موتكم} [البقرة: 56]. وهذه القصّة، وقصّة الّذين خرجوا من ديارهم وهم ألوفٌ حذر الموت، وقصّة الذي مرّ على قريةٍ وهي خاويةٌ على عروشها، وقصّة إبراهيم والطّيور الأربعة.
ونبّه تعالى بإحياء الأرض بعد موتها على إعادة الأجسام بعد صيرورتها رميمًا، كما قال أبو داود الطّيالسيّ: حدّثنا شعبة، أخبرني يعلى بن عطاءٍ، قال: سمعت وكيع بن عدس، يحدّث عن أبي رزين العقيلي، قال: قلت: يا رسول اللّه، كيف يحيي اللّه الموتى؟ قال: «أما مررت بوادٍ ممحل، ثمّ مررت به خضرًا؟ » قال: بلى. قال: «كذلك النّشور». أو قال: «كذلك يحيي اللّه الموتى». وشاهد هذا قوله تعالى: {وآيةٌ لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبًّا فمنه يأكلون* وجعلنا فيها جنّاتٍ من نخيلٍ وأعنابٍ وفجّرنا فيها من العيون* ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم أفلا يشكرون} [يس:33-35].
مسألةٌ: استدلّ لمذهب مالكٍ في كون قول الجريح: فلانٌ قتلني لوثًا بهذه القصّة؛ لأنّ القتيل لمّا حيي سئل عمّن قتله فقال: قتلني فلانٌ، فكان ذلك مقبولًا منه؛ لأنّه لا يخبر حينئذٍ إلّا بالحقّ، ولا يتّهم والحالة هذه، ورجّحوا ذلك بحديث أنسٍ: «أن يهوديًّا قتل جاريةً على أوضاحٍ لها، فرضخ رأسها بين حجرين فقيل: من فعل بك هذا؟ أفلانٌ؟ أفلانٌ؟ حتّى ذكر اليهوديّ، فأومأت برأسها، فأخذ اليهوديّ، فلم يزل به حتّى اعترف، فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أن يردّ رأسه بين حجرين». وعند مالكٍ: إذا كان لوثًا حلف أولياء القتيل قسامةً، وخالف الجمهور في ذلك ولم يجعلوا قول القتيل في ذلك لوثًا). [تفسير ابن كثير: 1 / 302 -304]

تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({ثمّ قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشدّ قسوةً وإنّ من الحجارة لما يتفجّر منه الأنهار وإنّ منها لما يشّقّق فيخرج منه الماء وإنّ منها لما يهبط من خشية اللّه وما اللّه بغافلٍ عمّا تعملون (74)}
يقول تعالى توبيخًا لبني إسرائيل، وتقريعًا لهم على ما شاهدوه من آيات اللّه تعالى، وإحيائه الموتى: {ثمّ قست قلوبكم من بعد ذلك} كلّه {فهي كالحجارة} التي لا تلين أبدًا. ولهذا نهى اللّه المؤمنين عن مثل حالهم فقال: {ألم يأن للّذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر اللّه وما نزل من الحقّ ولا يكونوا كالّذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثيرٌ منهم فاسقون} [الحديد: 16].
وقال العوفيّ، في تفسيره، عن ابن عبّاسٍ: «لمّا ضرب المقتول ببعض البقرة جلس أحيا ما كان قطّ، فقيل له: من قتلك؟ فقال: بنو أخي قتلوني. ثمّ قبض. فقال بنو أخيه حين قبض: واللّه ما قتلناه، فكذّبوا بالحقّ بعد إذا رأوا. فقال اللّه: {ثمّ قست قلوبكم من بعد ذلك} يعني: بني أخي الشّيخ {فهي كالحجارة أو أشدّ قسوةً} فصارت قلوب بني إسرائيل مع طول الأمد قاسيةً بعيدةً عن الموعظة بعد ما شاهدوه من الآيات والمعجزات فهي في قسوتها كالحجارة التي لا علاج للينها أو أشدّ قسوةً من الحجارة، فإنّ من الحجارة ما تتفجّر منها العيون الجارية بالأنهار، ومنها ما يشّقّق فيخرج منه الماء، وإن لم يكن جاريًا، ومنها ما يهبط من رأس الجبل من خشية اللّه، وفيه إدراكٌ لذلك بحسبه، كما قال: {تسبّح له السّماوات السّبع والأرض ومن فيهنّ وإن من شيءٍ إلا يسبّح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنّه كان حليمًا غفورًا} [الإسراء: 44].
وقال ابن أبي نجيح، عن مجاهدٍ أنّه كان يقول: «كلّ حجرٍ يتفجّر منه الماء، أو يتشقّق عن ماءٍ، أو يتردّى من رأس جبلٍ، لمن خشية اللّه، نزل بذلك القرآن».
وقال محمّد بن إسحاق: حدّثني محمّد بن أبي محمّدٍ، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عبّاسٍ: «{وإنّ من الحجارة لما يتفجّر منه الأنهار وإنّ منها لما يشّقّق فيخرج منه الماء وإنّ منها لما يهبط من خشية اللّه} أي وإنّ من الحجارة لألين من قلوبكم عمّا تدعون إليه من الحقّ {وما اللّه بغافلٍ عمّا تعملون}».
[وقال أبو عليٍّ الجبائيّ في تفسيره: {وإنّ منها لما يهبط من خشية اللّه} هو سقوط البرد من السّحاب. قال القاضي الباقلّانيّ: وهذا تأويلٌ بعيدٌ وتبعه في استبعاده فخر الدّين الرّازيّ وهو كما قالا؛ فإنّ هذا خروجٌ عن ظاهر اللّفظ بلا دليلٍ، واللّه أعلم].
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا هشام بن عمّارٍ، حدّثنا الحكم بن هشامٍ الثّقفيّ، حدّثني يحيى بن أبي طالبٍ -يعني يحيى بن يعقوب-في قوله تعالى: {وإنّ من الحجارة لما يتفجّر منه الأنهار} قال: «هو كثرة البكاء» {وإنّ منها لما يشّقّق فيخرج منه الماء} قال: «قليل البكاء» {وإنّ منها لما يهبط من خشية اللّه} قال: «بكاء القلب، من غير دموع العين».
وقد زعم بعضهم أنّ هذا من باب المجاز؛ وهو إسناد الخشوع إلى الحجارة كما أسندت الإرادة إلى الجدار في قوله: {يريد أن ينقضّ} قال الرّازيّ والقرطبيّ وغيرهما من الأئمّة: ولا حاجة إلى هذا فإنّ اللّه تعالى يخلق فيها هذه الصّفة كما في قوله تعالى: {إنّا عرضنا الأمانة على السّماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها} الآية، وقال: {والنّجم والشّجر يسجدان} و {أولم يروا إلى ما خلق اللّه من شيءٍ يتفيّأ ظلاله} الآية، {قالتا أتينا طائعين} {لو أنزلنا هذا القرآن على جبلٍ} الآية، {وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا اللّه} الآية، وفي الصّحيح: «هذا جبلٌ يحبّنا ونحبّه».، وكحنين الجذع المتواتر خبره، وفي صحيح مسلمٍ: «إنّي لأعرف حجرًا بمكّة كان يسلّم عليّ قبل أن أبعث إنّي لأعرفه الآن». وفي صفة الحجر الأسود أنّه يشهد لمن استلمه بحقٍّ يوم القيامة، وغير ذلك ممّا في معناه. وحكى القرطبيّ قولًا أنّها للتّخيير؛ أي مثلًا لهذا وهذا وهذا مثل جالس الحسن أو ابن سيرين.. وكذا حكاه الرّازيّ في تفسيره وزاد قولًا آخر: إنّها للإبهام بالنّسبة إلى المخاطب كقول القائل أكلت خبزًا أو تمرًا، وهو يعلم أيّهما أكل، وقال آخر: إنّها بمعنى قول القائل كل حلوًا أو حامضًا؛ أي لا يخرج عن واحدٍ منهما؛ أي وقلوبكم صارت كالحجارة أو أشدّ قسوةً منها لا تخرج عن واحدٍ من هذين الشّيئين. واللّه أعلم.
تنبيهٌ:
اختلف علماء العربيّة في معنى قوله تعالى: {فهي كالحجارة أو أشدّ قسوةً} بعد الإجماع على استحالة كونها للشّكّ، فقال بعضهم: "أو" هاهنا بمعنى الواو، تقديره: فهي كالحجارة وأشدّ قسوةً كقوله تعالى: {ولا تطع منهم آثمًا أو كفورًا} [الإنسان: 24]، وكما قال النّابغة الذّبياني:

قالت ألا ليتما هذا الحمام لنا ....... إلى حمامتنا أو نصفه فقد

تريد: ونصفه، قاله ابن جريرٍ. وقال جرير بن عطيّة:

نال الخلافة أو كانت له قدرًا ....... كما أتى ربّه موسى على قدر

قال ابن جريرٍ: يعني نال الخلافة، وكانت له قدرًا.
وحكى القرطبيّ قولًا أنّها للتّخيير في مفهومها بهذا أو بهذا مثل جالس الحسن أو ابن سيرين، وكذا حكاه فخر الدّين في تفسيره وزاد قولًا آخر وهو: أنّها للإبهام وبالنّسبة إلى المخاطب، كقول القائل: أكلت خبزًا أو تمرًا وهو يعلم أيّهما أكل، وقولًا آخر وهو أنّها بمعنى قول القائل: أكلي حلوٌ أو حامضٌ، أي: لا يخرج عن واحدٍ منهما، أي: وقلوبكم صارت في قسوتها كالحجارة أو أشدّ قسوةً منها لا يخرج عن واحدٍ من هذين الشّيئين واللّه أعلم.
وقال آخرون: "أو" هاهنا بمعنى بل، تقديره فهي كالحجارة بل أشدّ قسوةً، وكقوله: {إذا فريقٌ منهم يخشون النّاس كخشية اللّه أو أشدّ خشيةً} [النّساء: 77] {وأرسلناه إلى مائة ألفٍ أو يزيدون} [الصّافّات: 147] {فكان قاب قوسين أو أدنى} [النّجم: 9] وقال آخرون: معنى ذلك {فهي كالحجارة أو أشدّ قسوةً} عندكم. حكاه ابن جريرٍ.
وقال آخرون: المراد بذلك الإبهام على المخاطب، كما قال أبو الأسود:

أحبّ محمّدًا حبا شديدًا ....... وعبّاسا وحمزة والوصيّا
فإن يك حبّهم رشدًا أصبه ....... ولست بمخطئٍ إن كان غيّا

قال ابن جريرٍ: قالوا: ولا شكّ أنّ أبا الأسود لم يكن شاكًّا في أنّ حبّ من سمّى رشدٌ، ولكنّه أبهم على من خاطبه، قال: وقد ذكر عن أبي الأسود أنّه لمّا قال هذه الأبيات قيل له: شككت؟ فقال: كلّا واللّه. ثمّ انتزع بقول اللّه تعالى: {وإنّا أو إيّاكم لعلى هدًى أو في ضلالٍ مبينٍ}فقال: أو كان شاكًّا من أخبر بهذا في الهادي منهم من الضّلال ؟
وقال بعضهم: معنى ذلك: فقلوبكم لا تخرج عن أحد هذين المثلين، إمّا أن تكون مثل الحجارة في القسوة وإمّا أن تكون أشدّ منها قسوةً.
قال ابن جريرٍ: ومعنى ذلك على هذا التّأويل: فبعضها كالحجارة قسوةً، وبعضها أشدّ قسوةً من الحجارة. وقد رجّحه ابن جريرٍ مع توجيه غيره.
قلت: وهذا القول الأخير يبقى شبيهًا بقوله تعالى: {مثلهم كمثل الّذي استوقد نارًا} [البقرة: 17] مع قوله: {أو كصيّبٍ من السّماء} [البقرة: 19] وكقوله: {والّذين كفروا أعمالهم كسرابٍ بقيعةٍ} [النّور: 39] مع قوله: {أو كظلماتٍ في بحرٍ لجّيٍّ} [النّور: 40]، الآية أي: إنّ منهم من هو هكذا، ومنهم من هو هكذا، واللّه أعلم.
قال الحافظ أبو بكر بن مردويه: حدّثنا محمّد بن أحمد بن إبراهيم، حدّثنا محمّد بن أيّوب، حدّثنا محمّد بن عبد اللّه بن أبي الثّلج، حدّثنا عليّ بن حفصٍ، حدّثنا إبراهيم بن عبد اللّه بن حاطبٍ، عن عبد اللّه بن دينارٍ، عن ابن عمر أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «لا تكثروا الكلام بغير ذكر اللّه، فإنّ كثرة الكلام بغير ذكر اللّه قسوة القلب، وإنّ أبعد النّاس من اللّه القلب القاسي».
رواه التّرمذيّ في كتاب الزّهد من جامعه، عن محمّد بن عبد اللّه بن أبي الثّلج، صاحب الإمام أحمد، به. ومن وجهٍ آخر عن إبراهيم بن عبد اللّه بن الحارث بن حاطبٍ، به، وقال: غريبٌ لا نعرفه إلّا من حديث إبراهيم.
[وروى البزّار عن أنسٍ مرفوعًا: «أربعٌ من الشّقاء: جمود العين، وقسيّ القلب، وطول الأمل، والحرص على الدنيا».] ). [تفسير ابن كثير: 1 / 304 -306]


رد مع اقتباس