عرض مشاركة واحدة
  #25  
قديم 26 ذو الحجة 1431هـ/2-12-2010م, 09:21 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي [الآيات من 246 إلى 252]

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آَيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آَلُ مُوسَى وَآَلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248) فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251) تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)}

تفسير قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت:207هـ): (وقوله: {ابعث لنا ملكاً نّقاتل في سبيل اللّه...}
{نقاتل} مجزومة لا يجوز رفعها. فإن قرئت بالياء "يقاتل" جاز رفعها وجزمها. فأمّا الجزم فعلى المجازاة بالأمر، وأمّا الرفع فإن تجعل (يقاتل) صلة للملك؛ كأنك قلت: ابعث لنا الذي يقاتل.
فإذا رأيت بعد الأمر اسما نكرة بعده فعل يرجع بذكره أو يصلح في ذلك الفعل إضمار الاسم، جاز فيه الرفع والجزم؛ تقول في الكلام: علّمني علما أنتفع به، كأنك قلت: علمني الذي أنتفع به، وإن جزمت (أنتفع) على أن تجعلها شرطا للأمر وكأنك لم تذكر العلم جاز ذلك. فإن ألقيت "به" لم يكن إلا جزما؛ لأن الضمير لا يجوز في (انتفع)؛ ألا ترى أنك لا تقول: علّمني علما انتفعه.
فإن قلت: فهلاّ رفعت وأنت تريد إضمار (به)؟
قلت: لا يجوز إضمار حرفين، فلذلك لم يجز في قوله (نقاتل) إلا الجزم.
ومثله {اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضاً يخل لكم وجه أبيكم} لا يجوز إلا الجزم لأن "يخل" لم يعد بذكر الأرض، ولو كان "أرضا تخل لكم" جاز الرفع والجزم؛ كما قال: {ربّنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلّمهم الكتاب والحكمة ويزكّيهم} وكما قال الله تبارك وتعالى: {خذ من أموالهم
صدقة تطهّرهم وتزكّيهم} ولو كان جزما كان صوابا؛ لأن في قراءة عبد الله "أنزل علينا مائدة من السماء تكن لنا عيدا" وفي قراءتنا بالواو "تكون".
ومنه ما يكون الجزم فيه أحسن؛ وذلك بأن يكون الفعل الذي قد يجزم ويرفع في آية،
والاسم الذي يكون الفعل صلة له في الآية التي قبله، فيحسن الجزم لانقطاع الاسم من صلته؛ من ذلك: {فهب لي من لدنك وليّاً. يرثني} جزمه يحيى ابن وثّاب والأعمش -
ورفعه حمزة "يرثني" لهذه العلّة، وبعض القراء رفعه أيضا - لمّا كانت {وليا} رأس آية انقطع منها قوله {يرثني}، فحسن الجزم.
ومن ذلك قوله: {وابعث في المدائن حاشرين. يأتوك} على الجزم. ولو كانت رفعا على صلة "الحاشرين" قلت: يأتوك.

فإذا كان الاسم الذي بعده فعل معرفةً يرجع بذكره، مما جاز في نكرته وجهان جزمت فقلت: ابعث إليّ أخاك يصب خبرا، لم يكن إلا جزما؛ لأن الأخ معرفة والمعرفة لا توصل. ومنه قوله: {أرسله معنا غداً يرتع ويلعب} الهاء معرفة و"غدا" معرفة فليس فيه إلا الجزم، ومثل قوله: {قاتلوهم يعذّبهم الله} جزم لا غير.
ومن هذا نوع إذا كان بعد معرفته فعلٌ لها جاز فيه الرفع والجزم؛ مثل قوله: {فذروها تأكل في أرض الله} وقوله: {ذرهم يأكلوا} ولو كان رفعا لكان صوابا؛ كما قال تبارك وتعالى: {ثمّ ذرهم في خوضهم يلعبون} ولم يقل: يلعبوا. فأمّا رفعه فأن تجعل "يلعبون" في موضع نصب كأنك قلت في الكلام: ذرهم لاعبين.
وكذلك دعهم وخلّهم واتركهم.
وكلّ فعل صلح أن يقع على اسم معرفة وعلى فعله ففيه هذان الوجهان، والجزم فيه وجه الكلام؛ لأن الشرط يحسن فيه، ولأن الأمر فيه سهل، ألا ترى أنك تقول: قل له فليقم معك.
فإن رأيت الفعل الثاني يحسن فيه محنة الأمر ففيه الوجهان بمذهب كالواحد، وفي إحدى القراءتين: "ذرهم يأكلون ويتمتّعون ويلهيهم الأمل".

وفيه وجه آخر يحسن في الفعل الأوّل من ذلك: أوصه يأت زيدا، أو مره، أو أرسل إليه فهذا يذهب إلى مذهب القول، ويكون جزمه على شبيه بأمر ينوى له مجدّدا.
وإنما يجزم على أنه شرط لأوّله. من ذلك قولك: مر عبد الله يذهب معنا؛ ألا ترى أن القول يصلح أن يوضع في موضع (مر)، وقال الله تبارك وتعالى: {قل للّذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيّام الله} فـ "يغفروا" في موضع جزم، والتأويل - والله أعلم -: قل للذين آمنوا اغفروا، على أنه شرط للأمر فيه تأويل الحكاية.
ومثله: {قل لعبادي يقولوا التي هي أحسن} فتجزمه بالشرط "قل"، وقال قوم: بنيّه الأمر في هذه الحروف: من القول والأمر والوصيّة. قيل لهم: إن كان جزم على الحكاية فينبغي لكم أن تقولوا للرجل في وجهه: قلت لك تقم، وينبغي أن تقول: أمرتك تذهب معنا، فهذا دليل على أنه شرط للأمر.

فإن قلت: فقد قال الشاعر:
فلا تستطل منّي بقائي ومدّتي * ولكن يكن للخير فيك نصيب
قلت: هذا مجزوم بنيّة الأمر؛ لأن أوّل الكلام نهي، وقوله (ولكن) نسق وليست بجواب. فأراد: ولكن ليكن للخير فيك نصيب. ومثله قول الآخر:
من كان لا يزعم أنى شاعر * فيدن مني تنهه المزاجر
فجعل الفاء جوابا للجزاء، وضّمن (فيدن) لاما يجزم [بها]. وقال الآخر:
فقلت ادعي وأدع فإنّ أندى * لصوتٍ أن ينادي داعيان
أراد: ولأدع.
وفي قوله (وأدع) طرف من الجزاء وإن كان أمرا قد نسق أوّله على آخره. وهو مثل قول الله عزّ وجلّ: {اتّبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم} والله أعلم. وأما قوله: {ذروني أقتل موسى وليدع ربّه} فليس تأويل جزاء، إنما هو أمر محض؛ لأن إلقاء الواو وردّه إلى الجزاء (لا يحسن فليس إلى الجزاء)؛ ألا ترى أنه لا يحسن أن تقول ذروني أقتله يدع؛ كما حسن "اتّبعوا سبيلنا تحمل خطاياكم"، والعرب لا تجازي بالنهي كما تجازي بالأمر، وذلك أن النهي يأتي بالجحد، ولم تجاز العرب بشيء من الجحود، وإنما يجيبونه بالفاء وألحقوا النهي إذا كان بلا، بليس وما وأخواتهن من الجحود.
فإذا رأيت نهيا بعد اسمه فعل فارفع ذلك الفعل فتقول: لا تدعنّه يضربه، ولا تتركه يضربك. جعلوه رفعا إذ لم يكن آخره يشاكل أوّله؛ إذ كان في أوّله جحد وليس في آخره جحد، فلو قلت: لا تدعه لا يؤذك جاز الجزم والرفع؛ إذ كان أوّله كآخره؛ كما تقول في الأمر: دعه ينام، ودعه ينم؛ إذ كان لا جحد فيهما. فإذا أمرت ثم جعلت في الفعل (لا) رفعت؛ لاختلافهما
أيضا، فقلت: ايتنا لا نسيء إليك؛ كقول الله تبارك وتعالى: {وأمر أهلك بالصّلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا} [لمّا كان] أوّل الكلام أمرا وآخره نهيا فيه (لا) فاختلفا، جعلت (لا) على معنى ليس فرفعت.
ومن ذلك قوله تبارك وتعالى: {فقاتل في سبيل الله لا تكلّف إلاّ نفسك}
وقوله: {يأيّها الّذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضرّكم من ضلّ إذا اهتديتم} رفع،
ومنه قوله: {فاجعل بيننا وبينك موعداً لا نخلفه} ترفع، ولو نويت الجزاء لجاز في قياس النحو.
وقد قرأ يحيى بن وثّاب وحمزة: "فاضرب لهم طريقا في البحر يبساً لا تخف دركا ولا تخشى" بالجزاء المحض.

فإن قلت: فكيف أثبتت الياء في (تخشى)؟ قلت: في ذلك ثلاثة أوجه؛
1- إن شئت استأنفت "ولا تخشى" بعد الجزم،
2- وإن شئت جعلت (تخشى) في موضع جزم وإن كانت فيها الياء؛ لأن من العرب من يفعل ذلك؛ قال بعض بني عبس:

ألم يأتيك والأنباء تنمي * بما لاقت لبون بني زياد
فأثبتت الياء في (يأتيك) وهي في موضع جزم؛ لأنه رآها ساكنة، فتركها على سكونا؛ كما تفعل بسائر الحروف. وأنشدني بعض بني حنيفة:
قال لها من تحتها وما استوى * هزّي إليك الجذع يجنيك الجنى
وكان ينبغي أن تقول: يجنك. وأنشدني بعضهم في الواو:
هجوت زبّان ثم جئت معتذرا * من سبّ زبّان لم تهجو ولم تدع
والوجه الثالث: أن يكون الياء صلة لفتحة الشين؛ كما قال امرؤ القيس:
* ألا أيّها الليل الطويل ألا انجلي *
فهذه الياء ليست بلام الفعل؛ هي صلة لكسرة اللام؛ كما توصل القوافي بإعراب رويّها؛ مثل قول الأعشى:
* بانت سعاد وأمسى حبلها انقطاعا *
وقول الآخر:
* أمن أمّ أوفى دمنةٌ لم تكلمي *
وقد يكون جزم الثاني إذا كانت فيه (لا) على نيّة النهي وفيه معنىً من الجزاء؛ كما كان في قوله: {ولنحمل خطاياكم} طرف من الجزاء وهو أمر.
فمن ذلك قول الله تبارك وتعالى: {يا أيّها النّمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنّكم سليمان وجنوده} المعنى والله أعلم: إن؟ تدخلن حطّمتنّ، وهو نهي محض؛ لأنه لو كان جزاء لم تدخله النون الشديدة ولا الخفيفة؛ ألا ترى أنك لا تقول: إن تضربني أضربنّك إلا في ضرورة شعر؛ كقوله:

فمهما تشأ منه فزارة تعطكم * ومهما تشأ منه فزارة تمنعا). [معاني القرآن: 1/157-162]
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت:207هـ): (وقوله: {وما لنا ألاّ نقاتل...}
جاءت (أن) في موضع، وأسقطت من آخر؛ فقال في موضع آخر: {وما لكم لا تؤمنون بالله والرّسول يدعوكم}، وقال في موضع آخر: {وما لنا ألاّ نتوكّل على الله} فمن ألقى (أن) فالكلمة على جهة العربيّة التي لا علة فيها، والفعل في موضع نصب؛ كقول الله - عزّ وجل -: {فما للّذين كفروا قبلك مهطعين} وكقوله: {فما لكم في المنافقين فئتين} فهذا وجه الكلام في قولك: مالك؟ وما بالك؟ وما شأنك: أن تنصب فعلها إذا كان اسما، وترفعه إذا كان فعلا أوّله الياء أو التاء أو النون أو الألف؛ كقول الشاعر:
* مالك ترغين ولا ترغو الخلف *
الخلفة: التي في بطنها ولدها.
وأما إذا قال (أن) فإنه مما ذهب إلى المعنى الذي يحتمل دخول (أن)؛ ألا ترى أن قولك للرجل: مالك لا تصلي في الجماعة؟ بمعنى: ما يمنعك أن تصلي، فأدخلت (أن) في (مالك) إذ وافق معناها معنى المنع والدليل على ذلك قول الله عزّ وجلّ: {ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك} وفي موضع آخر: {مالك ألاّ تكون مع الساجدين} وقصة إبليس واحدة، فقال فيه بلفظين ومعناهما واحد وإن اختلفا. ومثله ما حمل على معنى هو مخالف لصاحبه في اللفظ قول الشاعر:
يقول إذا اقلولى عليها وأقردت * ألا هل أخو عيشٍ لذيذ بدائم
فأدخل الباء في (هل) وهي استفهام، وإنما تدخل الباء في ما الجحد؛ كقولك: ما أنت بقائل. فلمّا كانت النيّة في (هل) يراد بها الجحد أدخلت لها الباء.
ومثله قوله في قراءة عبد الله "كيف يكون للمشركين عهدٌ": ليس للمشركين. وكذلك قول الشاعر:

فاذهب فأيّ فتىً في الناس أحرزه * من يومه ظلمٌ دعج ولا جبل
(رد عليه بلا) كأن معنى أي فتى في الناس أحرزه معناه: ليس يحرز الفتى من يومه ظلم دعج ولا جبل.
وقال الكسائي: سمعت العرب تقول: أين كنت لتنجو مني! لأن المعنى: ما كنت لتنجو مني، فأدخل اللام في (أين) لأن معناها جحد: ما كنت لتنجو مني.
وقال الشاعر:

فهذي سيوف يا صديّ بن مالك * كثير ولكن أين بالسيف ضارب
أراد: ليس بالسيف ضارب، ولو لم يرد (ليس) لم يجز الكلمة؛ لأن الباء من صلة (ضارب) ولا تقدّم صلة اسم قبله؛ ألا ترى أنك لا تقول: ضربت بالجارية كفيلا، حتى تقول: ضربت كفيلا بالجارية.
وجاز أن تقول: ليس بالجارية كفيل؛ لأن (ليس) نظيرة لـ (ما)؛ لأنها لا ينبغي لها أن ترفع الاسم كما أن (ما) لا ترفعه.

وقال الكسائي في إدخالهم (أن) في (مالك): هو بمنزلة قوله: "مالكم في ألا تقاتلوا" ولو كان ذلك على ما قال لجاز في الكلام أن تقول: مالك أن قمت، ومالك أنك قائم؛ لأنك تقول: في قيامك، ماضيا ومستقبلا، وذلك غير جائز؛ لأن المنع إنما يأتي بالاستقبال؛ تقول: منعتك أن تقوم، ولا تقول: منعتك أن قمت. فلذلك جاءت في (مالك) في المستقبل ولم تأت في دائم ولا ماض فذلك شاهد على اتفاق معنى مالك وما منعك.
وقد قال بعض النحويين: هي مما أضمرت فيه الواو، حذفت من نحو قولك في الكلام: مالك ولأن تذهب إلى فلان؟ فألقى الواو منها؛ لأن (أن) حرف ليس بمتمكن في الأسماء.

فيقال: أتجيز أن أقول: مالك أن تقوم، ولا أجيز: مالك القيام [فقال]: لأن القيام اسم صحيح و(أن) اسم ليس بالصحيح. واحتجّ بقول العرب: إياك أن تتكلم، وزعم أن المعنى إياك وأن تتكلم.
فردّ ذلك عليه أن العرب تقول: إياك بالباطل أن تنطق، فلو كانت الواو مضمرة في (أن) لم يجز لما بعد الواو من الأفاعيل أن تقع على ما قبلها؛ ألا ترى أنه غير جائز أن تقول: ضربتك بالجارية وأنت كفيل، تريد: وأنت كفيل بالجارية، وأنك تقول: رأيتك وإيّانا تريد، ولا يجوز رأيتك إيّانا وتريد؛ قال الشاعر:

فبح بالسرائر في أهلها * وإيّاك في غيرهم أن تبوحا
فجاز أن يقع الفعل بعد (أن) على قوله (في غيرهم)، فدلّ ذلك على أن إضمار الواو في (أن) لا يجوز.
وأمّا قول الشاعر: * فإياك المحاين أن تحينا *
فإنه حذّره فقال: إياك، ثم نوى الوقفة، ثم استأنف (المحاين) بأمر آخر، كأنه قال: احذر المحاين، ولو أراد مثل قوله: (إيّاك والباطل) لم يجز إلقاء الواو؛ لأنه اسم أتبع اسما في نصبه، فكان بمنزلة قوله في [غير] الأمر: أنت ورأيك وكلّ ثوب وثمنه، فكما لم يجز أنت رأيك، أو كلّ ثوب ثمنه فكذلك لا يجوز: (إيّاك الباطل) وأنت تريد: إيّاك والباطل). [معاني القرآن: 1/163-166]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ( {الملإ من بني إسرائيل}: وجوههم، وأشرافهم، ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجعوا من بدر سمع رجلاً من الأنصار يقول: إنما قتلنا عجائز صلعاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:((أولئك الملأ من قريشٍ لو احتضرت فعالهم))، أي: حضرت، احتقرت فعالك مع فعالهم). [مجاز القرآن: 1/77]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ( {هل عسيتم}: هل تعدون أن تفعلوا ذلك). [مجاز القرآن: 1/77]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت:215هـ): ({ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبيٍّ لّهم ابعث لنا ملكاً نّقاتل في سبيل اللّه قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألاّ تقاتلوا قالوا وما لنا ألاّ نقاتل في سبيل اللّه وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا فلمّا كتب عليهم القتال تولّوا إلاّ قليلاً مّنهم واللّه عليمٌ بالظّالمين}
قال: {وما لنا ألاّ نقاتل في سبيل اللّه} فـ{أن} ههنا زائدة كما زيدت بعد "فلما" و"لما" و"لو" فهي تزاد في هذا المعنى كثيرا. ومعناه "ومالنا لا نقاتل" فأعمل "أن" وهي زائدة كما قال: "ما أتاني من أحدٍ" فأعمل "من" وهي زائدة قال الفرزدق:
لو لم تكن غطفان لا ذنوب لها = إليّ لامت ذوو أحسابها عمرا
المعنى: لو لم تكن غطفان لها ذنوب. و"لا" زائدة وأعملها). [معاني القرآن: 1/147]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت:276هـ): ({الملأ من بني إسرائيل}: وجوههم وأشرافهم). [تفسير غريب القرآن: 92]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبيّ لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل اللّه قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألّا تقاتلوا قالوا وما لنا ألّا نقاتل في سبيل اللّه وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا فلمّا كتب عليهم القتال تولّوا إلّا قليلا منهم واللّه عليم بالظّالمين}
{الملأ}: أشراف القوم ووجوههم، ويروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع رجلا من الأنصار وقد رجعوا من بدر يقول: ما قتلنا إلا عجائز ضلعا، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((أولئك الملاء من قريش، لو حضرت فعالهم لاحتقرت فعلك))،
والملأ في اللغة: الخلق، يقال أحسنوا ملأكم، أي: أخلاقكم قال الشاعر:

تنادوا يآل بهثة إذ رأونا... فقلنا أحسني ملأ جهينا
أي: خلقا، ويقال: أحسني ممالأة أي معاونة، ويقال رجل مليء - مهموز - أي: بين الملآء يا هذا - وأصل هذا كله في اللغة من شيء واحد.
فالملأ الرؤساء إنما سمّوا بذلك لأنهم ملء بما يحتاج إليه منهم. والملأ الذي في الخلق، إنما هو الخلق المليء بما يحتاج إليه، والملا: المتسع من الأرض غير مهموز، يكتب بالألف - والياء في قول قوم - وأما البصريون فيكتبون بالألف، قال الشاعر في الملا المقصور الذي يدل على المتسع من الأرض:
ألا غنياني وارفعا الصوت بالملا... فإن الملا عندي يزيد المدى بعدا
وقوله عزّ وجلّ: {ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل اللّه}.
الجزم في {نقاتل في سبيل اللّه} الوجه على الجواب للمسألة الّتي في لفظ الأمر، أي: ابعث لنا - ملكا نقاتل، أي: إن تبعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله، ومن قرأ " ملكا يقاتل " بالياء، فهو على صفة الملك ولكن نقاتل هو الوجه الذي عليه القراء، والرفع فيه بعيد، يجوز على معنى فإنا نقاتل في سبيل الله، وكثير من النّحوّيين، لا يجيز الرفع في نقاتل. -
وقوله عزّ وجلّ: {قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألّا تقاتلوا} أي: لعلكم أن تجبنبوا عن القتال،
وقرأ بعضهم: هل عسيتم بكسر السين إن كتب عليكم القتال، وهي قراءة نافع،
وأهل اللغة كلهم يقولون عسيت أن أفعل ويختارونه، وموضع {ألّا تقاتلوا} نصب أعني موضع " أن " لأن (أنّ) وما عملت فيه كالمصدر، إذا قلت عسيت أن أفعل ذاك فكأنك قلت عسيت فعل ذلك.

وقوله عزّ وجلّ: {قالوا وما لنا ألّا نقاتل في سبيل اللّه}.
زعم - أبو الحسن الأخفش أن " أن " ههنا زائدة - قال: المعنى وما لنا لا نقاتل في سبيل اللّه،
وقال غيره: وما لنا في ألا نقاتل في سبيل اللّه
وأسقط " في "
وقال بعض النحويين: إنما دخلت " أن" لأنّ " ما " معناه ما يمنعنا فلذلك دخلت " أن " لأن الكلام ما لك تفعل كذا وكذا.

والقول الصحيح عندي: أنّ " أن " لا تلغى ههنا، وأن المعنى وأي شي لنا في أن لا نقاتل في سبيل اللّه، أي: أي شيء لنا في ترك القتال.
{وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا}
ومعني {وأبنائنا} أي: سبيت ذرارينا.

ولكنّ " في " سقطت مع " أن " لأن الفعل مستعمل مع أن دالا على وقت معلوم،
فيجوز مع " أن " يحذف حرف الجر كما تقول: هربت أن أقول لك كذا وكذا، تريد هربت أن أقول لك كذا وكذا.

وقوله عزّ وجلّ؛ {تولّوا إلّا قليلا منهم}
{قليلا} منصوب على الاستثناء، فأما - من روى " تولوا إلا قليل منهم " فلا أعرف هذه القراءة، ولا لها عندي وجه، لأن المصحف على النصب والنحو يوجبها، لأن الاستثناء - إذا كان أول الكلام إيجابا - نحو قولك جاءني القوم إلا زيدا - فليس في زيد المستثنى إلا النصب - والمعنى تولوا أستثني قليلا منهم - وإنما ذكرت هذه لأن بعضهم روى " فشربوا منه إلا قليل منهم " وهذا عندي ما لا وجه له). [معاني القرآن: 1/325-327]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت:338هـ): (وقوله جل وعز: {ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى}
قال مجاهد: هم الذين قال الله فيهم {ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم}
قال الضحاك: وأما قوله: {ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله} فذلك حين رفعت التوراة واستخرج الإيمان وسلط على بني إسرائيل عدوهم فبعث طالوت ملكا فقالوا: {أنى يكون له الملك علينا} لأن الملك كان في سبط بعينه لا يكون في غيره ولم يكن طالوت منه فلذلك وقع الإنكار). [معاني القرآن: 1/248-249]
قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت:345 هـ):{الملا}: الرؤساء من الناس). [ياقوتة الصراط: 181]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت:437هـ): ({الملأ من بني إسرائيل} وجوههم وأشرافهم). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 42]

تفسير قوله تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247)}
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ( {بسطةً في العلم والجسم} أي: زيادة، وفضلاً وكثرة.
{إنّ في ذلك لآياتٍ}: علامات، وحججاً). [مجاز القرآن: 1/77]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت:237هـ): ({وزاده بسطة في العلم والجسم}: يقال فلان بسيط اللسان). [غريب القرآن وتفسيره: 95]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت:276هـ): ({وزاده بسطةً في العلم والجسم} أي: سعة في العلم والجسم. وهو من قولك: بسطت الشيء، إذا كان مجموعا: ففتحته ووسعته). [تفسير غريب القرآن: 92]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ:{وقال لهم نبيّهم إنّ اللّه قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنّى يكون له الملك علينا ونحن أحقّ بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال إنّ اللّه اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم واللّه يؤتي ملكه من يشاء واللّه واسع عليم} أي: قد أجابكم إلى ما سألتم. من بعث ملك يقاتل، وتقاتلون معه وطالوت وجالوت وداود. لا تنصرف لأنها أسماء أعجمية، وهي معارف فاجتمع فيها شيئان - التعريف والعجمة، وأما جاموس فلو سميت به رجلا لانصرف، وإن كان عجميا لأنه قد تمكن في العربية لأنك تدخل عليه الألف واللام، فتقول الجاموس والراقود.
فعلى هذا (قياس جميع) الباب.
وقوله عزّ وجلّ: {أنّى يكون له الملك علينا} أي: من أي جهة يكون ذلك.
{ولم يؤت سعة من المال} أي: لم يؤت ما تتملّك به الملوك.
فأعلمهم اللّه أنه {اصطفاه} ومعناه: اختاره، وهو " افتعل " من الصفوة.
والأصل: اصتفاه فالتاء إذا وقعت بعد الصاد أبدلت طاء لأن التاء من مخرج الطاء، والطاء مطبقة، كما أن الصاد مطبقة، فأبدلوا الطاء من التاء، ليسهل النطق بما بعد الصاد، وكذلك افتعل من الضرب: اضطرب، ومن الظلم اظطلم، ويجوز في اظطلم وجهان آخران:
1- يجوز اطّلم بطاء مشددة غير معجمة
2- واظّلم بظاء مشددة قال زهير:

هو الجواد الذي يعطيك نائله... عفوا ويظلم أحيانا فيظطلم
و " فيطّلم " و " فيظّلم ".
أعلمهم الله أنه اختاره، وأنه قد زيد في العلم والجسم بسطة، وأعلمهم أن العلم أهو، الذي به يجب أن يقع الاختيار ليس أن اللّه - جلّ وعزّ -:
لا يملك إلا ذا مال، وأعلم أن الزيادة في الجسم مما يهب به العدو، وأعلمهم أنه يؤتي ملكه من يشاء، وهو جلّ وعزّ لا يشاء إلا ما هو الحكمة والعدل.
وقوله عزّ وجلّ: {واللّه واسع عليم}أي: يوسع على من يشاء ويعلم أين ينبغي أن تكون السعة). [معاني القرآن: 1/327-329]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت:437هـ): ({بسطة} أي: سعة). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 42]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت:437هـ): ({بَسْطَـــةً}: في اللسان والعلم بالحرب). [العمدة في غريب القرآن: 92]

تفسير قوله تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آَيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آَلُ مُوسَى وَآَلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248)}
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت:215هـ): ({وقال لهم نبيّهم إنّ آية ملكه أن يأتيكم التّابوت فيه سكينةٌ مّن رّبّكم وبقيّةٌ مّمّا ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة إنّ في ذلك لآيةً لّكم إن كنتم مّؤمنين}
قال: {فيه سكينةٌ مّن رّبّكم}. و"السّكينة" هي: الوقار.
وأما الحديد فهو: "السّكّين، مشدد الكاف.
وقال بعضهم: "هي السّكّين" مثلها في التشديد إلا أنّها مؤنثة فأنث. والتأنيث ليس بالمعروف وبنو قشير يقولون: "سخّين" للسكين وقال: {وآتت كلّ واحدةٍ مّنهنّ سكّيناً}).
[معاني القرآن: 1/147]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت:276هـ): ({إنّ آية ملكه} أي: علامة ملكه.
{فيه سكينةٌ} السّكينة فعيلة: من السكون.
{وبقيّةٌ ممّا ترك آل موسى وآل هارون}، يقال: شيء من المنّ الذي كان ينزل عليهم، وشيء من رضاض الألواح). [تفسير غريب القرآن: 92]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وقال لهم نبيّهم إنّ آية ملكه أن يأتيكم التّابوت فيه سكينة من ربّكم وبقيّة ممّا ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة إنّ في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين}أي: علامة تمليك اللّه إياه {أن يأتيكم التّابوت}.
وموضع (أن) رفع المعنى: إن آية ملكه إتيان التابوت أتاكم.
وقوله عزّ وجلّ: {فيه سكينة من ربّكم}أي: فيه ما تسكنون به إذا أتاكم، وقيل في التفسير إن السكينة لها رأس كرأس الهر من زبرجد أو ياقوت، ولها جناحان.
وقوله عزّ وجلّ: {وبقيّة ممّا ترك آل موسى وآل هارون}.
قيل في تفسيره: البقية رضاض الألواح وأن التوراة فيه وكتاب آخر جمع التوراة وعصا موسى. فهذا ما روي مما فيه، والظاهر، أن فيه (بقية) جائز أن يكون بقية من شيء من علامات الأنبياء، وجائز أن يكون البقية من العلم، وجائز أن يتضمنها جميعا.
والفائدة - كانت - في هذا التابوت أن الأنبياء - صلوات اللّه عليهم - كانت تستفتح به في الحروب، فكان التابوت يكون بين أيديهم فإذا سمع من جوفه أنين دف التابوت أي سار والجميع خلفه - واللّه أعلم بحقيقة ذلك.
وروي في التفسير: أنه كان من خشب الشمشار وكان قد غلب جالوت وأصحابه عليه فنزلهم بسببه داء، قيل هو الناسور الذي يكون في العنب فعلموا أن الآفة بسببه نزلت، فوضعوه على ثورين فيما يقال،
وقيل معنى {تحمله الملائكة}: إنها كانت تسوق الثورين.
وجائز أن يقال في اللغة: تحمله الملائكة، وإنما كانت تسوق ما يحمله، كما تقول حملت متاعي إلى مكة، أي كنت سببا لحمله إلى مكة.

ومعنى {إنّ في ذلك لآية لكم}أي: في رجوع التابوت إليكم علامة أن الله ملك طالوت عليكم إذ أنبأكم في قصته بغيب.
{إن كنتم مؤمنين} أي: إن كنتم مصدقين). [معاني القرآن: 1/329-330]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت:338هـ): (وقوله عز وجل: {أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم}
حدثنا أحمد بن محمد بن نافع قال حدثنا عبد الرزاق قال أخبرنا الثوري عن سلمة بن كهيل عن أبي الأحوص عن علي قال: السكينة لها وجه كوجه الإنسان وهي بعد ريح هفافة.
وروى خالد بن عرعرة عن علي قال: أرسل الله السكينة إلى إبراهيم وهي ريح خجوج لها رأس.
وروى الضحاك عن ابن عباس قال: السكينة دابة قدر الهر لها عينان لهما شعاع فإذا التقى الجمعان أخرجت يدها ونظرت إليهم فينهزم الجيش من ذلك الرعب.
وقال الضحاك: السكينة الرحمة والبقية القتال.
وروي عن ابن عباس السكينة طست من ذهب الجنة كانت تغسل فيها قلوب الأنبياء.
وروى إسماعيل بن أبي خالد عن أبي صالح {وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون} قال: عصا موسى وثياب هارون ولوحان من التوراة.
وقال أبو مالك: السكينة طست من ذهب ألقى فيها موسى الألواح والتوراة وعصاه والبقية رضاضة الألواح التي كتب فيها التوراة.
وقرئ على عبد الله بن أحمد بن عبد السلام عن أبي الأزهر عن روح بن عبادة قال حدثنا محمد بن عبد الملك عن أبيه قال: قال مجاهد: أما السكينة فما تعرفون من الآيات التي تسكنون إليها قال والبقية العلم والتوراة.
وقال أبو جعفر: وهذا القول من أحسنها وأجمعها لأن السكينة في اللغة فعيلة من السكون أي آية يسكون إليها.
وبين معنى تحمله الملائكة أنه روي إن جالوت وأصحابه كان التابوت عندهم فابتلاهم الله بالناسور فعلموا أنه من أجل التابوت فحملوه على ثور فساقته الملائكة فهذا مثل قولهم حملت متاعي إلى موضع كذا
ثم قال تعالى: {إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين} أي: إن في رد التابوت بعد أن أخذه عدوكم لآية لكم إن كنتم مصدقين). [معاني القرآن: 1/249-252]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت:437هـ): ( {والسكينة} فعيلة من السكون: وهو ما تسكن إليه النفس إذا رأته.
{وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون} يقال: هي شيء من المن الذي كان ينزل، وشيء من رضاض، الألواح). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 42]

تفسير قوله تعالى: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت:207هـ): (وقوله: {فشربوا منه إلاّ قليلاً مّنهم...}
وفي إحدى القراءتين: "إلا قليلٌ منهم".
والوجه في (إلاّ) أن ينصب ما بعدها إذا كان ما قبلها لا جحد فيه، فإذا كان ما قبل إلاّ فيه جحد جعلت ما بعدها تابعا لما قبلها؛ معرفة كان أو نكرة.
فأمّا المعرفة: فقولك ما ذهب الناس إلا زيد.
وأمّا النكرة: فقولك ما فيها أحدٌ إلاّ غلامك، لم يأت هذا عن العرب إلا بإتباع ما بعد إلا ما قبلها.
وقال الله تبارك تعالى: {ما فعلوه إلاّ قليل منهم} لأن في {فعلوه} اسما معرفة، فكان الرفع الوجه في الجحد الذي ينفي الفعل عنهم، ويثبته لما بعد إلاّ.
وهي في قراءة أبيّ "ما فعلوه إلا قليلا" كأنه نفى الفعل وجعل ما بعد إلاّ كالمنقطع عن أوّل الكلام؛ كقولك: ما قام القوم، اللهم إلاّ رجلا.

فإذا نويت الانقطاع نصبت وإذا نويت الاتّصال رفعت.
ومثله قوله: {فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس} فهذا على هذا المعنى،
ومثله: {فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقيّةٍ ينهون عن الفساد في الأرض} ثم قال: {إلا قليلا ممن أنجينا منهم} فأوّل الكلام - وإن كان استفهاما - جحد؛ لأن لولا بمنزلة هلاّ؛ ألا ترى أنك إذا قلت للرجل: (هلاّ قمت) أنّ معناه: لم تقم. ولو كان ما بعد (إلاّ) في هاتين الآيتين رفعا على نيّة الوصل لكان صوابا؛
مثل قوله: {لو كان فيهما آلهة إلاّ اللّه لفسدتا} فهذا نيّة وصل؛ لأنه غير جائز أن يوقف على ما قبل (إلا).

وإذا لم تر قبل (إلا) اسما فأعمل ما قبلها فيما بعدها فتقول: (ما قام إلا زيد) رفعت (زيدا) لإعمالك (قام)؛ إذ لم تجد (قام) اسما بعدها، وكذلك: ما ضربت إلا أخاك، وما مررت إلا بأخيك.
وإذا كان الذي قبل (إلا) نكرة مع جحد فإنك تتبع ما بعد إلا ما قبلها؛ كقولك: ما عندي أحد إلاّ أخوك فإن قدّمت إلاّ نصبت الذي كنت ترفعه؛ فقلت: ما أتاني ألا أخوك أحد. وذلك أن (إلاّ) كانت مسوقة على ما قبلها فاتّبعه، فلما قدّمت فمنع أن يتبع شيئا هو بعدها فاختاروا الاستثناء.
ومثله قول الشاعر:

لميّة موحشاً طللٌ * يلوح كأنه خلل
المعنى: لمية طلل موحش، فصلح رفعه لأنه أتبع الطلل، فلمّا قدّم لم يجز أن يتبع الطلل وهو قبله.
وقد يجوز رفعه عل أن تجعله كالاسم يكون الطلل ترجمة عنه؛ كما تقول: عندي خراسانيّةٌ جاريةٌ، والوجه النصب في خراسانية. ومن العرب من يرفع ما تقدّم في إلاّ على هذا التفسير. قال: وأنشدونا:

بالثنى أسفل من جمّاء ليس له * إلاّ بنيه وإلا عرسه شيع
وينشد: إلا بنوه وإلاّ عرسه. وأنشد أبو ثروان:
ما كان منذ تركنا أهل أسمنةٍ * إلا الوجيف لها رعىٌ ولا علف
ورفع غيره.
وقال ذو الرّمة:

مقزّعٌ أطلس الأطمار ليس له * إلا الضراء وإلا صيدها نشب
ورفعه على أنه بنى كلامه على: ليس له إلا الضراء وإلا صيدها، ثم ذكر في آخر الكلام (نشب) ويبيّنه أن تجعل موضعه في أوّل الكلام.
{كم مّن فئةٍ قليلةٍ غلبت فئةً كثيرةًً} وفي قراءة أبيّ "كأيّن من فئةٍ قليلة غلبت" وهما لغتان.
وكذلك {وكأيّن من نبي} هي لغات: كلّها معناهنّ معنى كم. فإذا ألقيت (من) كان في الاسم النكرة النصب والخفض.
من ذلك قول العرب: كم رجلٍ كريم قد رأيت، وكم جيشا جرّارا قد هزمت. فهذان وجهان، ينصبان ويخفضان والفعل في المعنى واقع. فإن كان الفعل ليس بواقع وكان للاسم جاز النصب أيضا
والخفض. وجاز أن تعمل الفعل فترفع به النكرة، فتقول: كم رجلٌ كريمٌ قد أتاني، ترفعه بفعله، وتعمل فيه الفعل إن كان واقعا عليه؛ فتقول: كم جيشا جرّارا قد هزمت، نصبته بهزمت. وأنشدوا قول الشاعر:
كم عمّة لك يا جرير وخالة * فدعاء قد حلبت عليّ عشاري
رفعا ونصبا وخفضا، فمن نصب قال: كان أصل كم الاستفهام، وما بعدها من النكرة مفسّر كتفسير العدد، فتركناها في الخبر على جهتها وما كانت عليه في الاستفهام؛ فنصبنا ما بعد (كم) من النكرات؛ كما تقول: عندي كذا وكذا درهما، ومن خفض قال: طالت صحبة من للنكرة في كم، فلمّا حذفناها أعملنا إرادتها، فخفضنا، كما قالت العرب إذا قيل لأحدهم: كيف أصبحت؟ قال: خيرٍ عافاك الله، فخفض، يريد: بخير. وأمّا من رفع فأعمل الفعل الآخر، [و] نوى تقديم الفعل كأنه قال: كم قد أتاني رجل كريم.
وقال امرؤ القيس:

تبوص وكم من دونها من مفازةٍ * وكم أرض جدب دونها ولصوص
فرفع على نيّة تقديم الفعل. وإنما جعلت الفعل مقدّما في النية لأن النكرات لا تسبق أفاعيلها؛ ألا ترى أنك تقول: ما عندي شيء، ولا تقول ما شيء عندي). [معاني القرآن: 1/166-169]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ( {مبتليكم بنهرٍ}: مختبركم.
{غرفةً} الغرفة مصدر، والغرفة: ملء الكف.
{يظنّون أنّهم ملاقوا الله} يوقنون.
{فئةٍ}: جماعة). [مجاز القرآن: 1/77]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت:237هـ): ({يظنون أنهم ملاقو الله}: يستيقنون.
{الفئة}: الجماعة). [غريب القرآن وتفسيره: 95]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت:276هـ): ({مبتليكم بنهرٍ} أي: مختبركم.
{قال الّذين يظنّون أنّهم ملاقو اللّه} أي: يعلمون {كم من فئةٍ} الفئة: الجماعة). [تفسير غريب القرآن:92-93]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {فلمّا فصل طالوت بالجنود قال إنّ اللّه مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس منّي ومن لم يطعمه فإنّه منّي إلّا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلّا قليلا منهم فلمّا جاوزه هو والّذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده قال الّذين يظنّون أنّهم ملاقو اللّه كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن اللّه واللّه مع الصّابرين}
{إنّ اللّه مبتليكم بنهر} معناه: مختبركم وممتحنكم بنهر، وهذا لا يجوز أن يقوله إلا نبي، لأن اللّه عزّ وجلّ قال: {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا (26) إلّا من ارتضى من رسول} ومعنى الاختبار بهذا النهر: كان ليعلم طالوت من له نيّة القتال معه ومن ليست له نيّة. فقال: {فمن شرب منه فليس مني} أي: ليس من أصحابي ولا ممن تبعني، ومن لم يطعمه.
{ومن لم يطعمه فإنه منّي} أي: لم يتطعم به.
{إلّا من اغترف غرفة بيده}، غرفة وغرفة قرئ بهما جميعا فمن قال غرفة كان معناه غرفة واحدة باليد.
ومن قال غرفة كان معناه مقدار ملء اليد.
ومعنى {فشربوا منه إلا قليلا منهم}: شربوا منه ليرجعوا عن الحرب، لأنه قد أعلمهم ذلك.
وذكر في التفسير: أن القليل الذين لم يشربوا كان عدتهم ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا كعدد أهل بدر.
وقوله عزّ وجلّ؛ {فلمّا جاوزه} أي: جاوز النهر هو والّذين معه.
قيل لما رأوا قلتهم، قال بعضهم لبعض: {لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده} أي: لا قوة، يقال أطقت الشيء إطاقة وطوقا، مثل أطعت طاعة وإطاعة وطوعا.
وقوله عزّ وجلّ: {قال الّذين يظنّون أنّهم ملاقو اللّه} قيل فيه قولان:
1- قال بعضهم وهو مذهب أهل اللغة - قال الذين يوقنون أنهم ملاقو اللّه قالوا ولو كانوا شاكين لكانوا ضلالا كافرين وظننت في اللغة بمعنى أيقنت موجود.

قال الشاعر - وهو دريد:
فقلت لهم ظنّوا بألفي مدجّج... سراتهم في الفارسيّ المسرّد
أي أيقنوا.
2- وقال أهل التفسير: معنى {يظنّون أنّهم ملاقو اللّه} أي: أنهم كانوا يتوهمون أنهم في هذه الموقعة يقتلون في سبيل الله لقلّة عددهم، وعظم عدد عدوهم وهم أصحاب جالوت.
وقوله عزّ وجلّ: {كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن اللّه} أي: كم من فرقة، وإنما قيل للفرقة فئة - من قولهم فأوت رأسه بالعصا.
وفأيت إذا شققته، فالفئة الفرقة من هذا.
وقوله عزّ وجلّ: {واللّه مع الصّابرين} أي: أن اللّه ينصر الصّابرين، إذا صبروا على طاعته، وما يزلف عنده). [معاني القرآن: 1/330-332]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت:338هـ): (وقوله جل وعز: {إن الله مبتليكم بنهر} معناه: مختبركم والفائدة في ذلك أن يعلم من يقاتل ممن لا يقاتل.
قال عكرمة وقتادة: هو نهر بين الأردن وفلسطين.
وقال قتادة: كان الكفار يشربون فلا يرون وكان المسلمون يغترفون غرفة فيجزئهم ذلك.
قال أبو جعفر: الغرفة في اللغة: ملء الكف أو المغرفة والغرفة الفعلة الواحدة.
ومعنى {فإنه مني}: فإنه من أصحابي
وحكى سيبويه أنت مني فرسخين
ثم قال تعالى: {فشربوا منه إلا قليلا منهم}
روى أبو إسحاق عن البراء كنا نتحدث أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر كانوا ثلاث مائة وبضعة عشر على عدة أصحاب طالوت ممن جاز معه النهر يوم جالوت وما جاز معه إلا مؤمن فلما جازوه يعني النهر ورأوا كثرة أصحاب جالوت وقلتهم قالوا: {لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده} {قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله} أي: يوقنون
وقيل يتوهمون أنهم يقتلون في هذه الواقعة لقلتهم
و{الفئة}: الفرقة من فأوت رأسه وفاأيته). [معاني القرآن: 1/252-254]
قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت:345 هـ): (والطاقة: القوة). [ياقوتة الصراط: 181]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت:437هـ): ({مبتليكم بنهر} مختبركم وممتحنكم به). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 42]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({يَظُنُّونَ}: يوقنون.
{فِئَةٍ}: جماعة). [العمدة في غريب القرآن: 92]

تفسير قوله تعالى: {وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250)}
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ( {أفرغ علينا صبراً}: أنزل علينا). [مجاز القرآن: 1/77]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت:237هـ): ({أفرغ علينا صبرا}: أنزل والإفراغ الصب. يقال أفرغ عليك الماء وأفرغ عليك الكوز). [غريب القرآن وتفسيره: 96]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت:276هـ): ({أفرغ علينا صبراً} أي: صبّه علينا، كما يفرغ الدّلو). [تفسير غريب القرآن: 93]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {ولمّا برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربّنا أفرغ علينا صبرا وثبّت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين}
{ربّنا أفرغ علينا صبرا} أي: أصبب علينا الصبر صبّا، كما تقول: أفرغت الإناء إذا صببت ما فيه). [معاني القرآن: 1/332]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت:437هـ): ({أَفْرِغْ}: صُبَّ). [العمدة في غريب القرآن: 92]

تفسير قوله تعالى: {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251)}
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت:215هـ): ({فهزموهم بإذن اللّه وقتل داود جالوت وآتاه اللّه الملك والحكمة وعلّمه ممّا يشاء ولولا دفع اللّه النّاس بعضهم ببعضٍ لفسدت الأرض ولكنّ اللّه ذو فضلٍ على العالمين}
قال: {ولولا دفع اللّه النّاس بعضهم ببعضٍ} فنصبت {النّاس} على إيقاعك الفعل بهم ثم أبدلت منهم {بعضهم} للتفسير). [معاني القرآن: 1/148]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ:{فهزموهم بإذن اللّه وقتل داوود جالوت وآتاه اللّه الملك والحكمة وعلّمه ممّا يشاء ولولا دفع اللّه النّاس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكنّ اللّه ذو فضل على العالمين}
{فهزموهم بإذن اللّه}معناه: كسروهم وردوهم،
وأصل الهزم في اللغة: كسر الشيء، وثنى بعضه على بعض، يقال سقاء مهزوم، إذا كان بعضه قد ثنى على بعض مع جفاف، وقصب متهزّم، ومهزوم، قد كسر وشقق، والعرب تقول هزمت على زيد أي عطفت عليه.

قال الشاعر:
هزمت عليك اليوم يا بنت مالك... فجودي علينا بالنوال وأنعمي
ويقال: سمعت هزمة الرعد
قال الأصمعي: كأنه صوت فيه تشقق: وقوله عزّ وجلّ: {وآتاه اللّه الملك والحكمة} أي: آتى داود - عليه السلام - الملك لأنه ملك بعد قتله جالوت وأوتي العلم.
ومعنى {وعلّمه ممّا يشاء}: قيل ممّا علّمه عمل الدروع، ومنطق الطير.
وقوله عزّ وجلّ: {ولولا دفع اللّه النّاس بعضهم ببعض لفسدت الأرض} أي: لولا ما أمر الله به المسلمين من حرب الكافرين لفسدت الأرض وقيل أيضا: لولا دفع اللّه الكافرين بالمسلمين لكثر الكفر فنزلت بالناس السخطة واستؤصل أهل الأرض.
ويجوز {ولولا دفع اللّه}، ولولا دفاع اللّه.
ونصب {بعضهم} بدلا من الناس، المعنى: ولولا دفع اللّه بعض الناس ببعض، و (دفع) مرفوع بالابتداء، وقد فسرنا هذا فيما مضى). [معاني القرآن: 1/332-333]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت:338هـ): ({فهزموهم} أي: كسروهم وردوهم يقال سقاء مهزوم إذا كان منثنيا جافا). [معاني القرآن: 1/254]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت:338هـ): (وقوله جل وعز: {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض}
روى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: يقول لولا دفع الله بالمؤمنين الفجار ودفعه بتقية أخلاق الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض بهلاك أهلها.
قال أبو جعفر: وهذا الذي عليه أكثر أهل التفسير، أي: لولا أن الله يدفع بمن يصلي عن من لا يصلي وبمن يتقي عن من لا يتقي لأهلك الناس بذنوبهم.
وقيل لولا أن الله أمر بحرب الكفار لعم الكفر فأهلك جميع الناس
وذا راجع إلى الأول
وقيل لولا أن الله أمر بحرب الكفار لكان إفسادهم على المسلمين أكثر
ويقرأ {ولولا دفاع الله}
حكى أبو حاتم أن العرب تقول: أحسن الله عنك الدفاع والمدافعة مثل ناولتك الشيء). [معاني القرآن: 1/255-256]

تفسير قوله تعالى: {تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {تلك آيات اللّه نتلوها عليك بالحقّ وإنّك لمن المرسلين} أي: هذه الآيات التي أنبأت بها وأنبئت، آيات الله، أي: علاماته التي تدل على توحيده، وتثبيت رسالات أنبيائه، إذ كان يعجز عن الإتيان بمثلها المخلقون.
وقوله عزّ وجل: {وإنّك لمن المرسلين} أي: وأنت من هؤلاء الذين قصصت آياتهم، لأنك قد أعطيت من الآيات مثل الذي أعطوا وزدت على ما أعطوا.
ونحن نبين ذلك في الآية التي تليها إن شاء اللّه). [معاني القرآن: 1/333]


رد مع اقتباس