عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 26 ربيع الثاني 1434هـ/8-03-2013م, 03:17 PM
الصورة الرمزية إشراق المطيري
إشراق المطيري إشراق المطيري غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jun 2010
المشاركات: 885
افتراضي

التفسير اللغوي

تفسير قوله تعالى: ({يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {اذكروا نعمتي الّتي أنعمت عليكم...}
المعنى: لا تنسوا نعمتي، لتكن منكم على ذكر، وكذلك كل ما جاء من ذكر النعمة فإن معناه -والله أعلم- على هذا: فاحفظوا ولا تنسوا. وفي حرف عبد الله: "ادّكروا". وفي موضع آخر: "وتذكّروا ما فيه"، ومثله في الكلام أن تقول: "اذكر مكاني من أبيك".
وأمّا نصب الياء من "نعمتي"؛ فإن كل ياء كانت من المتكلم ففيها لغتان: الإرسال والسّكون، والفتح، فإذا لقيتها ألفٌ ولام، اختارت العرب اللغة التي حرّكت فيها الياء وكرهوا الأخرى؛ لان اللاّم ساكنة فتسقط الياء عندها لسكونها، فاستقبحوا أن يقولوا: (نعمتي التي)، فتكون كأنها مخفوضة على غير إضافة، فأخذوا بأوثق الوجهين وأبينهما.
وقد يجوز إسكانها عند الألف واللام؛ وقد قال الله: {يا عبادي الّذين أسرفوا على أنفسهم} فقرئت بإرسال الياء ونصبها، وكذلك ما كان في القرآن مما فيه ياء ثابتة ففيه الوجهان، وما لم تكن فيه الياء لم تنصب.
وأمّا قوله: {فبشّر عباد * الّذين يستمعون القول} فإن هذه بغير ياء، فلا تنصب ياؤها وهي محذوفة؛ وعلى هذا يقاس كل ما في القرآن منه، وقوله: {فما آتاني اللّه خيرٌ ممّا آتاكم} زعم الكسائيّ أن العرب تستحبّ نصب الياء عند كل ألف مهموزة سوى الألف واللام، مثل قوله: {إن أجري إلاّ على اللّه} و{إنّي أخاف اللّه} ولم أر ذلك عند العرب؛ رأيتهم يرسلون الياء فيقولون: "عندي أبوك"، ولا يقولون: "عنديَ أبوك" بتحريك الياء إلا أن يتركوا الهمز فيجعلوا الفتحة في الياء في هذا ومثله. وأما قولهم: "لي ألفان"، و"بي أخواك كفيلان"، فإنهم ينصبون في هذين لقلتهما، فيقولون: "ليَ أخواك"، و"لي ألفان"، لقلتهما، والقياس فيهما وفيما قبلهما واحد). [معاني القرآن: 1/ 29-30]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي الّتي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإيّاي فارهبون}
أما قوله: {يا بني إسرائيل} فمن العرب من يهمز ومنهم من لا يهمز، ومنهم من يقول: (إسرائل)، يحذف الياء التي بعد الهمزة ويفتح الهمزة ويكسرها.
باب المجازاة:
فأما قوله: {وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم} فإنما جزم الآخر؛ لأنه جواب الأمر، وجواب الأمر مجزوم مثل جواب ما بعد حروف المجازاة، كأنه تفسير "إن تفعلوا أوف بعهدكم"، وقال في موضع آخر: {ذرونا نتّبعكم} وقال: {فذرهم في خوضهم يلعبون} فلم يجعله جواباً، ولكنه كأنهم كانوا يلعبون فقال: "ذرهم في حال لعبهم"، وقال: {ذرهم يأكلوا ويتمتّعوا ويلههم الأمل} وليس من أجل الترك يكون ذلك، ولكن قد علم الله أنه يكون وجرى على الإعراب، كأنه قال: "إن تركتهم ألهاهم الأمل"، وهم كذلك تركهم أو لم يتركهم، كما أن بعض الكلام يعرف لفظه، والمعنى على خلاف ذلك، وكما أن بعضهم يقول: "كذب عليكم الحجّ". فـ"الحجّ" مرفوع وإنما يريدون أن يأمروا بالحج، قال الشاعر:

كذب العتيق وماء شنٍّ باردٍ ........ إن كنت سائلتي غبوقاً فاذهبي
وقال:
وذبيانيةٌٍ توصي بنيها ........ ألا كذب القراطف والقروف
قال أبو عبد الله: "القراطف"، واحدها "قرطفٌ" وهو: كل ما له خملٌ من الثياب، و"القروف" واحدها "قرفٌ" وهو: وعاءٌ من جلود الإبل كانوا يغلون اللحم ويحملونه فيه في أسفارهم.
ويقولون: "هذا جحر ضبٍّ خربٍ" والخرب هو: الجحر، ويقولون: "هذا حبّ رمّاني"، فيضيف الرمّان إليه وإنما له الحبّ، وهذا في الكلام كثير.
وقوله: {قل لّلّذين آمنوا يغفروا للّذين لا يرجون أيّام اللّه} و{وقل لّعبادي يقولوا الّتي هي أحسن} فأجراه على اللفظ حتى صار جواباً للأمر، وقد زعم قوم: إن هذا إنما هو على "فليغفروا" و"قل لعبادي فليقولوا"، وهذا لا يضمر كله -يعني: الفاء واللام- ولو جاز هذا لجاز قول الرجل: "يقم زيدٌ"، وهو يريد "ليقم زيدٌ"، وهذه الكلمة أيضاً أمثل؛ لأنك لم تضمر فيها الفاء مع اللام.
وقد زعموا أن اللام قد جاءت مضمرة، قال الشاعر:

محمّد تفد نفسك كلّ نفسٍ ........ إذا ما خفت من شيءٍ تبالا
يريد: "لتفد"، وهذا قبيح.
وقال: "تق اللّه امرؤٌ فعل كذا وكذا" ومعناه: "ليتّق اللّه". فاللفظ يجيء كثيرا مخالفاً للمعنى. وهذا يدل عليه. قال الشاعر في ضمير اللام:

على مثل أصحاب البعوضة فاخمشي ........ لك الويل حرّ الوجه أو يبك من بكى
يريد "ليبك من بكى" فحذف، وسمعت من العرب من ينشد هذا البيت بغير لام:
فيبك على المنجاب أضياف قفرةٍ ........ سروا وأسارى لم تفكّ قيودها
يريد: "فليبك"، فحذف اللام.
باب تفسير أنا وأنت وهو:
وأما قوله: {وإيّاي فارهبون} و{وإيّاي فاتّقون} فقال: {وإيّاي} وقد شغلت الفعل بالاسم المضمر الذي بعده الفعل؛ لأن كل ما كان من الأمر والنهي في هذا النحو فهو منصوب نحو قولك: "زيداً فاضرب أخاه"؛ لأن الأمر والنهي مما يضمران كثيراً، ويحسن فيهما الإضمار، والرفع أيضاً جائز على أن لا يضمر. قال الشاعر:


وقائلةٍ خولان فانكح فتاتهم ........ وأكرومة الحيّين خلّو كما هيا
وأما قوله: {الزّانية والزّاني فاجلدوا كلّ واحدٍ مّنهما} و{والسّارق والسّارقة فاقطعوا أيديهما} فزعموا -والله أعلم- أن هذا على الوحي، كأنه يقول "وممّا أقصّ عليكم الزانية والزاني، والسارقة والسارق" ثم جاء بالفعل من بعد ما أوجب الرفع على الأول على الابتداء وهذا على المجاز؛ كأنه قال "أمر السارق والسارقة وشأنهما مما نقصّ عليكم"، ومثله قوله: {مّثل الجنّة الّتي وعد المتّقون} ثم قال: {فيها أنهارٌ مّن مّاءٍ}، كأنه قال: "وممّا أقصّ عليكم مثل الجنة" ثم أقبل يذكر ما فيها بعد أن أوجب الرفع في الأول على الابتداء. وقد قرأها قوم نصباً إذ كان الفعل يقع على ما هو من سبب الأول، وهو في الأمر والنهي، وكذلك ما وقع عليه حرف الاستفهام نحو قوله: {أبشراً منّا واحداً نتّبعه}، وإنما فعل هذا في حروف الاستفهام؛ أنه إذا كان بعده اسم وفعل كان أحسن أن يبتدئ بالفعل قبل الاسم، فإن بدأت بالاسم أضمرت له فعلا حتى تحسن الكلام به، وإظهار ذلك الفعل قبيح.
وما كان من هذا في غير الأمر والنهي والاستفهام والنفي؛ فوجه الكلام فيه الرفع، وقد نصبه ناس من العرب كثير، وهذا الحرف قد قرئ نصباً ورفعا ً {وأمّا ثمود فهديناهم}.
وأما قوله: {إنّا كلّ شيءٍ خلقناه بقدرٍ} فهو يجوز فيه الرفع، وهي اللغة الكثيرة غير أن الجماعة اجتمعوا على النصب، وربما اجتمعوا على الشيء كذلك مما يجوز والأصل غيره؛ لأن قولك: "إنّا عبد اللّه ضربناه" مثل قولك: "عبد اللّه ضربناه"؛ لأن معناهما في الابتداء سواء، قال الشاعر:


فأمّا تميمٌ تميمُ بن مرٍّ ........ فألفاهم القوم روبى نياما
وقال:
إذا ابن أبي موسى بلالٌ بلغته ........ فقام بفأسٍ بين وصليك جازر
ويكون فيهما النصب؛ فمن نصب {وأما ثمود} نصب على هذا.
وأما قوله: {يدخل من يشاء في رحمته والظّالمين أعدّ لهم}، وقوله: {أأنتم أشدّ خلقاً أم السّماء بناها} ثم قال: {والأرض بعد ذلك دحاها}، وقال: {الرحمن (1) علّم القرآن (2) خلق الإنسان (3) علّمه البيان} ثم قال: {والسّماء رفعها ووضع الميزان}، وقال: {وكلاًّ ضربنا له الأمثال وكلاًّ تبّرنا تتبيراً} فهذا إنما ينصب، وقد سقط الفعل على الاسم بعده؛ لأن الاسم الذي قبله قد عمل فيه، فأضمرت فعلاً فأعملته فيه حتى يكون العمل من وجه واحد، وكان ذلك أحسن، قال الشاعر:

نغالي اللحم للأضياف نيئاً ........ ونرخصه إذا نضج القدور
يريد "نغالي باللحم"، فإن قلت: {يدخل من يشاء} ليس بنصب في اللفظ، فهو في موضع نصب قد عمل فيه فعل، كما قلت: "مررت بزيدٍ وعمراً ضربته"، كأنك قلت: "مررت زيداً"، وقد يقول هذا بعض الناس، قال الشاعر:

أصبحت لا أحمل السلاح ولا ........ أَمْلِك رأس البعير إن نفرا
والذيب أخشاه إن مررت به
........ وحدي وأخشى الرياح والمطرا
وكلّ هذا يجوز فيه الرفع على الابتداء، والنصب أجود وأكثر.
وأما قوله: {يغشى طائفةً مّنكم وطائفةٌ قد أهمّتهم أنفسهم} فإنما هو على قوله "يغشى طائفةً منكم وطائفةٌ في هذه الحال"، و هذه واو ابتداء لا واو عطف، كما تقول: "ضربت عبد اللّه وزيدٌ قائم". وقد قرئت نصبا لأنها مثل ما ذكرنا، وذلك لأنه قد يسقط الفعل على شيء من سببها وقبلها منصوب بفعل، فعطفتها عليه وأضمرت لها فعلها فنصبتها به، وما ذكرنا في هذا الباب من قوله: {والسّارق والسّارقة فاقطعوا أيديهما} وقوله: {الزّانية والزّاني فاجلدوا} ليس في قوله: {فاقطعوا} و{فاجلدوا} خبر مبتدأ؛ لأن خبر المبتدأ هكذا لا يكون بالفاء، فلو قلت "عبد اللّه فينطلق" لم يحسن، وإنما الخبر هو المضمر الذي فسرت لك من قوله: (ومما نقص عليكم)، وهو مثل قوله:


وقائلةٍ خولان فانكح فتاتهم ........ وأكرومة الحيّين خلوٌ كما هيا
كأنه قال: "هؤلاء خولان"، كما تقول: "الهلال فانظر إليه"، كأنك قلت: "هذا الهلال فانظر إليه" فأضمر الاسم.
فأما قوله: {واللّذان يأتيانها منكم فآذوهما} فقد يجوز أن يكون هذا خبر المبتدأ، لأن "الذي" إذا كان صلته فعل جاز أن يكون خبره بالفاء نحو قول الله عز وجل: {إنّ الّذين توفّاهم الملائكة ظالمي أنفسهم} ثم قال: {فأولئك مأواهم جهنّم}). [معاني القرآن: 1/ 57-62]
قال قطرب محمد بن المستنير البصري (ت: 220هـ تقريباً) : (الحسن والأعرج وأبو عمرو {أوف بعهدكم}، من أوفيت.
الزهري "أوف بعهدكم"، من وفيت.
الأعرج "وإياي فارهبون"، و{محياي ومماتي} يسكن الياء؛ وذلك شاذ لا يؤخذ به؛ لأنه يجمع بين ساكنين بغير تثقيل.
وقراءة العامة بالنصب لتحرك الياء لئلا يلتقي ساكنان؛ وهي الجيدة). [معاني القرآن لقطرب: 246]
قال قطرب محمد بن المستنير البصري (ت: 220هـ تقريباً) : (وقوله عز وجل {يا بني إسرائيل} فاسم أعجمي، ولغة: إسرال، وأخرى: إسراين بالنون.
وقال أمية:
لا أرى من يعيشني في حياتي = غير نفسي إلا بني إسرالا
وكذلك إسماعيل، وإسماعين لغة، وإبراهيم وإبراهم.
قال أمية:
مع إبراهم التقي وموسى = وابن يعقوب عصمة في الهزال). [معاني القرآن لقطرب: 302]
قال قطرب محمد بن المستنير البصري (ت: 220هـ تقريباً) : (وأما قوله عز وجل {اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم} فالحال في ياء الإضافة هذه، أنه قد قرأ قوم {لا ينال عهدي الظالمين} و{لكم دينكم ولي دين} والسكون حسن، وكأنه الذي نختار ويكثر؛ كقول الله عز ولج {هؤلاء بناتي هن أطهر لكم} و{هؤلاء ضيفي} بإسكان الياء؛ وهذا غلامي وداري.
وقد قال بعض أهل الحجاز: هذا غلام قد جاء؛ فحذف الياء وحرك بغير ياء؛ وقد ذكرنا ما فيه.
قال الشاعر:
ها إن أحدث ذاك مصرع مالك = سربت دموع بهن فهي سجوم
كسر العين بغير ياء، يريد: دموعي.
فإذا صرت إلى النداء حذف الياء؛ وذلك أكثر وأغلب؛ وذلك قول الله عز وجل {يا رب إن هؤلاء قوم} {يا عباد فاتقون} {يا بني إنها}، ويا غلام أقبل، و{يا أبت لم تعبد}.
[وقال محمد بن صالح في روايته]:
قال أبو علي: وأما قول أبي ذؤيب:
ألكني إليها وخير الرسول أعلمهم بنواحي الخبر
فإنه يريد: خير الرسل، وهو المعنى، والرسالة هاهنا فيها ضعف.
[معاني القرآن لقطرب: 408]
وأما قوله عز وجل {اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم} في ياء الإضافة أنه قد قرأ قوم {لا ينال عهدي الظالمين} ففتحوها و{لكم دينكم ولي دين} هي لغة بني أسد وعليا قيس.
والسكون كأنه أحسن في مثل {هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين} {ولا تخزون في ضيفي أليس منكم} {ولي دين}، وهذا غلامي وداري؛ والسكون لا بأس به.
وقال بعضهم: هذا غلام قد جاء.
فمن قال: غلامي العاقل، و{نعمتي التي} و{من بعدي اسمه}؛ كأنه لما لقيها من الساكن ما يذهبها كرهوا إذهابها فحركوها؛ لأنها علامة للمضاف واسم له؛ فلما كان "هذا غلامي قد جاء" لغة معروفة، كان الساكن إذا لقيها زادها حسنا في التحريك لها، لئلا تذهب؛ وقد قال بعض أهل الحجاز: هذا غلام قد جاء، فحذف الياء وأبقى الكسرى، فدلت على الإضافة.
قال الشاعر:
ها إن أحدث ذاك مصرع مالك = سربت دموع بهن فهي سجوم
يريد: دموعي؛ فحذف الياء.
وقال الآخر:
ومن قبل نادى كل مولى قرابة = فما عطفت مولى عليه العواطف
فكسر بغير ياء، أراد: قبلي.
[معاني القرآن لقطرب: 409]
وقال الآخر:
وقل في سؤال الحي أخبرك عنهم = بعلم ولم يخبرك مثل خبير
يريد: مثلي.
فإذا صرت إلى النداء حذفت الياء وكان الأكثر، وذلك مثل: {يا رب إن قومي} و{يا عباد فاتقون} و{يا بني إنها إن تك} و{يا أبت لم تعبد}، ويا غلام لا تفعل؛ وإنما كان الحذف في النداء أحسن؛ لأن النداء يحذف منه التنوين؛ والتنوين يعاقب المضاف، فحذفت الياء كما حذف التنوين وتركت الكسرة تدل على الإضافة.
ومع ذا، أن النداء قد حذف فيه بعض الاسم في الترخيم، إذا قال: يا حار، يا مال؛ وحذف الاسم كله في: يا افعل، ويا قل خيرًا؛ كأنه قال: يا هذا افعل؛ فكان ذلك مما يحسن حذف الإضافة؛ لأن قائلاً لو قال: إن الاسم غير المنصوب مثل: أحمد وعمر لا تنوين فيه، وأنت إذا أضفت أدخلت الياء، فقلت: أحمدي وعمري؛ فلأن هذا ليس موضع حذف إلا التنوين وحده، وليس كالمنادي؛ لما ذكرنا.
فإن قال قائل: فلم لا حذفوا هاء الإضافة في: يا غلامة ويا صاحبه، فقال: يا غلام ويا صاحب؛ فدلوا بالفتحة على الهاء؟
قيل: لأن الفتحة لا تدل على الهاء وحدها؛ لأنها قد تكون للمظهر أيضًا، في: يا غلام زيد ويا صاحب عمرو، والكسرة في "غلام" لا تكون إلا للياء وحدها؛ فلم يخافوا فيها التباسًا.
وإن أدخلت الياء فلا بأس؛ وهي في النداء مسكنة في لغة بعض قيس وتميم.
[معاني القرآن لقطرب: 410]
قال زهير:
تبصر خليلي هل ترى من ظعائن = تحملن بالعلياء من فوق جرثم
[قال أبو الحسن: إلى هاهنا قول محمد بن صالح؛ وقال: العبدي]:
وإنما كان الحذف في النداء أحسن لأن النداء يحذف منه التنوين، والتنوين معاقب للمضاف، فحذفت الياء كما حذف التنوين، وتركت الكسرة تدل على الإضافة.
وقال رؤية:
يا رب إن أخطأت أو نسيت = .............
وهو يريد: يا ربي.
وبعض العرب يقول على ذلك: يا نفس اصبري؛ يريد: يا نفسي، بالإضافة.
وقالت امرأة جاهلية.
يا عين بكي لمسعود بن شداد = ..............
قال أبو علي: فإن أدخلت الياء في الإضافة، فلا بأس بها.
قال زهير:
تبصر خليلي هل ترى من ظعائن = تحملن بالعلياء من فوق جرثم
[وقالا جميعًا]:
[معاني القرآن لقطرب: 411]
وهي قراءة أهل المدينة وأبي عمرو {يا عبادي}؛ وفي قراءة ابن أبي النجود يحرك الياء {يا عبادي لا خوف عليكم}، وأما {يا أبت لم تعبد} فإنهم يقولون أيضًا: يا أب لا تفعل، ويا أب لا تفعل.
وقال يونس في الأم: يا أم لا تفعلي، وبعض العرب يقول: يا أمه لا تفعلي، وقالوا أيضًا: يا أباه، ويا أماه؛ فقلبوها أيضًا.
وإذا أدخلت ياء الإضافة على ألف ساكنة، وعلى ياء أو واو ساكنتين، حركتها بالفتح؛ لئلا يلتقي ساكنان؛ والفتح أخف فصاروا إليه فأدخلوها على الألف، كقول الله عز وجل {ومحياي ومماتي} و{فمن تبع هداي فلا خوف} وكقوله عز وجل {يا بشراى هذا غلام}.
وقد أبدل بعض العرب من أهل العالية، وبعض فزارة - فيما زعم يونس - من الألف ياء ثم أدغم، وقد فسرنا ذلك.
ومنه قول أبي ذؤيب:
سبقوا هوي وأعنقوا لهواهم = فتخرموا ولكل جنب مصرع
وقول طلحة: بايعت واللج على قفي.
وقال آخر:
يطوف بي عكب في معد = ويطعن بالصملة في قفيا
فإن لم تثأروا لي من عكب = فلا أرويتما أبدا صديا
[معاني القرآن لقطرب: 412]
وهي قراءة ابن أبي إسحاق "فمن تبع هدي" وكذلك عصي وقفي، يريد: عصاي وقفاي.
قال: ولا يقال ذلك في ألف الإعراب، إذا قلت: رجلاي وغلاماي؛ لأن الرفع ينقلب إلى لفظ النصب والخفض فيلتبس.
وحكي عن الأعرج {ومحياي ومماتي} بإسكان ياء الإضافة؛ و"إياي فارهبون} وهذا غير مستحسن، شاذ للجمع بين ساكين ليس أحدهما مثقلاً، كدابة وشابة، إلا أن الأولى ألف وفيها مد، وهو أحسن منه لو كان مع غيرها من حروف المعجم؛ لأن المد واللين الذي فيها كأنه حركة.
وأما الياء فقوله {يا بني لا تدخلوا من باب واحد} {وما أنتم بمصرخي} وكقولك: يا معطي، ويا رامي؛ وكذلك المرفوع بالواو إذا قلت: هؤلاء بني ومسلمي؛ والأصل: بنوي ومسلموي؛ فتنقلب الواو إلى الياء، ثم تدغم فيها.
وأما قراءة الأعمش {وما أنتم بمصرخي} فيكسر، وهي لغة لبني يربوع إدخال ياء أخرى مع ياء الإضافة؛ وذلك رديء مرغوب عنه.
وحكى بعضهم بيت النابغة:
لعمرو علي نعمة بعد نعمة = ووالده ليست بذات عقارب
[معاني القرآن لقطرب: 413]
فأدخل ياء أخرى مع ياء الإضافة.
وقال آخر:
لعمري لأعرابية في عباءة أحب إليي من ذوات المجاسد
أدخل ياء أخرى مع ياء الإضافة.
وقال الأغلب:
ماض إذا ما هم بالمضي = قال لها هل لك يا تافي
بالكسر، والقوافي مكسورة.
وقال بعضهم:
إن بنيي صبية صيفيون = أفلح من كان له ربعيون
كسر، وأدخل ياء عليهم). [معاني القرآن لقطرب: 414]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({وأوفوا بعهدي} أي: أوفوا لي بما قبلتموه من أمري ونهيي.
{أوف بعهدكم} أي: أوف لكم بما وعدتكم على ذلك من الجزاء). [تفسير غريب القرآن: 47]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي الّتي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإيّاي فارهبون (40)}
نصب {بني إسرائيل} لأنه نداء مضاف، وأصل النداء النصب لأن معناه معنى "ناديت" و "دعوت". و"إسرائيل" في موضع خفض إلا إنّه فتح آخره لأنه لا ينصرف، وفيه شيئان يوجبان منع الصرف، وهما أنّه أعجمي وهو معرفة، وإذا كان الاسم كذلك لم ينصرف، إذا جاوز ثلاثة أحرف عند النحويين، وفي قوله: {نعمتي الّتي أنعمت عليكم} وجهان، أجودهما فتح الياء؛ لأنّ الذي بعدها ساكن -وهو لام المعرفة- فاستعمالها كثير في الكلام فاختير فتح الياء معها لالتقاء السّاكنين، ولأن الياء لو لم يكن بعدها ساكن كان فتحها أقوى في اللغة، ويجوز أن تحذف الياء في اللفظ لالتقاء السّاكنين فتقرأ: (نعمت التي) أنعمت بحذف الياء، والاختيار: إثبات الياء وفتحها؛ لأنه أقوى في العربية وأجزل في اللفظ وأتم للثواب؛ لأن القارئ يجازى على كل ما يقرؤه من كتاب اللّه بكل حرف حسنة، فإن إثباته أوجه في اللغة، فينبغي إثباته لما وصفنا.
فأما قوله عزّ وجلّ: {هارون أخي (30) اشدد به أزري (31)}؛ فلم يكثر القراء فتح هذه الياء، وقال أكثرهم بفتحها مع الألف واللام.
ولعمري إن اللام المعرفة أكثر في الاستعمال، ولكني أقول: الاختيار "أخيَ اشدد" بفتح الياء لالتقاء السّاكنين، كما فتحوا مع اللام، لأن اجتماع ساكنين مع اللام وغيرها معنى واحد، وإن حذفت فالحذف جائز حسن، إلا أن الأحسن ما وصفنا.
وأمّا معنى الآية في التذكير بالنعمة، فإنهم ذكروا بما أنعم به على آبائهم من قبلهم، وأنعم به عليهم، والدليل على ذلك قوله: {إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكاً} فالذين صادفهم النبي صلى الله عليه وسلم لم يكونوا أنبياء، وإنّما ذكّروا بما أنعم به على آبائهم وعليهم في أنفسهم وفي آبائهم، وهذا المعنى موجود في كلام العرب معلوم عندها، يفاخر الرجل الرجل فيقول: "هزمناكم يوم ذي قار"، ويقول: "قتلناكم يوم كذا"، معناه: قتل آباؤنا آباءكم.
وقوله عزّ وجلّ: {وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم} معناه -واللّه أعلم- قوله: {وإذ أخذ اللّه ميثاق الّذين أوتوا الكتاب لتبيّننّه للنّاس ولا تكتمونه} فتمام تبيينه أن يخبروا بما فيه من ذكر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وقد بيّنّا ما يدل على ذكر العهد قبل هذا، وفيه كفاية.
وقوله عزّ وجلّ: {وإيّاي فارهبون} نصب بالأمر كأنه في المعنى "أرهبوني" ويكون الثاني تفسير هذا الفعل المضمر، ولو كان في غير القرآن لجاز: "وأنا فارهبون"، ولكن الاختيار في الكلام والقرآن والشعر (وإيّاي فارهبون) حذفت الياء وأصله "فارهبوني"؛ لأنها فاصلة، ومعنى فاصلة رأس آية؛ ليكون النظم على لفظ متسق، ويسمّي أهل اللغة رؤوس الآي: الفواصل، وأواخر الأبيات: القوافي.
ويقال: "وفيت له بالعهد فأنا واف به"، و"أوفيت له بالعهد فأنا موف به". والاختيار: أوفيت، وعليه نزل القرآن كله قال الله عزّ وجلّ: {وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم} وقال: {وأوفوا بعهد اللّه إذا عاهدتم} وقال: {فأوفوا الكيل والميزان}، وكل ما في القرآن بالألف، وقال الشاعر في "أوفيت" و"وفيت"، فجمع بين اللغتين في بيت واحد:

أما ابن عوف فقد أوفى بذمته ........ كما وفى بقلاص النجم حاديها
). [معاني القرآن: 1/ 119-122]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({أَوْفُواْ بِعَهْدِي}: بأمري. {أُوفِ بِعَهْدِكُمْ}: بوعدكم). [العمدة في غريب القرآن: 74]

تفسير قوله تعالى: {وَآَمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً...} وكل ما كان في القرآن من هذا قد نصب فيه الثّمن، وأدخلت الباء في المبيع أو المشترى، فإن ذلك أكثر ما يأتي في الشيئين، لا يكونان ثمناً معلوماً مثل "الدنانير" و"الدراهم"؛ فمن ذلك: اشتريت ثوباً بكساء؛ أيّهما شئت تجعله ثمناً لصاحبه؛ لأنه ليس من الأثمان، وما كان ليس من الأثمان مثل: الرقيق والدّور وجميع العروض فهو على هذا، فإن جئت إلى "الدراهم" و"الدنانير" وضعت الباء في الثّمن، كما قال في سورة يوسف: {وشروه بثمنٍ بخسٍ دراهم معدودةٍ}؛ لأن "الدراهم" ثمنٌ أبداً، والباء إنما تدخل في الأثمان، فذلك قوله: {اشتروا بآيات اللّه ثمناً قليلاً}، {اشتروا الحياة الدّنيا بالآخرة}، {اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة}، فأدخل الباء في أي هذين شئت حتى تصير إلى "الدنانير" و"الدراهم"، فإنك تدخل الباء فيهن مع العروض، فإذا اشتريت أحدهما -يعني: "الدنانير" و"الدراهم"- بصاحبه أدخلت الباء على أيّهما شئت؛ لأن كل واحد منهما في هذا الموضع بيعٌ وثمنٌ، فإن أحببت أن تعرف فرق ما بين العروض وبين "الدراهم"، فإنك تعلم أن من اشترى عبداً بألف درهم معلومة، ثم وجد به عيبا فردّه لم يكن له على البائع أن يأخذ ألفه بعينه، ولكن ألفا. ولو اشترى عبدا بجارية ثم وجد به عيبا لم يرجع بجارية أخرى مثلها، فذلك دليل على أن العروض ليست بأثمان). [معاني القرآن: 1 /30]
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {ولا تكونوا أوّل كافرٍ به...}
فوحّد "الكافر" وقبله جمعٌ، وذلك من كلام العرب فصيحٌ جيدٌ في الاسم إذا كان مشتقّاً من فعل، مثل الفاعل والمفعول؛ يراد به: "ولا تكونوا أوّل من يكفر" فتحذف "من" ويقوم الفعل مقامها، فيؤدّي الفعل عن مثل ما أدّت "من" عنه من التأنيث والجمع وهو في لفظ توحيد، ولا يجوز في مثله من الكلام أن تقول: أنتم أفضل رجلٍ؛ ولا أنتما خير رجل؛ لأن الرجل يثنّى ويجمع ويفرد، فيعرف واحده من جمعه، والقائم قد يكون لشيء ولـ(من) فيؤدّى عنهما وهو موحّد؛ ألا ترى أنك قد تقول: الجيش مقبلٌ والجند منهزمٌ، فتوحّد الفعل لتوحيده، فإذا صرت إلى الأسماء قلت: الجيش رجالٌ والجند رجالٌ؛ ففي هذا تبيان؛ وقد قال الشاعر:

وإذا هم طعموا فألأم طاعم ........ وإذا هم جاعوا فشرّ جياع
فجمعه وتوحيده جائز حسنٌ). [معاني القرآن: 1/ 32-33]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وآمنوا بما أنزلت مصدّقا لما معكم ولا تكونوا أوّل كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإيّاي فاتّقون (41)}
يعني: القرآن، ويكون أيضاً {ولا تكونوا أوّل كافر}: بكتابكم وبالقرآن، إن شئت عادت الهاء على قوله: {لما معكم}، وإنما قيل لهم: {ولا تكونوا أوّل كافر}، لأن الخطاب وقع على حكمائهم فإذا كفروا كفر معهم الأتباع، فلذلك قيل لهم: {ولا تكونوا أوّل كافر}.
فإن قال قائل: كيف تكون الهاء لكتابهم؟
قيل له: إنهم إذا كتموا ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- في كتابهم، فقد كفروا به، كما إنّه من كتم آية من القرآن فقد كفر به.
ومعنى {ولا تكونوا أوّل كافر به} -إذا كان بالقرآن-: لا مؤنة فيه؛ لأنهم يظهرون أنهم كافرون بالقرآن، ومعنى {أوّل كافر}: أول الكافرين.
قال بعض البصريين في هذا قولين:
قال الأخفش: معناه: أول من كفر به، وقال البصريون أيضا: معناه: ولا تكونوا أول فريق كافر به، أي: بالنبي صلى الله عليه وسلم، وكلا القولين صواب حسن.
وقال بعض النحويين: إن هذا إنما يجوز في فاعل ومفعول، تقول: الجيش منهزم، والجيش مهزوم، ولا يجوز فيما ذكر: الجيش رجل، والجيش فرس، وهذا في فاعل ومفعول أبين، لأنك إذا قلت: الجيش منهزم، فقد علم أنك تريد هذا الجيش، فنقطت في لفظه بفاعل؛ لأن المعنى الذي وضع عليه الجيش معنى يدل على جمع، فهو "فعال" و"مفعول" يدل على ما يدل عليه الجيش، وإذا قلت: الجيش رجل، فإنما يكره في هذا أن يتوهم أنك تقلله، فأمّا إذا عرف معناه، فهو سائغ جيد.
تقول: جيشهم إنّما هو فرس ورجل، أي: ليس بكثير الأتباع، فيدل المعنى على أنك تريد: الجيش خيل ورجال، وهذا في "فاعل" و"مفعول" أبين كما وصفنا.
وقوله عزّ وجلّ {أوّل كافر به} اللغة العليا والقدمى: الفتح في الكاف، وهي لغة أهل الحجاز، والإمالة في الكاف أيضاً جيّد بالغ في اللغة؛ لأن فاعلا ً إذا سلم من حروف الإطباق وحروف المستعلية: كانت الإمالة فيه سائغة إلا في لغة أهل الحجاز، والإمالة لغة بني تميم، وغيرهم من العرب، ولسان الناس الذين هم بالعراق جار على لفظ الإمالة، فالعرب تقول: هذا عابد وهو عابد، فيكسرون ما بعدها إلا أن تدخل حروف الإطباق، وهي: الطاء والظاء والصاد والضاد، لا يجوز في قولك: فلان ظالم، "ظالم" ممال، ولا في: طالب، "طالب" ممال، ولا في: صابر، "صابر" ممال، ولا في: ضابط، "ضابط" ممال، وكذلك حروف الاستعلاء وهي: الخاء والغين والقاف، لا يجوز في: غافل، "غافل" ممال، ولا في: خادم، "خادم" ممال، ولا في: قاهر، "قاهر" ممال، وباب الإمالة يطول شرحه إلا أن هذا -في هذا الموضع- هو المقصود وقدر الحاجة). [معاني القرآن: 1/ 122-124]

تفسير قوله تعالى:{وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {ولا تلبسوا الحقّ بالباطل وتكتموا الحقّ وأنتم تعلمون...}
إن شئت جعلت {وتكتموا} في موضع جزم؛ تريد به: ولا تلبسوا الحقّ بالباطل ولا تكتموا الحقّ، فتلقى "لا" لمجيئها في أوّل الكلام، وفي قراءة أبيّ: (ولا تكونوا أوّل كافرٍ به وتشتروا بآياتي ثمناً قليلاً)، فهذا دليلٌ على أنّ الجزم في قوله: {وتكتموا الحقّ} مستقيمٌ صوابٌ، ومثله: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكّام}، وكذلك قوله: {يا أيّها الّذين آمنوا لا تخونوا اللّه والرّسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون}، وإن شئت جعلت هذه الأحرف المعطوفة بالواو نصباً على ما يقول النحويّون من الصّرف؛ فإن قلت: وما الصّرف؟
قلت: أن تأتى بالواو معطوفةً على كلامٍ في أوّله حادثةٌ لا تستقيم إعادتها على ما عطف عليها، فإذا كان كذلك فهو الصّرف؛ كقول الشاعر:


لا تنه عن خلقٍ وتأتي مثله ........ عارٌ عليك إذا فعلت عظيم
ألا ترى أنه لا يجوز إعادة "لا" في "تأتى مثله"؛ فلذلك سمّى صرفاً إذ كان معطوفاً ولم يستقم أن يعاد فيه الحادث الذي قبله، ومثله من الأسماء التي نصبتها العرب، وهي معطوفة على مرفوع قولهم: لو تركت والأسد لأكلك، ولو خلّيت ورأيك لضللت، لمّا لم يحسن في الثاني أن تقول: لو تركت وترك رأيك لضللت؛ تهّيبوا أن يعطفوا حرفاً لا يستقيم فيه ما حدث في الذي قبله.
قال: فإنّ العرب تجيز الرّفع؛ لو ترك عبد الله والأسد لأكله، فهل يجوز في الأفاعيل التي نصبت بالواو على الصّرف أن تكون مردودة على ما قبلها وفيها معنى الصّرف؟
قلت: نعم؛ العرب تقول: لست لأبي إن لم أقتلك أو تذهب نفسي، ويقولون: والله لأضربنّك أو تسبقنّي في الأرض، فهذا مردودٌ على أوّل الكلام، ومعناه : الصّرف؛ لأنهّ لا يجوز على الثاني إعادة الجزم بـ(لم)، ولا إعادة اليمين على: والله لتسبقنّي، فتجد ذلك إذا امتحنت الكلام، والصّرف في غير "لا" كثير إلا أنا أخّرنا ذكره حتى تأتى مواضعه). [معاني القرآن: 1/ 32-33]
قال قطرب محمد بن المستنير البصري (ت: 220هـ تقريباً) : (وقوله عز وجل {ولا تلبسوا الحق بالباطل} يقال: لبس يلبس لبسا: خلط وبدل؛ و{في لبس من خلق جديد} من ذلك). [معاني القرآن لقطرب: 302]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (قوله عزّ وجلّ: {ولا تلبسوا الحقّ بالباطل وتكتموا الحقّ وأنتم تعلمون (42)}
يقال: لبست عليهم الأمر أَلبِسُه، إذا أعمّيته عليهم، ولبست الثوب ألبسه، ومعنى الآية: {لا تلبسوا الحق} و"الحق" ههنا: أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- وما أتى به من كتاب الله -عزّ وجلّ-، وقوله {بالباطل} أي: بما يحرفون.
وقوله عزّ وجلّ: {وأنتم تعلمون} أي: تأتون لبسكم الحق وكتمانه على علم منكم وبصيرة.
وإعراب {ولا تلبسوا} الجزم بالنهي، وعلامة الجزم سقوط النون، أصله: "تلبسون" و"تكتمون"، يصلح أن يكون جزماً على معنى {ولا تكتموا الحق}، ويصلح أن يكون نصباً، وعلامة النصب أيضاً سقوط النون، أما إذا نصبت فعلى معنى الجواب بالواو.
ومذهب الخليل وسيبويه والأخفش وجماعة من البصريين: أن جميع ما انتصب في هذا الباب فبإضمار "أن"، كأنك قلت: لا يكن منكم إلباس الحق وكتمانه، كأنّه قال: وإن تكتموه، ودلّ "تلبسوا" على لبس، كما تقول: من كذب كان شرّا، ودل ما في صدر كلامك على الكذب فحذفته). [معاني القرآن: 1/ 124-125]

تفسير قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)}
قال قطرب محمد بن المستنير البصري (ت: 220هـ تقريباً) : (وقوله {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} فبعض أهل اليمن - وحكيت عن الخليل أيضًا - يقول: الصلوه والزكوه والحيوه واو قبلها فتحة؛ وكأنها أيضًا كتبت بالواو على هذه اللغة.
[معاني القرآن لقطرب: 302]
والمعنى في الصلاة: من صليت؛ أي دعوت؛ وقال الله عز وجل {وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم} كأن المعنى: ادع لهم؛ وقال الأعشى في ذلك:
عليك مثل الذي صليت فاغتمضي = نوما فإن لجنب المرء مضطجعا
أي مثل الذي دعوت.
وقد قال:
تقول بنتي وقد قربت مرتحلا = يا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا
فدعت له.
وقال:
وقابلها الريح في دنها = وصلى على دنها وارتسم
أي دعا.
وصلوت وأتوت: لغة لبعض هذيل.
وقال الشاعر:
يا قوم مالي وأبا ذؤيب
كنت إذا أتوته من غيب
يشم عطفي ويشم ثوبي
وأما الزكاة: فصفوة الشيء، يقولون: أخذ زكاته؛ أي صفوته؛ وكان الكلبي يقول: {الذين لا يؤتون الزكاة} قال: الطاعة). [معاني القرآن لقطرب: 303]


رد مع اقتباس