عرض مشاركة واحدة
  #5  
قديم 14 رمضان 1438هـ/8-06-2017م, 10:45 AM
جمهرة علوم العقيدة جمهرة علوم العقيدة غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: May 2017
المشاركات: 1,193
افتراضي

بَيَانِ دَلالَةِ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} عَلَى تَفَرُّدِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ بِصِفَاتِ الكَمَالِ

قال ابن القيم محمد بن أبي بكر الزرعي الدمشقي (ت:751هـ) كما في المرتبع الأسنى
: (البابُ السادسُ:
فِي بَيَانِ دَلالَةِ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} عَلَى تَفَرُّدِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ بِصِفَاتِ الكَمَالِ.

[اعْلَمْ] (أنَّهُ سُبحانَهُ وصفَ نفسَهُ بأنَّ لهُ المثلَ الأعلى، فقالَ تعالى: {لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)} [النحل: 60]. وقالَ تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)} [الروم: 27].
فجعلَ مَثَلَ السَّوْءِ المتضمِّنَ للعُيُوبِ والنقائصِ وسَلْبِ الكمالِ للمشركينَ وأربابِهم، وأخبرَ أنَّ المثلَ الأعلى المتضمِّنَ لإثباتِ الكمالاتِ كلِّها لهُ وحدَهُ.
ولهذا كانَ المثلُ الأعلى وهوَ أفعلُ تفضيلٍ - أيْ: أعلَى منْ غيرِهِ- فكيفَ يكونُ أعلى وهوَ عدمٌ محضٌ ونفيٌ صِرفٌ، وأيُّ مَثَلٍ أدنى منْ هذا؟! تعالى اللهُ عنْ قولِ المعطِّلينَ عُلُوًّا كبيراً.
فمَثَلُ السَّوْءِ لعادمِ صفاتِ الكمالِ، ولهذا جعَلَهُ مَثَلَ الجاحدينَ لتوحيدِهِ وكلامِهِ وحكمتِهِ؛ لأنَّهُم فقَدُوا الصِّفَاتِ التي مَن اتَّصَفَ بها كانَ كاملاً، وهيَ الإيمانُ والعلمُ والمعرفةُ واليقينُ والعبادةُ للهِ والتوكُّلُ عليهِ، والإنابةُ إليهِ، والزهدُ في الدُّنيا والرغبةُ في الآخرةِ، والصبرُ والرضا والشكرُ، وغيرُ ذلكَ من الصِّفَاتِ التي اتَّصَفَ بها مَنْ آمنَ بالآخرةِ. فلمَّا سُلِبَتْ تلكَ الصِّفَاتُ عنهم - وهيَ صفاتُ كمالٍ - صارَ لهم مَثَلُ السَّوْءِ.
فمَنْ سَلَبَ صفاتِ الكمالِ عنِ اللهِ، وعُلُوَّهُ على خلقِهِ، وكلامَهُ وعِلْمَهُ، وقُدرتَهُ ومشيئتَهُ وحياتَهُ وسائرَ ما وصفَ بهِ نفسَهُ فقدْ جعلَ لهُ مثلَ السَّوْءِ، ونـزَّهَهُ عن المَثَلِ الأعلى.
فإنَّ مثلَ السَّوْءِ هوَ العدمُ وما يستلزمُهُ، وضدُّهُ المثلُ الأعلى وهوَ الكمالُ المطلقُ المتضمِّنُ للأمورِ الوجوديَّةِ والمعاني الثبوتيَّةِ التي كُلَّما كانتْ أكثرَ في الموصوفِ وأكملَ كانَ أعلى منْ غيرِهِ.
ولمَّا كانَ الربُّ تعالى هوَ الأعلى، ووجهُهُ الأعلى، وكلامُهُ الأعلى، وسمعُهُ الأعلى، وبصرُهُ وسائرُ صفاتِهِ عُلْيَا كانَ لهُ المثلُ الأعلى، وكانَ أحقَّ بهِ منْ كلِّ ما سواهُ، بلْ يستحيلُ أنْ يشتركَ في المثلِ الأعلى اثنانِ؛ لأنَّهما إنْ تكَافَآ لمْ يكُنْ أحدُهما أعْلَى من الآخرِ، وإنْ لمْ يتكَافآ فالموصوفُ بالمثلِ الأعلى أحدُهما وحْدَهُ، يستحيلُ أنْ يكونَ لمَنْ لهُ المثلُ الأعلى مِثلٌ أوْ نظيرٌ، وهذا برهانٌ قاطعٌ منْ إثباتِ صفاتِ الكمالِ على استحالةِ التمثيلِ والتشبيهِ، فتأمَّلْهُ فإنَّهُ في غايَةِ الظهورِ والقُوَّةِ.
ونظيرُ هذا القهرُ المُطْلَقُ معَ الوحدةِ، فإنَّهُما متلازمانِ فلا يكونُ القَهَّارُ إلاَّ واحداً؛ إذْ لوْ كانَ معَهُ كُفْؤٌ لهُ فإنْ لمْ يقهرْهُ لمْ يكُنْ قهَّاراً على الإطلاقِ، وإنْ قَهَرَهُ لمْ يكُنْ كُفْؤاً وكانَ القَهَّارُ واحداً.
فتَأَمَّلْ كيفَ كانَ قولُهُ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]. وقولُهُ: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} [الروم: 27] منْ أعظمِ الأدِلَّةِ على ثبوتِ صفاتِ كمالِهِ سُبحانَهُ.
فإنْ قُلْتَ: قدْ فَهِمْتُ هذا وعرَفْتُهُ، فما حقيقةُ المثلِ الأعلى؟
قُلْتُ: قدْ أُشْكِلَ هذا على جماعةٍ من المفسِّرِينَ واستَشْكَلُوا قولَ السلفِ فيهِ، فإنَّ ابنَ عبَّاسٍ وغيرَهُ قالُوا: {مَثَلُ السَّوْءِ} [النحل: 60] العذابُ والنارُ،{وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} [النحل: 60] شهادةُ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ.
وقالَ قتادةُ: هوَ الإخلاصُ والتوحيدُ.
وقالَ الواحديُّ: هذا قولُ المفسِّرِينَ في هذهِ الآيَةِ، ولا أدري لِمَ قيلَ للعذابِ: مَثَلُ السَّوْءِ، وللإخلاصِ: المَثَلُ الأعلى.
قالَ: وقالَ قومٌ: المَثَلُ السَّوْءُ: الصفةُ السَّوْءُ، من احتياجِهم إلى الولدِ، وكراهَتِهِم للإناثِ خوفَ العَيلَةِ والعارِ، وللهِ المثلُ الأعلى: الصفةُ العُلْيَا منْ تنـزُّهِهِ وبرَاءَتِهِ عن الولدِ، قالَ: وهذا قولٌ صحيحٌ، فالمثلُ كثيراً ما يَرِدُ بمعنى الصفةِ، قالَهُ جماعةٌ من المتقدِّمينَ. وقالَ ابنُ كَيْسانَ: مَثَلُ السَّوْءِ ما ضَرَبَ اللهُ للأصنامِ وعَبَدَتِها من الأمثالِ، والمثلُ الأعلى نحوُ قولِهِ: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ} [النور: 35].
وقالَ ابنُ جريرٍ: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} [الروم: 27]، نحوُ قولِهِ هوَ الأطيبُ والأفضلُ والأحسنُ والأجملُ، وذلكَ التوحيدُ والإذعانُ لهُ بأنَّهُ لا إلهَ غيرُهُ.
قُلْتُ: المثلُ الأعلى يتضمَّنُ الصفةَ العُلْيا، وعلمَ العالمينَ بها ووجودَها العلميَّ، والخبرَ عنها وذِكْرَها، وعبادةَ الربِّ سُبحانَهُ بواسطةِ العلمِ والمعرفةِ القائمةِ بقلوبِ عابدِيهِ وذاكرِيهِ، فها هنا أربعةُ أمورٍ:
- ثبوتُ الصِّفَاتِ العليا للهِ سُبحانَهُ في نفسِ الأمرِ، عَلِمَها العبادُ أوْ جَهِلُوها، وهذا معنى قولِ مَنْ فسَّرَهُ بالصفةِ.
- الثاني: وجودُها في العلمِ والتصَوُّرِ، وهذا معنى قولِ مَنْ قالَ من السلفِ والخلفِ: إنَّهُ ما في قلوبِ عابدِيهِ وذاكرِيهِ منْ معرفتِهِ وذكرِهِ ومحبَّتِهِ وإجلالِهِ وتعظيمِهِ.
وهذا الذي في قلوبِهم من المثلِ الأعلى لا يشتركُ فيهِ غيرُهُ معَهُ، بلْ يختصُّ بهِ في قلوبِهم كما اختصَّ في ذاتِهِ. وهذا معنى قولِ مَنْ قالَ من المفسِّرِينَ: أهلُ السماءِ يُعظِّمُونهُ ويُحِبُّونهُ ويعبدُونهُ، وأهلُ الأرضِ يُعَظِّمونهُ ويُجِلُّونهُ، وإنْ أشركَ بهِ مَنْ أشركَ، وعَصَاهُ مَنْ عصاهُ، وجَحَدَ صفاتِهِ مَنْ جحدَها، فكلُّ أهلِ الأرضِ مُعَظِّمُونَ لهُ مُجِلُّونَ لهُ خاضعونَ لعظمَتِهِ، مُسْتَكينونَ لعِزَّتِهِ وجبَرُوتِهِ، قالَ تعالى: {بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116)} [البقرة: 116]. فلَسْتَ تَجِدُ أحداً منْ أوليائِهِ وأعدَائِهِ إلاَّ واللهُ أكبرُ في صدْرِهِ وأكملُ وأعظمُ منْ كلِّ ما سواهُ.
- الثالثُ: ذكرُ صِفَاتِهِ والخبَرُ عنها وتنـزيهُها عن النقائصِ والعيوبِ والتمثيلِ.
- الرابعُ: محبَّةُ الموصوفِ بها وتوحيدُهُ والإخلاصُ لهُ والتوكُّلُ عليهِ والإنابةُ إليهِ، وكُلَّما كانَ الإيمانُ بالصِّفَاتِ أكملَ كانَ هذا الحبُّ والإخلاصُ أقوى.
فعباراتُ السلفِ تدورُ حولَ هذهِ المعاني الأربعةِ لا تتجاوزُها.
وقدْ ضربَ اللهُ سُبحانَهُ مَثَلَ السَّوْءِ للأصنامِ بأنَّها لا تخلقُ شيئاً وهيَ مخلوقةٌ، ولا تملكُ لأنفُسِهَا ولا لعابدِيها ضرًّا ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً، وقالَ تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76)} [النحل: 75-76].
فهذانِ مثلانِ ضرَبَهما لنفسِهِ وللأصنامِ، فللأصنامِ مَثَلُ السَّوْءِ، ولهُ المثلُ الأعلى، وقالَ تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)} [الحج: 73-74]. فهذا المثلُ الأعلى الذي لهُ سُبحانَهُ. والأوَّلُ مَثَلُ السَّوءِ للصنمِ وعابدِيهِ.
وقدْ ضربَ سُبحانَهُ للمعارضينَ بينَ الوحيِ وعقولِهم مَثَلَ السَّوْءِ بالكلبِ تارةً، وبالحُمُرِ تارةً، وبالأنعامِ تارةً، وبأهلِ القبورِ تارةً، وبالعُمْيِ الصُّمِّ تارةً، وغيرِ ذلكَ من الأمثالِ السَّوْءِ التي ضرَبَها لهم ولأوثانِهم([1]).
وأخبرَ عنْ مَثَلِهِ الأعلى بما ذكرَهُ منْ أسمائِهِ وصفاتِهِ وأفعالِهِ، وضربَ لأوليائِهِ وعابديهِ أحسنَ الأمثالِ. ومَنْ تدبَّرَ القرآنَ فَهِمَ المرادَ بالمثلِ الأعلى ومثلِ السَّوْءِ. وباللهِ التوفيقُ) ([2])
).[المرتبع الأسنى: ؟؟]


([1]) وقد ذَكَرَ ابنُ القيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ تَعالَى- في تَقْدِيمِهِ لقَصِيدَتِهِ النُّونِيَّةِ (ص26-29) عَشَرَةَ أَمثالٍ للمُوَحِّدِ والمُعطِّلِ والمُشَبِّهِ. فرَاجِعْهَا إِنْ شِئْتَ.
([2]) الصواعقُ المُرْسَلَةُ (3/1030-1036). وانْظُرْ أَيْضًا للفائدةِ: (2/428-434).


رد مع اقتباس