عرض مشاركة واحدة
  #10  
قديم 29 جمادى الأولى 1435هـ/30-03-2014م, 12:29 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن الثامن الهجري

تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وأمّا قوله تعالى: {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربّنا تقبّل منّا إنّك أنت السّميع العليم*ربّنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذرّيّتنا أمّةً مسلمةً لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنّك أنت التّوّاب الرّحيم}
فالقواعد: جمع قاعدةٍ، وهي السّارية والأساس، يقول تعالى: واذكر -يا محمّد -لقومك بناء إبراهيم وإسماعيل، عليهما السّلام، البيت، ورفعهما القواعد منه، وهما يقولان: {ربّنا تقبّل منّا إنّك أنت السّميع العليم} فهما في عملٍ صالحٍ، وهما يسألان اللّه تعالى أن يتقبّل منهما، كما روى ابن أبي حاتمٍ من حديث محمّد بن يزيد بن خنيسٍ المكّيّ، عن وهيب بن الورد: «أنّه قرأ: {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربّنا تقبّل منّا} ثمّ يبكي ويقول: يا خليل الرّحمن، ترفع قوائم بيت الرّحمن وأنت مشفق أن لا يتقبّل منك». وهذا كما حكى اللّه تعالى عن حال المؤمنين المخلصين في قوله تعالى: {والّذين يؤتون ما آتوا} أي: يعطون ما أعطوا من الصّدقات والنّفقات والقربات {وقلوبهم وجلةٌ} [المؤمنون: 60] أي: خائفةٌ ألّا يتقبّل منهم. كما جاء به الحديث الصّحيح، عن عائشة، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كما سيأتي في موضعه.
وقال بعض المفسّرين: الذي كان يرفع القواعد هو إبراهيم، والدّاعي إسماعيل. والصّحيح أنّهما كانا يرفعان ويقولان، كما سيأتي بيانه.
وقد روى البخاريّ هاهنا حديثًا سنورده ثمّ نتبعه بآثارٍ متعلّقةٍ بذلك. قال البخاريّ، رحمه اللّه: حدّثنا عبد اللّه بن محمّدٍ، حدّثنا عبد الرّزّاق، حدّثنا معمر، عن أيّوب السخيتاني وكثير بن كثير بن المطّلب بن أبي وداعة -يزيد أحدهما على الآخر -عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاسٍ، رضي اللّه عنهما، قال: «أوّل ما اتّخذ النّساء المنطق من قبل أمّ إسماعيل، عليهما السّلام اتّخذت منطقًا ليعفّي أثرها على سارّة. ثمّ جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل، عليهما السّلام، وهي ترضعه، حتّى وضعهما عند البيت عند دوحةٍ فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكّة يومئذٍ أحدٌ، وليس بها ماءٌ فوضعهما هنالك، ووضع عندهما جرابًا فيه تمرٌ وسقاء فيه ماءٌ، ثمّ قفّى إبراهيم، عليه السّلام، منطلقًا. فتبعته أمّ إسماعيل فقالت: يا إبراهيم، أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنسٌ ولا شيء؟ فقالت له ذلك مرارًا، وجعل لا يلتفت إليها. فقالت آللّه أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: إذًا لا يضيّعنا. ثمّ رجعت. فانطلق إبراهيم، عليه السّلام، حتّى إذا كان عند الثّنيّة حيث لا يرونه، استقبل بوجهه البيت، ثمّ دعا بهؤلاء الدّعوات، ورفع يديه، قال: {ربّنا إنّي أسكنت من ذرّيّتي بوادٍ غير ذي زرعٍ عند بيتك المحرّم ربّنا ليقيموا الصّلاة فاجعل أفئدةً من النّاس تهوي إليهم وارزقهم من الثّمرات لعلّهم يشكرون} [إبراهيم: 37]، وجعلت أمّ إسماعيل ترضع إسماعيل، عليهما السّلام، وتشرب من ذلك الماء، حتّى إذا نفد ماء السّقاء عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوى - أو قال: يتلبّط -فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصّفا أقرب جبلٍ في الأرض يليها فقامت عليه، ثمّ استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدًا؟ فلم تر أحدًا. فهبطت من الصّفا حتّى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها، ثمّ سعت سعي الإنسان المجهود حتّى جاوزت الوادي. ثمّ أتت المروة، فقامت عليها ونظرت هل ترى أحدًا؟ فلم تر أحدًا. ففعلت ذلك سبع مرّاتٍ، قال ابن عبّاسٍ: قال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: «فلذلك سعى النّاس بينهما». فلمّا أشرفت على المروة سمعت صوتًا فقالت: صهٍ، تريد نفسها، ثمّ تسمّعت فسمعت أيضًا. فقالت: قد أسمعت إن كان عندك غواث فإذا هي بالملك عند موضع زمزم، فبحث بعقبه -أو قال: بجناحه -حتّى ظهر الماء، فجعلت تحوّضه، وتقول بيدها هكذا، وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعدما تغرف». قال ابن عبّاسٍ: قال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: «يرحم اللّه أمّ إسماعيل، لو تركت زمزم -أو قال: لو لم تغرف من الماء -لكانت زمزم عينًا معينًا». قال: فشربت وأرضعت ولدها، فقال لها الملك: لا تخافي الضّيعة؛ فإنّ هاهنا بيتًا للّه، عزّ وجلّ، يبنيه هذا الغلام وأبوه، وإنّ اللّه، عزّ وجلّ، لا يضيّع أهله. وكان البيت مرتفعًا من الأرض كالرّابية تأتيه السّيول فتأخذ عن يمينه وعن شماله، فكانت كذلك حتّى مرّت بهم رفقةٌ من جرهم -أو أهل بيتٍ من جرهم -مقبلين من طريق كداء. فنزلوا في أسفل مكّة، فرأوا طائرًا عائفًا، فقالوا: إنّ هذا الطّائر ليدور على الماء، لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماءٌ. فأرسلوا جريًّا أو جريّين، فإذا هم بالماء. فرجعوا فأخبروهم بالماء، فأقبلوا. قال: وأمّ إسماعيل عند الماء. فقالوا: أتأذنين لنا أن ننزل عندك؟ قالت: نعم، ولكن لا حقّ لكم في الماء. قالوا: نعم. قال ابن عبّاسٍ فقال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: «فألفى ذلك أمّ إسماعيل وهي تحبّ الأنس». فنزلوا، وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم. حتّى إذا كان بها أهل أبياتٍ منهم وشبّ الغلام، وتعلّم العربيّة منهم، وأنفسهم وأعجبهم حين شبّ، فلمّا أدرك زوّجوه امرأةً منهم. وماتت أمّ إسماعيل، عليهما السّلام، فجاء إبراهيم بعد ما تزوّج إسماعيل ليطالع تركته. فلم يجد إسماعيل، فسأل امرأته عنه فقالت: خرج يبتغي لنا. ثمّ سألها عن عيشهم وهيئتهم، فقالت: نحن بشرّ، نحن في ضيقٍ وشدّةٍ. وشكت إليه. قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السّلام، وقولي له: يغيّر عتبة بابه. فلمّا جاء إسماعيل، عليه السّلام، كأنّه أنس شيئًا. فقال: هل جاءكم من أحدٍ؟ قالت: نعم، جاءنا شيخٌ كذا وكذا، فسأل عنك، فأخبرته، وسألني كيف عيشنا؟ فأخبرته أنّا في جهد وشدّة. قال: فهل أوصاك بشيءٍ؟ قالت: نعم، أمرني أن أقرأ عليك السّلام، ويقول غيّر عتبة بابك. قال: ذاك أبي. وقد أمرني أن أفارقك، فالحقي بأهلك. فطلّقها وتزوّج منهم بأخرى، فلبث عنهم إبراهيم ما شاء اللّه، ثمّ أتاهم بعد فلم يجده. فدخل على امرأته، فسألها عنه، فقالت: خرج يبتغي لنا. قال: كيف أنتم؟ وسألها عن عيشهم وهيئتهم. فقالت: نحن بخيرٍ وسعةٍ. وأثنت على اللّه عزّ وجلّ. فقال: ما طعامكم؟ قالت: اللّحم. قال: فما شرابكم؟ قالت: الماء. قال: اللّهمّ بارك لهم في اللّحم والماء. قال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: «ولم يكن لهم يومئذٍ حب، ولو كان لهم، لدعا لهم فيه». قال: فهما لا يخلو عليهما أحدٌ بغير مكّة إلّا لم يوافقاه. قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السّلام، ومريه يثبّت عتبة بابه، فلمّا جاء إسماعيل، عليه السّلام، قال: هل أتاكم من أحدٍ؟ قالت: نعم، أتانا شيخٌ حسن الهيئة، وأثنت عليه فسألني عنك، فأخبرته، فسألني: كيف عيشنا؟ فأخبرته أنّا بخيرٍ. قال: فأوصاك بشيءٍ؟ قالت: نعم، هو يقرأ عليك السّلام، ويأمرك أن تثبّت عتبة بابك. قال: ذاك أبي، وأنت العتبة، أمرني أن أمسكك. ثمّ لبث عنهم ما شاء اللّه، عزّ وجلّ، ثمّ جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نبلا له تحت دوحةٍ قريبًا من زمزم، فلمّا رآه قام إليه، فصنعا كما يصنع الولد بالوالد، والوالد بالولد. ثمّ قال: يا إسماعيل، إنّ اللّه أمرني بأمرٍ. قال: فاصنع ما أمرك ربّك، عزّ وجلّ. قال: وتعينني؟ قال: وأعينك. قال: فإنّ اللّه أمرني أن أبني هاهنا بيتًا -وأشار إلى أكمةٍ مرتفعةٍ على ما حولها -قال: فعند ذلك رفعا القواعد من البيت فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني، حتّى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له، فقام عليه وهو يبني، وإسماعيل يناوله الحجارة، وهما يقولان: {ربّنا تقبّل منّا إنّك أنت السّميع العليم}، قال: فجعلا يبنيان حتّى يدورا حول البيت، وهما يقولان: {ربّنا تقبّل منّا إنّك أنت السّميع العليم}. ورواه عبد بن حميدٍ عن عبد الرّزّاق به مطوّلًا.
ورواه ابن أبي حاتمٍ، عن أبي عبد اللّه محمّد بن حمّاد الظّهرانيّ. وابن جريرٍ، عن أحمد بن ثابتٍ الرّازيّ، كلاهما عن عبد الرّزّاق به مختصرًا.
وقال أبو بكر بن مردويه: حدّثنا إسماعيل بن عليّ بن إسماعيل، حدّثنا بشر بن موسى، حدّثنا أحمد بن محمّدٍ الأزرقيّ، حدّثنا مسلم بن خالدٍ الزّنجيّ، عن عبد الملك بن جريج، عن كثير بن كثيرٍ، قال: «كنت أنا وعثمان بن أبي سليمان، وعبد اللّه بن عبد الرّحمن بن أبي حسينٍ في ناسٍ مع سعيد بن جبيرٍ، في أعلى المسجد ليلًا فقال سعيد بن جبيرٍ: سلوني قبل أن لا تروني. فسألوه عن المقام. فأنشأ يحدّثهم عن ابن عبّاسٍ، فذكر الحديث بطوله».
ثمّ قال البخاريّ: حدّثنا عبد اللّه بن محمّدٍ. حدّثنا أبو عامرٍ عبد الملك بن عمرٍو حدّثنا إبراهيم بن نافعٍ، عن كثير بن كثيرٍ، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ قال: لمّا كان بين إبراهيم وبين أهله ما كان، خرج بإسماعيل وأمّ إسماعيل، ومعهم شنّة فيها ماءٌ، فجعلت أم إسماعيل تشرب من الشنّة، فيدرّ لبنها على صبيّها، حتّى قدم مكّة فوضعها تحت دوحةٍ، ثمّ رجع إبراهيم إلى أهله، فاتّبعته أمّ إسماعيل، حتّى بلغوا كداء نادته من ورائه: يا إبراهيم، إلى من تتركنا؟ قال: إلى اللّه، عزّ وجلّ. قالت: رضيت باللّه. قال: فرجعت، فجعلت تشرب من الشّنّة، ويدر لبنها على صبيها حتّى لمّا فني الماء قالت: لو ذهبت فنظرت لعلّي أحسّ أحدًا. قال: فذهبت فصعدت الصّفا، فنظرت ونظرت هل تحسّ أحدًا، فلم تحسّ أحدًا. فلمّا بلغت الوادي سعت حتّى أتت المروة، ففعلت ذلك أشواطًا ثمّ قالت: لو ذهبت فنظرت ما فعل، تعني الصّبيّ، فذهبت فنظرت فإذا هو على حاله كأنّه ينشغ للموت، فلم تقرّها نفسها، فقالت: لو ذهبت فنظرت لعلّي أحسّ أحدًا. قال: فذهبت فصعدت الصّفا، فنظرت ونظرت فلم تحس أحدًا، حتّى أتمّت سبعًا، ثمّ قالت: لو ذهبت فنظرت ما فعل، فإذا هي بصوتٍ، فقالت: أغث إن كان عندك خيرٌ. فإذا جبريل، عليه السّلام، قال: فقال بعقبه هكذا، وغمز عقبه على الأرض. قال: فانبثق الماء، فدهشت أمّ إسماعيل، فجعلت تحفر. قال: فقال أبو القاسم صلّى اللّه عليه وسلّم: «لو تركته لكان الماء ظاهرًا». قال: فجعلت تشرب من الماء ويدرّ لبنها على صبيّها. قال: فمرّ ناسٌ من جرهم ببطن الوادي، فإذا هم بطيرٍ، كأنّهم أنكروا ذلك، وقالوا: ما يكون الطّير إلّا على ماءٍ فبعثوا رسولهم فنظر، فإذا هو بالماء. فأتاهم فأخبرهم. فأتوا إليها فقالوا: يا أمّ إسماعيل، أتأذنين لنا أن نكون معك -ونسكن معك؟ -فبلغ ابنها ونكح فيهم امرأةً. قال: ثمّ إنّه بدا لإبراهيم صلّى اللّه عليه وسلّم فقال لأهله: إنّي مطّلع تركتي. قال: فجاء فسلّم، فقال: أين إسماعيل؟ قالت امرأته: ذهب يصيد. قال: قولي له إذا جاء: غيّر عتبة بيتك. فلمّا جاء أخبرته، قال: أنت ذاك، فاذهبي إلى أهلك. قال: ثمّ إنّه بدا لإبراهيم، فقال لأهله: إنّي مطّلع تركتي. قال: فجاء فقال: أين إسماعيل؟ فقالت امرأته: ذهب يصيد. فقالت: ألا تنزل فتطعم وتشرب؟ فقال: ما طعامكم وما شرابكم؟ قالت: طعامنا اللّحم، وشرابنا الماء. قال: اللّهمّ بارك لهم في طعامهم وشرابهم. قال: فقال أبو القاسم صلّى اللّه عليه وسلّم: «بركة بدعوة إبراهيم»
قال: ثمّ إنّه بدا لإبراهيم صلّى اللّه عليه وسلّم فقال لأهله: إنّي مطّلع تركتي. فجاء فوافق إسماعيل من وراء زمزم يصلح نبلا له فقال: يا إسماعيل، إنّ ربّك، عزّ وجلّ، أمرني أن أبني له بيتًا. فقال: أطع ربّك، عزّ وجلّ. قال: إنّه قد أمرني أن تعينني عليه؟ فقال: إذن أفعل -أو كما قال -قال: فقاما قال فجعل إبراهيم يبني، وإسماعيل يناوله الحجارة، ويقولان: {ربّنا تقبّل منّا إنّك أنت السّميع العليم}. قال: حتّى ارتفع البناء وضعف الشّيخ عن نقل الحجارة. فقام على حجر المقام، فجعل يناوله الحجارة ويقولان: {ربّنا تقبّل منّا إنّك أنت السّميع العليم}. هكذا رواه من هذين الوجهين في كتاب الأنبياء.
والعجب أنّ الحافظ أبا عبد اللّه الحاكم رواه في كتابه المستدرك، عن أبي العبّاس الأصمّ، عن محمّد بن سنانٍ القزّاز، عن أبي عليٍّ عبيد اللّه بن عبد المجيد الحنفيّ، عن إبراهيم بن نافعٍ، به. وقال: صحيحٌ على شرط الشّيخين، ولم يخرّجاه. كذا قال. وقد رواه البخاريّ كما ترى، من حديث إبراهيم بن نافعٍ، كأنّ فيه اقتصارًا، فإنّه لم يذكر فيه شأن الذّبح. وقد جاء في الصّحيح، أنّ قرني الكبش كانا معلّقين بالكعبة، وقد جاء أنّ إبراهيم، عليه السّلام، كان يزور أهله بمكّة على البراق سريعًا ثمّ يعود إلى أهله بالبلاد المقدّسة، واللّه أعلم. والحديث -واللّه أعلم -إنّما فيه -مرفوعٌ -أماكن صرح بها ابن عبّاسٍ، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم.
وقد ورد عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبٍ في هذا السّياق ما يخالف بعض هذا، كما قال ابن جريرٍ: حدّثنا محمّد بن بشّارٍ، ومحمّد بن المثنّى قالا حدّثنا مؤمّلٌ، حدّثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن حارثة بن مضرّب، عن عليّ بن أبي طالبٍ، قال: «لمّا أمر إبراهيم ببناء البيت، خرج معه إسماعيل وهاجر. قال: فلمّا قدم مكّة رأى على رأسه في موضع البيت مثل الغمامة، فيه مثل الرّأس. فكلّمه، قال: يا إبراهيم، ابن على ظلي -أو قال على قدري -ولا تزد ولا تنقص: فلمّا بنى خرج، وخلّف إسماعيل وهاجر، فقالت هاجر: يا إبراهيم، إلى من تكلنا؟ قال: إلى اللّه. قالت: انطلق، فإنّه لا يضيّعنا. قال: فعطش إسماعيل عطشًا شديدًا، قال: فصعدت هاجر إلى الصّفا فنظرت فلم تر شيئًا، حتّى أتت المروة فلم تر شيئًا، ثمّ رجعت إلى الصّفا فنظرت فلم تر شيئًا، حتّى أتت المروة فلم تر شيئًا، ثمّ رجعت إلى الصّفا فنظرت فلم تر شيئًا، حتّى فعلت ذلك سبع مرّاتٍ، فقالت: يا إسماعيل، مت حيث لا أراك. فأتته وهو يفحص برجله من العطش. فناداها جبريل فقال لها: من أنت؟ قالت: أنا هاجر أمّ ولد إبراهيم. قال: فإلى من وكلكما؟ قالت: وكلنا إلى اللّه. قال: وكلكما إلى كافٍ. قال: ففحص الغلام الأرض بأصبعه، فنبعت زمزم. فجعلت تحبس الماء فقال: دعيه فإنّها رواء».
ففي هذا السّياق أنّه بنى البيت قبل أن يفارقهما، وقد يحتمل -إن كان محفوظًا -أن يكون أولا وضع له حوطًا وتحجيرًا، لا أنّه بناه إلى أعلاه، حتّى كبر إسماعيل فبنياه معًا، كما قال اللّه تعالى.
ثمّ قال ابن جريرٍ: أخبرنا هنّاد بن السّريّ، حدّثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن خالد بن عرعرة: «أنّ رجلًا قام إلى عليٍّ رضي اللّه عنه فقال: ألا تخبرني عن البيت، أهو أوّل بيتٍ وضع في الأرض؟ فقال: لا ولكنّه أوّل بيتٍ وضع فيه البركة مقام إبراهيم، ومن دخله كان آمنًا، وإن شئت أنبأتك كيف بني: إنّ اللّه أوحى إلى إبراهيم أن ابن لي بيتًا في الأرض، قال: فضاق إبراهيم بذلك ذرعًا فأرسل اللّه السّكينة -وهي ريحٌ خجوجٌ، ولها رأسان -فأتبع أحدهما صاحبه، حتّى انتهت إلى مكّة، فتطوّت على موضع البيت كطيّ الحجفة، وأمر إبراهيم أن يبني حيث تستقرّ السّكينة. فبنى إبراهيم وبقي حجرٌ، فذهب الغلام يبغي شيئًا. فقال إبراهيم: أبغني حجرًا كما آمرك. قال: فانطلق الغلام يلتمس له حجرًا، فأتاه به، فوجده قد ركّب الحجر الأسود في مكانه. فقال: يا أبه، من أتاك بهذا الحجر؟ فقال: أتاني به من لن يتّكل على بنائك، جاء به جبريل عليه السّلام من السّماء فأتمّاه».
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا حمد بن عبد الله بن يزيد المقري، حدثنا سفيان، عن بشر بن عاصمٍ، عن سعيد بن المسيّب، عن كعب الأحبار، قال: «كان البيت غثاءةً على الماء قبل أن يخلق اللّه الأرض بأربعين عامًا، ومنه دحيت الأرض».
قال سعيدٌ: وحدّثنا عليّ بن أبي طالبٍ: «أنّ إبراهيم أقبل من أرمينيّة، ومعه السّكينة تدلّه على تبوّء البيت كما تتبوّأ العنكبوت بيتًا، قال: فكشفت عن أحجارٍ لا يطيق الحجر إلّا ثلاثون رجلًا. قلت: يا أبا محمّدٍ، فإنّ اللّه يقول: {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت} قال: كان ذلك بعد».
وقال السّدّيّ: «إنّ اللّه، عزّ وجلّ، أمر إبراهيم أن يبني البيت هو وإسماعيل: ابنيا بيتي للطّائفين والعاكفين والرّكّع السّجود، فانطلق إبراهيم، عليه السّلام، حتّى أتى مكّة، فقام هو وإسماعيل، وأخذا المعاول لا يدريان أين البيت؟ فبعث اللّه ريحًا، يقال لها: ريح الخجوج، لها جناحان ورأسٌ في صورة حيّةٍ، فكشفت لهما ما حول الكعبة عن أساس البيت الأوّل، واتّبعاها بالمعاول يحفران حتّى وضعا الأساس. فذلك حين يقول اللّه تعالى: {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت} {وإذ بوّأنا لإبراهيم مكان البيت} [الحجّ: 26] فلمّا بنيا القواعد فبلغا مكان الرّكن. قال إبراهيم لإسماعيل: يا بنيّ، اطلب لي حجرًا حسنًا أضعه هاهنا. قال: يا أبت، إني كسلان لغب.
قال: عليّ بذلك فانطلق فطلب له حجرًا، فجاءه بحجرٍ فلم يرضه، فقال ائتني بحجرٍ أحسن من هذا، فانطلق يطلب له حجرًا، وجاءه جبريل بالحجر الأسود من الهند، وكان أبيض، ياقوتةً بيضاء مثل الثّغامة، وكان آدم هبط به من الجنّة فاسودّ من خطايا النّاس، فجاءه إسماعيل بحجرٍ فوجده عند الرّكن، فقال: يا أبه، من جاءك بهذا؟ قال: جاء به من هو أنشط منك. فبنيا وهما يدعوان الكلمات التي ابتلى بهنّ إبراهيم ربّه، فقال: {ربّنا تقبّل منّا إنّك أنت السّميع العليم}».
وفي هذا السّياق ما يدلّ على أنّ قواعد البيت كانت مبنيّةً قبل إبراهيم. وإنّما هدي إبراهيم إليها وبوّئ لها. وقد ذهب إلى ذلك ذاهبون، كما قال الإمام عبد الرّزّاق أخبرنا معمرٌ، عن أيّوب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت} قال: «القواعد التي كانت قواعد البيت قبل ذلك».
وقال عبد الرّزّاق أيضًا: أخبرنا هشام بن حسّان، عن سوّارٍ -ختن عطاءٍ -عن عطاء ابن أبي رباحٍ، قال: «لمّا أهبط اللّه آدم من الجنّة، كانت رجلاه في الأرض ورأسه في السّماء يسمع كلام أهل السّماء ودعاءهم، يأنس إليهم، فهابته الملائكة، حتّى شكت إلى اللّه في دعائها وفي صلاتها. فخفّضه اللّه إلى الأرض، فلمّا فقد ما كان يسمع منهم استوحش حتّى شكا ذلك إلى اللّه في دعائه وفي صلاته. فوجّه إلى مكّة، فكان موضع قدمه قريةً، وخطوه مفازةً، حتّى انتهى إلى مكّة، وأنزل اللّه ياقوتةً من ياقوت الجنّة، فكانت على موضع البيت الآن. فلم يزل يطوف به حتّى أنزل اللّه الطّوفان، فرفعت تلك الياقوتة، حتّى بعث اللّه إبراهيم، عليه السّلام فبناه، وذلك قول اللّه تعالى: {وإذ بوّأنا لإبراهيم مكان البيت} [الحجّ: 26]».
وقال عبد الرّزّاق: أخبرنا ابن جريجٍ، عن عطاءٍ، قال: «قال آدم: إنّي لا أسمع أصوات الملائكة؟! قال: بخطيئتك، ولكن اهبط إلى الأرض، فابن لي بيتًا ثمّ احفف به، كما رأيت الملائكة تحفّ ببيتي الذي في السّماء. فيزعم النّاس أنّه بناه من خمسة أجبلٍ: من حراء. وطور زيتا، وطور سيناء، وجبل لبنان، والجوديّ. وكان ربضه من حراء. فكان هذا بناء آدم، حتّى بناه إبراهيم، عليه السّلام بعد». وهذا صحيحٌ إلى عطاءٍ، ولكن في بعضه نكارة، واللّه أعلم.
وقال عبد الرّزّاق أيضًا: أخبرنا معمرٌ، عن قتادة، قال: «وضع اللّه البيت مع آدم حين أهبط اللّه آدم إلى الأرض، وكان مهبطه بأرض الهند. وكان رأسه في السّماء ورجلاه في الأرض، فكانت الملائكة تهابه، فنقص إلى ستّين ذراعًا؛ فحزن إذ فقد أصوات الملائكة وتسبيحهم. فشكا ذلك إلى اللّه، عزّ وجلّ، فقال اللّه: يا آدم، إنّي قد أهبطت لك بيتًا تطوف به كما يطاف حول عرشي، وتصلّي عنده كما يصلّى عند عرشي، فانطلق إليه آدم، فخرج ومدّ له في خطوه، فكان بين كلّ خطوتين مفازةٌ. فلم تزل تلك المفازة بعد ذلك. فأتى آدم البيت فطاف به، ومن بعده من الأنبياء».
وقال ابن جريرٍ: حدّثنا ابن حميدٍ حدّثنا يعقوب القمّي، عن حفص بن حميدٍ، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ، قال: «وضع اللّه البيت على أركان الماء، على أربعة أركانٍ، قبل أن تخلق الدّنيا بألفي عامٍ، ثمّ دحيت الأرض من تحت البيت».
وقال محمّد بن إسحاق: حدّثني عبد اللّه بن أبي نجيح، عن مجاهدٍ وغيره من أهل العلم: «أنّ اللّه لمّا بوّأ إبراهيم مكان البيت خرج إليه من الشّام، وخرج معه بإسماعيل وبأمّه هاجر، وإسماعيل طفلٌ صغيرٌ يرضع، وحملوا -فيما حدّثني -على البراق، ومعه جبريل يدلّه على موضع البيت ومعالم الحرم. وخرج معه جبريل، فكان لا يمرّ بقريةٍ إلّا قال: أبهذه أمرت يا جبريل؟ فيقول جبريل: امضه. حتّى قدم به مكّة، وهي إذ ذاك عضاة سلم وسمر، وبها أناسٌ يقال لهم: "العماليق" خارج مكّة وما حولها. والبيت يومئذٍ ربوةٌ حمراء مدرة، فقال إبراهيم لجبريل: أهاهنا أمرت أن أضعهما؟ قال: نعم. فعمد بهما إلى موضع الحجر فأنزلهما فيه، وأمر هاجر أمّ إسماعيل أن تتّخذ فيه عريشًا، فقال: {ربّنا إنّي أسكنت من ذرّيّتي بوادٍ غير ذي زرعٍ عند بيتك المحرّم} إلى قوله: {لعلّهم يشكرون} [إبراهيم: 37]».
وقال عبد الرّزّاق: أخبرنا هشام بن حسّان، أخبرني حميد، عن مجاهدٍ، قال: «خلق اللّه موضع هذا البيت قبل أن يخلق شيئًا بألفي سنةٍ، وأركانه في الأرض السّابعة».
وكذا قال ليث بن أبي سليمٍ، عن مجاهدٍ: «القواعد في الأرض السّابعة».
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا عمرو بن رافعٍ، أخبرنا عبد الوهّاب بن معاوية، عن عبد المؤمن بن خالد، عن علياء بن أحمر: «أنّ ذا القرنين قدم مكّة فوجد إبراهيم وإسماعيل يبنيان قواعد البيت من خمسة أجبل. فقال: ما لكما ولأرضي؟ فقال نحن عبدان مأموران، أمرنا ببناء هذه الكعبة. قال: فهاتا بالبيّنة على ما تدّعيان. فقامت خمسة أكبشٍ، فقلن: نحن نشهد أنّ إبراهيم وإسماعيل عبدان مأموران، أمرا ببناء هذه الكعبة. فقال: قد رضيت وسلمت. ثم مضى».
وذكر الأزرقي في تاريخ مكّة: «أن ذا القرنين طاف مع إبراهيم، عليه السّلام، بالبيت»، وهذا يدلّ على تقدّم زمانه، واللّه أعلم.
وقال البخاريّ، رحمه اللّه: قوله تعالى: «{وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل} الآية: القواعد: أساسه واحدها قاعدةٌ. والقواعد من النّساء: واحدتها قاعد».
حدّثنا إسماعيل، حدّثني مالكٌ، عن ابن شهابٍ، عن سالم بن عبد اللّه: أنّ عبد اللّه بن محمّد بن أبي بكرٍ أخبر عبد اللّه بن عمر، عن عائشة زوج النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألم تري أنّ قومك حين بنوا البيت اقتصروا عن قواعد إبراهيم؟» فقلت: يا رسول اللّه، ألا تردّها على قواعد إبراهيم؟ قال: «لولا حدثان قومك بالكفر». فقال عبد اللّه بن عمر: لئن كانت عائشة سمعت هذا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ما أرى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ترك استلام الرّكنين اللذين يليان الحجر إلّا أنّ البيت لم يتمّم على قواعد إبراهيم عليه السّلام.
وقد رواه في الحجّ عن القعنبي، وفي أحاديث الأنبياء عن عبد اللّه بن يوسف. ومسلمٌ عن يحيى بن يحيى، ومن حديث ابن وهبٍ. والنّسائيّ من حديث عبد الرّحمن بن القاسم، كلّهم عن مالكٍ به.
ورواه مسلمٌ أيضًا من حديث نافعٍ، قال: سمعت عبد اللّه بن أبي بكر بن أبي قحافة يحدّث عبد اللّه بن عمر، عن عائشة، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلم قال: «لولا أن قومك حديثو عهدٍ بجاهليّةٍ -أو قال: بكفرٍ -لأنفقت كنز الكعبة في سبيل اللّه، ولجعلت بابها بالأرض، ولأدخلت فيها الحجر».
وقال البخاريّ: حدّثنا عبيد اللّه بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن الأسود، قال: قال لي ابن الزّبير: كانت عائشة تسر إليك حديثًا كثيرًا، فما حدّثتك في الكعبة؟ قال قلت: قالت لي: قال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: «يا عائشة، لولا قومك حديث عهدهم -فقال ابن الزّبير: بكفرٍ -لنقضت الكعبة، فجعلت لها بابين: بابًا يدخل منه النّاس، وبابًا يخرجون». ففعله ابن الزّبير.
انفرد بإخراجه البخاريّ، فرواه هكذا في كتاب العلم من صحيحه.
وقال مسلمٌ في صحيحه: حدّثنا يحيى بن يحيى، أخبرنا أبو معاوية، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: قال لي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «لولا حداثة عهد قومك بالكفر لنقضت الكعبة ولجعلتها على أساس إبراهيم، فإنّ قريشًا حين بنت البيت استقصرت، ولجعلت لها خلفًا».
قال: وحدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب، قالا حدّثنا ابن نمير، عن هشامٍ بهذا الإسناد. انفرد به مسلمٌ،قال: وحدّثني محمّد بن حاتمٍ، حدّثني ابن مهديٍّ، حدّثنا سليم بن حيّان، عن سعيدٍ -يعني ابن ميناء -قال: سمعت عبد اللّه بن الزّبير يقول: حدّثتني خالتي -يعني عائشة رضي اللّه عنها -قالت: قال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: «يا عائشة، لولا قومك حديث عهد بشركٍ، لهدمت الكعبة، فألزقتها بالأرض، ولجعلت لها بابين: بابًا شرقيًّا، وبابًا غربيًّا، وزدت فيها ستّة أذرعٍ من الحجر؛ فإنّ قريشًا اقتصرتها حيث بنت الكعبة» انفرد به أيضًا.
ذكر بناء قريشٍ الكعبة بعد إبراهيم الخليل، عليه السّلام، بمددٍ طويلةٍ وقبل مبعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بخمس سنين، وقد نقل معهم في الحجارة، وله من العمر خمسٌ وثلاثون سنةً صلوات اللّه وسلامه عليه دائمًا إلى يوم الدّين.
قال محمّد بن إسحاق بن يسارٍ، في السّيرة: «ولمّا بلغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم خمسًا وثلاثين سنةً، اجتمعت قريشٌ لبنيان الكعبة، وكانوا يهمّون بذلك ليسقفوها، ويهابون هدمها، وإنّما كانت رضما فوق القامة، فأرادوا رفعها وتسقيفها، وذلك أنّ نفرًا سرقوا كنز الكعبة، وإنّما كان يكون في بئرٍ في جوف الكعبة، وكان الذي وجد عنده الكنز دويكٌ، مولى بني مليح بن عمرٍو من خزاعة، فقطعت قريشٌ يده. ويزعم النّاس أنّ الّذين سرقوه وضعوه عند دويكٍ. وكان البحر قد رمى بسفينةٍ إلى جدّة، لرجلٍ من تجّار الرّوم، فتحطّمت، فأخذوا خشبها فأعدّوه لتسقيفها. وكان بمكّة رجلٌ قبطيٌّ نجّارٌ، فهيّأ لهم في أنفسهم بعض ما يصلحها، وكانت حيّةٌ تخرج من بئر الكعبة التي كانت تطرح، فيها ما يهدى لها كلّ يومٍ، فتتشرق على جدار الكعبة، وكانت ممّا يهابون. وذلك أنّه كان لا يدنو منها أحدٌ إلّا احزألّت وكشّت وفتحت فاها، فكانوا يهابونها، فبينا هي يومًا تتشرّق على جدار الكعبة، كما كانت تصنع، بعث اللّه إليها طائرًا فاختطفها، فذهب بها. فقالت قريشٌ: إنّا لنرجو أن يكون اللّه قد رضي ما أردنا، عندنا عاملٌ رفيقٌ، وعندنا خشبٌ، وقد كفانا اللّه الحيّة. فلمّا أجمعوا أمرهم في هدمها وبنيانها، قام أبو وهب بن عمرو بن عائذ بن عبد بن عمران بن مخزومٍ، فتناول من الكعبة حجرًا، فوثب من يده حتّى رجع إلى موضعه. فقال: يا معشر قريشٍ، لا تدخلوا في بنيانها من كسبكم إلّا طيّبًا، لا يدخل فيها مهر بغي ولا بيع ربًا، ولا مظلمة أحدٍ من النّاس».
قال ابن إسحاق: «والنّاس ينحلون هذا الكلام الوليد بن المغيرة بن عبد اللّه بن عمر بن مخزوم».
قال: «ثمّ إنّ قريشًا تجزأت الكعبة، فكان شقّ الباب لبني عبد منافٍ وزهرة، وكان ما بين الرّكن الأسود والرّكن اليمانيّ لبني مخزومٍ وقبائل من قريشٍ انضمّوا إليهم، وكان ظهر الكعبة لبني جمح وسهمٍ، وكان شقّ الحجر لبني عبد الدّار بن قصي، ولبني أسد بن عبد العزّى بن قصي، ولبني عديّ بن كعب بن لؤيٍّ، وهو الحطيم. ثمّ إن النّاس هابوا هدمها وفرقوا منه، فقال الوليد بن المغيرة: أنا أبدؤكم في هدمها: فأخذ المعول ثمّ قام عليها وهو يقول: اللّهمّ لم ترع، اللّهمّ إنّا لا نريد إلّا الخير. ثمّ هدم من ناحية الرّكنين، فتربّص النّاس تلك اللّيلة، وقالوا: ننظر، فإن أصيب لم نهدم منها شيئًا، ورددناها كما كانت، وإن لم يصبه شيءٌ فقد رضي اللّه ما صنعنا. فأصبح الوليد من ليلته غاديًا على عمله، فهدم وهدم النّاس معه، حتّى إذا انتهى الهدم بهم إلى الأساس، أساس إبراهيم، عليه السّلام، أفضوا إلى حجارةٍ خضرٍ كالأسنّة آخذٌ بعضها بعضًا».
قال محمّد بن إسحاق فحدّثني بعض من يروي الحديث: «أنّ رجلًا من قريشٍ، ممّن كان يهدمها، أدخل عتلة بين حجرين منها ليقلع بها أحدهما، فلمّا تحرّك الحجر تنقّضت مكّة بأسرها، فانتهوا عن ذلك الأساس».
قال ابن إسحاق: «ثمّ إنّ القبائل من قريشٍ جمعت الحجارة لبنائها، كلّ قبيلةٍ تجمع على حدةٍ، ثمّ بنوها، حتّى بلغ البنيان موضع الرّكن -يعني الحجر الأسود -فاختصموا فيه، كلّ قبيلةٍ تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى، حتّى تحاوروا وتخالفوا، وأعدّوا للقتال. فقرّبت بنو عبد الدّار جفنةً مملوءةً دمًا، ثمّ تعاقدوا هم وبنو عديّ بن كعب بن لؤيٍّ على الموت، وأدخلوا أيديهم في ذلك الدّم في تلك الجفنة، فسمّوا: لعقة الدّم. فمكثت قريشٌ على ذلك أربع ليالٍ أو خمسًا. ثمّ إنّهم اجتمعوا في المسجد فتشاوروا وتناصفوا».
فزعم بعض أهل الرّواية: أنّ أبا أمّيّة بن المغيرة بن عبد اللّه بن عمر بن مخزومٍ -وكان عامئذ أسن قريشٍ كلّهم -قال: «يا معشر قريشٍ، اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أوّل من يدخل من باب هذا المسجد، يقضي بينكم، فيه. ففعلوا، فكان أوّل داخلٍ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم. فلمّا رأوه قالوا: هذا الأمين رضينا، هذا محمّدٌ، فلمّا انتهى إليهم وأخبروه الخبر، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «هلمّ إليّ ثوبًا» فأتي به، فأخذ الرّكن -يعني الحجر الأسود-فوضعه فيه بيده، ثمّ قال: «لتأخذ كلّ قبيلةٍ بناحيةٍ من الثّوب»، ثمّ قال: «ارفعوه جميعًا». ففعلوا، حتّى إذا بلغوا به موضعه، وضعه هو بيده صلّى اللّه عليه وسلّم، ثمّ بنى عليه.
وكانت قريشٌ تسمّي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قبل أن ينزل عليه الوحي: الأمين. فلمّا فرغوا من البنيان وبنوها على ما أرادوا، قال الزّبير بن عبد المطّلب، فيما كان من أمر الحيّة التي كانت قريشٌ تهاب بنيان الكعبة لها:
عجبت لما تصوّبت العقاب ....... إلى الثّعبان وهي لها اضطراب
وقد كانت يكون لها كشيشٌ ....... وأحيانًا يكون لها وثاب
إذا قمنا إلى التّأسيس شدّت ....... تهيّبنا البناء وقد تهاب
فلمّا أن خشينا الزّجر جاءت ....... عقابٌ تتلئبّ لها انصباب
فضمّتها إليها ثمّ خلّت ....... لنا البنيان ليس له حجاب
فقمنا حاشدين إلى بناءٍ ....... لنا منه القواعد والتّراب
غداة نرفّع التّأسيس منه ....... وليس على مسوّينا ثيابٌ
أعزّ به المليك بني لؤي ....... فليس لأصله منهم ذهاب
وقد حشدت هناك بنو عديّ ....... ومرّة قد تقدّمها كلاب
فبوّأنا المليك بذاك عزًّا ....... وعند اللّه يلتمس الثّواب
قال ابن إسحاق: «وكانت الكعبة على عهد النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم ثمانية عشر ذراعًا، وكانت تكسى القباطيّ، ثمّ كسيت بعد البرود، وأوّل من كساها الدّيباج الحجّاج بن يوسف».
قلت: ولم تزل على بناء قريشٍ حتّى أحرقت في أوّل إمارة عبد اللّه بن الزّبير بعد سنة ستّين. وفي آخر ولاية يزيد بن معاوية، لمّا حاصروا ابن الزّبير، فحينئذٍ نقضها ابن الزّبير إلى الأرض وبناها على قواعد إبراهيم، عليه السّلام، وأدخل فيها الحجر وجعل لها بابًا شرقيًّا وبابًا غربيًّا ملصقين بالأرض، كما سمع ذلك من خالته عائشة أمّ المؤمنين، رضي اللّه عنها، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم. ولم تزل كذلك مدّة إمارته حتّى قتله الحجّاج، فردّها إلى ما كانت عليه بأمر عبد الملك بن مروان له بذلك، كما قال مسلم بن الحجّاج في صحيحه: حدّثنا هنّاد بن السّري، حدّثنا ابن أبي زائدة، أخبرنا ابن أبي سليمان، عن عطاءٍ، قال: لمّا احترق البيت زمن يزيد بن معاوية حين غزاها أهل الشّام، وكان من أمره ما كان، تركه ابن الزّبير حتّى قدم النّاس الموسم يريد أن يجرّئهم -أو يحزبهم -على أهل الشّام، فلمّا صدر النّاس قال: يا أيّها النّاس، أشيروا عليّ في الكعبة، أنقضها ثمّ أبني بناءها أو أصلح ما وهى منها؟ قال ابن عبّاسٍ: فإنّي قد فرق لي رأيٌ فيها، أرى أن تصلح ما وهى منها، وتدع بيتًا أسلم النّاس عليه وأحجارًا أسلم النّاس عليها، وبعث عليها النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم. فقال ابن الزّبير: لو كان أحدهم احترق بيته ما رضي حتّى يجدّده، فكيف بيت ربّكم، عزّ وجلّ؛ إنّي مستخيرٌ ربّي ثلاثًا ثمّ عازمٌ على أمري. فلمّا مضت ثلاثٌ أجمع رأيه على أن ينقضها. فتحاماها الناس أن ينزل بأوّل النّاس يصعد فيه أمر من السّماء، حتّى صعده رجلٌ، فألقى منه حجارةً، فلمّا لم يره النّاس أصابه شيءٌ تتابعوا، فنقضوه حتّى بلغوا به الأرض. فجعل ابن الزّبير أعمدةً يستر عليها السّتور، حتّى ارتفع بناؤه. وقال ابن الزّبير: إنّي سمعت عائشة، رضي اللّه عنها، تقول: إنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، قال: «لولا أنّ النّاس حديثٌ عهدهم بكفرٍ، وليس عندي من النّفقة ما يقوّيني على بنائه، لكنت أدخلت فيه من الحجر خمسة أذرعٍ، ولجعلت له بابًا يدخل النّاس منه، وبابًا يخرجون منه». قال: فأنا أجد ما أنفق، ولست أخاف النّاس. قال: فزاد فيه خمسة أذرعٍ من الحجر، حتّى أبدى له أسًّا نظر النّاس إليه فبنى عليه البناء. وكان طول الكعبة ثمانية عشر ذراعًا، فلمّا زاد فيه استقصره فزاد في طوله عشرة أذرعٍ، وجعل له بابين: أحدهما يدخل منه، والآخر يخرج منه. فلمّا قتل ابن الزّبير كتب الحجّاج إلى عبد الملك يخبره بذلك، ويخبره أنّ ابن الزّبير قد وضع البناء على أسٍّ نظر إليه العدول من أهل مكّة، فكتب إليه عبد الملك: إنّا لسنا من تلطيخ ابن الزّبير في شيءٍ، أمّا ما زاده في طوله فأقرّه. وأمّا ما زاد فيه من الحجر فردّه إلى بنائه، وسدّ الباب الذي فتحه. فنقضه وأعاده إلى بنائه.
وقد رواه النّسائيّ في سننه، عن هنّادٍ، عن يحيى بن أبي زائدة، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاءٍ، عن ابن الزّبير، عن عائشة بالمرفوع منه. ولم يذكر القصّة، وقد كانت السّنّة إقرار ما فعله عبد اللّه بن الزّبير، رضي اللّه عنه؛ لأنّه هو الذي ودّه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم. ولكن خشي أن تنكره قلوب بعض النّاس لحداثة عهدهم بالإسلام وقرب عهدهم من الكفر. ولكن خفيت هذه السّنة على عبد الملك؛ ولهذا لمّا تحقّق ذلك عن عائشة أنّها روت ذلك عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، قال: وددنا أنّا تركناه وما تولّى.
كما قال مسلمٌ: حدّثني محمّد بن حاتمٍ حدّثنا محمّد بن بكرٍ أخبرنا ابن جريج، سمعت عبد اللّه بن عبيد بن عميرٍ والوليد بن عطاءٍ، يحدّثان عن الحارث بن عبد اللّه بن أبي ربيعة، قال عبد اللّه بن عبيدٍ: وفد الحارث بن عبد اللّه على عبد الملك بن مروان في خلافته، فقال عبد الملك: ما أظنّ أبا خبيبٍ -يعني ابن الزّبير -سمع من عائشة ما كان يزعم أنّه سمعه منها. قال الحارث: بلى، أنا سمعته منها. قال: سمعتها تقول ماذا؟ قال: قالت: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «إنّ قومك استقصروا من بنيان البيت، ولولا حداثة عهدهم بالشّرك أعدت ما تركوا منه، فإن بدا لقومك من بعدي أن يبنوه فهلمّي لأريك ما تركوا منه». فأراها قريبًا من سبعة أذرعٍ.
هذا حديث عبد اللّه بن عبيد بن عميرٍ. وزاد عليه الوليد بن عطاءٍ: قال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: «ولجعلت لها بابين موضوعين في الأرض شرقيًّا وغربيًّا، وهل تدرين لم كان قومك رفعوا بابها؟» قالت: قلت: لا. قال: «تعزّزًا ألّا يدخلها إلّا من أرادوا. فكان الرّجل إذا هو أراد أن يدخلها، يدعونه حتّى يرتقي، حتّى إذا كاد أن يدخل دفعوه فسقط» قال عبد الملك: فقلت للحارث: أنت سمعتها تقول هذا؟ قال: نعم. قال: فنكت ساعةً بعصاه، ثمّ قال: وددت أنّي تركت وما تحمّل.
قال مسلمٌ: وحدّثناه محمّد بن عمرو بن جبلة، حدّثنا أبو عاصمٍ (ح) وحدّثنا عبد بن حميد، أخبرنا عبد الرّزّاق، كلاهما عن ابن جريج بهذا الإسناد، مثل حديث ابن بكرٍ.
قال: وحدّثني محمّد بن حاتمٍ، حدّثنا عبد اللّه بن بكرٍ السّهميّ، حدّثنا حاتم بن أبي صغيرة، عن أبي قزعة أنّ عبد الملك بن مروان بينما هو يطوف بالبيت إذ قال: قاتل اللّه ابن الزّبير حيث يكذب على أمّ المؤمنين، يقول: سمعتها تقول: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «يا عائشة، لولا حدثان قومك بالكفر لنقضت البيت حتّى أزيد فيها من الحجر، فإنّ قومك قصّروا في البناء». فقال الحارث بن عبد اللّه بن أبي ربيعة: لا تقل هذا يا أمير المؤمنين، فأنا سمعت أمّ المؤمنين تحدّث هذا. قال: لو كنت سمعته قبل أن أهدمه لتركته على ما بنى ابن الزبير.
فهذا الحديث كالمقطوع به إلى عائشة أمّ المؤمنين، لأنّه قد روي عنها من طرقٍ صحيحةٍ متعدّدةٍ عن الأسود بن يزيد، والحارث بن عبد اللّه بن أبي ربيعة، وعبد اللّه بن الزّبير، وعبد اللّه بن محمّد بن أبي بكرٍ الصّدّيق، وعروة بن الزّبير. فدلّ هذا على صواب ما فعله ابن الزّبير. فلو ترك لكان جيّدًا.
ولكن بعد ما رجع الأمر إلى هذا الحال، فقد كره بعض العلماء أن يغيّر عن حاله، كما ذكر عن أمير المؤمنين هارون الرّشيد -أو أبيه المهديّ -أنّه سأل الإمام مالكًا عن هدم الكعبة وردّها إلى ما فعله ابن الزّبير. فقال له مالكٌ: يا أمير المؤمنين، لا تجعل كعبة اللّه ملعبة للملوك، لا يشاء أحدٌ أن يهدمها إلّا هدمها. فترك ذلك الرّشيد.
نقله عياضٌ والنّواويّ، ولا تزال -واللّه أعلم -هكذا إلى آخر الزّمان، إلى أن يخرّبها ذو السّويقتين من الحبشة، كما ثبت ذلك في الصّحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «يخرّب الكعبة ذو السّويقتين من الحبشة». أخرجاه.
وعن عبد اللّه بن عبّاسٍ، رضي اللّه عنهما، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، قال: «كأنّي به أسود أفحج، يقلعها حجرًا حجرًا». رواه البخاريّ.
وقال الإمام أحمد بن حنبلٍ في مسنده: حدّثنا أحمد بن عبد الملك الحرّاني، حدّثنا محمّد بن سلمة، عن ابن إسحاق، عن بن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص، رضي اللّه عنهما قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: «يخرّب الكعبة ذو السّويقتين من الحبشة، ويسلبها حليتها ويجرّدها من كسوتها. ولكأنّي أنظر إليه أصيلع أفيدع يضرب عليها بمسحاته ومعوله».
الفدع: زيغٌ بين القدم وعظم السّاق.
وهذا -واللّه أعلم -إنّما يكون بعد خروج يأجوج ومأجوج، لما جاء في صحيح البخاريّ عن أبي سعيدٍ الخدريّ، رضي اللّه عنه، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «ليحجّنّ البيت وليعتمرنّ بعد خروج يأجوج ومأجوج» ). [تفسير ابن كثير: 1/ 426-441]

تفسير قوله تعالى: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله تعالى حكايةً لدعاء إبراهيم وإسماعيل، عليهما السّلام: {ربّنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذرّيّتنا أمّةً مسلمةً لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنّك أنت التّوّاب الرّحيم}:
قال ابن جريرٍ: يعنيان بذلك، واجعلنا مستسلمين لأمرك، خاضعين لطاعتك، لا نشرك معك في الطّاعة أحدًا سواك، ولا في العبادة غيرك.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا إسماعيل بن رجاء بن حيّان الحصني القرشيّ، حدّثنا معقل بن عبيد اللّه، عن عبد الكريم: {واجعلنا مسلمين لك} قال: «مخلصين لك»، {ومن ذرّيّتنا أمّةً مسلمةً لك} قال: «مخلصةً».
وقال أيضًا: حدّثنا عليّ بن الحسين، حدّثنا المقدّميّ، حدّثنا سعيد بن عامرٍ، عن سلّام بن أبي مطيعٍ في هذه الآية {واجعلنا مسلمين} قال: «كانا مسلمين، ولكنّهما سألاه الثّبات».
وقال عكرمة: «{ربّنا واجعلنا مسلمين لك} قال اللّه: قد فعلت، {ومن ذرّيّتنا أمّةً مسلمةً لك} قال اللّه: قد فعلت».
وقال السّدّيّ: «{ومن ذرّيّتنا أمّةً مسلمةً لك} يعنيان العرب».
قال ابن جريرٍ: «والصّواب أنّه يعمّ العرب وغيرهم؛ لأنّ من ذرّيّة إبراهيم بني إسرائيل، وقد قال اللّه تعالى: {ومن قوم موسى أمّةٌ يهدون بالحقّ وبه يعدلون} [الأعراف: 159]».
قلت: وهذا الذي قاله ابن جريرٍ لا ينفيه السّدّيّ؛ فإنّ تخصيصهم بذلك لا ينفي من عداهم، والسّياق إنّما هو في العرب؛ ولهذا قال بعده: {ربّنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلّمهم الكتاب والحكمة ويزكّيهم} الآية، والمراد بذلك محمّد صلّى اللّه عليه وسلّم، وقد بعث فيهم كما قال تعالى: {هو الّذي بعث في الأمّيّين رسولا منهم} [الجمعة: 2] ومع هذا لا ينفي رسالته إلى الأحمر والأسود، لقوله تعالى: {قل يا أيّها النّاس إنّي رسول اللّه إليكم جميعًا} [الأعراف: 158]، وغير ذلك من الأدلّة القاطعة.
وهذا الدّعاء من إبراهيم وإسماعيل، عليهما السّلام، كما أخبر اللّه تعالى عن عباده المتّقين المؤمنين، في قوله: {والّذين يقولون ربّنا هب لنا من أزواجنا وذرّيّاتنا قرّة أعينٍ واجعلنا للمتّقين إمامًا} [الفرقان: 74]. وهذا القدر مرغوبٌ فيه شرعًا، فإنّ من تمام محبّة عبادة اللّه تعالى أن يحبّ أن يكون من صلبه من يعبد اللّه وحده لا شريك له؛ ولهذا لمّا قال اللّه تعالى لإبراهيم، عليه السّلام: {إنّي جاعلك للنّاس إمامًا} قال: {ومن ذرّيّتي قال لا ينال عهدي الظّالمين} وهو قوله: {واجنبني وبنيّ أن نعبد الأصنام} [إبراهيم: 35]. وقد ثبت في صحيح مسلمٍ، عن أبي هريرة، رضي اللّه عنه، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه قال: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلّا من ثلاثٍ: صدقةٍ جاريةٍ، أو علمٍ ينتفع به، أو ولدٍ صالحٍ يدعو له».
{وأرنا مناسكنا} قال ابن جريج، عن عطاءٍ: «{وأرنا مناسكنا} أخرجها لنا، علّمناها».
وقال مجاهدٌ: «{وأرنا مناسكنا} مذابحنا». وروى عن عطاءٍ أيضًا، وقتادة نحو ذلك.
وقال سعيد بن منصورٍ: حدّثنا عتّاب بن بشيرٍ، عن خصيف، عن مجاهدٍ، قال: قال إبراهيم: «{وأرنا مناسكنا} فأتاه جبرائيل، فأتى به البيت، فقال: ارفع القواعد. فرفع القواعد وأتمّ البنيان، ثمّ أخذ بيده فأخرجه فانطلق به إلى الصّفا، قال: هذا من شعائر اللّه. ثمّ انطلق به إلى المروة، فقال: وهذا من شعائر اللّه؟. ثمّ انطلق به نحو منًى، فلمّا كان من العقبة إذا إبليس قائمٌ عند الشّجرة، فقال: كبّر وارمه. فكبّر ورماه. ثمّ انطلق إبليس فقام عند الجمرة الوسطى، فلمّا جاز به جبريل وإبراهيم قال له: كبّر وارمه. فكبّر ورماه. فذهب إبليس وكان الخبيث أراد أن يدخل في الحجّ شيئًا فلم يستطع، فأخذ بيد إبراهيم حتّى أتى به المشعر الحرام، فقال: هذا المشعر الحرام. فأخذ بيد إبراهيم حتّى أتى به عرفاتٍ. قال: قد عرفت ما أريتك؟ قالها: ثلاث مرارٍ. قال: نعم».
وروي عن أبي مجلز وقتادة نحو ذلك. وقال أبو داود الطّيالسيّ: حدّثنا حمّاد بن سلمة، عن أبي العاصم الغنويّ، عن أبي الطّفيل، عن ابن عبّاسٍ، قال: «إنّ إبراهيم لمّا أري أوامر المناسك، عرض له الشّيطان عند المسعى، فسابقه إبراهيم، ثمّ انطلق به جبريل حتّى أتى به منًى، فقال: مناخ النّاس هذا. فلمّا انتهى إلى جمرة العقبة تعرّض له الشّيطان، فرماه بسبع حصياتٍ حتّى ذهب، ثمّ أتى به الجمرة الوسطى، فعرض له الشّيطان فرماه بسبع حصياتٍ، حتّى ذهب، ثمّ أتى به الجمرة القصوى، فعرض له الشّيطان، فرماه بسبع حصياتٍ حتّى ذهب، فأتى به جمعًا. فقال: هذا المشعر. ثمّ أتى به عرفة. فقال: هذه عرفة. فقال له جبريل: أعرفت» ). [تفسير ابن كثير: 1/ 441-443]

تفسير قوله تعالى: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {ربّنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلّمهم الكتاب والحكمة ويزكّيهم إنّك أنت العزيز الحكيم (129)}:
يقول تعالى إخبارًا عن تمام دعوة إبراهيم لأهل الحرم -أن يبعث اللّه فيهم رسولًا منهم، أي من ذرّيّة إبراهيم. وقد وافقت هذه الدّعوة المستجابة قدر اللّه السّابق في تعيين محمّدٍ -صلوات اللّه وسلامه عليه -رسولًا في الأمّيّين إليهم، إلى سائر الأعجمين، من الإنس والجنّ، كما قال الإمام أحمد: حدّثنا عبد الرّحمن بن مهديٍّ، حدّثنا معاوية بن صالحٍ، عن سعيد بن سويد الكلبيّ، عن عبد الأعلى بن هلالٍ السّلميّ، عن العرباض بن سارية قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «إني عند الله لخاتم النّبيّين، وإنّ آدم لمنجدلٌ في طينته، وسأنبئكم بأوّل ذلك، دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى بي، ورؤيا أمّي الّتي رأت، وكذلك أمّهات النّبيّين يرين».
وكذلك رواه ابن وهبٍ، واللّيث، وكاتبه عبد اللّه بن صالحٍ، عن معاوية بن صالحٍ، وتابعه أبو بكر بن أبي مريم، عن سعيد بن سويد، به.
وقال الإمام أحمد أيضًا: حدّثنا أبو النّضر، حدّثنا الفرج، حدّثنا لقمان بن عامرٍ: سمعت أبا أمامة قال: قلت: يا رسول اللّه، ما كان أوّل بدء أمرك؟ قال: «دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى بي، ورأت أمّي أنّه خرج منها نورٌ أضاءت له قصور الشّام».
والمراد أنّ أوّل من نوّه بذكره وشهره في النّاس، إبراهيم عليه السّلام. ولم يزل ذكره في النّاس مذكورًا مشهورًا سائرًا حتّى أفصح باسمه خاتم أنبياء بني إسرائيل نسبًا، وهو عيسى ابن مريم، عليه السّلام، حيث قام في بني إسرائيل خطيبًا، وقال: {إنّي رسول اللّه إليكم مصدّقًا لما بين يديّ من التّوراة ومبشّرًا برسولٍ يأتي من بعدي اسمه أحمد} [الصّفّ: 6]؛ ولهذا قال في هذا الحديث: «دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى بن مريم».
وقوله: «ورأت أمّي أنّه خرج منها نورٌ أضاءت له قصور الشّام» قيل: كان منامًا رأته حين حملت به، وقصته على قومها فشاع فيهم واشتهر بينهم، وكان ذلك توطئةً. وتخصيص الشّام بظهور نوره إشارةٌ إلى استقرار دينه وثبوته ببلاد الشّام، ولهذا تكون الشّام في آخر الزّمان معقلًا للإسلام وأهله، وبها ينزل عيسى ابن مريم إذا نزل بدمشق بالمنارة الشّرقيّة البيضاء منها. ولهذا جاء في الصّحيحين: «لا تزال طائفةٌ من أمّتي ظاهرين على الحقّ لا يضرّهم من خذلهم ولا من خالفهم حتّى يأتي أمر اللّه وهم كذلك». وفي صحيح البخاريّ: «وهم بالشّام».
قال أبو جعفرٍ الرّازيّ، عن الرّبيع بن أنسٍ، عن أبي العالية، في قوله: «{ربّنا وابعث فيهم رسولا منهم} يعني: أمّة محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم. فقيل له: قد استجيبت لك، وهو كائنٌ في آخر الزّمان». وكذا قال السّدّيّ وقتادة.
وقوله تعالى: {ويعلّمهم الكتاب} يعني: «القرآن» {والحكمة} يعني: «السّنّة»، قاله الحسن، وقتادة، ومقاتل بن حيّان، وأبو مالكٍ وغيرهم. وقيل: الفهم في الدّين. ولا منافاة.
{ويزكّيهم} قال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: «يعني طاعة اللّه، والإخلاص».
وقال محمّد بن إسحاق: {ويعلّمهم الكتاب والحكمة} قال: «يعلّمهم الخير فيفعلوه، والشّرّ فيتّقوه، ويخبرهم برضاه عنهم إذا أطاعوه واستكثروا من طاعته، وتجنّبوا ما سخط من معصيته».
وقوله: {إنّك أنت العزيز الحكيم} أي: العزيز الذي لا يعجزه شيءٌ، وهو قادرٌ على كلّ شيءٍ، الحكيم في أفعاله وأقواله، فيضع الأشياء في محالّها؛ وحكمته وعدله). [تفسير ابن كثير: 1/ 443-445]


رد مع اقتباس