عرض مشاركة واحدة
  #10  
قديم 15 جمادى الآخرة 1435هـ/15-04-2014م, 06:54 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن الثامن الهجري

تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ([قوله عزّ وجلّ] {يا أيّها الّذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل اللّه فتبيّنوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السّلام لست مؤمنًا تبتغون عرض الحياة الدّنيا فعند اللّه مغانم كثيرةٌ كذلك كنتم من قبل فمنّ اللّه عليكم فتبيّنوا إنّ اللّه كان بما تعملون خبيرًا (94)}
قال الإمام أحمد: حدّثنا يحيى بن أبي بكير، وحسين بن محمّدٍ، وخلف بن الوليد، قالوا: حدّثنا إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ قال: مرّ رجلٌ من بني سليمٍ بنفرٍ من أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وهو يسوق غنمًا له، فسلّم عليهم فقالوا: ما سلّم علينا إلّا ليتعوّذ منّا. فعمدوا إليه فقتلوه، وأتوا بغنمه النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فنزلت هذه الآية: {يا أيّها الّذين آمنوا [إذا ضربتم في سبيل اللّه فتبيّنوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السّلام لست مؤمنًا]} إلى آخرها.
ورواه التّرمذيّ في التّفسير، عن عبد بن حميدٍ، عن عبد العزيز بن أبي رزمة، عن إسرائيل، به. وقال: هذا حديثٌ حسنٌ، وفي الباب عن أسامة بن زيدٍ. ورواه الحاكم من طريق عبيد اللّه بن موسى، عن إسرائيل، به. ثمّ قال: صحيح الإسناد ولم يخرّجاه.
ورواه ابن جريرٍ من حديث عبيد اللّه بن موسى وعبد الرّحيم بن سليمان، كلاهما عن إسرائيل، به وقال في بعض كتبه غير التّفسير -وقد رواه من طريق عبد الرّحمن فقط-: وهذا خبر عندنا صحيحٌ سنده، وقد يجب أن يكون على مذهب الآخرين سقيمًا، لعللٍ منها: أنّه لا يعرف له مخرجٌ عن سماك إلّا من هذا الوجه، ومنها: أنّ عكرمة في روايته عندهم نظرٌ، ومنها: أنّ الّذي أنزلت فيه الآية مختلفٌ فيه، فقال بعضهم: أنزلت في محلّم بن جثّامة، وقال بعضهم: أسامة بن زيدٍ. وقيل غير ذلك.
قلت: وهذا كلامٌ غريبٌ، وهو مردودٌ من وجوهٍ أحدها: أنّه ثابتٌ عن سماك، حدّث به عنه غير واحدٍ من الكبار. الثّاني: أنّ عكرمة محتجٌّ به في الصّحيح. الثّالث: أنّه مرويٌّ من غير هذا الوجه عن ابن عبّاسٍ، كما قال البخاريّ: حدّثنا عليّ بن عبد اللّه، حدّثنا سفيان، عن عمرٍو، عن عطاءٍ، عن ابن عبّاسٍ: {ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السّلام لست مؤمنًا} قال: قال ابن عبّاسٍ: كان رجلٌ في غنيمة له، فلحقه المسلمون، فقال: السّلام عليكم. فقتلوه وأخذوا غنيمته [فأنزل اللّه ذلك إلى قوله: {تبتغون عرض الحياة الدّنيا} تلك الغنيمة. قرأ ابن عبّاسٍ (السّلام) وقال سعيد بن منصورٍ: حدّثنا سفيان عن عمرو بن دينارٍ عن عطاء بن يسارٍ عن ابن عبّاسٍ قال: لحق المسلمون رجلًا في غنيمة فقال: السّلام عليكم، فقتلوه وأخذوا غنيمته] فنزلت: {ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السّلام لست مؤمنًا}
ورواه ابن جريرٍ وابن أبي حاتمٍ، من طريق سفيان بن عيينة، به
وأمّا قصّة محلّم بن جثّامة فقال الإمام أحمد: حدّثنا يعقوب، حدّثنا أبي، عن محمّد بن إسحاق، حدثني يزيد بن عبد اللّه بن قسيط، عن القعقاع بن عبد اللّه بن أبي حدردٍ عن أبيه عبد اللّه ابن أبي حدردٍ، رضي اللّه عنه، قال: بعثنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلى إضم، فخرجت في نفرٍ من المسلمين، فيهم: أبو قتادة الحارث بن ربعي، ومحلّم بن جثّامة بن قيسٍ، فخرجنا حتّى إذا كنا ببطن إضم مرّ بنا عامر بن الأضبط الأشجعيّ، على قعود له، معه متيّع ووطب من لبنٍ، فلمّا مرّ بنا سلّم علينا، فأمسكنا عنه، وحمل عليه محلّم بن جثّامة فقتله، بشيءٍ كان بينه وبينه، وأخذ بعيره متيّعه، فلمّا قدمنا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأخبرناه الخبر، نزل فينا القرآن: {يا أيّها الّذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل اللّه [فتبيّنوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السّلام لست مؤمنًا تبتغون عرض الحياة الدّنيا فعند اللّه مغانم كثيرةٌ كذلك كنتم من قبل فمنّ اللّه عليكم فتبيّنوا إنّ اللّه كان بما تعملون] خبيرًا.}
تفرّد به أحمد
وقال ابن جريرٍ: حدّثنا ابن وكيع، حدّثنا جريرٌ، عن ابن إسحاق، عن نافعٍ؛ أنّ ابن عمر قال: بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم محلّم بن جثّامة مبعثًا، فلقيهم عامر بن الأضبط، فحيّاهم بتحيّة الإسلام وكانت بينهم حسنة في الجاهليّة، فرماه محلّمٌ بسهمٍ فقتله، فجاء الخبر إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فتكلّم فيه عيينة والأقرع، فقال الأقرع: يا رسول اللّه، سنّ اليوم وغيّر غدًا. فقال عيينة: لا واللّه، حتّى تذوق نساؤه من الثّكل ما ذاق نسائي. فجاء محلّمٌ في بردين، فجلس بين يدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ليستغفر له، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "لا غفر اللّه لك". فقام وهو يتلقّى دموعه ببرديه، فما مضت له سابعةٌ حتّى مات، ودفنوه، فلفظته الأرض، فجاءوا إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فذكروا ذلك له، فقال: "إنّ الأرض تقبل من هو شرٌّ من صاحبكم، ولكنّ اللّه أراد أن يعظكم من جرمتكم" ثمّ طرحوه بين صدفي جبلٍ وألقوا عليه الحجارة، ونزلت: {يا أيّها الّذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبيّنوا} الآية.
وقال البخاريّ: قال حبيب بن أبي عمرة، عن سعيدٍ، عن ابن عبّاسٍ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم للمقداد: "إذا كان رجلٌ مؤمنٌ يخفي إيمانه مع قومٍ كفّارٍ، فأظهر إيمانه فقتلته، فكذلك كنت أنت تخفي إيمانك بمكّة من قبل".
هكذا ذكر البخاريّ هذا الحديث معلّقًا مختصرًا وقد روي مطوّلًا موصولًا فقال الحافظ أبو بكرٍ البزّار:
حدثنا حماد بن عليٍّ البغداديّ، حدّثنا جعفر بن سلمة، حدّثنا أبو بكر بن عليّ بن مقدّم، حدّثنا حبيب بن أبي عمرة، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ قال: بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم سريّةً، فيها المقداد بن الأسود، فلمّا أتوا القوم وجدوهم قد تفرّقوا، وبقي رجلٌ له مالٌ كثيرٌ لم يبرح فقال: أشهد أن لا إله إلّا اللّه. وأهوى إليه المقداد فقتله، فقال له رجلٌ من أصحابه: أقتلت رجلًا شهد أن لا إله إلّا اللّه؟ واللّه لأذكرن ذلك للنّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم. فلمّا قدموا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قالوا: يا رسول اللّه، إن رجلًا شهد أن لا إله إلّا اللّه، فقتله المقداد. فقال: "ادعوا لي المقداد. يا مقداد، أقتلت رجلًا يقول: لا إله إلّا اللّه، فكيف لك بلا إله إلّا اللّه غدًا؟ ". قال: فأنزل اللّه: {يا أيّها الّذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل اللّه فتبيّنوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السّلام لست مؤمنًا تبتغون عرض الحياة الدّنيا فعند اللّه مغانم كثيرةٌ كذلك كنتم من قبل فمنّ اللّه عليكم فتبيّنوا} فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم للمقداد: "كان رجلٌ مؤمنٌ يخفي إيمانه مع قومٍ كفّارٍ، فأظهر إيمانه، فقتلته، وكذلك كنت تخفي إيمانك بمكّة قبل".
وقوله: {فعند الله مغانم كثيرةٌ} أي: خيرٌ ممّا رغبتم فيه من عرض الحياة الدّنيا الّذي حملكم على قتل مثل هذا الّذي ألقى إليكم السّلام، وأظهر إليكم الإيمان، فتغافلتم عنه، واتّهمتموه بالمصانعة والتّقيّة؛ لتبتغوا عرض الحياة الدّنيا، فما عند اللّه من المغانم الحلّال خيرٌ لكم من مال هذا.
وقوله: {كذلك كنتم من قبل فمنّ اللّه عليكم} أي: قد كنتم من قبل هذه الحال كهذا الذي يسرّ إيمانه ويخفيه من قومه، كما تقدّم في الحديث المرفوع آنفًا، وكما قال تعالى: {واذكروا إذ أنتم قليلٌ مستضعفون في الأرض [تخافون أن يتخطّفكم النّاس فآواكم وأيّدكم بنصره]} الآية [الأنفال: 26]، وهذا هو مذهب سعيد بن جبيرٍ، كما رواه الثّوريّ، عن حبيب بن أبي عمرة، عن سعيد بن جبيرٍ في قوله: {كذلك كنتم من قبل} تخفون إيمانكم في المشركين.
ورواه عبد الرّزّاق، عن ابن جريج، أخبرني عبد اللّه بن كثيرٍ، عن سعيد بن جبيرٍ في قوله: {كذلك كنتم من قبل} تستخفون بإيمانكم، كما استخفى هذا الرّاعي بإيمانه.
وهذا اختيار ابن جريرٍ. وقال ابن أبي حاتمٍ: وذكر عن قيسٍ، عن سالمٍ، عن سعيد بن جبيرٍ قوله: {كذلك كنتم من قبل} [تورّعون عن مثل هذا، وقال الثّوريّ عن منصورٍ، عن أبي الضّحى، عن مسروقٍ: {كذلك كنتم من قبل}] لم تكونوا مؤمنين {فمنّ اللّه عليكم [فتبيّنوا} وقال السّدّيّ: {فمنّ اللّه عليكم}] أي: تاب عليكم، فحلف أسامة لا يقتل رجلًا يقول: "لا إله إلّا اللّه" بعد ذلك الرّجل، وما لقي من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فيه.
وقوله: {فتبيّنوا} تأكيدٌ لما تقدّم. وقوله: {إنّ اللّه كان بما تعملون خبيرًا} قال سعيد بن جبيرٍ: هذا تهديدٌ ووعيدٌ). [تفسير القرآن العظيم: 2/382-385]

تفسير قوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضّرر والمجاهدون في سبيل اللّه بأموالهم وأنفسهم فضّل اللّه المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجةً وكلا وعد اللّه الحسنى وفضّل اللّه المجاهدين على القاعدين أجرًا عظيمًا (95) درجاتٍ منه ومغفرةً ورحمةً وكان اللّه غفورًا رحيمًا (96)}
قال البخاريّ: حدّثنا حفص بن عمر حدّثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن البراء قال: لمّا نزلت: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين} دعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم زيدًا فكتبها، فجاء ابن أمّ مكتومٍ فشكا ضرارته فأنزل اللّه [عزّ وجلّ] {غير أولي الضّرر}
حدّثنا محمّد بن يوسف، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء قال: لمّا نزلت: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين} قال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: " ادع فلانًا " فجاءه ومعه الدّواة واللّوح والكتف فقال: " اكتب: لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل اللّه " وخلف النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم ابن أمّ مكتومٍ، فقال: يا رسول اللّه، أنا ضريرٌ فنزلت مكانها: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضّرر والمجاهدون في سبيل الله}
وقال البخاريّ أيضًا: حدّثنا إسماعيل بن عبد اللّه، حدّثني إبراهيم بن سعدٍ، عن صالح بن كيسان، عن ابن شهابٍ، حدّثني سهل بن سعدٍ السّاعديّ: أنّه رأى مروان بن الحكم في المسجد، قال: فأقبلت حتّى جلست إلى جنبه، فأخبرنا أنّ زيد بن ثابتٍ أخبره: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أملى عليّ: " لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل اللّه ". فجاءه ابن أمّ مكتومٍ، وهو يمليها عليّ، قال: يا رسول اللّه، واللّه لو أستطيع الجهاد لجاهدت -وكان أعمى-فأنزل اللّه على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، وفخذه على فخذي، فثقلت عليّ حتّى خفت أن ترض فخذي، ثمّ سرّي عنه، فأنزل اللّه: {غير أولي الضّرر}
انفرد به البخاريّ دون مسلمٍ، وقد روي من وجهٍ آخر عن زيدٍ فقال الإمام أحمد:
حدّثنا سليمان بن داود، أنبأنا عبد الرّحمن بن أبي الزّناد، عن خارجة بن زيدٍ قال: قال زيد بن ثابتٍ: إنّي قاعدٌ إلى جنب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، إذ أوحي إليه، قال: وغشيته السّكينة، قال: فوقع فخذه على فخذي حين غشيته السّكينة. قال زيدٌ: فلا واللّه ما وجدت شيئًا قطّ أثقل من فخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، ثمّ سرّي عنه فقال: " اكتب يا زيد ". فأخذت كتفًا فقال: "اكتب: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضّرر والمجاهدون} إلى قوله {أجرًا عظيمًا} فكتبت ذاك في كتفٍ، فقام حين سمعها ابن أمّ مكتومٍ -وكان رجلًا أعمى -فقام حين سمع فضيلة المجاهدين فقال: يا رسول اللّه، وكيف بمن لا يستطيع الجهاد ممّن هو أعمى، وأشباه ذلك؟ قال زيدٌ: فواللّه ما مضى كلامه -أو ما هو إلّا أن قضى كلامه -حتّى غشيت النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم السّكينة، فوقعت فخذه على فخذي، فوجدت من ثقلها كما وجدت في المرّة الأولى، ثمّ سرّي عنه فقال: " اقرأ ". فقرأت عليه: " لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون " فقال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: {غير أولي الضّرر} قال زيدٌ: فألحقتها، فواللّه لكأني أنظر إلى ملحقها عند صدعٍ كان في الكتف.
ورواه أبو داود، عن سعيد بن منصورٍ، عن عبد الرّحمن بن أبي الزّناد، عن أبيه، عن خارجة بن زيد بن ثابتٍ، عن أبيه، به نحوه.
وقال عبد الرّزّاق: أنبأنا معمرٌ، عن الزّهريّ، عن قبيصة بن ذؤيب، عن زيد بن ثابتٍ، قال: كنت أكتب لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال: " اكتب لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل اللّه " فجاء عبد اللّه ابن أمّ مكتومٍ فقال: يا رسول اللّه إنّي أحبّ الجهاد في سبيل اللّه ولكنّ بي من الزّمانة ما قد ترى، قد ذهب بصري. قال زيدٌ: فثقلت فخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم على فخذي، حتّى خشيت أن ترضّها ثمّ سرّي عنه، ثمّ قال: " اكتب: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضّرر والمجاهدون في سبيل اللّه} ورواه ابن أبي حاتمٍ وابن جريرٍ وقال عبد الرّزّاق: أخبرني ابن جريج، أخبرني عبد الكريم -هو ابن مالكٍ الجزري -أنّ مقسما مولى عبد اللّه بن الحارث -أخبره أنّ ابن عبّاسٍ أخبره: لا يستوي القاعدون من المؤمنين عن بدرٍ، والخارجون إلى بدرٍ.
انفرد به البخاريّ دون مسلمٍ. وقد رواه التّرمذيّ من طريق حجّاجٍ، عن ابن جريج، عن عبد الكريم، عن مقسم، عن ابن عبّاسٍ قال: لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضّرّ عن بدرٍ، والخارجون إلى بدرٍ، لمّا نزلت غزوة بدرٍ قال عبد اللّه بن جحشٍ وابن أمّ مكتومٍ: إنّا أعميان يا رسول اللّه فهل لنا رخصةٌ؟ فنزلت: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضّرر} وفضّل اللّه المجاهدين على القاعدين درجةً، فهؤلاء القاعدون غير أولي الضّرر {وفضّل اللّه المجاهدين على القاعدين أجرًا عظيمًا} درجاتٍ منه على القاعدين من المؤمنين غير أولي الضّرر.
هذا لفظ التّرمذيّ، ثمّ قال: هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ من هذا الوجه.
فقوله [تعالى] {لا يستوي القاعدون من المؤمنين} كان مطلقًا، فلمّا نزل بوحيٍ سريعٍ: {غير أولي الضّرر} صار ذلك مخرجًا لذوي الأعذار المبيحة لترك الجهاد -من العمى والعرج والمرض-عن مساواتهم للمجاهدين في سبيل اللّه بأموالهم وأنفسهم.
ثمّ أخبر تعالى بفضيلة المجاهدين على القاعدين، قال ابن عبّاسٍ: {غير أولي الضّرر} وكذا ينبغي أن يكون لما ثبت في الصّحيح عند البخاريّ من طريق زهير بن معاوية، عن حميد، عن أنسٍ؛ أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: " إنّ بالمدينة أقوامًا ما سرتم من مسير، ولا قطعتم من وادٍ إلّا وهم معكم فيه " قالوا: وهم بالمدينة يا رسول اللّه؟ قال: " نعم حبسهم العذر ".
وهكذا رواه الإمام أحمد عن محمّد بن أبي عديّ عن حميد، عن أنس، به وعلّقه البخاريّ مجزومًا. ورواه أبو داود عن حمّاد بن سلمة، عن حميدٍ، عن موسى بن أنس بن مالكٍ، عن أبيه عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: " لقد تركتم بالمدينة أقوامًا ما سرتم مسيرًا، ولا أنفقتم من نفقةٍ، ولا قطعتم من وادٍ إلّا وهم معكم فيه ". قالوا: يا رسول اللّه، وكيف يكونون معنا وهم بالمدينة؟ قال: " حبسهم العذر ".
لفظ أبي داود وفي هذا المعنى قال الشّاعر:
يا راحلين إلى البيت العتيق لقد = سرتم جسوما وسرنا نحن أرواحا
إنّا أقمنا على عذرٍ وعن قدرٍ = ومن أقام على عذرٍ فقد راحا
وقوله: {وكلا وعد اللّه الحسنى} أي: الجنّة والجزاء الجزيل. وفيه دلالةٌ على أنّ الجهاد ليس بفرض عينٍ بل هو فرضٌ على الكفاية.
ثمّ قال تعالى: {وفضّل اللّه المجاهدين على القاعدين أجرًا عظيمًا} ). [تفسير القرآن العظيم: 2/385-388]

تفسير قوله تعالى: {دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (ثمّ أخبر تعالى بما فضّلهم به من الدّرجات، في غرف الجنان العاليات، ومغفرة الذّنوب والزّلّات، وحلول الرّحمة والبركات، إحسانًا منه وتكريمًا؛ ولهذا قال تعالى: {درجاتٍ منه ومغفرةً ورحمةً وكان اللّه غفورًا رحيمًا}
وقد ثبت في الصّحيحين عن أبي سعيدٍ الخدريّ أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: " إنّ في الجنّة مائة درجةٍ، أعدّها اللّه للمجاهدين في سبيله، ما بين كلّ درجتين كما بين السّماء والأرض".
وقال الأعمش، عن عمرو بن مرّة، عن أبي عبيدة، عن عبد اللّه بن مسعودٍ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: " من بلغ بسهمٍ فله أجره درجةٌ " فقال رجلٌ: يا رسول اللّه، وما الدّرجة؟ فقال: " أما إنّها ليست بعتبة أمّك، ما بين الدّرجتين مائة عامٍ "). [تفسير القرآن العظيم: 2/388]

رد مع اقتباس