عرض مشاركة واحدة
  #4  
قديم 24 ذو الحجة 1431هـ/30-11-2010م, 11:22 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي [الآيات من 13 إلى 20]

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16) مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)}

تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13)}
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن النّاس قالوا أنؤمن كما آمن السّفهاء ألا إنهم هم السّفهاء ولكن لاّ يعلمون}
أما قوله: {أنؤمن كما آمن السّفهاء ألا إنهّم هم السّفهاء} فقد قرأهما قوم مهموزتين جميعاً، وقالوا: {سواءٌ عليهم أأنذرتهم} و {ولا يحيق المكر السّيّئ إلاّ بأهله} وقالوا (أئذا) ، (أئنا) كل هذا يهمزون فيه همزتين، وكل هذا ليس من كلام العرب إلا شاذاً، ولكن إذا اجتمعت همزتان شتى ليس بينهما شيء: فإن إحداهما تخفف في جميع كلام العرب إلا في هذه اللغة الشاذة القليلة، وذلك أنه إذا اجتمعت همزتان في كلمة واحدة أبدلوا الآخرة منهما أبداً، فجعلوها:
إن كان ما قبلها مفتوحاً: ألفاً ساكنة نحو: "آدم" و"آخر" و"آمن".
وإن كان ما قبلها مضموماً: جعلت واواً نحو: "أوزُزْ" إذا أمرته أن يؤز.
وإن كان ما قبلها مكسوراً: جعلت ياء نحو: "إيت".
وكذلك إن كانت الآخرة متحركة -بأي حركة كانت- والأولى مضمومة أو مكسورة؛ فالآخرة تتبع الأولى نحو: "أنا أُفْعِلُ" من "آب"، فتقول "أووب"، ونحو: "جاء" في الرفع والنصب والجر.
فأما المفتوحة فلا تتبعها الآخرة إذا كانت متحركة؛ لأنها لو تبعتها جعلت همزة مثلها، ولكن تكون على موضعها، فإن كانت مكسورة جعلت ياء، وإن كانت مضمومة جعلت واواً، وإن كانت مفتوحة جعلت أيضاً واواً؛ لأن الفتحة تشبه الألف، وأنت إذا احتجت إلى حركتها جعلتها واواً ما لم يكن لها أصل في الياء معروف، فهذه الفتحة ليس لها أصل في الياء، فجعلت الغالب عليها الواو نحو: "آدم" و"أوادم"، فلذلك جعلت الهمزتان إذا التقتا وكانتا من كلمتين شتى مخففة إحداهما، ولم يبلغ من استثقالهما ما أن تجعلا مثل المجتمعتين في كلمة واحدة؛ ولأن اللتين في كلمة واحدة لا تفارق إحداهما صاحبتها، وهاتان تتغيران عن حالهما وتصير كل واحدة منها على حيالها أثقل منهما في كلمتين؛ لأن ما في الكلمتين كلّ واحدة على حيالها، فتخفيف الآخرة أقيس، كما أبدلوا الآخرة حين اجتمعتا في كلمة واحدة، وقد تخفف الأولى.
فمن خفف الآخرة في قوله: {كما آمن السّفهاء ألا} قال: (السفهاء ولا) فجعل الألف في (ألا) واواً، ومن خفف الأولى جعل الألف التي في (السفهاء) كالواو وهمز ألف (ألاّ).
وأما {أأنذرتهم} فإن الأولى لا تخفف؛ لأنها أول الكلام، والهمزة إذا كانت أول الكلام لم تخفف؛ لأن المخففة ضعفت حتى صارت كالساكن فلا يبتدأ بها، وقد قال بعض العرب (آإذا) و(آانذرتهم) و(آانا قلت لك كذا وكذا) فجعل ألف الاستفهام إذا ضمت إلى همزة يفصل بينها وبينها بألف لئلا تجتمع الهمزتان، كل ذا قد قيل، وكل ذا قد قرأه الناس.
وإذا كانت الهمزة ساكنة؛ فهي في لغة هؤلاء الذين يخففون إن كان ما قبلها مكسوراً: ياء، نحو: (أنبيهم بأسمايهم) ونحو: (نبّينا)، وإن كان مضموماً: جعلوها واواً نحو: "جونه"، وإن كان ما قبلها مفتوحاً: جعلوه ألفاً نحو: "راس" و"فاس"، وإن كانت همزة متحركة بعد حرف ساكن حرّكوا الساكن بحركة ما بعده وأذهبوا الهمزة، يقولون في: {في الأرض}: (فلرض)، وفي: {ما لكم مّن إله}: (منلاهٍ)، يحركون الساكن بالحركة التي كانت في الهمزة -أي حركة كانت- ويحذفون الهمزة.
وإذا اجتمعت همزتان من كلمتين شتى والأولى مكسورة والآخرة مكسورة؛ فأردت أن تخفف الآخرة جعلتها بين الياء الساكنة وبين الهمزة؛ لأن الياء الساكنة تكون بعد المكسورة نحو "هؤلاء يماء الله"، تجعل الآخرة بين بين والأولى محققة.
وإن كانت الآخرة مفتوحة نحو: "هؤلاء أخواتك"، أو مضمومة نحو: "هؤلاء أمّهاتك" لم تجعل بين بين، وجعلت ياء خالصة لانكسار ما قبلها؛ لأنك إنما تجعل المفتوح بين الألف الساكنة وبين الهمزة، والمضموم بين الواو الساكنة وبين الهمزة إذا أردت بين بين، وهذا لا يثبت بعد المكسور. وإن كان الأول مهموزاً أو غير مهموز فهو سواء إذا أردت تخفيف الآخرة، من ذلك قولهم : "مئين" و"مئير" في قول من خفف.
وإن كان الحرف مفتوحاً بعده همزة مفتوحة أو مكسورة أو مضمومة جعلت بين بين؛ لأن المفتوح تكون بعده الألف الساكنة والياء الساكنة، نحو : "البيع"، والواو الساكنة نحو: "القول"، وهذا مثل {يتفيّؤ ظلاله} و{ويمسك السّماء أن تقع على الأرض} و(آاذا) و(آانا) إذا خففت الآخرة في كل هذا جعلتها بين بين، والذي نختار تخفيف الآخرة إذا اجتمعت همزتان، إلا أنا نحققهما في التعليم كلتيهما نريد بذلك الاستقصاء. وتخفيف الآخرة قراءة أهل المدينة، وتحقيقهما جميعاً قراءة أهل الكوفة، وبعض أهل البصرة.
ومن زعم أن الهمزة لا تتبع الكسرة إذا خففت وهي متحركة، وإنما تجعل في موضعها دخل عليه أن يقول: "هذا قاروٌ" و"هؤلاء قاروون" و(يستهزوون)، وليس هذا كلام من خفف من العرب، إنما يقولون: (يستهزئون) و(قارئون).
وإذا كان ما قبل الهمزة مضموماً وهي: جعلتها بين بين، وإن كانت مكسورة أو مفتوحة: لم تكن بين بين وما قبلها مضموم؛ لأن المفتوحة بين الألف الساكنة والهمزة، والمكسورة بين الياء الساكنة والهمزة، وهذا لا يكون بعد المضموم، ولكن تجعلها واوا بعد المضموم إذا كانت مكسورة أو مفتوحة فتجعلها واواً خالصة؛ لأنهما يتبعان ما قبلهما، نحو: "مررت بأكموٍ" و"رأيت أكمواً" و"هذا غلاموبيك" تجعلها واواً إذا أردت التخفيف، إلا أن تكون المكسورة مفصولة فتكون على موضعها لأنها قد بعدت.
والواو قد تقلب إلى الياء مع "هذا" و"ذلك"، نحو: "هذا غلاميخوانك" و"ولا يحيق المكر السّيّئ يلا".
وإذا كانتا في معنى "فعل" والهمزة في موضع العين: جعلت بين بين؛ لأن الياء الساكنة تكون بعد الضمة، ففي "قيل" يقولون: "قيل"، ومثل ذلك "سيل" و"ريس" فيجعلها بين بين إذا خففت، ويترك ما قبلها مضموماً.
وأما "روس" فليست "فعل"، وإنما هي "فعل" فصارت واوا ً؛ لأنها بعد ضمة معها في كلمة واحدة). [معاني القرآن: 1/32-35]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن النّاس} يعني: المسلمين، {قالوا أنؤمن كما آمن السّفهاء}؟! أي: الجهلة، ومنه يقال: سفه فلان رأيه؛ إذا جهله، ومنه قيل للبذاء سفه؛ لأنه جهل). [تفسير غريب القرآن: 41]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن النّاس قالوا أنؤمن كما آمن السّفهاء ألا إنّهم هم السّفهاء ولكن لا يعلمون (13)}
أصل السفه في اللغة: خفة الحلم، وكذلك يقال : ثوب سفيه إذا كان رقيقاً باليا.
وقوله عزّ وجلّ: {ألا إنّهم هم السّفهاء} معنى (ألا) استفتاح وتنبيه، وقوله: {هم السفهاء} يجوز أن يكون خبر "إنّ" و "هم" فصل، وهو الذي يسميه الكوفيون: العماد. ويجوز أن يكون "هم" ابتداء، و"السفهاء" خبر الابتداء، و"هم السفهاء" خبر إن). [معاني القرآن: 1/88]

قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال تعالى: {وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء}
قال ابن عباس: "(الناس) ههنا: أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم".
{قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء} قال أبو إسحاق: أصل السفه في اللغة: رقة الحلم، يقال ثوب سفيه، أي: بال رقيق). [معاني القرآن: 1/93-94]

قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال تعالى: {ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون} أي: لا يعلمون أن وبال ذلك يرجع عليهم، ويقال: إذا وصفوا بالسفه فلم لا يكون ذلك عذراً لهم؟
فالجواب: أنه إنما لحقهم ذلك إذ عابوا الحق فأنزلوا أنفسهم تلك المنزلة، كما قال تعالى: {إن هم إلا كالأنعام} لصدهم وإعراضهم، إذ بعده {بل هم أضل سبيلاً}؛ لأن الأنعام قد يصرفها راعيها كيف شاء وهؤلاء لا يهتدون بالإنذار والعظة، وأيضاً؛ فإذا سفهوا المؤمنين فهم في تلك الحال مستحقون لهذا الاسم .
وقوله تعالى: {ولكن لا يعلمون} الجواب عنه كالجواب عن: {ولكن لا يشعرون}). [معاني القرآن: 1/94-95]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({آمَنَ النَّاسُ}: المسلمون. {السُّفَهَاء}: الجهال). [العمدة في غريب القرآن: 70]

تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14)}
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({الشّياطين}: كل عاتٍ متمرد من الجن والإنس والدواب فهو شيطان). [مجاز القرآن: 1/32]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({وإذا لقوا الّذين آمنوا قالوا آمنّا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون}
قوله: {وإذا لقوا الّذين آمنوا قالوا آمنّا} فأذهب الواو؛ لأنه كان حرفاً ساكناً لقي اللام وهي ساكنة، فذهبت لسكونه ولم تحتج إلى حركته؛ لأن فيما بقي دليلاً على الجمع، وكذلك كل «واو» كان ما قبلها مضموماً من هذا النحو.
فإذا كان ما قبلها مفتوحاً لم يكن بد من حركة الواو؛ لأنك لو ألقيتها لم تستدل على المعنى، نحو: {اشتروا الضّلالة} وحركت الواو بالضم؛ لأنك لو قلت "اشترا الضلالة" فألقيت الواو لم تعرف إنه جمع، وإنما حركتها بالضم؛ لأن الحرف الذي ذهب من الكلمة مضموم، فصار يقوم مقامه، وقد قرأ قوم -وهي لغة لبعض العرب- : (اشْتَرَوِا الضّلالة) لما وجدوا حرفاً ساكناً قد لقي ساكناً كسروا كما يكسرون في غير هذا الموضع، وهي لغة شاذة.
وأما قوله: {وإذا خلوا إلى شياطينهم} فإنك تقول "خلوت إلى فلان في حاجة" كما تقول: "خلوت بفلان"، إلاّ إن "خلوت بفلان" له معنيان: أحدهما هذا، والآخر سخرت به.
وتكون "إلى" في موضع "مع"؛ نحو: {من أنصاري إلى اللّه}، كما كانت "من" في معنى "على" في قوله: {ونصرناه من القوم} أي: على القوم، وكما كانت الباء في معنى "على" في قوله: "مررت به" و"مررت عليه" وفي كتاب الله عز وجل: {مّن أن تأمنه بدينارٍ} يقول: "على دينار"، وكما كانت "في" في معنى "على" نحو: {في جذوع النّخل} يقول "على جذوع النخل".
وزعم يونس أن العرب تقول: "نزلت في أبيك" تريد "عليه"، وتقول: "ظفرت عليه" أي: "به"، و"رضيت عليه" أي: "عنه"، قال الشاعر:


إذا رضيت عليّ بنو قشير = لعمر اللّه أعجبني رضاها
). [معاني القرآن: 1/35-36]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وإذا لقوا الّذين آمنوا قالوا آمنّا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنّا معكم إنّما نحن مستهزئون (14)} أنبأ الله المؤمنين بما يسره المنافقون من الكفر، ومعنى "شياطينهم" في اللغة: مردتهم، وعتاتهم في الكفر.
ويقال: "خلوت إليه" و"معه"، ويقال: "خلوت به"، وهو على ضربين:
أحدهما: جعلت خلوتي معه، كما قال: "خلوت إليه"، أي: جعلت خلوتي معه، وكذلك يقال: خلوت إليه.
ويصلح أن يكون: "خلوت به": سخرت منه.
ونصب {معكم} كنصب الظروف، تقول: "إنا معكم" و"إنا خلفكم" معناه: إنا مستقرون معكم، ومستقرون خلفكم، والقراءة المجمع عليها فتح العين، وقد يجوز في الاضطرار إسكان العين، ولا يجوز أن يقرأ بها. ويجوز "إنّا معكم" للشاعر إذا اضطر، قال الشاعر:

قريشي منكمو وهواي معكم= وإن كانت زيارتكم لماما
وفي قوله عزّ وجلّ: {خلوا إلى} وجهان:
إن شئت أسكنت الواو وخففت الهمزة وكسرتها فقلت: (خلوا إلى) وإن شئت ألقيت الهمزة وكسرت الواو فقلت: (خلو لي) وكذلك يقرأ أهل الحجاز، وهو جيد بالغ.
و"إنا" الأصل فيه "إننا"، كما قال اللّه عزّ وجلّ: {إنّني معكما}، ولكن النون حذفت؛ لكثرة النونات، والمحذوف النون الثانية من إن؛ لأن في "إن" نونين الأولى ساكنة والثانية متحركة.
وقوله عزّ وجلّ: {إنما نحن مستهزئون}: "نحن" مبنية على الضم؛ لأن "نحن" يدل على الجماعة، وجماعة المضمرين يدل عليهم إذا ثنيت الواحد من لفظه الميم والواو، نحو: "فعلوا" و"أنتم"، فالواو من جنس الضمة، فلم يكن بد من حركة "نحن" فحركت بالضم؛ لأن الضم من الواو؛ ألا ترى أن واو الجماعة إذا حركت؛ لالتقاء السّاكنين ضمت، نحو: {اشتروُا الضلالة}، وقد حركها بعضهم إلى الكسر، فقال: (اشتروِا الضلالة)؛ لأن اجتماع السّاكنين يوجب كسر الأولى إذا كانا من كلمتين، والقراءة المجمع عليها: {اشتروُا الضلالة} بالضم، وقد رويت: (اشتروَا الضلالة) بالفتح، وهو شاذ جدّاً.
و{مستهزئون}: القراءة الجيدة فيه: تحقيق الهمزة، فإذا خففت الهمزة جعلت الهمزة بين الواو والهمزة، فقلت: (مستهزؤون). فهذا الاختيار بعد التحقيق.
ويجوز أن تبدل من الهمزة ياء، فتقول: (مستهزيون)، فأما (مستهزون) فضعيف لا وجه له إلا شاذّاً، على لغة من أبدل الهمزة ياء، فقال في استهزأت: (استهزيت)، فيجب على لغة (استهزيت) أن يقال: (مستهزون) ). [معاني القرآن: 89/-90]

قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال جل وعز: {وإذا خلو إلى شياطينهم قالوا إنا معكم}
روى أسباط، عن السدي: أما شياطينهم: فهم رؤساؤهم في الكفر.
ويبين ما قاله قوله جل وعز: {شياطين الإنس والجن}، و"شيطان" مشتق من الشطن: وهو الحبل. أي: هو ممدود في الشر، ومنه بئر شطون).
[معاني القرآن: 1/95-96]

قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال جل وعز: {قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون} فأخبر سبحانه بما يكتمون). [معاني القرآن: 1/96]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({مُسْتَهْزِؤُونَ}: نسخر منهم). [العمدة في غريب القرآن: 70]

تفسير قوله تعالى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)}
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({في طغيانهم يعمهون} أي: بغيهم وكفرهم، يقال: رجل عمهٌ وعامه، أي: جائر عن الحق، قال رؤبة:

ومهمهٍ أطرافه في مهمه= أعمى الهدى بالجاهلين العمّه
). [مجاز القرآن: 1/32]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({اللّه يستهزئ بهم ويمدّهم في طغيانهم يعمهون}
أما قوله: {ويمدّهم في طغيانهم يعمهون} فهو في معنى "ويمدّ لهم"، كما قالت العرب: "الغلام يلعب الكعاب" تريد: "يلعب بالكعاب"، وذلك أنهم يقولون "قد مددت له"، و"أمددته" في غير هذا المعنى، وهو قوله جل ثناؤه: {وأمددناهم بفاكهةٍ} وقال: {ولو جئنا بمثله مدداً} وقال بعضهم:(مداداً) و (مدّاً) من "أمددناهم"، وتقول "مدّ النهر فهو مادّ" و"أمدّ الجرح فهو ممدّ"، وقال يونس: ما كان من الشرّ فهو: "مددت"، وما كان من الخير فهو: "أمددت"، فتقول كما فسرت له فإذا أردت أنك تركته قلت: "مددت له" وإذا أردت أنك أعطيته قلت: "أمددته").
[معاني القرآن: 1/36-37]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({يمدهم}: يتركهم ويملى لهم.
{في طغيانهم}: في عتوهم وكفرهم.
{يعمهون}: يتحيرون ويترددون. يقال رجل عمة وعامة). [غريب القرآن وتفسيره: 65]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ)
: ({اللّه يستهزئ بهم} أي: يجازيهم جزاء الاستهزاء جزاء النسيان، وقد ذكرت هذا وأمثاله في كتاب «المشكل». ومثله قوله: {نسوا اللّه فنسيهم} أي: جازاهم جزاء النسيان، وقد ذكرت هذا وأمثاله في كتاب «المشكل».
{ويمدّهم} أي: يتمادى بهم، ويطيل لهم.
{في طغيانهم} أي: في عتوّهم وتكبّرهم، ومنه قوله: {إنّا لمّا طغى الماء} أي: علا.
{يعمهون}: يركبون رؤوسهم فلا يبصرون، ومثله قوله: {أفمن يمشي مكبًّا على وجهه أهدى أمّن يمشي سويًّا على صراطٍ مستقيمٍ}، يقال: رجل عمه وعامه، أي: جائر عن الطريق، وأنشد أبو عبيدة:

ومهمه أطرافه في مهمه= أعمى الهدى بالجاهلين العمّه
). [تفسير غريب القرآن: 41-42]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {اللّه يستهزئ بهم ويمدّهم في طغيانهم يعمهون (15)} فيه أوجه من الجواب: فمعنى استهزاء اللّه بهم: أن أظهر لهم من أحكامه في الدنيا خلاف ما لهم في الآخرة، كما أظهروا من الإسلام خلاف ما أسرّوا.
ويجوز أن يكون استهزاؤه بهم: أخذه إياهم من حيث لا يعلمون، كما قال عزّ وجلّ: {سنستدرجهم من حيث لا يعلمون}.
ويجوز - واللّه أعلم، وهو الوجه المختار عند أهل اللغة- أن يكون معنى (يستهزئ بهم): يجازيهم على هزئهم بالعذاب، فسمّى جزاء الذنب باسمه كما قال عزّ وجلّ: {وجزاء سيّئة سيّئة مثلها}، فالثانية ليست سيئة في الحقيقة، ولكنها سميت سيئة لازدواج الكلام. وكذلك قوله عزّ وجلّ: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} فالأول ظلم، والثاني ليس بظلم، ولكنه جيء في اللغة باسم الذنب؛ ليعلم أنّه عقاب عليه وجزاء به، فهذه ثلاثة أوجه واللّه أعلم.
وكذلك يجري هذا المجرى قوله عزّ وجلّ: {يخادعون اللّه وهو خادعهم}، {ويمكرون ويمكر الله}.
وقوله عزّ وجلّ: {ويمدّهم في طغيانهم يعمهون}
معنى {ويمدّهم}: يمهلهم، وهو يدل على الجواب الأول.
و{في طغيانهم} معناه: في غلوّهم وكفرهم، ومعنى {يعمهون} في اللغة: يتحيرون، يقال: رجل عمه وعامه، أي: متحير، قال الراجز:

ومهمه أطرافه في مهمه= أعمى الهدى بالجاهلين العمّه
). [معاني القرآن: 1/90-91]

قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال جل وعز: {الله يستهزئ بهم} فيه أجوبه:
أصحها: أن معناه: يجازيهم على استهزائهم، فسمي جزاء الذنب باسمه لازدواج الكلام، وليعلم أنه عقاب عليه وجزاء به، كما قال عز وجل: {وجزاء سيئة سيئة مثلها}.
وقيل: هو ما روي في الحديث أن المؤمنين يعطون نوراً فيحال بينهم وبينه.
وقيل: هو أن الله أظهر لهم من أحكامه خلاف ما لهم في الآخرة، كما أظهروا للمسلمين خلاف ما أسروا. واستشهد صاحب هذا القول بأن بعده: {ويمدهم في طغيانهم يعمهون}.
وقيل: هو مثل {سنستدرجهم من حيث لا يعلمون} وهذه الأقوال ترجع إلى الأول؛ لأنها مجازة أيضاً.
ومن أحسن ما قيل فيه: أن معنى {يستهزئ بهم}: يصيبهم، كما قال تعالى: {وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم}). [معاني القرآن: 1/96-97]

قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال جل وعز: {ويمدهم في طغيانهم يعمهون} أي: يمدهم في تجاوزهم متحيرين، قال تعالى: {إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية}.
وقال مجاهد: "{يعمهون}: يترددون"، والمعنى على قوله: يترددون في ضلالتهم.
وحكى أهل اللغة: عمه يعمه عموها وعمها وعمهاناً فهو عمه وعامه، إذا حار). [معاني القرآن: 1/98]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({يستهزئ بهم}: أي: يجازيهم جزاء الاستهزاء. {ويمدهم}: يملي لهم. و{طغيانهم}: بغيهم.
و{يعمهون}: يتحيرون). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 24]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ}: يجازيهم بأعمالهم. {يَعْمَهُونَ}: يتحيرون). [العمدة في غريب القرآن: 71]

تفسير قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {فما ربحت تّجارتهم...}
ربما قال القائل: كيف تربح التجارة وإنما يربح الرجل التاجر؟
وذلك من كلام العرب: ربح بيعك وخسر بيعك، فحسن القول بذلك؛ لأن الربح والخسران إنما يكونان في التجارة، فعلم معناه، ومثله من كلام العرب: هذا ليل نائم، ومثله من كتاب الله: {فإذا عزم الأمر} وإنما العزيمة للرجال.
ولا يجوز الضمير إلا في مثل هذا، فلو قال قائل: قد خسر عبدك؛ لم يجز ذلك، إن كنت تريد أن تجعل العبد تجارةً يربح فيه أو يوضع؛ لأنه قد يكون العبد تاجراً فيربح أو يوضع، فلا يعلم معناه إذا ربح هو من معناه إذا كان متجوراً فيه، فلو قال قائل: قد ربحت دراهمك ودنانيرك، وخسر بزّك ورقيقك؛ كان جائزاً؛ لدلالة بعضه على بعض). [معاني القرآن: 1/14-15]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({أولئك الّذين اشتروا الضّلالة بالهدى فما ربحت تّجارتهم وما كانوا مهتدين}
قوله: {فما ربحت تّجارتهم} فهذا على قول العرب: "خاب سعيك" وإنما هو الذي خاب، وإنما يريد "فما ربحوا في تجارتهم"، ومثله {بل مكر اللّيل والنّهار} و{ولكنّ البرّ من آمن باللّه} إنما هو "ولكنّ البرّ برّ من آمن بالله"، وقال الشاعر:

وكيف تواصل من أصبحت= خلالته كأبي مرحب
وقال الشاعر:

وشرّ المنايا ميّتٌ وسط أهله = كهلك الفتاة أسلم الحيّ حاضره
إنما يريد: "وشر المنايا منية ميّت وسط أهله"، ومثله: "أكثر شربي الماء" و"أكثر أكلي الخبر" وليس أكلك بالخبز ولا شربك بالماء، ولكن تريد: أكثر أكلي أكل الخبز وأكثر شربي شرب الماء، قال: {وسأل القرية} يريد: "أهل القرية". {والعير} أي: "واسأل أصحاب العير"، وقال: {ومثل الّذين كفروا كمثل الّذي ينعق} فإنما هو - والله أعلم - "مثلكم ومثل الذين كفروا كمثل الناعق والمنعوق به" فحذف هذا الكلام، ودل ما بقي على معناه، ومثل هذا في القرآن كثير.
وقد قال بعضهم: {ومثل الّذين كفروا كمثل الّذي ينعق} يقول "مثلهم في دعائهم الآلهة كمثل الذي ينعق بالغنم" ؛ لأن آلهتهم لا تسمع ولا تعقل، كما لا تسمع الغنم ولا تعقل). [معاني القرآن: 1/38]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({أولئك الّذين اشتروا الضّلالة بالهدى} أي: استبدلوا. وأصل هذا: أن من اشترى شيئاً بشيء، فقد استبدل منه.
{فما ربحت تجارتهم} والتجارة لا تربح وإنما يربح فيها، وهذا على المجاز. ومثله: {فإذا عزم الأمر} وإنما يعزم عليه، وقد ذكرت هذا وأشباهه في كتاب «المشكل»). [تفسير غريب القرآن: 42]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {أولئك الّذين اشتروا الضّلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين (16)}
{أولئك} موضعه رفع بالابتداء، وخبره {الّذين اشتروا الضّلالة}، وقد فسّرنا واو (اشتروا) وكسرتها؛ فأمّا من يبدل من الضمة همزة فيقول: (اشترؤ الضلالة) فغالط؛ لأن الواو المضمومة التي تبدل منها همزة إنّما يفعل بها ذلك إذا لزمت صفتها نحو قوله عزّ وجلّ: {وإذا الرّسل أقتت} إنّما الأصل: وقتت، وكذلك: "أدؤر"، إنما أصلها: أَدور.
وضمة الواو في قوله: {اشتروا الضلالة} إنما هي لالتقاء السّاكنين، ومثله: {لتبلونّ في أموالكم وأنفسكم} لا ينبغي أن تهمز الواو فيه.
ومعنى الكلام: أن كل من ترك شيئاً وتمسك بغيره، فالعرب تقول للذي تمسك به قد اشتراه، وليس ثم شراء ولا بيع، ولكن رغبته فيه بتمسكه به كرغبة المشتري بماله ما يرغب فيه. قال الشاعر:

أخذت بالجمّة رأسا أزعرا= وبالثنايا الواضحات الدّردرا
وبالطويل العمر عمرا أقصرا= كما اشترى الكافر إذ تنصّرا
وقوله عزّ وجلّ: {فما ربحت تجارتهم} معناه: فما ربحوا في تجارتهم؛ لأن التجارة لا تربح وإنما يربح فيها ويوضع فيها، والعرب تقول: قد خسر بيعك وربحت تجارتك، يريدون بذلك الاختصار وسعة الكلام، قال الشاعر:

وكيف تواصل من أصبحت= خلالته كأبي مرحب
يريد: كخلالة أبي مرحب، وقال اللّه عزّ وجلّ: {بل مكر اللّيل والنّهار} والليل والنهار لا يمكران، إنما معناه: بل مكرهم في الليل والنهار).
[معاني القرآن: 1/91-93]

قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال جل وعز: {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى}
قال مجاهد: "آمنوا ثم كفروا" .
ويقال: كيف قال {اشتروا} وإنما يقال: اشتريت كذا بكذا إذا دفعت شيئا أخذت غيره؟
والجواب عن قول مجاهد: إنهم كفروا بعد الإيمان، فصار الكفر لهم بدلاً من الإيمان، وصاروا بمنزلة من باع شيئاً بشيء.
وقيل: لما أعطوا بألسنتهم الإيمان وأبوه بقلوبهم، فباعوا هذا الذي ظهر بألسنتهم بالذي في قلوبهم، والذي في قلوبهم هو الحاصل لهم، فهو بمنزلة العوض أخرج من أيديهم.
وقيل: لما سمعوا التذكرة والهدى ردوها واختاروا الضلالة، فكانوا بمنزلة من دفع إليه شيء فاشترى به غيره.
قال ابن كيسان: قيل هو مثل قوله تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} فلما كان خلقهم للعبادة، صار ما خلفها مبدلاً عنها بصدهم عما خلقوا له.
وأصل الضلالة: الحيرة، وسمي النسيان "ضلالة": لما فيه من الحيرة، كما قال جل وعز: {قال فعلتها إذا وأنا من الضالين} أي: الناسين، ويسمى الهلاك "ضلالة"، كما قال عز وجل: {وقالوا أئذا ضللنا في الأرض أئنا لفي خلق جديد}). [معاني القرآن: 1/98-100]

قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال جل وعز: {فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين} فأنزلوا منزلة من اتجر؛ لأن الربح والخسران إنما يكونان في التجارة. والمعنى : فما ربحوا في تجارتهم، ومثله قول العرب: خسر بيعه؛ لأنه قد عرف المعنى).
[معاني القرآن: 1/100-101]

قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال جل وعز: {وما كانوا مهتدين} أي: بفعلهم الذي فعلوه من إيثار الضلالة على الهدى، ويجوز: وما كانوا مهتدين في علم الله عز وجل). [معاني القرآن: 1/101]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({اشْتَرُوُاْ}: استبدلوا). [العمدة في غريب القرآن: 71]

تفسير قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {مثلهم كمثل الّذي استوقد ناراً...} فإنما ضرب المثل - والله أعلم - للفعل لا لأعيان الرجال، وإنما هو مثل للنفاق؛ فقال: {مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً} ولم يقل: "الذين استوقدوا"، وهو كما قال الله {تدور أعينهم كالّذي يغشى عليه من الموت} وقوله: {ما خلقكم ولا بعثكم إلاّ كنفسٍ واحدةٍ} فالمعنى - والله أعلم -: إلا كبعث نفس واحدة.
ولو كان التشبيه للرجال؛ لكان مجموعاً كما قال: {كأنّهم خشبٌ مسنّدةٌ} أراد: القيم والأجسام، وقال: {كأنّهم أعجاز نخلٍ خاويةٍ} فكان مجموعاً إذا أراد تشبيه أعيان الرجال؛ فأجر الكلام على هذا، وإن جاءك تشبيه جمع الرجال موحّداً في شعر فأجزه، وإن جاءك التشبيه للواحد مجموعاً في شعر فهو أيضاً يراد به الفعل فأجزه؛ كقولك: ما فعلك إلا كفعل الحمير، وما أفعالكم إلا كفعل الذّئب؛ فابن على هذا، ثم تلقي الفعل فتقول: ما فعلك إلا كالحمير وكالذّئب.
وإنما قال الله عزّ وجلّ: {ذهب اللّه بنورهم}؛ لأن المعنى ذهب إلى المنافقين، فجمع لذلك، ولو وحّد لكان صواباً كقوله: {إنّ شجرة الزّقّوم * طعام الأثيم * كالمهل تغلي في البطون} و"يغلي"؛ فمن أنّث: ذهب إلى الشجرة، ومن ذكّر: ذهب إلى المهل، ومثله قوله عز وجل: {أمنةً نعاساً تغشى طائفةً منكم} للأمنة، "ويغشى": للنعاس). [معاني القرآن: 1/15-16]

قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({وتركهم في ظلماتٍ لا يبصرون} ثم انقطع النصب، وجاء الاستئناف: {صمّ بكمٌ}،
قال النابغة:

توهّمت آياتٍ لها فعرفها= لستّة أعوامٍ وذا العام سابع
ثم استأنف فرفع، فقال:

رمادٌ ككحل العين لأيا أبينه= ونؤىٌ كجذم الحوض أثلم خاشع
). [مجاز القرآن: 1/32-33]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({مثلهم كمثل الّذي استوقد ناراً فلمّا أضاءت ما حوله ذهب اللّه بنورهم وتركهم في ظلماتٍ لاّ يبصرون صمٌّ بكمٌ عميٌ فهم لا يرجعون}
قوله: {كمثل الّذي استوقد ناراً} فهو في معنى "أوقد"، مثل قوله: "فلم يستجبه" أي: "فلم يجبه"، وقال الشاعر:

وداعٍ دعا يا من يجيب إلى الندى = فلم يستجبه عند ذاك مجيب
أي: "فلم يجبه".
وقال: {وتركهم في ظلماتٍ لاّ يبصرون} فجعل "الذي" جميعاً، فقال: {وتركهم}؛ لأن "الذي" في معنى الجميع، كما يكون "الإنسان" في معنى "الناس".
وقال: {وتركهم في ظلماتٍ لاّ يبصرون (17) صمٌّ بكمٌ عميٌ فهم لا يرجعون} فرفع على قوله: "هم صمٌّ بكمٌ عميٌ" رفعه على الابتداء، ولو كان على أول الكلام كان النصب فيه حسناً.
وأما {حوله} فانتصب على الظرف، وذلك أن الظرف منصوب، والظرف هو ما يكون فيه الشيء، كما قال الشاعر:

هذا النهار بدا لها من همّها = ما بالها بالليل زال زوالها
نصب "النهار" على الظرف، وإن شاء رفعه وأضمر فيه وأما "زوالها"، فإنه كأنه قال: "أزال اللّه الليل زوالها"). [معاني القرآن: 1/38-39]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): (و{الّذي استوقد ناراً} أي: أوقدها). [تفسير غريب القرآن: 42]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {مثلهم كمثل الّذي استوقد نارا فلمّا أضاءت ما حوله ذهب اللّه بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون (17)}
هذا المثل ضربه اللّه - جلّ وعزّ - للمنافقين في تجملهم بظاهر الإسلام، وحقنهم دماءهم بما أظهروا، فمثل ما تجملوا به من الإسلام كمثل النار التي يستضيء بها المستوقد، وقوله: {ذهب اللّه بنورهم} معناه -واللّه أعلم-: إطلاع اللّه المؤمنين على كفرهم، فقد ذهب منهم نور الإسلام بما أظهر الله عزّ وجلّ من كفرهم.
ويجوز أن يكون: ذهب الله بنورهم في الآخرة، أي: عذّبهم فلا نور لهم؛ لأن اللّه جلّ وعزّ قد جعل للمؤمنين نوراً في الآخرة، وسلب الكافرين ذلك النور، والدليل على ذلك قوله: {انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً}). [معاني القرآن: 1/93]

قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال جل وعز: {مثلهم كمثل الذي استوقد نارا}
قال ابن كيسان: {استوقد} بمعنى: أوقد، ويجوز أن يكون استوقدها من غيره، أي: طلبها من غيره.
قال الأخفش: هو سعيد الذي في معنى جمع.
قال ابن كيسان: لو كان كذلك؛ لأعاد عليه ضمير الجمع كما قال الشاعر:

وإن الذي حانت يفلج دماؤهم = هم القوم كل القوم يا أم خالد
قال : ولكنه واحد شبه به جماعة؛ لأن القصد كان إلى الفعل ولم يكن إلى تشبيه العين بالعين، فصار مثل قوله تعالى: {ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة} فالمعنى إلا كبعث نفس واحدة، وكإيقاد الذي استوقد ناراً). [معاني القرآن: 1/101-102]

قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال جل وعز: {فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم}
ويجوز أن يكون "ما" بمعنى "الذي"، وأن تكون زائدة، وأن تكون نكرة، والمعنى: أضاءت له فأبصر الذي حوله). [معاني القرآن: 1/102-103]

تفسير قوله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {صمٌّ بكمٌ عميٌ فهم لا يرجعون...} رفعن، وأسماؤهن في أوّل الكلام منصوبة؛ لأن الكلام تمّ وانقضت به آية، ثمّ استؤنفت {صمٌّ بكمٌ عميٌ} في آية أخرى، فكان أقوى للاستئناف، ولو تمّ الكلام ولم تكن آية لجاز -أيضاً- الاستئناف؛ قال الله تبارك تعالى: {جزاءً من ربّك عطاءً حساباً * ربّ السّموات والأرض وما بينهما الرّحمن}، "الرحمن" يرفع ويخفض في الإعراب، وليس الذي قبله بآخر آية.
فأما ما جاء في رءوس الآيات مستأنفاً فكثير؛ من ذلك قول الله: {إنّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم} إلى قوله: {وذلك هو الفوز العظيم} ثم قال -جل وجهه- : {التّائبون العابدون الحامدون} بالرفع في قراءتنا، وفي حرف ابن مسعود: (التائبين العابدين الحامدين)، وقال: {أتدعون بعلاً وتذرون أحسن الخالقين * الله ربّكم} يقرأ بالرفع والنصب على ما فسّرت لك، وفي قراءة عبد الله: (صمّاً بكماً عمياً) بالنصب، ونصبه على جهتين:
إن شئت على معنى: تركهم صمّاً بكماً عمياً، وإن شئت: اكتفيت بأن توقع الترك عليهم في الظلمات، ثم تستأنف (صمّاً) بالذمّ لهم، والعرب تنصب بالذمّ وبالمدح؛ لأن فيه معنى الأسماء مثل معنى قولهم: ويلاً له، وثواباً له، وبعداً، وسقياً، ورعياً). [معاني القرآن: 1/16]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {صمّ بكم عمي فهم لا يرجعون (18)} رفع على خبر الابتداء، كأنه قيل: هؤلاء الذين قصتهم هذه القصة {صمّ بكم عمي فهم لا يرجعون (18)} ويجوز في الكلام (صماً بكماً عمياً) على: وتركهم صمّاً بكماً عمياً.
ولكن المصحف لا يخالف بقراءة لا تروى، والرفع أيضاً أقوى في المعنى وأجزل في اللفظ.
فمعنى (بكم): أنه بمنزلة من ولد أخرس، ويقال: الأبكم: المسلوب الفؤاد.
و"صم" و"بكم" واحدهم: أصم وأبكم، ويجوز أن يقع جمع "أصم": صمّان، وكذلك "أفعل" كله يجوز فيه "فعلان"، نحو: "أَسْود" و"سُودَان"، ومعنى "سود" و"سودان" واحد، كذلك "صمّ" و"صمّان"، و"عُرج" و"عرجان"، و"بكم" و"بكمان"). [معاني القرآن: 1/94]

تفسير قوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {أو كصيّبٍ مّن السّماء...} مردود على قوله: {مثلهم كمثل الّذي استوقد ناراً}.
{أو كصيّبٍ}: أو كمثل صيّب، فاستغنى بذكر {الّذي استوقد ناراً} فطرح ما كان ينبغي أن يكون مع "الصيّب" من الأسماء، ودلّ عليه المعنى؛ لأن المثل ضرب للنفاق، فقال: {فيه ظلماتٌ ورعدٌ وبرقٌٌ} فشبّه "الظلمات" بكفرهم، و"البرق إذا أضاء لهم فمشوا فيه" بإيمانهم، والرعد -ما أتى في القرآن- من التخويف، وقد قيل فيه وجه آخر؛
قيل: إن الرعد إنما ذكر مثلاً لخوفهم من القتال إذا دعوا إليه، ألا ترى أنه قد قال في موضع آخر: {يحسبون كلّ صيحةٍ عليهم} أي: يظنّون أنهم أبداً مغلوبون.
ثم قال: {يجعلون أصابعهم في آذانهم مّن الصّواعق حذر الموت} فنصب "حذر" على غير وقوعٍ من الفعل عليه؛ لم ترد (يجعلونها حذراً)، إنما هو كقولك: أعطيتك خوفاً وفرقاً، فأنت لا تعطيه الخوف، وإنما تعطيه من أجل الخوف؛ فنصبه على التفسير ليس بالفعل، كقوله جل وعز: {يدعوننا رغباً ورهباً} وكقوله: {ادعوا ربّكم تضرّعاً وخفيةً}، والمعرفة والنكرة تفسّران في هذا الموضع، وليس نصبه على طرح "من"، وهو مما قد يستدل به المبتدئ للتعليم). [معاني القرآن: 1/17]

قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({كصيّبٍ من السّماء} معناه: كمطر، وتقديره تقدير سَيِّد من صاب يصوب، معناه: ينزل المطر، قال علقمة بن عبدة:

كأنهم صابت عليهم سحابة= صواعقها لطيرهن دبيب
فلا تعدلي بيني وبين مغمّرٍ= سقتك روايا المزن حيث تصوب
وقال رجل من عبد القيس -جاهليّ- يمدح بعض الملوك:

ولست لانسيّ ولكن لملأكٍ= تنزّل من جوّ السماء يصوب
). [مجاز القرآن: 1/33]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({أو كصيب من السماء}: أي كمطر من السماء، من: صاب يصوب).
[غريب القرآن وتفسيره: 65]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ)
: (والصيب: المطر، «فيعل» من «صاب يصوب»: إذا نزل من السماء).
[تفسير غريب القرآن: 42]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {أو كصيّب من السّماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصّواعق حذر الموت واللّه محيط بالكافرين (19)}
الصيّب في اللغة: المطر، وكل نازل من علو إلى أسفل، فقد صاب يصوب، قال الشاعر:

كأنهم صابت عليهم سحابة= صواعقها لطيرهن دبيب
وهذا أيضاً مثل يضربه اللّه عزّ وجلّ للمنافقين؛ كان المعنى: أو كأصحاب صيب، فجعل "دين الإسلام" لهم مثلاًَ فيما ينالهم من الشدائد والخوف، وجعل "ما يستضيئون به من البرق" مثلاً لما يستضيئون به من الإسلام، و"ما ينالهم من الخوف في البرق" بمنزلة ما يخافونه من القتل، الدليل على ذلك قوله عزّ وجلّ: {يحسبون كل صيحة عليهم}). [معاني القرآن: 1/94]

قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت:345 هـ): (والصيب: المطر). [ياقوتة الصراط: 171]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({كصيب}: كمطر). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 25]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({الصَّيِّبُ}: المطر). [العمدة في غريب القرآن: 71]

تفسير قوله تعالى: {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {يكاد البرق يخطف أبصارهم...}، والقّراء تقرأ: (يخطّف أبصارهم) بنصب الياء والخاء والتشديد، وبعضهم ينصب الياء ويخفض الخاء ويشدد الطاء، فيقول: "يَخَطِّفُ"، وبعضهم يكسر الياء والخاء ويشدّد، فيقول: "يِخِطِّفُ"، وبعضٌ من قرّاء أهل المدينة يسكّن الخاء والطاء، فيجمع بين ساكنين، فيقول: "يَخْطِّف".
فأما من قال: "يَخَطِّف": فإنه نقل إعراب التاء المدغمة إلى الخاء إذ كانت منجزمة، وأما من كسر الخاء: فإنه طلب كسرة الألف التي في "اختطف" و"الاختطاف"؛ وقد قال فيه بعض النحويين: إنما كسرت الخاء لأنها سكنت وأسكنت التاء بعدها فالتقى ساكنان فخفضت الأوّل؛ كما قال: اضربِ الرجل؛ فخفضت الباء لاستقبالها اللام، وليس الذي قالوا بشيء؛ لأن ذلك لو كان كما قالوا: لقالت العرب في يَمُدّ: "يَمِدّ"؛ لأن الميم كانت ساكنة وسكنت الأولى من الدالين، ولقالوا في يَعَضّ: "يَعِض".
وأما من خفض الياء والخاء: فإنه -أيضاً- من طلبه كسرة الألف؛ لأنها كانت في ابتداء الحرف مكسورة.
وأما من جمع بين الساكنين: فإنه كمن بنى على التبيان؛ إلا أنه إدغام خفي، وفي قوله: {أم مّن لا يهدّي إلاّ أن يهدى} وفي قوله: {تأخذهم وهم يخصّمون} مثل ذلك التفسير، إلا أن حمزة الزيات قد قرأ: (تأخذهم وهم يخْصمون) بتسكين الخاء، فهذا معنى سوى ذلك .
وقوله: {كلّما أضاء لهم مّشوا فيه...} فيه لغتان: يقال: "أضاء القمر"، و"ضاء القمر"؛ فمن قال: "ضاء القمر" قال: "يضوء ضوءاً"،
والضّوء فيه لغتان: ضم الضاد وفتحها.
{وإذا أظلم عليهم} فيه لغتان: "أظلم الليل" و"ظلم".
وقوله: {ولو شاء اللّه لذهب...} المعنى -والله أعلم-: ولو شاء الله لأذهب سمعهم. ومن شأن العرب أن تقول: أذهبت بصره؛ بالألف إذا أسقطوا الباء، فإذا أظهروا الباء أسقطوا الألف من "أذهبت"، وقد قرأ بعض القرّاء: (يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار) بضمّ الياء والباء في الكلام، وقرأ بعضهم: {وشجرةً تخرج من طور سيناء تنبت بالدّهن} فترى - والله أعلم - أن الذين ضمّوا على معنى الألف شبّهوا دخول الباء وخروجها من هذين الحرفين بقولهم: "خذ بالخطام"، و"خذ الخطام"، و"تعلّقت بزيدٍ"، و"تعلّقت زيداً" فهو كثير في الكلام والشعر، ولست أستحبّ ذلك لقلّته، ومنه قوله: {آتنا غداءنا} المعنى -والله أعلم-: ايتنا بغدائنا؛ فلما أسقطت الباء زادوا ألفاً في "فعلت"، ومنه قوله عزّ وجلّ: {قال آتوني أفرغ عليه قطراً} المعنى -فيما جاء-: ايتونى بقطر أفرغ عليه، ومنه قوله: {فأجاءها المخاض إلى جذع النّخلة} المعنى -والله أعلم-: فجاء بها المخاض إلى جذع النخلة). [معاني القرآن: 1/18-19]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({يكاد البرق يخطف أبصارهم كلّما أضاء لهم مّشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ولو شاء اللّه لذهب بسمعهم وأبصارهم إن اللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ}
أما {يكاد البرق يخطف أبصارهم} فمنهم من قرأ (يَخْطِفُ) من "خَطَفَ"، وهي قليلة رديئة لا تكاد تعرف، وقد رواها يونس (يَخِطِّفُ) بكسر الخاء لاجتماع الساكنين ومنهم من قرأ (يَخْطَفُ) على "خَطِفَ يَخْطِف"، وهي الجيدة، وهما لغتان، وقال بعضهم (يَخِطِّفُ) وهو قول يونس من "يختطف" فأدغم التاء في الطاء؛ لأن مخرجها قريب من مخرج الطاء، وقال بعضهم: (يَخَطِّفُ) فحول الفتحة على الذي كان قبلها، والذي كسر: كسر لاجتماع الساكنين فقال: (يَخِطِّف)، ومنهم من قال: (يِخِطِّف) كسر الخاء لاجتماع الساكنين، ثم كسر الياء، أتبع الكسرة الكسرة، وهي قبلها، كما أتبعها في كلام العرب كثيراً، يتبعون الكسرة في هذا الباب الكسرة يقولون "قِتِلُوا" و"فِتِحُوا" يريدون: "اقتلوا"و "افتحوا"، قال أبو النجم :

.......... = تدافع الشيب ولم تقتّل
وسمعناه من العرب مكسوراً كله، فهذا مثل (يِخِطِّفُ) إذا كسرت ياؤها؛ لكسرة خائها، وهي بعدها، فأتبع الآخر الأول.
وقوله: {ولو شاء اللّه لذهب بسمعهم} فمنهم من يدغم ويسكن الباء الأولى؛ لأنهما حرفان مثلان. ومنهم من يحرك، فيقول (لذهب بِسَمْعِهِم) وجعل "السمع" في لفظ واحد وهو جماعة؛ لأن "السمع" قد يكون جماعة، وقد يكون واحداً، ومثله قوله: {ختم اللّه على قلوبهم وعلى سمعهم}، ومثله قوله: {لا يرتدّ إليهم طرفهم}، وقوله: {فإن طبن لكم عن شيءٍ مّنه نفساً}، ومثله: {ويولّون الدّبر}). [معاني القرآن: 1/40]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({يخطف أبصارهم}: يذهب بها، وأصل الاختطاف: الاستلاب، يقال: اختطف الذئب الشاة من الغنم، ومنه يقال: لما يخرج به الدّلو "خطّاف"؛ لأنه يختطف ما علق به، قال النابعة:

خطاطيف حجن في حبال متينة= تمدّ بها أيد إليك نوازع
والحجن: المتعقّفة.
وهذا مثل ضربه اللّه للمنافقين، وقد ذكرته في كتاب «المشكل» وبينته). [تفسير غريب القرآن: 42-43]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {يكاد البرق يخطف أبصارهم كلّما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ولو شاء اللّه لذهب بسمعهم وأبصارهم إنّ اللّه على كلّ شيء قدير (20)}
{يخطف أبصارهم} فيه لغتان: يقال: خَطِفَ يخطَفُ، وخطَف يخْطِفُ، واللغة العالية التي عليها القراءة: خَطِفَ يخطَفُ، وهذا الحرف يروى عن العرب والقراء.
وفيه لغات تروى عن الحسن: (يَخَطِّف أبصارهم) بفتح الياء والخاء وكسر الطاء، ويروى أيضاً (يِخِطِّف) بكسر الياء والخاء والطاء، ويروى أيضاً لغة أخرى ليست تسوغ في اللفظ؛ لصعوبتها، وهي إسكان الخاء والطاء، وقد روى سيبويه مثل هذا، رده عليه أصحابه، وزعموا أنه غير سائغ في اللفظ، وأن الشعر لا يجمع في حشوه بين ساكنين، قال:

.......... = ومسحه مرّ عقاب كاسر
يبدل من الهاء حاء، ويدغم الحاء الأولى في الثانية، والسين ساكنة؛ فيجمع بين ساكنين، فأما بعد (يَخْطَف) فالجيّد: "يَخَطِّف" و"يخطِّف"، فمن قال "يَخَطِّف" فالأصل (يختطف) فأدغمت التاء في الطاء وألقيت على الحاء فتحة التاء، ومن قال: (يخِطِّف) كسر الخاء؛ لسكونها وسكون الطاء، وزعم بعض النحويين أنّ الكسر لالتقاء الساكنين ههنا خطأ؛ وأنه يلزم من قال هذا أن يقول في يَعَضُّ: "يَعِضُّ" وفي يَمُدُّ: "يَمِدُّ". وهذا خلط غير لازم، لأنه لو كسرها ههنا؛ لالتبس ما أصله "يفعَل" و"يفعُل" بما أصله "يَفْعِل"، ويخطف ليس أصله غير هذا، ولا يكون مرة على (يفتَعِل) ومرة على (يفتَعَلُ) فكسر لالتقاء السّاكنين في موضع غير ملبس، وامتنع في الملبس من الكسر لالتقاء السّاكنين، وألزم حركة الحرف الذي أدغمه؛ لتدل الحركة عليه. ومعنى خطفت الشيء في اللغة واختطفته: أخذته بسرعة.
وقوله عزّ وجلّ: {كلّما أضاء لهم مشوا فيه} يقال: "ضاء الشيء يضوء"، و"أضاء يضيء"، وهذه اللغة الثانية هي المختارة، ويقال: "أظلم" و"ظلم"، و"أظلم" المختار.
وقوله عزّ وجلّ: {ولو شاء اللّه لذهب بسمعهم} وقد فسرنا توحيد السمع، ويقال: "أذهبته" و"ذهبت به". ويروى أذهبت به، وهو لغة قليلة.
فأما ذكر "أو" في قوله: {مثلهم كمثل الّذي} إلى {أو كصيب}، فـ"أو" دخلت ههنا لغير شك، وهذه يسميها الحذاق باللغة "واو الإباحة" فتقول: جالس القراء أو الفقهاء أو أصحاب الحديث أو أصحاب النحو، فالمعنى: أن التمثيل مباح لكم في المنافقين؛ إن مثلتموهم بالذي استوقد ناراً فذاك مثلهم، وإن مثلتموهم بأصحاب الصيب فهذا مثلهم، أو مثلتموهم بهما جميعاً فهما مثلاهم -كما أنك إذا قلت: جالس الحسن أو ابن سيرين، فكلاهما أهل أن يجالس- إن جالست الحسن فأنت مطيع، وإن جمعتهما فأنت مطيع.
وقوله عزّ وجلّ: {يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصّواعق حذر الموت} ويروى أيضاً: (حذار الموت)، والذي عليه قرّاؤنا: {حذر الموت}، وإنما نصت: {حذر الموت}؛ لأنه مفعول له، والمعنى: يفعلون ذلك لحذر الموت، وليس نصبه لسقوط اللام، وإنما نصبه أنه في تأويل المصدر، كأنه قال: "يحذرون حذراً"؛ لأن جعلهم أصابعهم في آذانهم من الصواعق يدل على حذرهم الموت، وقال الشاعر:

وأغفر عوراء الكريم ادّخاره= وأعرض عن شتم اللئيم تكرما
والمعنى: لادخاره، وقوله: "وأغفر عوراء الكريم" معناه: وأدخر الكريم). [معاني القرآن: 1/95-96]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({يَخْطَفُ}: يأخذ بسرعة). [العمدة في غريب القرآن: 71]


رد مع اقتباس