عرض مشاركة واحدة
  #4  
قديم 14 رمضان 1438هـ/8-06-2017م, 10:45 AM
جمهرة علوم العقيدة جمهرة علوم العقيدة غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: May 2017
المشاركات: 1,193
افتراضي

بَيَانِ دَلالَةِ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} عَلَى ثُبُوتِ صِفَاتِ الكَمَالِ للهِ عَزَّ وَجَلَّ

قال ابن القيم محمد بن أبي بكر الزرعي الدمشقي (ت:751هـ) كما في المرتبع الأسنى
: (البابُ الخامسُ:
فِي بَيَانِ دَلالَةِ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} عَلَى ثُبُوتِ صِفَاتِ الكَمَالِ للهِ عَزَّ وَجَلَّ

([اعلَمْ -أرشَدَكَ اللهُ تعالى- أنَّ اللهَ] سُبحانَهُ وصفَ نفسَهُ بأنَّهُ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، وأنَّهُ لا سَمِيَّ لهُ، ولا كُفْءَ لهُ، وهذا يستلزمُ وصفَهُ بصفاتِ الكمالِ، التي فاتَ بها شَبَهَ المخلوقينَ، واستَحَقَّ بقيامِها بهِ أنْ يكونَ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، وهكذا كونُهُ ليسَ لهُ سَمِيٌّ؛ أيْ: مثيلٌ يُسَامِيهِ في صفاتِهِ وأفعالِهِ، ولا مَنْ يُكَافِيهِ فيها.
ولوْ كانَ مسلوبَ الصِّفَاتِ والأفعالِ والكلامِ والاستواءِ والوجهِ واليدَيْنِ، ومنفيًّا عنْهُ مُبَاينةُ العالمِ ومحايثَتُهُ، واتِّصَالُهُ بهِ وانفصالُهُ عنهُ، وعلوُّهُ عليهِ. وكونُهُ يَمْنَتَهُ أوْ يَسْرَتَهُ، وأمامَهُ أوْ وراءَهُ؛ لكانَ كلُّ عَدَمٍ مثلاً لهُ في ذلكَ، فيكونُ قدْ نفى عنْ نفسِهِ مشابهةَ الموجوداتِ، وأثبتَ لها مماثلةَ المعدوماتِ، فهذا النفيُ واقعٌ على أكملِ الموجوداتِ وعلى العدَمِ المحضِ؛ فإنَّ العدَمَ المحضَ لا مثلَ لهُ ولا كُفءَ ولا سَمِيَّ، فلوْ كانَ المرادُ بهذا نفيَ صفاتِهِ وأفعالِهِ واستوائِهِ على عرشِهِ، وتكلُّمِهِ بالوحيِ، وتكليمِهِ لمَنْ يشاءُ منْ خلقِهِ، لكانَ ذلكَ وصفاً لهُ بغايَةِ العدمِ، فهذا النفيُ واقعٌ على العدَمِ المحضِ، وعلى مَنْ كثُرَتْ أوصافُ كمالِهِ، ونعوتُ جلالِهِ، وأسماؤُهُ الحسنى، حتَّى تفرَّدَ بذلكَ الكمالِ، فلمْ يكُنْ لهُ شَبَهٌ في كمالِهِ، ولا سَمِيٌّ ولا كفءٌ، فإذا أبْطَلْتُمْ(1) هذا المعنى الصحيحَ تعيَّنَ ذلكَ المعنى الباطلُ قطعاً , وصارَ المعنى أنَّهُ لا يُوصَفُ بصفةٍ أصلاً ولا يفعلُ فعلاً ولا لهُ وجهٌ ولا يدٌ ولا يسمعُ ولا يُبصرُ ولا يعلمُ ولا يَقْدِرُ تحقيقاً لمعنى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]. وقالَ إخوانُكم من الملاحدةِ: ليسَ لهُ ذاتٌ أصلاً تحقيقاً لهذا النفيِ، وقال غُلاتُهم: ولا وجودَ لهُ، تحقيقاً لهذا النفيِ.
وأمَّا الرُّسلُ وأتباعُهم، فقالُوا: إنَّهُ حيٌّ، ولهُ حياةٌ، وليسَ كمثلِهِ شيءٌ في حياتِهِ، وهوَ قويٌّ ولَهُ القوَّةُ، وليسَ كمثلِهِ شيءٌ في قُوَّتِهِ، وهوَ سميعٌ بصيرٌ، لهُ السمعُ والبصرُ، يسمعُ ويُبصرُ، وليسَ كمثلِهِ شيءٌ في سمْعِهِ وبصَرِهِ، ومتكلِّمٌ ومُكَلِّمٌ، وليسَ كمثلِهِ شيءٌ في كلامِهِ وتكليمِهِ، ولَهُ وَجْهٌ ويدَانِ، وليسَ كمثلِهِ شيءٌ، وهوَ مُسْتَوٍ على عرْشِهِ، وليسَ كمثلِهِ شيءٌ.
وهذا النفيُ لا يتحقَّقُ إلاَّ بإثباتِ صفاتِ الكمالِ؛ فإنَّهُ مدحٌ لهُ وثناءٌ أثنى بهِ على نفسِهِ، والعدمُ المحضُ لا يُمْدَحُ بهِ أحدٌ، ولا يُثْنَى بهِ عليهِ، ولا يكونُ كمالاً لهُ، بلْ هوَ أنقصُ النقصِ، وإنَّما يكونُ كمالاً إذا تضمَّنَ الإثباتَ، كقولِهِ تعالى: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} [البقرة: 255] لكمالِ حياتِهِ وقيُّوميَّتِهِ، وقولِهِ: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255] لكمالِ غِناهُ ومُلكِهِ وربوبيَّتِهِ، وقولِهِ: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)} [فُصِّلَتْ: 46]، {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)} [الكهف: 49]، {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31)} [غافر: 31]؛ لكمالِ عَدْلِهِ وغِناهُ ورَحمتِهِ، وقولِهِ: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38)} [ق: 38] لكمالِ قدرتِهِ، وقولِهِ: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} [يونس: 61]، {وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38)} [إبراهيم: 38]، ونظائرِ ذلكَ لكمالِ عِلمِهِ، وقوْلِهِ: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] لعظمتِهِ وإحاطتِهِ بما سِوَاهُ، وأنَّهُ أكبرُ منْ كلِّ شيءٍ وأنَّهُ وَاسِعٌ، فَيُرَى ولكنْ لا يُحاطُ بهِ إدراكاً، كما يُعلَمُ ولا يُحاطُ بهِ عِلْماً، فيُرى ولا يُحاطُ بهِ رؤيَةً، فهكذا {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] هوَ متضمِّنٌ لإثباتِ جميعِ صفاتِ الكمالِ على وجهِ الإجمالِ، وهذا هوَ المعقولُ في نظرِ الناسِ وعقولِهم، وإذا قالُوا: فلانٌ عديمُ المثلِ، أوْ قدْ أصبحَ ولا مثلَ لهُ في الناسِ، أوْ ما لهُ شبيهٌ ولا لهُ مَنْ يُكَافِيهِ، إنَّما يريدونَ بذلكَ أنَّهُ تفرَّدَ من الصِّفَاتِ والأفعالِ والمجدِ بما لمْ يَلْحَقْهُ فيهِ غيرُهُ، فصارَ واحداً من الجنسِ لا مثيلَ لهُ.

ولوْ أطلقوا ذلكَ عليهِ باعتبارِ نفيِ صفاتِهِ وأفعالِهِ ومجدِهِ لكانَ ذلكَ عندَهُم غايَةَ الذمِّ والتنقُّصِ لهُ، فإذا أُطْلِقَ ذلكَ في سياقِ المدحِ والثناءِ لمْ يشُكَّ عاقلٌ في أنَّهُ إنَّما أرادَ كثرةَ أوصافِهِ وأفعالِهِ وأسمائِهِ، التي لها حقائقُ تُحْمَلُ عليها، فهلْ يقولُ عاقلٌ لمَنْ لا علمَ لهُ، ولا قُدْرَةَ، ولا سمعَ، ولا بصرَ، ولا يتصَرَّفُ بنفْسِهِ، ولا يفعلُ شيئاً، ولا يتكَلَّمُ، ولا لهُ وجهٌ، ولا يدٌ، ولا قوَّةٌ، ولا فضيلةٌ من الفضائلِ: إنَّهُ لا شبيهَ لهُ ولا مثلَ لهُ، وإنَّهُ وحيدُ دهرِهِ، وفريدُ عصرِهِ، ونسيجُ وَحْدِهِ؟!
وهلْ فطرَ اللهُ الأُمَمَ، وأطْلَقَ ألسنَتَهُم ولُغاتِهِم إلاَّ على ضدِّ ذلكَ، وهلْ كانَ ربُّ العالمينَ أهلَ الثناءِ والمجدِ إلاَّ بأوصافِ كمالِهِ، ونعوتِ جلالِهِ، وأفعالِهِ، وأسمائِهِ الحُسنى، وإلاَّ فبماذا يُثْنِي عليهِ المُثْنُونَ؟! وبماذا يُثْنِي على نفْسِهِ أعظمَ ممَّا يُثْنِي بهِ عليهِ جميعُ خلقِهِ؟! ولأيِّ شيءٍ يقولُ أَعْرَفُ خلقِهِ بهِ: ((لا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ))؟! ومعلومٌ أنَّ هذا الثناءَ الذي أخبرَ أنَّهُ لا يُحْصِيهِ، لوْ كانَ بالنفيِ لكانَ هؤلاءِ أعلمَ بهِ منهُ، وأشدَّ إحصاءً لهُ، فإنَّهم نفَوْا عنهُ حقائقَ الأسماءِ والصِّفَاتِ نفياً مُفَصَّلاً، وذلكَ ممَّا يحصيهِ المحصي، بلا كُلْفَةٍ ولا تعبٍ، وقدْ فصَّلَهُ النُّفَاةُ، وأحصَوْهُ وحصَرُوهُ.

[فصْلٌ]:
[وممَّا يُبَيِّنُ ذلكَ] أنَّ اللهَ سُبحانَهُ وتعالى إنَّما نفى عنْ نفسِهِ ما يُنَاقضُ ويُضَادُّ ثبوتَ الصِّفَاتِ والأفعالِ، فلمْ يَنْفِ إلاَّ أمراً عدمِيًّا، أوْ مَا يستلزمُ العدمَ، فنفى السِّنَةَ والنومَ المستلزمَ لعدمِ كمالِ الحياةِ والقيُّومِيَّةِ، ونفى العُزُوبَ والخفاءَ المستلزمَ لنفيِ كمالِ العلمِ، ونفى اللُّغُوبَ المستلزمَ نفيَ كمالِ القدرةِ، ونفى الظلمَ المستلزمَ لنفيِ كمالِ الغِنَى والعَدْلِ، ونفى العبثَ المستلزمَ لنفيِ كمالِ الحكمةِ والعلمِ، ونفى الصاحبةَ والولدَ المستلزمَيْنِ لعدمِ كمالِ الغِنَى، وكذلكَ نفى الشركَ والظهيرَ والشفيعَ المُقَدَّمَ بالشفاعةِ، المستلزمَ لعدمِ كمالِ الغِنَى والقهرِ والملكِ، ونفى الشبيهَ والمثيلَ والكفؤَ المستلزمَ لعدمِ التفرُّدِ بالكمالِ المُطْلَقِ، ونفى إدراكَ الأبصارِ لهُ وإحاطةَ العلمِ بهِ المستلزمَيْنِ لعدمِ كمالِ عظمتِهِ وكبريائِهِ وسَعَتِهِ وإحاطَتِهِ، وكذلكَ نفى الحاجةَ والأكلَ والشربَ عنهُ سُبحانَهُ لاستلزامِ ذلكَ عدمَ غناهُ الكاملِ.
وإذا كانَ إنَّما نفى عنْ نفْسِهِ العدمَ أوْ ما يستلزمُ العدمَ عُلِمَ أنَّهُ أحقُّ بكلِّ وجودٍ وثبوتٍ، وكلِّ أمرٍ وجوديٍّ لا يستلزمُ عدماً ولا نقصاً ولا عيباً.
وهذا هوَ الذي دلَّ عليهِ صريحُ العقلِ، فإنَّهُ سُبحانَهُ لهُ الوجودُ الدائمُ القديمُ الواجبُ لنفْسِهِ الذي لمْ يستفدْهُ منْ غيرِهِ، ووجودُ كلِّ موجودٍ مفتقرٌ إليهِ ومتوقِّفٌ في تحقيقِهِ عليهِ.
والكمالُ وجودٌ كُلُّهُ، والعدمُ نقصٌ كلُّهُ، فإنَّ العدمَ كاسْمِهِ لا شيءَ، فعادَ النفيُ الصحيحُ إلى نفيِ النقائصِ والعيوبِ، ونفيِ المماثلةِ في الكمالِ، وعادَ الأمرانِ إلى نفيِ النقصِ.
وحقيقةُ ذلكَ نفيُ العدمِ وما يستلزمُ العدمَ. فتأمَّلْ؛ هلْ نفى القرآنُ والسُّنَّةُ عنهُ سُبحانَهُ سِوَى ذلكَ؟ وتأمَّلْ؛ هلْ ينفي العقلُ الصحيحُ الذي لمْ يَفْسُدْ بشُبَهِ هؤلاءِ الضُلاَّلِ الحَيَارَى غيرَ ذلكَ؟
فالرسُلُ جاءُوا بإثباتِ ما يُضَادُّهُ، وهوَ سُبحانَهُ أخبرَ أنَّهُ لمْ يكُنْ لهُ كُفُواً أحدٌ، بعدَ وصفِهِ نفسَهُ بأنَّهُ الصمدُ، والصمدُ: السَّيِّدُ الذي كَمُلَ في سُؤْدُدِهِ، ولهذا كانت العربُ تُسَمِّي أشرافَها بهذا الاسمِ، لكثرةِ الصِّفَاتِ المحمودةِ في المُسَمَّى بهِ، قالَ شاعرُهم:

ألا بَكَّرَ الناعي بخيرِ بني أَسَدْ بعمرِو بنِ مسعودٍ وبالسَّيِّدِ الصمَدْ

فإنَّ الصمدَ مَنْ تَصْمُدُ نحوَهُ القلوبُ بالرغبةِ والرهبةِ، وذلكَ لكثرةِ خصالِ الخيرِ فيهِ، وكثرةِ الأوصافِ الحميدةِ لهُ، ولهذا قالَ جمهورُ السلفِ؛ منهم عبدُ اللهِ بنُ عبَّاسٍ: (الصمدُ السيِّدُ الذي كَمُلَ سُؤْدُدُهُ، فهوَ العالمُ الذي كَمُلَ علمُهُ، القادرُ الذي كَمُلَتْ قُدْرَتُهُ، الحكيمُ الذي كَمُلَ حُكْمُهُ، الرحيمُ الذي كمُلَتْ رحمتُهُ، الجَوَادُ الذي كَمُلَ جُودُهُ)، ومَنْ قالَ: (إِنَّهُ الذي لا جَوْفَ لهُ)، فقولُهُ لا يُناقضُ هذا التفسيرَ؛ فإنَّ اللفظَ من الاجتماعِ، فهوَ الذي اجتَمَعَتْ فيهِ صفاتُ الكمالِ، ولا جوفَ لهُ، فإنَّما لمْ يكُنْ أحدٌ كُفُواً لهُ لمَّا كانَ صمداً كاملاً في صمديَّتِهِ، فلوْ لمْ تكُنْ صفاتُ كمالٍ، ونعوتُ جلالٍ، ولمْ يكُنْ لهُ عِلمٌ، ولا قُدْرَةٌ، ولا حياةٌ، ولا إرادةٌ، ولا كلامٌ، ولا وَجْهٌ، ولا يدٌ، ولا سمعٌ، ولا بصرٌ، ولا فعلٌ يقومُ بهِ، ولا يفعلُ شيئاً البتَّةَ، ولا هوَ داخلَ العالمِ ولا خارجَهُ، ولا فوقَ عرْشِهِ، ولا يرضى ولا يغضبُ، ولا يحبُّ ولا يُبغِضُ، ولا هوَ فعَّالٌ لما يريدُ، ولا يُرى ولا يمكنُ أنْ يُرى، ولا يُشارُ إليهِ ولا يمكنُ أنْ يُشارَ إليهِ لكانَ العدمُ المحضُ كُفُواً؛ فإنَّ هذهِ الصِّفَاتِ منطبقةٌ على المعدومِ فلوْ كانَ ما يقولُهُ المعطِّلُونَ هوَ الحقَّ لمْ يكُنْ صمداً، وكانَ العدمُ كُفُواً لهُ، وكذلكَ قولُهُ: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)} [مريم:65]، فأخبرَ أنَّهُ لا سَمِيَّ لهُ عقيبَ قولِ العارفينَ بهِ: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)} [مريم: 64-65]. فهذا الربُّ الذي لهُ هذا الجندُ العظيمُ، ولا ينـزلونَ إلاَّ بأمْرِهِ، وهوَ المالكُ ما بينَ أيدِيهم وما خلفَهُم، وما بينَ ذلكَ، فهوَ الذي قدْ كَمُلَتْ قدرتُهُ وسلطانُهُ، وملكُهُ، وكَمُلَ علمُهُ، فلا ينسى شيئاً أبداً، وهوَ القائمُ بتدبيرِ أمرِ السَّماوَاتِ والأرضِ وما بينَهما، كما هوَ الخالقُ لذلكَ كلِّهِ، وهوَ ربُّهُ ومليكُهُ، فهذا الربُّ هوَ الذي لا سَمِيَّ لهُ؛ لتفرُّدِهِ بكمالِ هذهِ الصِّفَاتِ والأفعالِ، فأمَّا مَنْ لا صفةَ لهُ ولا فعلَ ولا حقائقَ لأسمائِهِ إنْ هيَ إلاَّ ألفاظٌ فارغةٌ من المعاني، فالعدمُ سَمِيٌّ لهُ، وكذلكَ قولُهُ تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]؛ فإنَّهُ سُبحانَهُ ذكرَ ذلكَ بعدَ ذِكْرِ نعوتِ كمالِهِ وأوصافِهِ، فقالَ: {حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6)} [الشورى: 1-6] إلى قولِهِ: {فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} [الشورى: 11].
فهذا الموصوفُ بهذهِ الصِّفَاتِ والنعوتِ والأفعالِ والعلوِّ والعظمةِ والحفظِ والعزَّةِ والحكمةِ والملكِ والحمدِ والمغفرةِ والرحمةِ والكلامِ والمشيئةِ والولايَةِ، وإحياءِ الموتى، والقدرةِ التامَّةِ الشاملةِ، والحُكمِ بينَ عبادِهِ، وكونِهِ فاطرَ السَّماوَاتِ والأرضِ، وهوَ السميعُ البصيرُ، فهذا هوَ الذي ليسَ كمثلِهِ شيءٌ؛ لكثرةِ نُعوتِهِ وأوصافِهِ وأسمائِهِ وأفعالِهِ، وثبوتِها لهُ على وجهِ الكمالِ الذي لا يُماثلُهُ فيهِ شيءٌ، فالمثبتُ للصفاتِ والعلوِّ والكلامِ والأفعالِ وحقائقِ الأسماءِ، هوَ الذي يَصِفُهُ سُبحانَهُ بأنَّهُ ليسَ كمثلِهِ شيءٌ.
وأمَّا المعطِّلُ النافي لصفاتِهِ وحقائقِ أسمائِهِ، فإنَّ وصْفَهُ لهُ بأنَّهُ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] مجازٌ لا حقيقةٌ، كما يقولُ في سائرِ أوصافِهِ وأسمائِهِ.
ولهذا قالَ مَنْ قالَ من السلفِ: إنَّ النُّفَاةَ جمَعُوا بينَ التشبيهِ والتعطيلِ، فسَمَّوْا تعطيلَهُم تنـزيهاً، وسمَّوْا ما وصفَ بهِ نفسَهُ تشبيهاً، وجعَلُوا ما يدُلُّ على ثبوتِ صفاتِ الكمالِ وكثْرَتِها دليلاً على نفْيِها وتعطيلِها، وراجَ ذلكَ على مَنْ لمْ يجْعَل اللهُ لهُ نوراً، واغترَّ بهِ مَنْ شاءَ اللهُ، وهدى اللهُ مَن اعتصمَ بالوحيِ والعقلِ والفطرةِ، واللهُ يَهْدِي مَنْ يشاءُ إلى صراطٍ مستقيمٍ) ([2])
).[المرتبع الأسنى: ؟؟]


(1) الخِطَابُ لِمُعَطِّلَةِ الصِّفَاتِ.
(2) الصَّوَاعِقُ المُرْسَلَةُ (1019-1030).


رد مع اقتباس