عرض مشاركة واحدة
  #5  
قديم 24 ذو الحجة 1431هـ/30-11-2010م, 11:33 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي [الآيات من 21 إلى 33]

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22) وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24) وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25) إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27) كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33)}

تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {يا أيّها النّاس اعبدوا ربّكم الّذي خلقكم والّذين من قبلكم لعلّكم تتّقون (21)} معناه: أن الله احتجّ على العرب بأنه خالقهم وخالق من قبلهم؛ لأنّهم كانوا مقرين بذلك، والدليل على ذلك قوله: {ولئن سألتهم من خلقهم ليقولنّ الله}، قيل لهم: إن كنتم مقرين بأنه خالقكم؛ فاعبدوه ولا تعبدوا الأصنام.
وقوله {لعلكم تتقون} معناه: تتقون الحرمات بينكم، وتكفون عما تأتون مما حرمه اللّه، فأما "لعل" وفيها قولان ههنا، عن بعض أهل اللغة: أحدهما: معناها: كي تتقوا، والذي يذهب إليه سيبويه في مثل هذا أنه ترج لهم، كما قال في قصة فرعون: {لعلّه يتذكّر أو يخشى} كأنه قال: اذهبا أنتما على رجائكما وطمعكما، واللّه عزّ وجلّ من وراء ذلك وعالم بما يؤول إليه أمر فرعون.
وأما إعراب {يا أيّها}: فـ"أي" اسم مبهم مبني على الضم؛ لأنه منادى مفرد، و"الناس" صفة لـ"أي" لازمة، تقول: (يا أيها الرجل أقبل)، ولا يجوز: (يا لرجل)؛ لأن "يا" تنبيه بمنزلة التّعريف في الرجل، فلا يجمع بين "يا" وبين الألف واللام فتصل إلى الألف واللام بـ"أي"، و"ها" لازمة لـ"أي" للتّنبيه، وهي عوض من الإضافة في "أي"؛ لأن أصل "أي": أن تكون مضافة في الاستفهام والخبر.
وزعم سيبويه، عن الخليل: أن المنادى المفرد مبني، وصفته مرفوعة رفعا ًصحيحاً؛ لأن النداء يطرد في كل اسم مفرد، فلما كانت البنية مطردة في المفرد خاصة؛ شبه بالمرفوع فرفعت صفته.
والمازني يجيز في (يا أيها الرجل) النصب في "الرجل"، ولم يقل بهذا القول أحد من البصريين غيره، وهو قياس؛ لأن موضع المفرد المنادى نصب، فحملت صفته على موضعه، وهذا في غير: (يا أيها الرجل) جائز عند جميع النحويين نحو قولك: (يا زيدُ الظريفُ) و(الظريفَ)، والنحويون لا يقولون إلا (يا أيها الرجل)، (يا أيها الناس)، والعرب لغتها في هذا الرفع ولم يرد عنها غيره، وإنما المنادى في الحقيقة "الرجل"، ولكن "أيّ" صلة إليه، وقال أبو الحسن الأخفش: إن "الرجل" أن يكون صلة لـ"أي" أقيس، وليس أحد من البصريين يتابعه على هذا القول). [معاني القرآن: 1/96-99]

تفسير قوله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)}
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({الّذي جعل لكم الأرض فراشاً} أي: مهاداً ذللّها لكم فصارت مهاداً.
{فلا تجعلوا لله أنداداً}: واحدها ندٌّ، معناها: أضداد، قال حسّان:


أتهجوه ولست له بنٍدّ= فشرّكما لخيركما الفداء).
[مجاز القرآن: 1/34]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({الّذي جعل لكم الأرض فراشاً والسّماء بناءً وأنزل من السّماء ماءً فأخرج به من الثّمرات رزقاً لّكم فلا تجعلوا للّه أنداداً وأنتم تعلمون}
قوله: {فلا تجعلوا للّه أنداداً} فقطع الألف؛ لأنه اسم تثبت الألف فيه في التصغير، فإذا صغرت قلت: "أنيداداً".
وواحد "الأنداد": ندٌّ. و"الندّ": المثل). [معاني القرآن: 1/40]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({أندادا}: واحدهم ند، ويقال نديد وهو شبيه). [غريب القرآن وتفسيره: 66]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ)
: ({أنداداً}: أي: شركاء أمثالا. يقال: هذا ندّ هذا ونديده، {وأنتم تعلمون} أي: تعقلون). [تفسير غريب القرآن: 43]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {الّذي جعل لكم الأرض فراشا والسّماء بناء وأنزل من السّماء ماء فأخرج به من الثّمرات رزقا لكم فلا تجعلوا للّه أندادا وأنتم تعلمون} معناه: وطاء، لم يجعلها حزنة غليظة لا يمكن الاستقرار عليها.
وقوله: {والسماء بناء}: كل ما علا على الأرض فاسمه "بناء"، ومعناه: إنه جعلها سقفاً، كما قال عزّ وجلّ: {وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً}.
ويجوز في قوله: {جعل لكم الأرض} وجهان: الإدغام والإظهار، تقول: "جعلَ لكم" و"جعلْ لكم الأرض"، فمن أدغم: فلاجتماع حرفين من جنس واحد وكثرة الحركات، ومن أظهر -وهو الوجه وعليه أكثر القراء-: فلأنهما منفصلان من كلمتين.
وقوله عزّ وجلّ: {فلا تجعلوا للّه أندادا وأنتم تعلمون} هذا احتجاج عليهم لإقرارهم بأنه الله خالقهم، فقيل لهم: لا تجعلوا لله أمثالاً، وأنتم تعلمون أنهم لا يخلقون واللّه الخالق. وفي اللغة: فلان ندّ فلان ونديد فلان، قال جرير:

أتيما تجعلون إليّ ندّا= وما تيم لذي حسب نديد
فهذه الآية والتي قبلها احتجاج عليهم في تثبيت توحيد اللّه عزّ وجلّ.
ثم احتج عليهم فيما يلي هذه الآية بتثبيت أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: {وإن كنتم في ريب ممّا نزّلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون اللّه إن كنتم صادقين (23)}). [معاني القرآن: 1/99-100]

قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت:345 هـ): (و"الفراش": المهد). [ياقوتة الصراط: 171]
قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت:345 هـ): (و"الند": المِثْل، ومنه قوله عز وجل: {فلا تجعلوا لله أنداداً} أي: أمثالاً).
[ياقوتة الصراط: 172]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({أَندَاداً}: أشباهاً). [العمدة في غريب القرآن: 71]

تفسير قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {فأتوا بسورةٍ مّن مّثله...}: الهاء كناية عن القرآن؛ فأتوا بسورة من مثل القرآن.
{وادعوا شهداءكم} يريد: آلهتكم، يقول: استغيثوا بهم؛ وهو كقولك للرجل: إذا لقيت العدوّ خالياً فادع المسلمين، ومعناه: فاستغث واستعن بالمسلمين). [معاني القرآن: 1/19]

قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({فأتوا بسورةٍ من مثله} أي: من مثل القرآن.
وإنما سمّيت سورة؛ لأنها مقطوعة من الأخرى، وسمّى القرآن قرآناً؛ لجماعة السور). [مجاز القرآن: 1/34]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({وادعوا شهداءكم} أي: ادعوهم؛ ليعاونوكم على سورة مثله.
ومعنى الدعاء هاهنا: الاستغاثة، ومنه دعاء الجاهلية ودعوى الجاهلية، وهو قولهم: يا آل فلان، إنما هو استغاثتهم.
وشهداؤهم من دون اللّه: آلهتهم، سموا بذلك؛ لأنهم يشهدونهم ويحضرونهم). [تفسير غريب القرآن: 43]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): ({وإن كنتم في ريب ممّا نزّلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون اللّه إن كنتم صادقين (23)}
{في ريب} معناه: في شك.
وقوله: {فأتوا بسورة من مثله} للعلماء فيه قولان:
أحدهما: قال بعضهم: {من مثله} من مثل القرآن، كما قال عزّ وجلّ: {فأتوا بعشر سور مثله مفتريات}.
وقال بعضهم: {من مثله} من بشر مثله.
وقوله عزّ وجلّ: {وادعوا شهداءكم من دون اللّه إن كنتم صادقين} أي: ادعوا من استدعيتم طاعته، ورجوتم معونته في الإتيان بسورة من مثله). [معاني القرآن: 1/100]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({وادعوا شهداءكم} أي: استعينوا بهم، و"الشهداء" هنا: الآلهة). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 25]

تفسير قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {النّار الّتي وقودها النّاس والحجارة...}
الناس وقودها، والحجارة وقودها، وزعموا أنه كبريت يُحمى، وأنه أشدّ الحجارة حرّا إذا أحميت، ثم قال: {أعدّت للكافرين} يعني: النار).
[معاني القرآن: 1/20]

قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({وقودها النّاس والحجارة}:حطبها الناس، و"الوُقود" مضموم الأول: التلهب).
[مجاز القرآن: 1/34]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({فإن لّم تفعلوا ولن تفعلوا فاتّقوا النّار الّتي وقودها النّاس والحجارة أعدّت للكافرين}
قوله: {الّتي وقودها النّاس والحجارة} فـ"الوَقُود": الحطب، و"الوُقُود": الاتقاد، وهو الفعل، يقرأ: (الوَقُود) و(الوُقُود) ويكون أن يعني بها الحطب، ويكون أن يعني بها الفعل.
ومثل ذلك "الوَضُوء" وهو: الماء، و"الوُضُوء" وهو الفعل، وزعموا إنهما لغتان في معنى واحد). [معاني القرآن: 1/40]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({وقودها}: حطبها. "الوُقود" بالضم هو: اللهب). [غريب القرآن وتفسيره: 66]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ)
: ({فاتّقوا النّار الّتي وقودها النّاس} أي: حطبها، و"الوَقود": الحطب بفتح الواو، و"الوُقود" بضمها: توقدها.
{والحجارة} قال المفسرون: حجارة الكبريت). [تفسير غريب القرآن: 43]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله: {فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتّقوا النّار الّتي وقودها النّاس والحجارة أعدّت للكافرين (24)}
قيل لهم هذا بعد أن ثبت عليهم أمر التوحيد وأمر النبي صلى الله عليه وسلم، فوعدوا بالعذاب إن لم يؤمنوا بعد ثبوت الحجة عليهم.
وجزم {لم تفعلوا}؛ لأن "لم" أحدثت في الفعل المستقبل معنى المضي فجزمته، وكل حرف لزم الفعل فأحدث فيه معنى: فله فيه من الإعراب على قسط معناه: فإن كان ذلك الحرف "أن" وأخواتها نحو "لن تفعلوا" و {يريدون أن يطفئوا} فهو نصب؛ لأن "أن" وما بعده بمنزلة الاسم، فقد ضارعت "أن" الخفيفة "أنّ" المشدّدة وما بعدها؛ لأنّك إذا قلت: ظننت أنك قائم، فمعناه: ظننت قيامك، وإذا قلت: أرجو أن تقوم، فمعناه: أرجو قيامك، فمعنى "أن" وما عملت فيه كمعنى "أنّ" المشددة وما عملت فيه، فلذلك نصبت "أن" وجزمت "لم"؛ لأن ما بعدها خرج من تأويل الاسم، وكذلك هي وما بعدها يخرجان من تأويل الاسم.
وقوله عزّ وجلّ: {التي وقودها النّاس والحجارة} عرفوا عذاب اللّه عزّ وجلّ بأشد الأشياء التي يعرفونها؛ لأنه لا شيء في الدنيا أبلغ فيما يؤلم من النار، فقيل لهم: إن عذاب اللّه من أشد الأجناس التي يعرفونها، إلا أنه من هذا الشديد الذي يعرفونه، ويقال: إن "الحجارة" هنا تفسيرها: حجارة الكبريت.
وقوله {وقودها} الوقود هو: الحطب، وكل ما أوقد به فهو: وقود، ويقال: هذا وقودك، ويقال: قد وقدت النار وقُوداً، فالمصدر مضموم ويجوز فيه الفتح. وقد روي: وقدت النار وَقوداً، وقبلت الشيء قَبُولاً، فقد جاء في المصدر (فَعُول) والباب الضم). [معاني القرآن: 1/100-101]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({وقودها} بالفتح: الحطب، وبالضم: التوقد. {والحجارة} قيل: حجارة الكبريت).
[تفسير المشكل من غريب القرآن: 25]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ("الوَقُودُ": الحطب. "الوُقُودُ": المصدر). [العمدة في غريب القرآن: 71]

تفسير قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {وأتوا به متشابهاً} اشتبه عليهم، فيما ذكر في لونه، فإذا ذاقوه عرفوا أنه غير الذي كان قبله). [معاني القرآن: 1/20]

قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({وأتوا به متشابهاً} أي: يشبه بعضه بعضاً، وليس من الاشتباه عليك، ولا مما يشكل عليك.
{ولهم فيها أزواجٌ مطهّرةٌ}: واحدها "زوج"، الذكر والأنثى فيه سواء، {وقلنا يا آدم أسكن أنت وزوجك الجنّة}). [مجاز القرآن: 1/34]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({وبشّر الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات أن لهم جنّاتٍ تجري من تحتها الأنهار كلّما رزقوا منها من ثمرةٍ رّزقاً قالوا هذا الّذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابهاً ولهم فيها أزواجٌ مّطهّرةٌ وهم فيها خالدون}
قوله: {أن لهم جنّاتٍ تجري من تحتها الأنهار} فجرّ "جناتٍ" وقد وقعت عليها "أن" لأن كلّ جماعة في آخرها تاء زائدة تذهب في الواحد وفي تصغيره فنصبها جرّ، ألا ترى أنك تقول: "جنّه" فتذهب التاء، وقال: {خلق السّماوات والأرض} و"السماوات" جرّ، و"الأرض" نصب لأن التاء زائدة، ألا ترى أنك تقول: "سماء"، و{قالوا ربّنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا}؛ لأن هذه ليست تاء، إنما هي هاء صارت تاءً بالاتصال، وإنما تكون تلك في السكوت، ألا ترى أنك تقول: "رأيت ساده" فلا يكون فيها تاء، ومن قرأ (أطعنا ساداتنا) جرّ لأنك إذا قلت: "ساده" ذهبت التاء، وتكون في السكت فيها تاء، تقول: "رأيت ساداتٍ"، وإنما جرّوا هذا في النصب ليجعل جرّه ونصبه واحداً، كما جعل تذكيره في الجر والنصب واحدا، تقول: "مسلمين و"صالحين" نصبه وجره بالياء. وقوله: {بيوتاً غير بيوتكم} و{لا ترفعوا أصواتكم} فإن التاء من أصل الكلمة، تقول: "صوت" و"صويت" فلا تذهب التاء، و"بيت" و "بويت" فلا تذهب التاء، وتقول: "رأيت بويتات العرب" فتجرّ، لأن التاء الآخرة زائدة لأنك تقول: "بيوت" فتسقط التاء الآخرة، وتقول: "رأيت ذوات مال" لأن التاء زائدة، وذلك لأنك لو سكت على الواحدة لقلت: "ذاه" ولكنها وصلت بالمال، فصارت تاء لا يتكلم بها إلا مع المضاف إليه.
وقوله: {هذا الّذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابهاً}؛ لأنه في معنى "جيئوا به" وليس في معنى "أعطوه".
فأما قوله: {متشابهاً} فليس أنه أشبه بعضه بعضاً، ولكنه متشابه في الفضل، أي: كل واحد له من الفضل في نحوه مثل الذي للآخر في نحوه.
قوله: {إن اللّه لا يستحيي أن} فـ"يستحيي" لغة أهل الحجاز بياءين، وبنو تميم يقولون "يستحي" بياء واحدة، والأولى هي الأصل لأن ما كان من موضع لامه معتلا لم يعلّوا عينه، ألا ترى أنهم قالوا: "حييت" و"حويت" فلم تُعَلَّ العين، ويقولون: "قلت" و"بعت" فيعلّون العين لما لم تعتلّ اللام، وإنما حذفوا لكثرة استعمالهم هذه الكلمة كما قالوا "لم يك" و"لم يكن" و"لا أدر" و"لا أدري".
وقال: {مثلاً مّا بعوضةً} لأن "ما" زائدة في الكلام، وإنما هو: "إن الله لا يستحي أن يضرب بعوضةً مثلاً". وناس من بني تميم يقولون (مثلاً مّا بعوضةً) يجعلون (ما) بمنزلة "الذي" ويضمرون "هو"، كأنهم قالوا: "لا يستحي أن يضرب مثلاً الذي هو بعوضةٌ"، يقول: "لا يستحيي أن يضرب الذي هو بعوضةٌ مثلاً".
وقوله: {فما فوقها} قال بعضهم: "أعظم منها"، وقال بعضهم: كما تقول: "فلان صغير" فيقول: "وفوق ذلك"، يريد: "وأصغر من ذلك".
وقوله: {ماذا أراد اللّه بهذا مثلاً} فيكون "ذا" بمنزلة "الذي". ويكون "ماذا" اسما واحدا إن شئت بمنزلة "ما" كما قال: {ماذا أنزل ربّكم قالوا خيراً} فلو كانت "ذا" بمنزلة "الذي" لقالوا "خيرٌ" ولكان الرفع وجه الكلام، وقد يجوز فيه النصب؛ لأنه لو قال "ما الذي قلت"؟ فقلت: "خيراً"، أي: "قلت خيراً" لجاز، ولو قلت: "ما قلت؟" فقلت: "خيرٌ"، أي: "الذي قلت خيرٌ" لجاز، غير أنه ليس على اللفظ الأول، كما يقول بعض العرب إذا قيل له: "كيف أصبحت؟" قال: "صالحٌ" أي: "أنا صالحٌ"، ويدلك على أن "ماذا" اسم واحد قول الشاعر:

دعي ماذا علمت سأتّقيه = ولكن بالمغيّب نبّئيني
فلو كانت "ذا" ههنا بمعنى (الذي) لم يكن كلاماً). [معاني القرآن: 1/41-43]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({مشابها}: يشبه بعضه بعضا في اللون والطعم.
{أزواج مطهرة}: واحدها "زوج". الذكر والأنثى فيه سواء). [غريب القرآن وتفسيره: 66]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ)
: ({جنّاتٍ}: بساتين.
{تجري من تحتها الأنهار} ذهب إلى شجرها، لا إلى أرضها؛ لأن الأنهار تجري تحت الشجر.
{كلّما رزقوا منها من ثمرةٍ رزقاً قالوا هذا الّذي رزقنا من قبل} أي: كأنّه ذلك، لشبهه به.
{وأتوا به متشابهاً} أي: يشبه بعضه بعضاً، في المناظر دون الطعوم.
{ولهم فيها أزواجٌ مطهّرةٌ}: من الحيض والغائط والبول وأقذار بني آدم). [تفسير غريب القرآن: 44]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ:{وبشّر الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات أنّ لهم جنّات تجري من تحتها الأنهار كلّما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الّذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها ولهم فيها أزواج مطهّرة وهم فيها خالدون (25)}
ذكر ذلك للمؤمنين، وما أعد لهم جزاء لتصديقهم، بعد أن ذكر لهم جزاء الكافرين، وموضع (أنّ) نصب معناه: بشرهم بأن لهم جنات. فلما سقطت الباء أفضى الفعل إلى " أن " فنصبت،
وقد قال بعض النحويين: إنه يجوز أن يكون موضع مثل هذا خفضًا، وإن سقطت الباء من (أن)، و(جنات) في موضع نصب بأنّ، إلا أن التاء تاء جماعة المؤنث هي في الخفض والنصب على صورة واحدة، كما أن ياء الجمع في النصب والخفض على صورة واحدة، تقول: رأيت الزيدين، ومررت بالزيدين، ورأيت الهندات، ورغبت في الهندات.
و"الجنة" في لغة العرب: البستان، والجنات: البساتين، وهي التي وعد الله بها المتقين، وفيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين.
قوله عزّ وجلّ: {كلّما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الّذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابهاً}
قال أهل اللغة: معنى (متشابه) يشبه بعضه بعضاً في الجودة والحسن.
وقال أهل التفسير وبعض أهل اللغة: {متشابهاً} يشبه بعضه بعضا في الصورة ويختلف في الطعم، ودليل المفسرين قوله: {هذا الّذي رزقنا من قبل}؛ لأن صورته الصورة الأولى، ولكن اختلاف الطعوم على اتفاق الصورة أبلغ وأعرف عند الخلق، لو رأيت تفاحا فيه طعم كل الفاكهة لكان غاية في العجب والدلالة على الحكمة.
وقوله عزّ وجلّ: {ولهم فيها أزواج مطهّرة}
أي: أنهن لا يحتجن إلى ما يحتاج إليه نساء أهل الدنيا من الأكل والشرب ولا يحضن، ولا يحتجن إلى ما يتطهر منه، وهن على هذا طاهرات طهارة الأخلاق والعفة، فـ"مطهرة" تجمع الطهارة كلها؛ لأن "مطهرة" أبلغ في الكلام من "طاهرة"، ولأن "مطهرة" إنما يكون للكثير.
وإعراب {أزواج} الرفع بـ {ولهم} وإن شئت بالابتداء.
ويجوز في {أزواج} أن يكون واحدتهن زوجاً وزوجة، قال الله تبارك وتعالى: {اسكن أنت وزوجك الجنّة}، وقال الشاعر:

فبكى بناتي شجوهن وزوجتي= والطامعون إليّ ثم تصدّعوا).
[معاني القرآن: 1/101-103]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({وأتوا به متشابها} أي: يشبه بعضه بعضًا في المناظر دون الطعوم، وقيل: يشبه فاكهة الدنيا في المناظر دون الطعوم، وقيل: يشبه بعضه بعضًا في الفضل والحسن، ليس فيه رذل.
{أزواج} واحدها زوج، والمذكر والأنثى سواء.
{مطهرة} أي: من البول والغائط والحيض وأقذار بني آدم). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 25]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({مُتَشَابِهاً}: في اللون والطعم). [العمدة في غريب القرآن: 71]

تفسير قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {إنّ اللّه لا يستحى أن يضرب مثلاً مّا بعوضةً فما فوقها...}
فإن قال قائل: أين الكلام الذي هذا جوابه، فإنا لا نراه في سورة البقرة؟
فذكر لنا أن اليهود لما قال الله: {مثل الّذين اتّخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتّخذت بيتاً} قال أعداء الله: وما هذا من الأمثال؟، وقالوا مثل ذلك عند إنزاله: {يأيّها النّاس ضرب مثلٌ فاستمعوا له إنّ الّذين تدعون من دون اللّه لن يخلقوا ذباباً} إلى قوله {ضعف الطّالب والمطلوب} لذكر الذباب والعنكبوت؛ فأنزل الله: {إنّ اللّه لا يستحى أن يضرب مثلاً مّا بعوضةً فما فوقها}.
فالذي "فوقها" يريد أكبر منها، وهو العنكبوت والذباب، ولو جعلت في مثله من الكلام "فما فوقها" تريد أصغر منها لجاز ذلك، ولست أستحسنه؛ لأن البعوضة كأنها غاية في الصغر، فأحبّ إليّ أن أجعل "ما فوقها" أكبر منها. ألا ترى أنك تقول: "يعطى من الزكاة الخمسون فما دونها، والدرهم فما فوقه" فيضيق الكلام أن تقول: "فوقه" فيهما أو "دونه" فيهما.
وأما موضع حسنها في الكلام فأن يقول القائل: إن فلانا لشريف، فيقول السامع: وفوق ذاك؛ يريد المدح. أو يقول: إنه لبخيل، فيقول الآخر: وفوق ذاك، يريد بكليهما معنى أكبر. فإذا عرفت أنت الرجل فقلت: دون ذلك؛ فكأنّك تحطّه عن غاية الشّرف أو غاية البخل. ألا ترى أنك إذا قلت: "إنه لبخيلٌ، وفوق ذاك"، تريد: فوق البخل، "وفوق ذاك": وفوق الشّرف.
وإذا قلت: دون ذاك، فأنت رجلٌ عرفته فأنزلته قليلا عن درجته. فلا تقولنّ: وفوق ذاك، إلا في مدح أو ذمّ.
قال القرّاء: وأما نصبهم "بعوضة" فيكون من ثلاثة أوجه:
أوّلها: أن توقع الضّرب على البعوضة، وتجعل "ما" صلةً؛ كقوله: {عمّا قليلٍ ليصبحنّ نادمين} يريد: "عن قليل".
المعنى -والله أعلم-: إن الله لا يستحي أن يضرب بعوضة فما فوقها مثلاً.
والوجه الآخر: أن تجعل "ما" اسماً، و"البعوضة" صلةً فتعرّبها بتعريب "ما"، وذلك جائز في "من" و"ما"؛ لأنهما يكونان معرفة في حال ونكرة في حال؛ كما قال حسّان بن ثابت:

فكفى بنا فضلاً على من غَيْرِنا = حبّ النّبيء محمّدٍ إيّانا
قال الفراء: ويروى:
... على من غَيْرُنا
والرفع في "بعوضة" ها هنا جائز، لأن الصلة ترفع، واسمها منصوب ومخفوض.
وأما الوجه الثالث -وهو أحبها إليّ- : فأن تجعل المعنى على: إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما بين بعوضة إلى ما فوقها، والعرب إذا ألقت "بين" من كلام -تصلح "إلى" في آخره- نصبوا الحرفين المخفوضين اللذين خفض أحدهما بـ "بين" والآخر بـ "إلى"، فيقولون: "مطرنا ما زبالة فالثّعلبية"، و"له عشرون ما ناقةً فجملاً"، و"هي أحسن الناس ما قرناً فقدما"، يراد به: "ما بين قرنها إلى قدمها"، ويجوز أن تجعل "القرن" و"القدم" معرفة، فتقول: "هي حسنةٌ ما قرنها فقدمها".
فإذا لم تصلح "إلى" في آخر الكلام لم يجز سقوط "بين"؛ من ذلك أن تقول: "دارى ما بين الكوفة والمدينة"، فلا يجوز أن تقول: "دارى ما الكوفة فالمدينة"؛ لأن "إلى" إنما تصلح إذا كان ما بين المدينة والكوفة كلّه من دارك، كما كان المطر آخذا ما بين زبالة إلى الثّعلبية.
ولا تصلح الفاء مكان الواو فيما لا تصلح فيه "إلى"؛ كقولك: دار فلان بين الحيرة فالكوفة؛ محالٌ، وجلست بين عبد الله فزيد، محالٌ، إلا أن يكون مقعدك آخذاً للفضاء الذي بينهما.
وإنما امتنعت الفاء من الذي لا تصلح فيه "إلى"؛ لأن الفعل فيه لا يأتي فيتّصل، "وإلى" تحتاج إلى اسمين يكون الفعل بينهما كطرفة عينٍ، وإن قصر قدر الذي بينهما مما يوجد، فصلحت الفاء في "إلى" لأنك تقول: أخذ المطر أوّله فكذا وكذا إلى آخره، فلمّا كان الفعل كثيراً شيئاً بعد شيء في المعنى، كان فيه تأويلٌ من الجزاء، ومثله أنهم قالوا: إن تأتني فأنت محسنٌ، ومحال أن تقول: إن تأتني وأنت محسن؛ فرضوا بالفاء جوابا في الجزاء، ولم تصلح الواو.
قال الكسائيّ: سمعت أعرابيّاً ورأى الهلال، فقال: "الحمد لله ما إهلالك إلى سرارك"، يريد: ما بين إهلالك إلى سرارك؛ فجعلوا النصب الذي كان يكون في "بين" فيما بعده إذا سقطت؛ ليعلم أنّ معنى "بين" مرادٌ.
وحكى الكسائيّ عن بعض العرب: "الشّنق: ما خمسًا إلى خمس وعشرين"، يريد ما بين خمس إلى خمس وعشرين، والشّنق: ما لم تجب فيه الفريضة من الإبل، والأوقاص في البقر.
وقوله: {ماذا أراد اللّه بهذا مثلاً يضلّ به كثيراً ويهدي به كثيراً...} كأنه قال -والله أعلم-: ماذا أراد الله بمثل لا يعرفه كل أحد، يضل به هذا ويهدى به هذا، قال الله: {وما يضلّ به إلاّ الفاسقين}). [معاني القرآن: 1/20-23]

قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بعوضةً} معناها: أن يضرب مثلا ًبعوضة،
(ما) توكيد للكلام من حروف الزوائد، قال النابغة الذبياني:

قالت ألا ليت ما هذا الحمام لنا= إلى حمامتنا ونصفه فقد
أي: حسب، و(ما) هاهنا: حشو.
قال: وسأل يونس رؤبة عن قول الله تعالى {ما بعوضة} فرفعها، وبنو تميم يعملون آخر الفعلين والأداتين في الاسم، وأنشد رؤبة بيت النابغة مرفوعاً:

قالت ألا ليت ما هذا الحمام لنا= إلى حمامتنا ونصفه فقد
{فما فوقها}: فما دونها في الصغر). [مجاز القرآن: 1/35]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({فما فوقها}: أي فما دونها في الصغر). [غريب القرآن وتفسيره: 66]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({إنّ اللّه لا يستحيي أن يضرب مثلًا ما بعوضةً فما فوقها} لما ضرب اللّه المثل بالعنكبوت في سورة العنكبوت، وبالذباب في سورة الحج، قالت اليهود: ما هذه الأمثال التي لا تليق باللّه عز وجل؟! فأنزل اللّه: {إنّ اللّه لا يستحيي أن يضرب مثلًا ما بعوضةً فما فوقها} من الذباب والعنكبوت.
وكان أبو عبيدة - رحمه اللّه- يذهب إلى أن "فوق" هاهنا بمعنى: "دون" على ما بينا في كتاب «المشكل».
فقالت اليهود: ما أراد اللّه بمثل ينكره الناس فيضلّ به فريق ويهتدي به فريق؟ قال اللّه: {وما يضلّ به إلّا الفاسقين}). [تفسير غريب القرآن: 44]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {إنّ اللّه لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فأمّا الّذين آمنوا فيعلمون أنّه الحقّ من ربّهم وأمّا الّذين كفروا فيقولون ماذا أراد اللّه بهذا مثلا يضلّ به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضلّ به إلّا الفاسقين}
إن قال قائل: ما معنى ذكر هذا المثل بعقب ما وعد به أهل الجنة وما أعد للكافرين؟
قيل: يتصل هذا بقوله: {فلا تجعلوا للّه أنداداً}؛ لأن اللّه عزّ وجلّ قال: {إنّ الّذين تدعون من دون اللّه لن يخلقوا ذباباً}.
وقال: {مثل الّذين اتّخذوا من دون اللّه أولياء كمثل العنكبوت اتّخذت بيتاً}، فقال الكافرون: إن إله محمد يضرب الأمثال بالذّباب والعنكبوت، فقال اللّه عزّ وجلّ: {إنّ اللّه لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها}أي: لهؤلاء الأنداد الذين اتخذتموهم من دون اللّه، لأن هذا في الحقيقة مثل هؤلاء الأنداد.
فأما إعراب {بعوضة} فالنصب من جهتين في قولنا، وذكر بعض النحويين جهة ثالثة:
فأما أجود هذه الجهات؛ فأن تكون (ما) زائدة مؤكدة، كأنه قال: إنّ الله لا يستحيي أن يضرب بعوضة مثلاً، ومثلاً بعوضة، و(ما) زائدة مؤكدة نحو قوله: {فبما رحمة من اللّه لنت لهم} المعنى: فبرحمة من الله حقاً، فـ(ما) في التوكيد بمنزلة (حق) إلا أنه لا إعراب لها، والخافض والناصب يتخطاها إلى ما بعدها، فمعناها التوكيد، ومثلها في التوكيد (لا) في قوله: {لئلّا يعلم أهل الكتاب} معناه: لأن يعلم أهل الكتاب.
ويجوز أن يكون "ما" نكرة، فيكون المعنى: "إنّ اللّه لا يستحي أن يضرب شيئا مثلا"؛ وكأن "بعوضة" في موضع وصف شيء، كأنه قال: إن اللّه لا يستحيي أن يضرب مثلاً شيئاً من الأشياء، بعوضة فما فوقها.
وقال بعض النحويين: يجوز أن يكون معناه: ما بين بعوضة إلى ما فوقها، والقولان الأولان قول النحويين القدماء. والاختيار عند جمع البصريين أن يكون (ما) لغواً.
والرفع في {بعوضة} جائز في الإعراب، ولا أحفظ من قرأ به، ولا أعلم هل قرأ به أحد أم لا؟ فالرفع على إضمار "هو"، كأنه قال: مثلاً الذي هو بعوضة، وهذا عند سيبويه ضعيف، وعنه مندوحة، ولكن من قرأ: {تماماً على الذي أحسن} وقد قرئ به، جاز أن يقرأ: {مثلاً ما بعوضة} ولكنه في {الذي أحسن} أقوى لأن "الذي" أطول، وليس للذي مذهب غير الأسماء.
وقالوا في معنى قوله: {فما فوقها} قالوا في ذلك قولين:
قالوا: {فما فوقها} أكبر منها، وقالوا: {فما فوقها} في الصغر.
وبعض النحويين يختارون الأول؛ لأن "البعوضة" كأنها نهاية في الصغر فيما يضرب به المثل، والقول الثاني مختار أيضاً، لأن المطلوب هنا والغرض الصغر وتقليل المثل بالأنداد.
قوله عزّ وجلّ: {فأمّا الّذين آمنوا} يعني: صدقوا، {فيعلمون} أن هذا المثل حق، {وأمّا الّذين كفروا فيقولون ماذا أراد اللّه بهذا مثلاً} أي: ما أراد بالذباب والعنكبوت مثلاً، فقال اللّه عزّ وجلّ: {يضل به كثيراً} أي: يدعو إلى التصديق به الخلق جميعاً، فيكذب به الكفار فيضلون، {وما يضلّ به إلّا الفاسقين} يدل على أنهم المضلون به.
{ويهدى به كثيراً} يزاد به المؤمنون هداية؛ لأن كلما ازدادوا تصديقاً فقد ازدادوا هداية، والفاء دخلت في جواب "أمّا" في قوله: {فيعلمون}؛ لأن "أما" تأتي بمعنى الشرط والجزاء، كأنّه إذا قال: "أما زيد فقد آمن، وأمّا عمرو فقد كفر" فالمعنى: مهما يكن من شيء فقد آمن زيد، ومهما يكن من شيء فقد كفر عمرو.
وقوله {ماذا}: يجوز أن يكون (ما) و (ذا) اسماً واحداً يكون موضعهما نصباً، المعنى: أي شيء أراد اللّه بهذا مثلاً؟
ويجوز أن يكون (ذا) مع (ما) بمنزلة "الذي" فيكون المعنى: ما الذي أراده اللّه بهذا مثلاً؟، أو أي شيء الذي أراده اللّه بهذا مثلاً؟ ويكون (ما) هنا رفًعا بالابتداء و (ذا) في معنى الذي، وهو خبر الابتداء.
وإعراب {الفاسقين} نصب؛ كأنّ المعنى: وما يضل به أحد إلا الفاسقين). [معاني القرآن: 1/103-105]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({فما فوقها} أي: دونها في الصغر، وقيل: أكبر منها). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 25]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({بَعُوضَةً}: بقة، {فَمَا فَوْقَهَا}: دونها). [العمدة في غريب القرآن: 71-72]

تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)}
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({الّذين ينقضون عهد اللّه من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر اللّه به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون}
أما قوله: {عهد اللّه من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر اللّه به أن يوصل} فـ{أن يوصل} بدل من الهاء في "به"، كقولك "مررت بالقوم بعضهم"، وأما {ميثاقه} فصار مكان "التوثّق" كما قال: {أنبتكم مّن الأرض نباتاً} والأصل "إنباتاً"، وكما قال" العطاء" في مكان "الإعطاء"). [معاني القرآن: 1/43]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({الّذين ينقضون عهد اللّه من بعد ميثاقه} يريد أن اللّه سبحانه أمرهم بأمور فقبلوها عنه، وذلك أخذ الميثاق عليهم والعهد إليهم، ونقضهم ذلك: نبذهم إياه بعد القبول وتركهم العمل به). [تفسير غريب القرآن: 44]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {الّذين ينقضون عهد اللّه من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر اللّه به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون}
"عهد الله" هنا -واللّه أعلم-: ما أخذ اللّه على النبيين ومن اتبعهم، ألا يكفروا بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، دليل ذلك قوله عزّ وجلّ: {وإذ أخذ اللّه ميثاق النّبيّين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثمّ جاءكم رسول مصدّق لما معكم لتؤمننّ به ولتنصرنّه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا} فهذا هو العهد المأخوذ على كل من اتبع الأنبياء عليهم السلام: أن يؤمنوا بالرسول المصدق لما معهم، و {إصري} مثل: عهدي.
ويجوز أن يكون عهد اللّه الذي أخذه من بني آدم من ظهورهم حين قال: {....وأشهدهم على أنفسهم ألست بربّكم قالوا بلى شهدنا}.
وقال قوم أن عهد الله عز وجل الاستدلال على توحيده، وأنّ كل ذي تمييز يعلم أن اللّه خالق، فعليه الإيمان به، والقولان الأولان في القرآن ما يصدق تفسيرهما.
فأمّا إعراب {الّذين} فالنصب على الصفة للفاسقين.
وموضع قوله: {أن يوصل} خفض على البدل من الهاء، والمعنى: ما أمر الله بأن يوصل.
وموضع {أولئك} رفع بالابتداء، و{الخاسرون} خبر الابتداء، و{هم} بمعنى الفصل، وهو الذي يسميه الكوفيون العماد.
ويجوز أن يكون {أولئك} رفًعا بالابتداء، و{هم} ابتداء ثان، و{الخاسرون} خبر لـ{هم}، و{هم الخاسرون} خبر عن {أولئك}).
[معاني القرآن: 1/106]

تفسير قوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {كيف تكفرون باللّه وكنتم أمواتاً...} على وجه التعجّب والتوبيخ؛ لا على الاستفهام المحض؛ أي: ويحكم كيف تكفرون! وهو كقوله: {فأين تذهبون}، وقوله: {كيف تكفرون باللّه وكنتم أمواتاً}، المعنى -والله أعلم-: وقد كنتم، ولولا إضمار "قد" لم يجز مثله في الكلام، ألا ترى أنه قد قال في سورة يوسف: {إن كان قميصه قدّ من دبرٍ فكذبت} المعنى -والله أعلم-: فقد كذبت، وقولك للرجل: أصبحت كثر مالك، لا يجوز إلاّ وأنت تريد: قد كثر مالك؛ لأنهما جميعا قد كانا، فالثاني حال للأوّل، والحال لا تكون إلا بإضمار "قد" أو بإظهارها؛ ومثله في كتاب الله: {أو جاءوكم حصرت صدورهم} يريد -والله أعلم-: جاءوكم قد حصرت صدورهم، وقد قرأ بعض القرّاء -وهو الحسن البصري-: (حصرةً صدورهم) كأنه لم يعرف الوجه في: "أصبح عبد الله قام" أو "أقبل أخذ شاة"، كأنّه يريد: فقد أخذ شاة.
وإذا كان الأوّل لم يمض؛ لم يجز الثاني بـ"قد"، ولا بغير "قد"، مثل قولك: "كاد قام" ولا "أراد قام"؛ لانّ الإرادة شيء يكون ولا يكون الفعل، ولذلك كان محالا قولك: "عسى قام"؛ لأن "عسى" وإن كان لفظها على فعل فإنها لمستقبل، فلا يجوز "عسى قد قام"؛ ولا "عسى قام"، ولا "كاد قد قام"؛ ولا "كاد قام"؛ لأن ما بعدهما لا يكون ماضيًا؛ فإن جئت بـ"يكون" مع "عسى" و"كاد"؛ صلح ذلك، فقلت: "عسى أن يكون قد ذهب"، كما قال الله: {قل عسى أن يكون ردف لكم بعض الذي تستعجلون}.
وقوله: {وكنتم أمواتاً فأحياكم} يعني: نطفاً، وكل ما فارق الجسد من شعر أو نطفة فهو: ميتة، والله أعلم.
يقول: {فأحياكم} من النّطف، {ثم يميتكم} بعد الحياة، {ثم يحييكم} للبعث). [معاني القرآن: 1/23-25]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({كيف تكفرون باللّه وكنتم أمواتاً فأحياكم ثمّ يميتكم ثمّ يحييكم ثمّ إليه ترجعون}
قوله: {وكنتم أمواتاً فأحياكم ثمّ يميتكم ثمّ يحييكم} فإنما يقول: كنتم تراباً ونطفاً، فذلك ميّت، وهو سائغ في كلام العرب، تقول للثوب: "قد كان هذا قطنا" و"كان هذا الرّطب بسرًا"، ومثل ذلك قولك للرجل: "اعمل هذا الثوب" وإنما معك غزل). [معاني القرآن: 1/43]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({كيف تكفرون باللّه وكنتم أمواتاً} يعني: نطفاً في الأرحام، وكلّ شيء فارق الجسد من شعر أو ظفر أو نطفة فهو: ميتة. {فأحياكم}: في الأرحام، وفي الدنيا. {ثمّ يميتكم ثمّ يحييكم}: في البعث.
ومثله قوله حكاية عنهم: {ربّنا أمتّنا اثنتين وأحييتنا اثنتين} فالميتة الأولى: إخراج النطفة وهي حية من الرجل، فإذا صارت في الرحم فهي ميتة، فتلك الإماتة الأولى. ثم يحييها في الرحم وفي الدنيا، ثم يميتها، ثم يحييها يوم القيامة). [تفسير غريب القرآن: 44-45]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {كيف تكفرون باللّه وكنتم أمواتا فأحياكم ثمّ يميتكم ثمّ يحييكم ثمّ إليه ترجعون}
فكونهم أمواتا أولاً: أنّهم كانوا نطفاً، ثم جعلوا حيواناً، ثم أميتوا، ثم أحيوا، ثم يرجعون إلى اللّه عزّ وجلّ بعد البعث، كما قال: {مهطعين إلى الدّاع} أي: مسرعين.
وقوله عزّ وجلّ: {يوم يخرجون من الأجداث سراعاً} والأجداث: القبور، وتأويل {كيف} أنها استفهام في معنى التعجب، وهذا التعجب إنما هو للخلق وللمؤمنين، أي: اعجبوا من هؤلاء، كيف يكفرون وقد ثبتت حجة اللّه عليهم؟!
ومعنى {وكنتم} وقد كنتم، وهذه الواو للحال، وإضمار "قد" جائز إذا كان في الكلام دليل عليه، وكذلك قوله: {أو جاءوكم حصرت صدورهم}، {وإن كان قميصه قدّ من دبر}). [معاني القرآن: 1/107]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({وكنتم أمواتا} أي: نطفاً في الأرحام، {فأحياكم} أي: أخرجكم أحياء إلى الدنيا، {ثم يميتكم}: في الدنيا، {ثم يحييكم}: يوم القيامة). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 26]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({أَمْوَاتاً}: نطفاً، {فَأَحْيَاكُمْ}: أنشأ خلقكم، {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ}: بعد الحياة، {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ}: يبعثكم بعد الموت). [العمدة في غريب القرآن: 72]

تفسير قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {ثمّ استوى إلى السّماء فسوّاهنّ ...}
الاستواء في كلام العرب على جهتين: إحداهما أن يستوي الرجل و ينتهي شبابه، أو يستوي عن اعوجاج، فهذان وجهان،
ووجه ثالث أن تقول: "كان مقبلاً على فلان ثم استوى عليّ يشاتمني" و"إليّ" سواءٌ، على معنى: أقبل إلي وعليّ؛ فهذا معنى قوله: {ثمّ استوى إلى السّماء} والله أعلم.
وقال ابن عباس: "{ثم استوى إلى السماء }: صعد"، وهذا كقولك للرجل: "كان قائماً فاستوى قاعداً" و"كان قاعداً فاستوى قائما"، وكلٌّ في كلام العرب جائزٌ.
فأما قوله: {ثمّ استوى إلى السّماء فسوّاهنّ} فإن "السماء" في معنى جمع، فقال {فسوّاهنّ} للمعنى المعروف أنهنّ سبع سموات، وكذلك الأرض يقع عليها -وهي واحدةٌ- الجمع، ويقع عليهما التوحيد وهما مجموعتان، قال الله عز وجل: {ربّ السّموات والأرض} ثم قال: {وما بينهما} ولم يقل "بينهن"، فهذا دليل على ما قلت لك). [معاني القرآن: 1/25]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({هو الّذي خلق لكم مّا في الأرض جميعاً ثمّ استوى إلى السّماء فسوّاهنّ سبع سماواتٍ وهو بكلّ شيءٍ عليمٌ}: هذا باب من المجاز.
أما قوله: {ثمّ استوى إلى السّماء فسوّاهنّ} وهو إنما ذكر سماء واحدة، فهذا لأن ذكر "السماء" قد دل عليهن كلّهن، وقد زعم بعض المفسرين أن "السماء" جميع مثل "اللبن"، فما كان لفظه لفظ الواحد ومعناه معنى الجماعة جاز أن يجمع، فقال: {سوّاهنّ} فزعم بعضهم أن قوله: {السّماء منفطرٌ به} جمع مذكر كـ"اللّبن"، ولم نسمع هذا من العرب، والتفسير الأول جيد، و قال يونس: {السّماء منفطرٌ به} ذكر كما يذكر بعض المؤنث كما قال الشاعر:

فلا مزنةٌ ودقت ودقها = ولا أرض أبقل إبقالها
وقوله:

فإمّا تري لمّتى بدّلت = فإن الحوادث أودى بها
وقد تكون "السماء" يريد به الجماعة كما تقول: "هلك الشاة والبعير"، يعني: كل بعير وكل شاة، وكما قال: {خلق سبع سماواتٍ ومن الأرض مثلهنّ} أي: من الأرضين.
وأما قوله: {استوى إلى السماء} فإن ذلك لم يكن من الله تبارك وتعالى لتحول، ولكنه يعني: فعله، كما تقول: "كان الخليفة في أهل العراق يوليهم ثم تحوّل إلى أهل الشام"، إنما تريد تحول فعله). [معاني القرآن: 1/44]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({استوى إلى السماء}: عمد وقصد).[غريب القرآن وتفسيره: 66]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ)
: ({ثمّ استوى إلى السّماء} عمد لها، وكلّ من كان يعمل عملاً فتركه بفراغ أو غير فراغ وعمد لغيره: فقد استوى له واستوى إليه.
وقوله: {فسوّاهنّ} ذهب إلى السماوات السبع). [تفسير غريب القرآن: 45]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {هو الّذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثمّ استوى إلى السّماء فسوّاهنّ سبع سماوات وهو بكلّ شيء عليم}
موضع "ما" مفعول به، وتأويله: أن جميع ما في الأرض منعم به عليكم، فهو لكم، وفيه قول آخر: أن ذلكم دليل على توحيد اللّه عزّ وجلّ.
وقوله عزّ وجلّ: {ثمّ استوى إلى السّماء} فيه قولان:
قال بعضهم: {استوى إلى السّماء}: عمد وقصد إلى السماء. كما تقول: قد فرغ الأمير من بلد كذا وكذا، ثم استوى إلى بلد كذا، معناه: قصد بالاستواء إليه.
وقد قيل أيضاً: "استوى" أي: صعد أمره إلى السماء، وهذا قول ابن عباس.
و"السماء" لفظها لفظ الواحد، ومعناها معنى الجمع، والدليل على ذلك قوله: {فسوّاهنّ سبع سماوات}. ويجوز أن يكون "السماء" جمعاً كما أن السّماوات جمع؛ كأن واحده سماة وسماوة وسماء للجميع، وزعم أبو الحسن الأخفش أن السماء جائز أن يكون واحداً يراد به الجمع كما تقول "كثر الدّرهم والدينار في أيدي الناس"،
و"السماء" في اللغة: السقف، ويقال لكل ما ارتفع وعلا: قد سما يسمو، وكل سقف فهو سماء يا فتى، ومن هذا قيل للسحاب؛ لأنها عالية).
[معاني القرآن: 1/107-108]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({ثم استوى} أي: عمد). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 26]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({اسْتَوَى}: عمد). [العمدة في غريب القرآن: 72]

تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)}
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({وإذ قال ربّك للملائكة} الهمزة فيها مجتلبة، لأن واحدها "ملك" بغير همزة، قال الشاعر فهمز:

ولست لإنسيٍّ ولكن لملأك= تنزّل من جوّ السماء يصوب
{أتجعل فيها من يفسد فيها} جاءت على لفظ الاستفهام، والملائكة لم تستفهم ربّها، وقد قال تبارك وتعالى: {إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً}، ولكن معناها معنى الإيجاب، أي: أنك ستفعل. وقال جرير: فأوجب، ولم يستفهم، لعبد الملك بن مروان:

ألستم خير من ركب المطايا= وأندى العالمين بطون راح
وتقول : وأنت تضرب الغلام على الذنب: ألست الفاعل كذا؟ ليس باستفهام ولكن تقرير.
{نقدّس لك}: نطهّر، التقديس: التطهير.
{ونسبّح}: نصليّ، تقول: قد فرغت من سبحتي، أي: من صلاتي). [مجاز القرآن: 1/35-36]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({وإذ قال ربّك للملائكة إني جاعلٌ في الأرض خليفةً قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون}
أما قول الملائكة:{أتجعل فيها من يفسد فيها} فلم يكن ذلك إنكاراً منهم على ربهم، إنما سألوا ليعلموا، وأخبروا عن أنفسهم أنهم يسبّحون ويقدّسون، أو قالوا ذلك؛ لأنهم كرهوا أن يُعصى الله؛ لأن الجن قد كانت أمرت قبل ذلك فعصت.
وأما قوله: {نسبّح بحمدك ونقدّس لك}، وقال: {والملائكة يسبّحون بحمد ربّهم}، وقال: {فسبّح بحمد ربّك واستغفره} فذلك لأن الذكر كله تسبيح وصلاة، تقول: "قضيت سبحتي من الذكر والصلاة"، فقال: سبّح بالحمد، أي: لتكن سبحتك بالحمد لله.
و قوله {أتجعل فيها}: جاء على وجه الإقرار، كما قال الشاعر:

ألستم خير من ركب المطايا = وأندى العالمين بطون راح
أي: أنتم كذلك). [معاني القرآن: 1/44-45]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({يسفك الدماء}: يصبها، سفك دمه أي: صبه.
{نسبح}: نصلي، تقول: قد فرغت من سبحتي، أي: من صلاتي.
{ونقدس لك}: نطهر لك. والتقديس التطهير. وقالوا: {نقدس لك} نكبرك ونعظمك). [غريب القرآن وتفسيره: 67]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ)
: (وقوله {وإذ قال ربّك للملائكة} أراد: وقال ربك للملائكة، و«إذ» تزاد، والمعنى: إلقاؤها، على ما بينت في كتاب «المشكل».
{إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها} يرى أهل النظر من أصحاب اللغة: أن اللّه جل وعزّ قال: (إني جاعل في الأرض خليفة يفعل ولده كذا ويفعلون كذا)، فقالت الملائكة: (أتجعل فيها من يفعل هذه الأفاعيل؟) ولولا ذلك ما علمت الملائكة في وقت الخطاب أن خليفة اللّه يفعل ذلك، فاختصر اللّه الكلام على ما بينت في كتاب «المشكل»). [تفسير غريب القرآن: 45]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وإذ قال ربّك للملائكة إنّي جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك قال إنّي أعلم ما لا تعلمون}
قال أبو عبيدة: "إذ" ههنا زائدة، وهذا إقدام من أبي عبيدة؛ لأن القرآن لا ينبغي أن يتكلم فيه إلا بغاية تجري إلى الحق، و(إذ) معناها الوقت، وهي اسم فكيف يكون لغواً ومعناها الوقت؛ والحجة في (إذ) أنّ اللّه تعالى ذكر خلق الناس وغيرهم، فكأنّه قال: (ابتدأ خلقكم إذ قال ربك للملائكة {إني جاعل في الأرض خليفة}).
وفي ذكر هذه الآية احتجاج على أهل الكتاب بتثبيت نبوة النبي صلى الله عليه وسلم: أنّ خبر آدم وما أمره اللّه به من سجود الملائكة له معلوم عندهم، وليس هذا من علم العرب الذي كانت تعلمه، ففي إخبار النبي صلى الله عليه وسلم دليل على تثبيت رسالته إذ آتاهم بما ليس من علم العرب، وإنما هو خبر لا يعلمه إلا من قرأ الكتاب أو أوحي إليه به.
وتأويل قوله عزّ وجلّ: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء}
روي: أن خلقا يقال لهم "الجان" كانوا في الأرض فأفسدوا وسفكوا الدماء فبعث اللّه ملائكته فأجلتهم من الأرض.
وقيل: إن هؤلاء الملائكة صاروا سكان الأرض بعد "الجان"، فقالوا: "يا رب، {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك}".
وتأويل استخبارهم هذا: على جهة الاستعلام وجهة الحكمة، لا على الإنكار، فكأنهم قالوا: يا اللّه، إن كان هذا ظننا، فعرّفنا وجه الحق فيه.
وقال قوم: المعنى فيه غير هذا، وهو: أن الله عزّ وجلّ أعلم الملائكة أنه جاعل في الأرض خليفة، وأن من الخليفة فرقة تسفك الدماء، وهي فرقة من بني آدم، وأذن اللّه عزّ وجلّ للملائكة أن يسألوه عن ذلك، وكان إعلامه إياهم هذا زيادة في التثبيت في نفوسهم أنّه يعلم الغيب، فكأنهم قالوا: أتخلق فيها قوماً يسفكون الدماء ويعصونك؛ وإنّما ينبغي إذا عرفوا أنك خلقتهم أن يسبحوا بحمدك كما نسبح، ويقدسوا كما نقدس، ولم يقولوا هذا إلا وقد أذن لهم، ولا يجوز على الملائكة أن تقول شيئاً تتظنى فيه، لأن اللّه تعالى وصفهم بأنهم يفعلون ما يؤمرون.
وقوله عزّ وجلّ {إني أعلم ما لا تعلمون}: أي: أبتلي من تظنون أنّه يطيع فيهديه الابتلاء، فالألف ههنا إنّما هي على إيجاب الجعل في هذا القول، كما قال جرير:

ألستم خير من ركب المطايا= وأندى العالمين بطون راح
ومعنى {يسفك}: يصب، يقال: سفك الشيء إذا صبّه.
ومعنى {نسبح بحمدك}: نبرئك من السوء، وكل من عمل عملا ً قصد به اللّه: فقد سبح، يقال: فرغت من تسبيحي، أي: من صلاتي، وقال سيبويه وغيره من النحويين: إن معنى "سبحان الله": براءة اللّه من السوء وتنزيهه من السوء، وقال الأعشى:

أقول لما جاءني فخره= سبحان من علقمة الفاخر
المعنى: البراءة منه ومن فخره، ومعنى {نقدّس لك} أي: نطهر أنفسنا لك، وكذلك من أطاعك نقدسه، أي: نطهّره، ومن هذا بيت المقدس، أي: البيت المطهر، أو المكان الذي يتطهر فيه من الذنوب). [معاني القرآن: 1/108-110]

قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت:345 هـ): ({ويسفك الدماء} أي: يصب الدماء بغير حق، ويسفك أيضاً: يصب الدماء بحق). [ياقوتة الصراط: 172]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({نسبح} أي: ننزه، وقيل: نصلي، {ونقدس} أي: نطهر، وقيل: نعظمك ونكبرك).
[تفسير المشكل من غريب القرآن: 26]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({وَيَسْفِكُ}: يصب، {نُقَدِّسُ}: نتطهّر، {نُسَبِّحُ}: نصلي). [العمدة في غريب القرآن: 72-73]

تفسير قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {وعلّم آدم الأسماء كلّها ثمّ عرضهم على الملائكة...}
فكان {عرضهم} على مذهب شخوص العالمين وسائر العالم، ولو قصد قصد الأسماء بلا شخوص جاز فيه "عرضهنّ" و"عرضها"، وهي في حرف عبد الله: (ثم عرضهنّ)، وفي حرف أبيّ: (ثم عرضها) فإذا قلت "عرضها" جاز أن تكون للأسماء دون الشخوص، وللشخوص دون الأسماء).
[معاني القرآن: 1/26]

قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({وعلّم آدم الأسماء كلّها}: أسماء الخلق، {ثمّ عرضهم على الملائكة} أي: عرض الخلق).
[مجاز القرآن: 1/36]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({وعلّم آدم الأسماء كلّها ثمّ عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين}
قوله {الأسماء كلّها ثمّ عرضهم} فيريد عرض عليهم أصحاب الأسماء، ويدلك على ذلك قوله: {أنبئوني بأسماء هؤلاء} فلم يكن ذلك أن الملائكة ادّعوا شيئا، إنما أخبر عن جهلهم بعلم الغيب وعلمه بذلك وفعله، فقال: {أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين}، كما يقول الرجل للرجل: "أنبئني بهذا إن كنت تعلم" وهو يعلم أنه لا يعلم، يريد: أنه جاهل.
فأعظموه عند ذلك فقالوا: {سبحانك لا علم لنا} بالغيب على ذلك، ونحن نعلم أنه لا علم لنا بالغيب، إخباراً عن أنفسهم بنحو ما خبَّر الله عنهم، وقوله: {سبحانك لا علم لنا} فنصب "سبحانك"؛ لأنه أراد "نسبّحك" جعله بدلا من اللفظ بالفعل، كأنه قال: "نسبّحك بسبحانك" ولكن "سبحان" مصدر لا ينصرف.
و"سبحان" في التفسير: براءة وتنزيه، قال الشاعر:

أقول لمّا جاءني فخره = سبحان من علقمة الفاخر
يقول: براءة منه). [معاني القرآن: 1/45-46]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({وعلّم آدم الأسماء كلّها} يريد: أسماء ما خلق في الأرض، {ثمّ عرضهم على الملائكة} أي: عرض أعيان الخلق عليهم {فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء}). [تفسير غريب القرآن: 46]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وعلّم آدم الأسماء كلّها ثمّ عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين}
قال أهل اللغة: علم آدم أسماء الأجناس، وعرض أصحاب الأسماء من الناس وغيرهم على الملائكة، فلذا قال: {ثم عرضهم}؛ لأن فيهم من يعقل.
وكل ما يعقل يقال لجماعتهم: (هم)، و(هم) يقال للناس، ويقال للملائكة، ويقال للجن، ويقال للجان، ويقال للشياطين، فكل مميز في الإضمار (هم)، هذا مذهب أهل اللغة.
وقد قال بعض أهل النظر: إن الفائدة في الإتيان بالأسماء أبلغ منها هي الفائدة بأسماء معاني كل صنف من هذه، لأن الحجة في هذا أن الخيل إذا عرضت، فقيل: ما اسم هذه؟ قيل: خيل، فأي اسم وضع على هذه أنبأ عنها.
وإنما الفائدة أن تنبئ باسم كل معنى في كل جنس، فيقال: هذه تصلح لكذا، فهذه الفائدة البينة التي يتفق فيها أن تسمى الدابة والبعير بأي اسم شئت، والمعنى الذي فيها وهو خاصها معنى واحد وإن اختلفت عليه الأسماء واللّه أعلم). [معاني القرآن: 1/110-111]

تفسير قوله تعالى: {قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32)}
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({سبحانك}: تنزيه للرب، وتبرؤٌ، قال الأعشى -تبرءاً وتكذيباً لفخر علقمة-:

أقول لمّا جاءني فخره= سبحان من علقمة الفاخر).
[مجاز القرآن: 1/36]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({سبحانك}: تنزيه للرب جل ثناؤه، وتبرؤ). [غريب القرآن وتفسيره: 67]

تفسير قوله تعالى: {قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {يا آدم أنبئهم بأسمائهم...}
إن همزت قلت: (أنبئهم) ولم يجز كسر الهاء والميم؛ لأنها همزة وليست بياء فتصير مثل "عليهم".
وإن ألقيت الهمزة فأثبت الياء أو لم تثبتها جاز رفع "هم" وكسرها، على ما وصفت لك في "عليهم" و"عليهم"). [معاني القرآن: 1/26]


رد مع اقتباس