عرض مشاركة واحدة
  #10  
قديم 29 جمادى الأولى 1435هـ/30-03-2014م, 04:07 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن الثامن الهجري


تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {يا أيّها الّذين آمنوا استعينوا بالصّبر والصّلاة إنّ اللّه مع الصّابرين (153) ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل اللّه أمواتٌ بل أحياءٌ ولكن لا تشعرون (154)}
لمّا فرغ تعالى من بيان الأمر بالشّكر شرع في بيان الصّبر، والإرشاد إلى الاستعانة بالصّبر والصّلاة، فإنّ العبد إمّا أن يكون في نعمةٍ فيشكر عليها، أو في نقمةٍ فيصبر عليها؛ كما جاء في الحديث: «عجبًا للمؤمن. لا يقضي اللّه له قضاءً إلّا كان خيرًا له: إن أصابته سرّاء، فشكر، كان خيرًا له؛ وإن أصابته ضرّاء فصبر كان خيرًا له».
وبيّن تعالى أنّ أجود ما يستعان به على تحمّل المصائب الصّبر والصّلاة، كما تقدّم في قوله: {واستعينوا بالصّبر والصّلاة وإنّها لكبيرةٌ إلا على الخاشعين} [البقرة: 45]. وفي الحديث كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إذا حزبه أمرٌ صلّى. والصّبر صبران، فصبرٌ على ترك المحارم والمآثم وصبرٌ على فعل الطّاعات والقربات. والثّاني أكثر ثوابًا لأنّه المقصود. كما قال عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم: «الصّبر في بابين، الصّبر للّه بما أحبّ، وإن ثقل على الأنفس والأبدان، والصّبر للّه عمّا كره وإن نازعت إليه الأهواء. فمن كان هكذا، فهو من الصّابرين الّذين يسلّم عليهم، إن شاء اللّه».
وقال عليّ بن الحسين زين العابدين: «إذا جمع اللّه الأوّلين والآخرين ينادي منادٍ: أين الصّابرون ليدخلوا الجنّة قبل الحساب؟ قال: فيقوم عنق من النّاس، فتتلقّاهم الملائكة، فيقولون: إلى أين يا بني آدم؟ فيقولون: إلى الجنّة. فيقولون: وقبل الحساب؟ قالوا: نعم، قالوا: ومن أنتم؟ قالوا: الصّابرون، قالوا: وما كان صبركم؟ قالوا: صبرنا على طاعة اللّه، وصبرنا عن معصية اللّه، حتّى توفّانا اللّه. قالوا: أنتم كما قلتم، ادخلوا الجنّة، فنعم أجر العاملين».
قلت: ويشهد لهذا قوله تعالى: {إنّما يوفّى الصّابرون أجرهم بغير حسابٍ} [الزّمر: 10].
وقال سعيد بن جبيرٍ: «الصّبر اعتراف العبد للّه بما أصاب منه، واحتسابه عند اللّه رجاء ثوابه، وقد يجزع الرّجل وهو متجلّد لا يرى منه إلّا الصّبر»). [تفسير ابن كثير: 1/ 466]

تفسير قوله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله تعالى: {ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل اللّه أمواتٌ بل أحياءٌ} يخبر تعالى أنّ الشّهداء في برزخهم أحياءٌ يرزقون، كما جاء في صحيح مسلمٍ: «إنّ أرواح الشّهداء في حواصل طيرٍ خضرٍ تسرح في الجنّة حيث شاءت ثمّ تأوي إلى قناديل معلّقة تحت العرش، فاطّلع عليهم ربّك اطّلاعة، فقال: ماذا تبغون؟ فقالوا: يا ربّنا، وأيّ شيءٍ نبغي، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدًا من خلقك؟ ثمّ عاد إليهم بمثل هذا، فلمّا رأوا أنّهم لا يتركون من أن يسألوا، قالوا: نريد أن تردّنا إلى الدّار الدّنيا، فنقاتل في سبيلك، حتّى نقتل فيك مرّةً أخرى؛ لما يرون من ثواب الشّهادة -فيقول الرّبّ جلّ جلاله: إنّي كتبت أنّهم إليها لا يرجعون».
وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد، عن الإمام الشّافعيّ، عن الإمام مالكٍ، عن الزّهريّ، عن عبد الرّحمن بن كعب بن مالكٍ، عن أبيه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «نسمة المؤمن طائرٌ تعلق في شجر الجنّة، حتّى يرجعه اللّه إلى جسده يوم يبعثه».
ففيه دلالةٌ لعموم المؤمنين أيضًا، وإن كان الشّهداء قد خصّصوا بالذّكر في القرآن، تشريفًا لهم وتكريمًا وتعظيمًا). [تفسير ابن كثير: 1/ 466-467]

تفسير قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {ولنبلونّكم بشيءٍ من الخوف والجوع ونقصٍ من الأموال والأنفس والثّمرات وبشّر الصّابرين (155) الّذين إذا أصابتهم مصيبةٌ قالوا إنّا للّه وإنّا إليه راجعون (156) أولئك عليهم صلواتٌ من ربّهم ورحمةٌ وأولئك هم المهتدون (157)}
أخبر تعالى أنّه يبتلي عباده المؤمنين أي: يختبرهم ويمتحنهم، كما قال تعالى: {ولنبلونّكم حتّى نعلم المجاهدين منكم والصّابرين ونبلو أخباركم} [محمّدٍ: 31] فتارةً بالسّرّاء، وتارةً بالضّرّاء من خوفٍ وجوعٍ، كما قال تعالى: {فأذاقها اللّه لباس الجوع والخوف} [النّحل: 112] فإنّ الجائع والخائف كلٌّ منهما يظهر ذلك عليه؛ ولهذا قال: لباس الجوع والخوف. وقال هاهنا: {بشيءٍ من الخوف والجوع} أي: بقليلٍ من ذلك {ونقصٍ من الأموال} أي: ذهاب بعضها {والأنفس} كموت الأصحاب والأقارب والأحباب {والثّمرات} أي: لا تغلّ الحدائق والمزارع كعادتها. كما قال بعض السّلف: فكانت بعض النّخيل لا تثمر غير واحدةٍ. وكلّ هذا وأمثاله ممّا يختبر اللّه به عباده، فمن صبر أثابه اللّه ومن قنط أحلّ اللّه به عقابه. ولهذا قال: {وبشّر الصّابرين}
وقد حكى بعض المفسّرين أنّ المراد من الخوف هاهنا: خوف اللّه، وبالجوع: صيام رمضان، ونقص الأموال: الزّكاة، والأنفس: الأمراض، والثّمرات: الأولاد. وفي هذا نظرٌ، واللّه أعلم). [تفسير ابن كثير: 1/467]

تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (ثمّ بينّ تعالى من الصّابرون الّذين شكرهم، قال: {الّذين إذا أصابتهم مصيبةٌ قالوا إنّا للّه وإنّا إليه راجعون} أي: تسلّوا بقولهم هذا عمّا أصابهم، وعلموا أنّهم ملك لله يتصرف في عبيده بما يشاء، وعلموا أنّه لا يضيع لديه مثقال ذرّة يوم القيامة، فأحدث لهم ذلك اعترافهم بأنّهم عبيده، وأنّهم إليه راجعون في الدّار الآخرة. ولهذا أخبر تعالى عمّا أعطاهم على ذلك فقال: {أولئك عليهم صلواتٌ من ربّهم} أي: ثناءٌ من اللّه عليهم ورحمةٌ.
قال سعيد بن جبيرٍ: «أي أمنةٌ من العذاب» {وأولئك هم المهتدون} قال أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب: «نعم العدلان ونعمت العلاوة» {أولئك عليهم صلواتٌ من ربّهم ورحمةٌ} فهذان العدلان {وأولئك هم المهتدون} فهذه العلاوة، وهي ما توضع بين العدلين، وهي زيادةٌ في الحمل وكذلك هؤلاء، أعطوا ثوابهم وزيدوا أيضًا.
وقد ورد في ثواب الاسترجاع، وهو قول {إنّا للّه وإنّا إليه راجعون} عند المصائب أحاديث كثيرةٌ. فمن ذلك ما رواه الإمام أحمد:
حدّثنا يونس، حدّثنا ليثٌ -يعني ابن سعدٍ -عن يزيد بن عبد اللّه بن أسامة بن الهاد، عن عمرو بن أبي عمرو، عن المطّلب، عن أمّ سلمة قالت: «أتاني أبو سلمة يومًا من عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فقال: «لقد سمعت من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قولًا سررت به. قال: «لا يصيب أحدًا من المسلمين مصيبةٌ فيسترجع عند مصيبته، ثمّ يقول: «اللّهمّ أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرًا منها، إلّا فعل ذلك به». قالت أمّ سلمة: «فحفظت ذلك منه، فلمّا توفّي أبو سلمة استرجعت وقلت: «اللّهمّ أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرًا منه، ثمّ رجعت إلى نفسي فقلت: «من أين لي خيرٌ من أبي سلمة؟ » فلمّا انقضت عدّتي استأذن عليّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم -وأنا أدبغ إهابًا لي -فغسلت يدي من القرظ وأذنت له، فوضعت له وسادة أدمٍ حشوها ليفٌ، فقعد عليها، فخطبني إلى نفسي، فلمّا فرغ من مقالته قلت: «يا رسول اللّه، ما بي ألّا يكون بك الرّغبة، ولكنّي امرأةٌ، فيّ غيرة شديدةٌ، فأخاف أن ترى منّي شيئًا يعذّبني اللّه به، وأنا امرأةٌ قد دخلت في السّنّ، وأنا ذات عيالٍ، فقال: «أمّا ما ذكرت من الغيرة فسوف يذهبها اللّه، عزّ وجلّ عنك. وأمّا ما ذكرت من السّن فقد أصابني مثل الذي أصابك، وأمّا ما ذكرت من العيال فإنّما عيالك عيالي». قالت: «فقد سلّمت لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم». فتزوّجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت أمّ سلمة بعد: «أبدلني اللّه بأبي سلمة خيرًا منه، رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم».
وفي صحيح مسلمٍ، عنها أنّها قالت: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول: «ما من عبدٍ تصيبه مصيبةٌ فيقول: {إنّا للّه وإنّا إليه راجعون} اللّهمّ أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها، إلا آجره اللّه من مصيبته، وأخلف له خيرًا منها» قالت: فلمّا توفي أبو سلمة قلت كما أمرني رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فأخلف اللّه لي خيرًا منه: رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم.
وقال الإمام أحمد: حدّثنا يزيد، وعبّاد بن عبّادٍ قالا حدّثنا هشام بن أبي هشامٍ، حدّثنا عبّاد بن زيادٍ، عن أمّه، عن فاطمة ابنة الحسين، عن أبيها الحسين بن عليٍّ، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «ما من مسلمٍ ولا مسلمة يصاب بمصيبةٍ فيذكرها وإن طال عهدها -وقال عبّادٌ: قدم عهدها -فيحدث لذلك استرجاعًا، إلّا جدّد اللّه له عند ذلك فأعطاه مثل أجرها يوم أصيب».
ورواه ابن ماجه في سننه، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن وكيع، عن هشام بن زيادٍ، عن أمّه، عن فاطمة بنت الحسين، عن أبيها الحسين.
وقد رواه إسماعيل بن علية، ويزيد بن هارون، عن هشام بن زيادٍ عن أبيه، كذا عن، فاطمة، عن أبيها.
وقال الإمام أحمد: حدّثنا يحيى بن إسحاق السّالحينيّ، أخبرنا حمّاد بن سلمة، عن أبي سنانٍ قال: «دفنت ابنًا لي، فإنّي لفي القبر إذ أخذ بيدي أبو طلحة -يعني الخولانيّ -فأخرجني، وقال لي: ألا أبشّرك؟ قلت: بلى. قال: حدّثني الضّحّاك بن عبد الرّحمن بن عرزب، عن أبي موسى، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «قال اللّه:يا ملك الموت، قبضت ولد عبدي؟ قبضت قرّة عينه وثمرة فؤاده؟ قال نعم. قال: فما قال؟ قال: حمدك واسترجع، قال: ابنو له بيتًا في الجنّة، وسمّوه بيت الحمد».
ثمّ رواه عن عليّ بن إسحاق، عن عبد اللّه بن المبارك. فذكره. وهكذا رواه التّرمذيّ عن سويد بن نصرٍ، عن ابن المبارك، به. وقال: حسنٌ غريبٌ. واسم أبي سنانٍ: عيسى بن سنانٍ). [تفسير ابن كثير: 1/ 467-469]

تفسير قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {أولئك عليهم صلواتٌ من ربّهم} أي: ثناءٌ من اللّه عليهم ورحمةٌ.
قال سعيد بن جبيرٍ: «أي أمنةٌ من العذاب» {وأولئك هم المهتدون} قال أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب: «نعم العدلان ونعمت العلاوة» {أولئك عليهم صلواتٌ من ربّهم ورحمةٌ} فهذان العدلان {وأولئك هم المهتدون} فهذه العلاوة، وهي ما توضع بين العدلين، وهي زيادةٌ في الحمل وكذلك هؤلاء، أعطوا ثوابهم وزيدوا أيضًا). [تفسير ابن كثير: 1/ 468] (م)


تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {إنّ الصّفا والمروة من شعائر اللّه فمن حجّ البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطّوّف بهما ومن تطوّع خيرًا فإنّ اللّه شاكرٌ عليمٌ (158)}
قال الإمام أحمد: حدّثنا سليمان بن داود الهاشميّ، أخبرنا إبراهيم بن سعدٍ، عن الزّهريّ، عن عروة، عن عائشة قالت: «قلت: أرأيت قول الله تعالى: {إنّ الصّفا والمروة من شعائر اللّه فمن حجّ البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطّوّف بهما} » قلت: «فواللّه ما على أحدٍ جناحٌ أن لا يطّوف بهما؟ » فقالت عائشة: «بئسما قلت يا ابن أختي إنّها لو كانت على ما أوّلتها عليه كانت: فلا جناح عليه ألّا يطّوف بهما، ولكنّها إنّما أنزلت أنّ الأنصار كانوا قبل أن يسلموا كانوا يهلّون لمناة الطّاغية، التي كانوا يعبدونها عند المشلّل. وكان من أهلّ لها يتحرّج أن يطوّف بالصّفا والمروة، فسألوا عن ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فقالوا: يا رسول اللّه، إنّا كنّا نتحرّج أن نطّوف بالصّفا والمروة في الجاهليّة. فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {إنّ الصّفا والمروة من شعائر اللّه} إلى قوله: {فلا جناح عليه أن يطّوّف بهما} قالت عائشة: ثمّ قد سنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم الطّواف بهما، فليس لأحدٍ أن يدع الطّواف بهما». أخرجاه في الصّحيحين.
وفي روايةٍ عن الزّهريّ أنّه قال: «فحدّثت بهذا الحديث أبا بكر بن عبد الرّحمن بن الحارث بن هشامٍ، فقال: «إنّ هذا العلم، ما كنت سمعته، ولقد سمعت رجالًا من أهل العلم يقولون إنّ النّاس -إلّا من ذكرت عائشة -كانوا يقولون: إنّ طوافنا بين هذين الحجرين من أمر الجاهليّة. وقال آخرون من الأنصار: إنّما أمرنا بالطّواف بالبيت، ولم نؤمر بالطّواف بين الصّفا والمروة، فأنزل اللّه تعالى: {إنّ الصّفا والمروة من شعائر اللّه} قال أبو بكر بن عبد الرّحمن: «فلعلّها نزلت في هؤلاء وهؤلاء».
ورواه البخاريّ من حديث مالكٍ، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة بنحو ما تقدّم. ثمّ قال البخاريّ: حدّثنا محمّد بن يوسف، حدّثنا سفيان، عن عاصم بن سليمان قال: «سألت أنسًا عن الصّفا والمروة قال: كنّا نرى ذلك من أمر الجاهليّة، فلمّا جاء الإسلام أمسكنا عنهما، فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {إنّ الصّفا والمروة من شعائر اللّه}».
وذكر القرطبيّ في تفسيره عن ابن عبّاسٍ قال: «كانت الشّياطين تفرّق بين الصّفا والمروة اللّيل كلّه، وكانت بينهما آلهةٌ، فلمّا جاء الإسلام سألوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، عن الطّواف بينهما، فنزلت هذه الآية». وقال الشّعبيّ: «كان إسافٌ على الصّفا، وكانت نائلة على المروة، وكانوا يستلمونهما فتحرّجوا بعد الإسلام من الطّواف بينهما، فنزلت هذه الآية». قلت: وذكر ابن إسحاق في كتاب السّيرة أنّ إسافًا ونائلة كانا بشرين، فزنيا داخل الكعبة فمسخا حجرين فنصبتهما قريش تجاه الكعبة ليعتبر بهما النّاس، فلمّا طال عهدهما عبدا، ثمّ حوّلا إلى الصّفا والمروة، فنصبا هنالك، فكان من طاف بالصّفا والمروة يستلمهما، ولهذا يقول أبو طالبٍ، في قصيدته المشهورة:

وحيث ينيخ الأشعرون ركابهم ....... بمفضى السّيول من إساف ونائل

وفي صحيح مسلمٍ من حديث جابرٍ الطويل، وفيه:أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم لما فرغ من طوافه بالبيت، عاد إلى الرّكن فاستلمه، ثمّ خرج من باب الصّفا، وهو يقول: {إنّ الصّفا والمروة من شعائر اللّه} ثمّ قال: «أبدأ بما بدأ اللّه به». وفي رواية النّسائيّ:«ابدؤوا بما بدأ اللّه به».
وقال الإمام أحمد: حدّثنا شريحٌ، حدّثنا عبد اللّه بن المؤمّل، عن عطاء بن أبي رباحٍ، عن صفيّة بنت شيبة، عن حبيبة بنت أبي تجراة قالت: «رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يطوف بين الصّفا والمروة، والنّاس بين يديه، وهو وراءهم، وهو يسعى حتّى أرى ركبتيه من شدّة السّعي يدور به إزاره، وهو يقول: «اسعوا، فإنّ اللّه كتب عليكم السّعي».
ثمّ رواه الإمام أحمد، عن عبد الرّزّاق، أخبرنا معمر، عن واصلٍ -مولى أبي عيينة -عن موسى بن عبيدة عن صفيّة بنت شيبة، أنّ امرأةً أخبرتها أنّها سمعت النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم بين الصّفا والمروة يقول: «كتب عليكم السّعي، فاسعوا».
وقد استدلّ بهذا الحديث على مذهب من يرى أنّ السّعي بين الصّفا والمروة ركنٌ في الحجّ، كما هو مذهب الشّافعيّ، ومن وافقه وروايةً عن أحمد وهو المشهور عن مالكٍ. وقيل: إنّه واجبٌ، وليس بركنٍ فإن تركه عمدًا أو سهوًا جبره بدمٍ وهو روايةٌ عن أحمد وبه تقول طائفةٌ وقيل: بل مستحبٌّ، وإليه ذهب أبو حنيفة والثّوريّ والشّعبيّ وابن سيرين، وروي عن أنسٍ وابن عمر وابن عبّاسٍ، وحكي عن مالكٍ في العتبيّة، قال القرطبيّ: واحتجّوا بقوله: {فمن تطوّع خيرًا}. وقيل: بل مستحبٌّ. والقول الأوّل أرجح، لأنّه عليه السّلام طاف بينهما، وقال: «لتأخذوا عنّي مناسككم». فكلّ ما فعله في حجته تلك واجبٌ لا بدّ من فعله في الحجّ، إلّا ما خرج بدليلٍ، واللّه أعلم وقد تقدّم قوله عليه السّلام: «اسعوا فإنّ اللّه كتب عليكم السّعي».
فقد بيّن اللّه-تعالى -أنّ الطّواف بين الصّفا والمروة من شعائر اللّه، أي: ممّا شرع اللّه تعالى لإبراهيم الخليل في مناسك الحجّ، وقد تقدّم في حديث ابن عبّاسٍ أنّ أصل ذلك مأخوذٌ من تطواف هاجر وتردادها بين الصّفا والمروة في طلب الماء لولدها، لمّا نفد ماؤها وزادها، حين تركهما إبراهيم -عليه السّلام -هنالك ليس عندهما أحدٌ من النّاس، فلمّا خافت الضّيعة على ولدها هنالك، ونفد ما عندها قامت تطلب الغوث من اللّه، عزّ وجلّ، فلم تزل تردّد في هذه البقعة المشرّفة بين الصّفا والمروة متذلّلةً خائفةً وجلةً مضطرّةً فقيرةً إلى اللّه، عزّ وجلّ، حتّى كشف اللّه كربتها، وآنس غربتها، وفرّج شدّتها، وأنبع لها زمزم التي ماؤها طعام طعمٍ، وشفاء سقمٍ، فالسّاعي بينهما ينبغي له أن يستحضر فقره وذلّه وحاجته إلى اللّه في هداية قلبه وصلاح حاله وغفران ذنبه، وأن يلتجئ إلى الله، عزّ وجلّ، ليزيح ما هو به من النّقائص والعيوب، وأن يهديه إلى الصّراط المستقيم وأن يثبّته عليه إلى مماته، وأن يحوّله من حاله الذي هو عليه من الذّنوب والمعاصي، إلى حال الكمال والغفران والسّداد والاستقامة، كما فعل بهاجر -عليها السّلام.
وقوله: {فمن تطوّع خيرًا} قيل: زاد في طوافه بينهما على قدر الواجب ثامنةً وتاسعةً ونحو ذلك. وقيل: يطوف بينهما في حجّة تطوّعٍ، أو عمرة تطوّعٍ. وقيل: المراد تطوّع خيرًا في سائر العبادات. حكى ذلك فخر الدّين الرّازيّ، وعزى الثّالث إلى الحسن البصريّ، واللّه أعلم. وقوله: {فإنّ اللّه شاكرٌ عليمٌ} أي: يثيب على القليل بالكثير {عليمٌ} بقدر الجزاء فلا يبخس أحدًا ثوابه و{لا يظلم مثقال ذرّةٍ وإن تك حسنةً يضاعفها ويؤت من لدنه أجرًا عظيمًا} [النّساء: 40] ). [تفسير ابن كثير: 1/ 469-472]



رد مع اقتباس