عرض مشاركة واحدة
  #7  
قديم 29 صفر 1440هـ/8-11-2018م, 09:08 PM
جمهرة التفاسير جمهرة التفاسير غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 2,953
افتراضي

تفاسير القرن السادس الهجري

تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) }
قال عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم * يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون * إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم}
كانت عادة العرب -وهي إلى الآن- الاشتراك في الآراء، وأن يتكلم كل بما شاء ويفعل ما أحب، فمشى بعض الناس ممن لم تتمرن نفسه مع النبي صلى الله عليه وسلم على بعض ذلك، قال قتادة: فربما قال قوم: لو نزل كذا وكذا في معنى كذا، ولو فعل الله كذا، وينبغي أن يكون كذا، وأيضا فإن قوما ذبحوا ضحاياهم قبل النبي صلى الله عليه وسلم، حكاه الحسن بن أبي الحسن، وقوما فعلوا في بعض حروبه وغزواته شيئا بآرائهم، فنزلت هذه الآية ناهية عن جميع ذلك.
وحكى الثعلبي عن مسروق أنه قال: دخلت على عائشة رضي الله عنها في يوم الشك، فقالت للجارية: اسقه عسلا، فقلت: إني صائم، فقالت: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيام هذا اليوم، وفيه نزلت: {لا تقدموا بين يدي الله ورسوله}، وقال ابن زيد: معنى "لا تقدموا": لا تمشوا بين يدي رسول الله، وكذلك بين يدي العلماء، فإنهم ورثة الأنبياء، وتقول العرب: تقدمت في كذا وكذا وتقدمت فيه إذا قلت فيه.
وقرأ الجمهور من القراء: "تقدموا" بضم التاء وكسر الدال، وقرأ ابن عباس، والضحاك، ويعقوب، بفتح التاء والدال على معنى: لا تتقدموا، وعلى هذا يجيء تأويل ابن زيد في المشي، والمعنى على ضم التاء: بين يدي قول الله ورسوله.
وروي أن سبب هذه الآية هو أن وفد بني تميم لما قدم قال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله، لو أَمَّرْتَ الأقرع بن حابس، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا رسول الله بل أَمِّر القعقاع بن معبد، فقال له أبو بكر رضي الله عنه: ما أردت إلا خلافي، ويروى: إلى خلافي، فقال عمر رضي الله عنه: ما أردت خلافك، وارتفعت أصواتهما، فنزلت الآية في ذلك، وذهب بعض قائلي هذه المقالة إلى أن قوله تعالى: "لا تقدموا" معناه: لا تقدموا ولاة، فهو من تقدم الأمراء، وعموم اللفظ أحسن، أي: اجعلوه مبدأ في الأقوال والأفعال. و"سميع" معناه: لأقوالكم، و"عليم" معناه: بأفعالكم ومقتضى أقوالكم). [المحرر الوجيز: 8/ 5-6]

تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) }
قال عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي} الآية هي أيضا في ذلك الفن المتقدم، وروى أن سببها كلام أبي بكر وعمر رضي الله عنهما المتقدم في أمر الأقرع والقعقاع، والصحيح أنها نزلت بسبب عادة الأعراب في الجفاء وعلو الصوت والعنجهية، وكان ثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنه في صوته جهارة، فلما نزلت هذه الآية اهتم وخاف على نفسه وجلس في بيته لم يخرج وهو كئيب حزين، حتى عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره، فبعث فيه فآنسه وقال له: "امش في الأرض بسطا فإنك من أهل الجنة"، وقال له مرة: "أما ترضى أن تعيش حميدا، وتموت شهيدا"، فعاش كذلك ثم قتل رضي الله عنه باليمامة يوم مسيلمة. وفي قراءة ابن مسعود: "لا ترفعوا بأصواتكم" بزيادة الباء. وقوله تعالى: {كجهر بعضكم لبعض} أي: كحال جهركم في جفائه وكونه مخاطبة بالأسماء والألقاب، وكانوا يدعون النبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد، قاله ابن عباس وغيره، فأمرهم الله تعالى بتوقيره وأن يدعوه بالنبوه والرسالة والكلام اللين، فتلك حالة الموقر، وكره العلماء رفع الصوت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم وبحضرة العالم وفي المساجد، وفي هذه كلها آثار.
وقوله تعالى: "أن تحبط" مفعول من أجله، أي: مخافة أن تحبط، والحبط: إفساد العمل بعد تقرره، يقال حبط بكسر الباء، وأحبطه الله، وهذا الحبط إن كانت الآية معرضة بمن يفعل ذلك استخفافا واحتقارا وجرأة فذلك كفر والحبط: معه على حقيقته، وإن كان التعريض للمؤمن الفاضل الذي يفعل ذلك غفلة وجريا على طبعه فإنما يحبط عمله البر في توقير النبي صلى الله عليه وسلم وغض الصوت عنده أن لو فعل ذلك، فكأنه قال: أن تحبط الأعمال التي هي معدة أن تعملوها فتؤجروا عليها، ويحتمل أن يكون المعنى: أن تأثموا ويكون ذلك سببا إلى الوحشة في نفوسكم، فلا تزال معتقداتكم تتدرج القهقرى حتى يؤول ذلك إلى الكفر فتحبط الأعمال حقيقة، وظاهر الآية أنها مخاطبة لفضلاء المؤمنين الذين لا يفعلون ذلك احتقارا، وذلك أنه لا يقال لمنافق يعمل ذلك جرأة: "وأنت لا تشعر" لأنه ليس له عمل يعتقده هو عملا، وفي قراءة عبد الله بن مسعود: "فتحبط أعمالكم"). [المحرر الوجيز: 8/ 6-8]

تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) }
قال عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي (ت:546هـ) : (ثم مدح تعالى الصنف المخالف لمن تقدم ذكره وهم الذين يغضون أصواتهم عند النبي صلى الله عليه وسلم، وغض الصوت: خفضه وكسره، وكذلك البصر، ومنه قول جرير:
فغض الطرف إنك من نمير ... ... ... ... ....
وروي أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانا بعد ذلك لا يكلمان رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا كأخي السرار، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحتاج مع عمر رضي الله عنه بعد ذلك إلى استعادة اللفظ; لأنه كان لا يسمعه من إخفائه إياه. و"امتحن" معناه: اختبر وطهر كما يمتحن الذهب بالنار، فيسرها وهيأها للتقوى، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: امتحن للتقوى: أذهب عنها الشهوات.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
من غلب شهوته وغضبه فذلك الذي امتحن الله قلبه للتقوى، وبذلك تكون الاستقامة). [المحرر الوجيز: 8/ 8-9]

تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) }
قال عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون * ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم والله غفور رحيم * يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين * واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون * فضلا من الله ونعمة والله عليم حكيم}
قوله تعالى: {إن الذين ينادونك} إلى قوله تعالى: "غفور رحيم" نزلت في وفد بني تميم، حيث كان الأقرع بن حابس، والزبرقان بن بدر، وعمرو بن الأهتم، وغيرهم، وذلك أنهم وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخلوا المسجد ودنوا من حجر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وهي تسع، فجعلوا ونادوا ولم ينتظروا، فنادوا بجملتهم: يا محمد، اخرج إلينا، يا محمد، اخرج إلينا، فكان في فعلهم ذلك جفاء وبداوة وقلة توقير، فتربص رسول الله صلى الله عليه وسلم مدة، ثم خرج إليهم، فقال له الأقرع بن حابس: يا محمد، إن مدحي زين، وذمي شين، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ويلك ذلك الله تعالى"، واجتمع الناس في المسجد، فقام خطيبهم فخطب وفخر، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنه، فخطب وذكر الله تعالى والإسلام وأربى على خطيبهم، ثم قام شاعرهم فأنشد مفتخرا، فقام حسان بن ثابت رضي الله عنه ففخر بالله تعالى وبالرسول صلى الله عليه وسلم وبالبسالة فكان أشعر من شاعرهم، فقال بعضهم لبعض: والله إن هذا الرجل لمؤتى له، لخطيبه أخطب من خطيبنا، ولشاعره أشعر من شاعرنا، ثم نزلت فيهم هذه الآية.
هذا تلخيص ما تظاهرت به الروايات في هذه الآية، وقد رواه موسى بن عقبة عن أبي سلمة عن الأقرع بن حابس، وفي مصحف ابن مسعود: "أكثرهم بنو تميم لا يعقلون".
و "الحجرات" جمع حجرة، وقرأ الجمهور من القراء: "الحجرات" بضم الحاء والجيم، وقرأ أبو جعفر القارئ وحده: "الحجرات" بفتح الجيم. وقوله تعالى: {لكان خيرا لهم} يعني في الثواب عند الله تعالى، وفي انبساط نفس النبي صلى الله عليه وسلم وقضائه لحوائجهم ووده لهم، وذلك كله خير، لا محالة أن بعضه انزوى بسبب جفائهم. وقوله تعالى: {والله غفور رحيم} ترجية لهم وإعلام بقبوله توبة التائب، وغفرانه ورحمته لمن أناب ورجع). [المحرر الوجيز: 8/ 9-10]

رد مع اقتباس