عرض مشاركة واحدة
  #9  
قديم 26 صفر 1440هـ/5-11-2018م, 03:06 PM
جمهرة التفاسير جمهرة التفاسير غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 2,953
افتراضي

تفاسير القرن الثامن الهجري

تفسير قوله تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({لقد صدق اللّه رسوله الرّؤيا بالحقّ لتدخلنّ المسجد الحرام إن شاء اللّه آمنين محلّقين رءوسكم ومقصّرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحًا قريبًا (27) هو الّذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدّين كلّه وكفى باللّه شهيدًا (28)}.
كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قد أرى في المنام أنّه دخل مكّة وطاف بالبيت فأخبر أصحابه بذلك وهو بالمدينة، فلمّا ساروا عام الحديبية لم يشكّ جماعةٌ منهم أنّ هذه الرّؤيا تتفسّر هذا العام، فلمّا وقع ما وقع من قضيّة الصّلح ورجعوا عامهم ذلك على أن يعودوا من قابل، وقع في نفوس بعض الصّحابة من ذلك شيءٌ، حتّى سأل عمر بن الخطّاب، رضي اللّه عنه، في ذلك، فقال له فيما قال: أفلم تكن تخبرنا أنّا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: "بلى، أفأخبرتك أنّك تأتيه عامك هذا" قال: لا قال: "فإنّك آتيه ومطوّفٌ به". وبهذا أجاب الصّدّيق، رضي اللّه عنه، أيضًا حذو القذّة بالقذّة؛ ولهذا قال تعالى: {لقد صدق اللّه رسوله الرّؤيا بالحقّ لتدخلنّ المسجد الحرام إن شاء اللّه}: [و] هذا لتحقيق الخبر وتوكيده، وليس هذا من الاستثناء في شيءٍ، [وقوله]: {آمنين} أي: في حال دخولكم. وقوله: {محلّقين رءوسكم ومقصّرين}، حالٌ مقدّرةٌ؛ لأنّهم في حال حرمهم لم يكونوا محلّقين ومقصّرين، وإنّما كان هذا في ثاني الحال، كان منهم من حلق رأسه ومنهم من قصّره، وثبت في الصّحيحين أنّ رسول اللّه صلّى الله عليه وسلم قال: "رحم اللّه المحلّقين"، قالوا: والمقصّرين يا رسول اللّه؟ قال: "رحم اللّه المحلّقين". قالوا: والمقصّرين يا رسول اللّه؟ قال: "رحم اللّه المحلّقين". قالوا: والمقصّرين يا رسول اللّه؟ قال: "والمقصّرين" في الثّالثة أو الرّابعة.
وقوله: {لا تخافون}: حالٌ مؤكّدةٌ في المعنى، فأثبت لهم الأمن حال الدّخول، ونفى عنهم الخوف حال استقرارهم في البلد لا يخافون من أحدٍ. وهذا كان في عمرة القضاء في ذي القعدة سنة سبعٍ، فإنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم لمّا رجع من الحديبية في ذي القعدة رجع إلى المدينة فأقام بها ذا الحجّة والمحرّم، وخرج في صفر إلى خيبر ففتحها اللّه عليه بعضها عنوةً وبعضها صلحًا، وهي إقليمٌ عظيمٌ كثير النّخل والزّروع، فاستخدم من فيها من اليهود عليها على الشّطر، وقسّمها بين أهل الحديبية وحدهم، ولم يشهدها أحدٌ غيرهم إلّا الّذين قدموا من الحبشة، جعفر بن أبي طالبٍ وأصحابه، وأبو موسى الأشعريّ وأصحابه، ولم يغب منهم أحدٌ، قال ابن زيدٍ: إلّا أبا دجانة سماك بن خرشة، كما هو مقرّرٌ في موضعه ثمّ رجع إلى المدينة، فلمّا كان في ذي القعدة [في] سنة سبعٍ خرج إلى مكّة معتمرًا هو وأهل الحديبية، فأحرم من ذي الحليفة، وساق معه الهدي، قيل: كان ستّين بدنةً، فلبّى وسار أصحابه يلبّون. فلمّا كان قريبًا من مرّ الظّهران بعث محمّد بن مسلمة بالخيل والسّلاح أمامه، فلمّا رآه المشركون رعبوا رعبًا شديدًا، وظنّوا أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يغزوهم، وأنّه قد نكث العهد الذي بينه بينهم من وضع القتال عشر سنين، وذهبوا فأخبروا أهل مكّة، فلمّا جاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فنزل بمرّ الظّهران حيث ينظر إلى أنصاب الحرم، بعث السّلاح من القسيّ والنّبل والرّماح إلى بطن يأجج، وسار إلى مكّة بالسّيف مغمدةً في قربها، كما شارطهم عليه. فلمّا كان في أثناء الطّريق بعثت قريش مكرز بن حفصٍ فقال: يا محمّد، ما عرفناك تنقض العهد. قال: "وما ذاك؟ " قال: دخلت: علينا بالسّلاح والقسيّ والرّماح. فقال: "لم يكن ذلك، وقد بعثنا به إلى يأجج"، فقال: بهذا عرفناك، بالبر والوفاء. وخرجت رؤوس الكفّار من مكّة لئلّا ينظروا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم و [لا] إلى أصحابه غيظًا وحنقًا، وأمّا بقيّة أهل مكّة من الرّجال والنّساء والولدان فجلسوا في الطّرق وعلى البيوت ينظرون إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه، فدخلها عليه الصّلاة والسّلام، وبين يديه أصحابه يلبّون، والهدي قد بعثه إلى ذي طوًى، وهو راكبٌ ناقته القصواء الّتي كان راكبها يوم الحديبية، وعبد اللّه بن رواحة الأنصاريّ آخذٌ بزمام ناقة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقودها، وهو يقول:
باسم الّذي لا دين إلّا دينه = باسم الّذي محمدٌ رسوله...
خلّوا بني الكفّار عن سبيله = اليوم نضربكم على تأويله...
كما ضربناكم على تنزيله = ضربًا يزيل الهام عن مقيله...
ويذهل الخليل عن خليله = قد أنزل الرّحمن في تنزيله...
في صحف تتلى على رسوله = بأنّ خير القتل في سبيله...
يا ربّ إنّي مؤمنٌ بقيله
فهذا مجموعٌ من رواياتٍ متفرّقةٍ.
قال يونس بن بكيرٍ، عن محمّد بن إسحاق: حدّثني عبد اللّه بن أبي بكر بن حزمٍ قال: لـمّا دخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم مكّة في عمرة القضاء، دخلها وعبد اللّه بن رواحة آخذٌ بخطام ناقته صلّى اللّه عليه وسلّم، وهو يقول:
خلّوا بني الكفّار عن سبيله = إنّي شهيدٌ أنّه رسوله...
خلّوا فكلّ الخير في رسوله = يا ربّ إنّي مؤمنٌ بقيله...
نحن قتلناكم على تأويله = كما قتلناكم على تنزيله...
ضربًا يزيل الهام عن مقيله = ويذهل الخليل عن خليله...
وقال عبد الرّزّاق: أخبرنا معمرٌ، عن الزّهريّ، عن أنس بن مالكٍ قال: لمّا دخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم مكّة في عمرة القضاء، مشى عبد اللّه بن رواحة بين يديه، وفي روايةٍ وابن رواحة آخذٌ بغرزه، وهو يقول:
خلّوا بني الكفّار عن سبيله = قد نزّل الرّحمن في تنزيله...
بأنّ خير القتل في سبيله = يا ربّ إنّي مؤمنٌ بقيله...
نحن قتلناكم على تأويله = كما قتلناكم على تنزيله...
ضربا يزيل الهام عن مقيله = ويذهل الخليل عن خليله...
وقال الإمام أحمد: حدّثنا محمّد بن الصّبّاح، حدّثنا إسماعيل -يعني: ابن زكريّا-عن عبد اللّه -يعني: ابن عثمان-عن أبي الطّفيل، عن ابن عبّاسٍ؛ أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لمّا نزل مرّ الظّهران في عمرته، بلغ أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنّ قريشًا [تقول]: ما يتباعثون من العجف. فقال أصحابه: لو انتحرنا من ظهرنا، فأكلنا من لحمه، وحسونا من مرقه، أصبحنا غدًا حين ندخل على القوم وبنا جمامة. قال: "لا تفعلوا، ولكن اجمعوا لي من أزوادكم". فجمعوا له وبسطوا الأنطاع، فأكلوا حتّى تركوا وحثا كلّ واحدٍ منهم في جرابه، ثمّ أقبل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حتّى دخل المسجد، وقعدت قريشٌ نحو الحجر، فاضطبع بردائه، ثمّ قال: "لا يرى القوم فيكم غميرةً" فاستلم الرّكن ثمّ رمل، حتّى إذا تغيّب بالرّكن اليمانيّ مشى إلى الرّكن الأسود، فقالت قريشٌ: ما ترضون بالمشي أما إنّكم لتنقزون نقز الظّباء، ففعل ذلك ثلاثة أشواطٍ، فكانت سنّة. قال أبو الطّفيل: فأخبرني ابن عبّاسٍ: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فعل ذلك في حجّة الوداع.
وقال أحمد أيضًا: حدّثنا يونس؛ حدّثنا حمّاد بن زيدٍ، حدّثنا أيّوب، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ قال: قدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه مكّة، وقد وهّنتهم حمّى يثرب، ولقوا منها سوءًا، فقال المشركون: إنّه يقدم عليكم قومٌ قد وهّنتهم حمّى يثرب، ولقوا منها شرًّا، وجلس المشركون من النّاحية الّتي تلي الحجر، فأطلع اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه وسلّم على ما قالوا، فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم [أصحابه] أن يرملوا الأشواط الثّلاثة؛ ليرى المشركون جلدهم، قال: فرملوا ثلاثة أشواطٍ، وأمرهم أن يمشوا بين الرّكنين حيث لا يراهم المشركون، ولم يمنع النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أن يرملوا الأشواط كلّها إلّا إبقاءً عليهم، فقال المشركون: أهؤلاء الّذين زعمتم أنّ الحمّى قد وهّنتهم؟ هؤلاء أجلد من كذا وكذا.
أخرجاه في الصّحيحين من حديث حمّاد بن زيدٍ، به وفي لفظٍ: قدم النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه صبيحة رابعةٍ، أي من ذي القعدة، فقال المشركون: إنّه يقدم عليكم وفدٌ قد وهّنتهم حمّى يثرب، فأمرهم النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أن يرملوا الأشواط الثّلاثة، ولم يمنعهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم.
قال البخاريّ: وزاد ابن سلمة -يعني حمّاد بن سلمة-عن أيّوب، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ قال: لمّا قدم النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم لعامه الّذي استأمن قال: "ارملوا". ليرى المشركون قوّتهم، والمشركون من قبل قعيقعان.
وحدّثنا محمّدٌ، حدّثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينارٍ، عن عطاءٍ، عن ابن عبّاسٍ قال: إنّما سعى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم بالبيت وبالصّفا والمروة، ليرى المشركون قوّته.
ورواه في مواضع أخر، ومسلمٌ والنّسائيّ، من طرقٍ، عن سفيان بن عيينة، به.
وقال أيضًا: حدّثنا عليّ بن عبد اللّه، حدّثنا سفيان، حدّثنا إسماعيل بن أبي خالدٍ، سمع ابن أبي أوفى يقول: لـمّا اعتمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم سترناه من غلمان المشركين ومنهم؛ أن يؤذوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم. انفرد به البخاريّ دون مسلمٍ.
وقال البخاريّ أيضًا: حدّثنا محمّد بن رافعٍ، حدّثنا سريج بن النّعمان، حدّثنا فليحٌ، وحدّثني محمّد بن الحسين بن إبراهيم، حدّثنا أبي حدّثنا فليح بن سليمان، عن نافعٍ، عن ابن عمر؛ أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم خرج معتمرًا، فحال كفّار قريشٍ بينه وبين البيت، فنحر هديه وحلق رأسه بالحديبية، وقاضاهم على أن يعتمر العام المقبل، ولا يحمل سلاحًا عليهم إلّا سيوفًا، ولا يقيم بها إلّا ما أحبّوا. فاعتمر من العام المقبل، فدخلها كما كان صالحهم، فلمّا أن قام بها ثلاثًا، أمروه أن يخرج فخرج.
وهو في صحيح مسلمٍ أيضًا.
وقال البخاريّ أيضًا: حدّثنا عبيد اللّه بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء، قال: اعتمر النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم في ذي القعدة، فأبى أهل مكّة أن يدعوه يدخل مكّة حتّى قاضاهم على أن يقيم بها ثلاثة أيّامٍ، فلمّا كتبوا الكتاب كتبوا: "هذا ما قاضانا عليه محمّدٌ رسول اللّه". قالوا: لا نقرّ بهذا، ولو نعلم أنّك رسول اللّه ما منعناك شيئًا، ولكن أنت محمّد بن عبد اللّه. قال: "أنا رسول اللّه، وأنا محمّد بن عبد اللّه". ثمّ قال لعليّ بن أبي طالبٍ: "امح رسول اللّه". قال: لا واللّه لا أمحوك أبدًا. فأخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم الكتاب، وليس يحسن يكتب، فكتب: "هذا ما قاضى عليه محمّد بن عبد اللّه: لا يدخل مكّة السّلاح إلّا السّيف في القراب، وألّا يخرج من أهلها بأحدٍ أراد أن يتبعه، وألّا يمنع من أصحابه أحدًا إن أراد أن يقيم بها" فلمّا دخلها ومضى الأجل، أتوا عليًّا فقالوا: قل لصاحبك: اخرج عنّا فقد مضى الأجل، فخرج النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فتبعته ابنة حمزة تنادي: يا عمّ، يا عمّ. فتناولها عليٌّ فأخذ بيدها، وقال لفاطمة: دونك ابنة عمّك فحملتها، فاختصم فيها علي وزيد وجعفرٌ، فقال عليٌّ: أنا أخذتها وهي ابنة عمّي، وقال جعفرٌ: ابنة عمّي وخالتها تحتي، وقال زيدٌ: ابنة أخي، فقضى بها النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم لخالتها، وقال: "الخالة بمنزلة الأم"، وقال لعلي: "أنت مني وأنا منك" وقال لجعفر: "أشبهت خلقي وخلقي" وقال لزيدٍ: "أنت أخونا ومولانا" قال عليٌّ: ألا تتزوّج ابنة حمزة؟ قال: "إنّها ابنة أخي من الرّضاعة" انفرد به من هذا الوجه.
وقوله: {فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحًا قريبًا} أي: فعلم اللّه تعالى من الخيرة والمصلحة في صرفكم عن مكّة ودخولكم إليها عامكم ذلك ما لم تعلموا أنتم، {فجعل من دون ذلك} أي: قبل دخولكم الّذي وعدتم به في رؤيا النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، {فتحًا قريبًا}: وهو الصّلح الّذي كان بينكم وبين أعدائكم من المشركين). [تفسير ابن كثير: 7/ 355-360]

تفسير قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) :(ثمّ قال تعالى، مبشّرًا للمؤمنين بنصرة الرّسول صلوات اللّه [وسلامه] عليه على عدوّه وعلى سائر أهل الأرض: {هو الّذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحقّ} أي: بالعلم النّافع والعمل الصّالح؛ فإنّ الشّريعة تشتمل على شيئين: علمٍ وعملٍ، فالعلم الشّرعيّ صحيحٌ، والعمل الشّرعيّ مقبولٌ، فإخباراتها حقٌّ وإنشاءاتها عدلٌ، {ليظهره على الدّين كلّه} أي: على أهل جميع الأديان من سائر أهل الأرض، من عربٍ وعجمٍ وملّيّين ومشركين، {وكفى باللّه شهيدًا} أي: أنه رسوله، وهو ناصره). [تفسير ابن كثير: 7/ 360]

تفسير قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({محمّدٌ رسول اللّه والّذين معه أشدّاء على الكفّار رحماء بينهم تراهم ركّعًا سجّدًا يبتغون فضلا من اللّه ورضوانًا سيماهم في وجوههم من أثر السّجود ذلك مثلهم في التّوراة ومثلهم في الإنجيل كزرعٍ أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزّرّاع ليغيظ بهم الكفّار وعد اللّه الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات منهم مغفرةً وأجرًا عظيمًا (29)}
يخبر تعالى عن محمّدٍ صلوات اللّه عليه، أنّه رسوله حقًّا بلا شكٍّ ولا ريبٍ، فقال: {محمّدٌ رسول اللّه}، وهذا مبتدأٌ وخبرٌ، وهو مشتملٌ على كلّ وصفٍ جميلٍ، ثمّ ثنّى بالثّناء على أصحابه فقال: {والّذين معه أشدّاء على الكفّار رحماء بينهم}، كما قال تعالى: {فسوف يأتي اللّه بقومٍ يحبّهم ويحبّونه أذلّةٍ على المؤمنين أعزّةٍ على الكافرين} [المائدة: 54] وهذه صفة المؤمنين أن يكون أحدهم شديدًا عنيفًا على الكفّار، رحيمًا برًّا بالأخيار، غضوبًا عبوسًا في وجه الكافر، ضحوكًا بشوشًا في وجه أخيه المؤمن، كما قال تعالى: {يا أيّها الّذين آمنوا قاتلوا الّذين يلونكم من الكفّار وليجدوا فيكم غلظةً} [التّوبة: 123]، وقال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: "مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالحمّى والسّهر"، وقال: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضًا" وشبّك بين أصابعه كلا الحديثين في الصّحيح.
وقوله: {تراهم ركّعًا سجّدًا يبتغون فضلا من اللّه ورضوانًا}: وصفهم بكثرة العمل وكثرة الصّلاة، وهي خير الأعمال، ووصفهم بالإخلاص فيها للّه، عزّ وجلّ، والاحتساب عند اللّه جزيل الثّواب، وهو الجنّة المشتملة على فضل اللّه، وهو سعة الرّزق عليهم، ورضاه، تعالى، عنهم وهو أكبر من الأوّل، كما قال: {ورضوانٌ من اللّه أكبر} [التّوبة: 72].
وقوله: {سيماهم في وجوههم من أثر السّجود}: قال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: {سيماهم في وجوههم} يعني: السّمت الحسن.
وقال مجاهدٌ وغير واحدٍ: يعني: الخشوع والتّواضع.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا عليّ بن محمّدٍ الطّنافسي، حدّثنا حسينٌ الجعفي، عن زائدة، عن منصورٍ عن مجاهدٍ: {سيماهم في وجوههم من أثر السّجود} قال: الخشوع قلت: ما كنت أراه إلّا هذا الأثر في الوجه، فقال: ربّما كان بين عيني من هو أقسى قلبًا من فرعون.
وقال السّدّيّ: الصّلاة تحسّن وجوههم.
وقال بعض السّلف: من كثرت صلاته باللّيل حسن وجهه بالنّهار.
وقد أسنده ابن ماجه في سننه، عن إسماعيل بن محمّدٍ الطّلحي، عن ثابت بن موسى، عن شريكٍ، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابرٍ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "من كثرت صلاته باللّيل حسن وجهه بالنّهار" والصّحيح أنّه موقوفٌ.
وقال بعضهم: إنّ للحسنة نورًا في القلب، وضياءً في الوجه، وسعةً في الرّزق، ومحبّةً في قلوب النّاس.
وقال أمير المؤمنين عثمان: ما أسرّ أحدٌ سريرةً إلّا أبداها اللّه على صفحات وجهه، وفلتات لسانه.
والغرض أنّ الشّيء الكامن في النّفس يظهر على صفحات الوجه، فالمؤمن إذا كانت سريرته صحيحةً مع اللّه أصلح اللّه ظاهره للنّاس، كما روي عن عمر بن الخطّاب، رضي اللّه عنه، أنّه قال: من أصلح سريرته أصلح اللّه علانيته.
وقال أبو القاسم الطّبرانيّ: حدّثنا محمود بن محمّدٍ المروزيّ، حدثنا حامد بن آدم المروزي، حدّثنا الفضل بن موسى، عن محمّد بن عبيد اللّه العرزمي، عن سلمة بن كهيل، عن جندب بن سفيان البجلي قال: قال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: "ما أسرّ أحدٌ سريرةً إلّا ألبسه اللّه رداءها، إن خيرًا فخيرٌ، وإن شرًّا فشرٌّ"، العرزميّ متروكٌ.
وقال الإمام أحمد: حدّثنا حسن بن موسى، حدّثنا ابن لهيعة، حدّثنا درّاجٍ، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيدٍ، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، أنّه قال: "لو أنّ أحدكم يعمل في صخرةٍ صمّاء ليس لها بابٌ ولا كوّةٌ، لخرج عمله للنّاس كائنًا ما كان".
وقال الإمام أحمد [أيضًا]: حدّثنا حسنٌ، حدّثنا زهير، حدّثنا قابوس بن أبي ظبيان: أنّ أباه حدّثه عن ابن عبّاسٍ، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، قال: "إنّ الهدي الصّالح، والسّمت الصّالح، والاقتصاد جزءٌ من خمسةٍ وعشرين جزءًا من النّبوّة" ورواه أبو داود عن عبد اللّه بن محمّدٍ النّفيليّ، عن زهيرٍ، به.
فالصّحابة [رضي اللّه عنهم] خلصت نيّاتهم وحسنت أعمالهم، فكلّ من نظر إليهم أعجبوه في سمتهم وهديهم.
وقال مالكٌ، رحمه اللّه: بلغني أنّ النّصارى كانوا إذا رأوا الصّحابة الّذين فتحوا الشّام يقولون: "واللّه لهؤلاء خيرٌ من الحواريّين فيما بلغنا". وصدقوا في ذلك، فإنّ هذه الأمّة معظّمةٌ في الكتب المتقدّمة، وأعظمها وأفضلها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد نوّه اللّه بذكرهم في الكتب المنزّلة والأخبار المتداولة ؛ ولهذا قال هاهنا: {ذلك مثلهم في التّوراة}، ثمّ قال: {ومثلهم في الإنجيل كزرعٍ أخرج شطأه [فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه}: {أخرج شطأه]} أي: فراخه، {فآزره} أي: شدّه {فاستغلظ} أي: شبّ وطال، {فاستوى على سوقه يعجب الزّرّاع} أي: فكذلك أصحاب محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم آزروه وأيّدوه ونصروه فهم معه كالشّطء مع الزّرع، {ليغيظ بهم الكفّار}.
ومن هذه الآية انتزع الإمام مالكٌ -رحمه اللّه، في روايةٍ عنه-بتكفير الرّوافض الّذين يبغضون الصّحابة، قال: لأنّهم يغيظونهم، ومن غاظ الصّحابة فهو كافرٌ لهذه الآية. ووافقه طائفةٌ من العلماء على ذلك. والأحاديث في فضائل الصّحابة والنّهي عن التّعرّض لهم بمساءةٍ كثيرةٌ، ويكفيهم ثناء الله عليهم، ورضاه عنهم.
ثمّ قال: {وعد اللّه الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات منهم} من" هذه لبيان الجنس، {مغفرةً} أي: لذنوبهم. {وأجرًا عظيمًا} أي: ثوابًا جزيلًا ورزقًا كريمًا، ووعد اللّه حقٌّ وصدقٌ، لا يخلف ولا يبدّل، وكلّ من اقتفى أثر الصّحابة فهو في حكمهم، ولهم الفضل والسّبق والكمال الّذي لا يلحقهم فيه أحدٌ من هذه الأمّة، رضي اللّه عنهم وأرضاهم، وجعل جنّات الفردوس مأواهم، وقد فعل.
قال مسلمٌ في صحيحه: حدّثنا يحيى بن يحيى، حدّثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالحٍ، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "لا تسبّوا أصحابي، فوالّذي نفسي بيده لو أنّ أحدكم أنفق مثل أحدٍ ذهبًا ما أدرك مدّ أحدهم ولا نصيفه"). [تفسير ابن كثير: 7/ 360-363]

رد مع اقتباس