عرض مشاركة واحدة
  #9  
قديم 4 ربيع الأول 1440هـ/12-11-2018م, 05:38 PM
جمهرة التفاسير جمهرة التفاسير غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 2,953
افتراضي

تفاسير القرن الثامن الهجري

تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد (16) إذ يتلقّى المتلقّيان عن اليمين وعن الشّمال قعيدٌ (17) ما يلفظ من قولٍ إلّا لديه رقيبٌ عتيدٌ (18) وجاءت سكرة الموت بالحقّ ذلك ما كنت منه تحيد (19) ونفخ في الصّور ذلك يوم الوعيد (20) وجاءت كلّ نفسٍ معها سائقٌ وشهيدٌ (21) لقد كنت في غفلةٍ من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديدٌ (22) }
يخبر تعالى عن قدرته على الإنسان بأنّه خالقه، وعمله محيطٌ بجميع أموره، حتّى إنّه تعالى يعلم ما توسوس به نفوس بني آدم من الخير والشّرّ. وقد ثبت في الصّحيح عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه قال: "إنّ اللّه تجاوز لأمّتي ما حدّثت به أنفسها ما لم تقل أو تعمل".
وقوله: {ونحن أقرب إليه من حبل الوريد} يعني: ملائكته تعالى أقرب إلى الإنسان من حبل وريده إليه. ومن تأوّله على العلم فإنّما فرّ لئلّا يلزم حلولٌ أو اتّحادٌ، وهما منفيّان بالإجماع، تعالى اللّه وتقدّس، ولكنّ اللّفظ لا يقتضيه فإنّه لم يقل: وأنا أقرب إليه من حبل الوريد، وإنّما قال: {ونحن أقرب إليه من حبل الوريد} كما قال في المحتضر: {ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون} [الواقعة: 85]، يعني ملائكته. وكما قال [تعالى]: {إنّا نحن نزلنا الذّكر وإنّا له لحافظون} [الحجر: 9]، فالملائكة نزلت بالذّكر -وهو القرآن-بإذن اللّه، عزّ وجلّ. وكذلك الملائكة أقرب إلى الإنسان من حبل وريده إليه بإقدار اللّه لهم على ذلك، فالملك لمّة في الإنسان كما أنّ للشّيطان لمّةً وكذلك: "الشّيطان يجري من ابن آدم مجرى الدّم"، كما أخبر بذلك الصّادق المصدوق؛ ولهذا قال هاهنا: {إذ يتلقّى المتلقّيان} يعني: الملكين اللّذين يكتبان عمل الإنسان. {عن اليمين وعن الشّمال قعيدٌ} أي: مترصّدٌ.
{ما يلفظ} أي: ابن آدم {من قولٍ} أي: ما يتكلّم بكلمةٍ {إلا لديه رقيبٌ عتيدٌ} أي: إلّا ولها من يراقبها معتدٍ لذلك يكتبها، لا يترك كلمةً ولا حركةً، كما قال تعالى: {وإنّ عليكم لحافظين كرامًا كاتبين يعلمون ما تفعلون} [الانفطار: 10 -12].
وقد اختلف العلماء: هل يكتب الملك كلّ شيءٍ من الكلام؟ وهو قول الحسن وقتادة، أو إنّما يكتب ما فيه ثوابٌ وعقابٌ كما هو قول ابن عبّاسٍ، على قولين، وظاهر الآية الأوّل، لعموم قوله: {ما يلفظ من قولٍ إلا لديه رقيبٌ عتيدٌ}
وقد قال الإمام أحمد: حدّثنا أبو معاوية، حدّثنا محمّد بن عمرو بن علقمة اللّيثيّ، عن أبيه، عن جدّه علقمة، عن بلال بن الحارث المزنيّ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "إنّ الرّجل ليتكلّم بالكلمة من رضوان اللّه تعالى ما يظنّ أن تبلغ ما بلغت، يكتب اللّه له بها رضوانه إلى يوم يلقاه. وإنّ الرّجل ليتكلّم بالكلمة من سخط اللّه ما يظنّ أن تبلغ ما بلغت، يكتب اللّه عليه بها سخطه إلى يوم يلقاه". قال: فكان علقمة يقول: كم من كلامٍ قد منعنيه حديث بلال بن الحارث.
ورواه التّرمذيّ والنّسائيّ وابن ماجه، من حديث محمّد بن عمرٍو به. وقال التّرمذيّ: حسنٌ صحيحٌ. وله شاهدٌ في الصّحيح.
وقال الأحنف بن قيسٍ: صاحب اليمين يكتب الخير، وهو أميرٌ على صاحب الشّمال، فإن أصاب العبد خطيئةً قال له: أمسك، فإن استغفر اللّه تعالى نهاه أن يكتبها، وإن أبى كتبها. رواه ابن أبي حاتمٍ.
وقال الحسن البصريّ وتلا هذه الآية: {عن اليمين وعن الشّمال قعيدٌ}: يا ابن آدم، بسطت لك صحيفةٌ، ووكل بك ملكان كريمان أحدهما عن يمينك، والآخر عن شمالك، فأمّا الّذي عن يمينك فيحفظ حسناتك، وأمّا الّذي عن يسارك فيحفظ سيّئاتك فاعمل ما شئت، أقلل أو أكثر حتّى إذا متّ طويت صحيفتك، وجعلت في عنقك معك في قبرك، حتّى تخرج يوم القيامة، فعند ذلك يقول: {وكلّ إنسانٍ ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابًا يلقاه منشورًا اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبًا} [الإسراء: 13، 14] ثمّ يقول: عدل -واللّه-فيك من جعلك حسيب نفسك.
وقال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: {ما يلفظ من قولٍ إلا لديه رقيبٌ عتيدٌ} قال: يكتب كلّ ما تكلّم به من خيرٍ أو شرٍّ، حتّى إنّه ليكتب قوله: "أكلت، شربت، ذهبت، جئت، رأيت"، حتّى إذا كان يوم الخميس عرض قوله وعمله، فأقرّ منه ما كان فيه من خيرٍ أو شرٍّ، وألقى سائره، وذلك قوله: {يمحو اللّه ما يشاء ويثبت وعنده أمّ الكتاب} [الرّعد: 39]، وذكر عن الإمام أحمد أنّه كان يئنّ في مرضه، فبلغه عن طاوسٍ أنّه قال: يكتب الملك كلّ شيءٍ حتّى الأنين. فلم يئنّ أحمد حتّى مات رحمه اللّه). [تفسير ابن كثير: 7/ 397-399]

تفسير قوله تعالى: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) :(وقوله: {وجاءت سكرة الموت بالحقّ ذلك ما كنت منه تحيد}، يقول تعالى: وجاءت -أيّها الإنسان- سكرة الموت بالحقّ، أي: كشفت لك عن اليقين الّذي كنت تمتري فيه، {ذلك ما كنت منه تحيد} أي: هذا هو الّذي كنت تفرّ منه قد جاءك، فلا محيد ولا مناص، ولا فكاك ولا خلاص.
وقد اختلف المفسّرون في المخاطب بقوله: {وجاءت سكرة الموت بالحقّ ذلك ما كنت منه تحيد}، فالصّحيح أنّ المخاطب بذلك الإنسان من حيث هو. وقيل: الكافر، وقيل: غير ذلك.
وقال أبو بكرٍ بن أبي الدّنيا: حدّثنا إبراهيم بن زيادٍ -سبلان- أخبرنا عبّاد بن عبّاد عن محمّد بن عمرو بن علقمة، عن أبيه عن جدّه علقمة بن وقّاصٍ أنّ عائشة، رضي اللّه عنها، قالت: حضرت أبي وهو يموت، وأنا جالسةٌ عند رأسه، فأخذته غشيةٌ فتمثّلت ببيتٍ من الشّعر:
من لا يزال دمعه مقنّعا = فإنه لا بد مرةً مدقوق
قالت: فرفع رأسه فقال: يا بنيّة، ليس كذلك ولكن كما قال تعالى: {وجاءت سكرة الموت بالحقّ ذلك ما كنت منه تحيد}.
وحدّثنا خلف بن هشامٍ؛ حدّثنا أبو شهابٍ [الخيّاط]، عن إسماعيل بن أبي خالدٍ، عن البهيّ قال: لـمّا أن ثقل أبو بكرٍ، رضي اللّه عنه، جاءت عائشة، رضي اللّه عنها، فتمثّلت بهذا البيت:
لعمرك ما يغني الثّراء عن الفتى = إذا حشرجت يومًا وضاق بها الصّدر
فكشف عن وجهه وقال: ليس كذلك، ولكنّ قولي: {وجاءت سكرة الموت بالحقّ ذلك ما كنت منه تحيد} وقد أوردت لهذا الأثر طرقًا [كثيرةً] في سيرة الصّدّيق عند ذكر وفاته، رضي اللّه عنه.
وقد ثبت في الصّحيح عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: لمّا تغشّاه الموت جعل يمسح العرق عن وجهه ويقول: "سبحان اللّه! إنّ للموت لسكراتٍ". وفي قوله: {ذلك ما كنت منه تحيد} قولان:
أحدهما: أنّ "ما" هاهنا موصولةٌ، أي: الّذي كنت منه تحيد -بمعنى: تبتعد وتنأى وتفرّ- قد حلّ بك ونزل بساحتك.
والقول الثّاني: أنّ "ما" نافيةٌ بمعنى: ذلك ما كنت تقدر على الفرار منه ولا الحيد عنه.
وقد قال الطّبرانيّ في المعجم الكبير: حدّثنا محمّد بن عليٍّ الصّائغ المكّيّ، حدّثنا حفص بن عمر الحديّ، حدّثنا معاذ بن محمّدٍ الهذلي، عن يونس بن عبيدٍ، عن الحسن، عن سمرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "مثل الّذي يفرّ من الموت مثل الثّعلب، تطلبه الأرض بدين، فجاء يسعى حتّى إذا أعيى وأسهر دخل جحره، فقالت له الأرض: يا ثعلب، ديني. فخرج وله حصاصٌ، فلم يزل كذلك حتّى تقطّعت عنقه ومات".
ومضمون هذا المثل: كما لا انفكاك له ولا محيد عن الأرض كذلك الإنسان لا محيد له عن الموت). [تفسير ابن كثير: 7/ 399-400]

تفسير قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله: {ونفخ في الصّور ذلك يوم الوعيد}. قد تقدّم الكلام على حديث النّفخ في الصّور والفزع والصّعق والبعث، وذلك يوم القيامة. وفي الحديث أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وحنى جبهته، وانتظر أن يؤذن له". قالوا: يا رسول اللّه كيف نقول؟ قال: "قولوا حسبنا اللّه ونعم الوكيل". فقال القوم: حسبنا اللّه ونعم الوكيل).[تفسير ابن كثير: 7/ 400]

تفسير قوله تعالى: {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) :({وجاءت كلّ نفسٍ معها سائقٌ وشهيدٌ} أي: ملكٌ يسوقه إلى المحشر، وملكٌ يشهد عليه بأعماله. هذا هو الظّاهر من الآية الكريمة. وهو اختيار ابن جريرٍ، ثمّ روي من حديث إسماعيل بن أبي خالدٍ عن يحيى بن رافعٍ -مولًى لثقيفٍ-قال: سمعت عثمان بن عفّان يخطب، فقرأ هذه الآية: {وجاءت كلّ نفسٍ معها سائقٌ وشهيدٌ}، فقال: سائقٌ يسوقها إلى اللّه، وشاهدٌ يشهد عليها بما عملت. وكذا قال مجاهدٌ، وقتادة، وابن زيدٍ.
وقال مطرّف، عن أبي جعفرٍ -مولى أشجع- عن أبي هريرة: السّائق: الملك والشّهيد: العمل. وكذا قال الضّحّاك والسّدّيّ.
وقال العوفي عن ابن عبّاسٍ: السّائق من الملائكة، والشّهيد: الإنسان نفسه، يشهد على نفسه. وبه قال الضّحّاك بن مزاحم أيضًا). [تفسير ابن كثير: 7/ 401]

تفسير قوله تعالى: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) :(وحكى ابن جريرٍ ثلاثة أقوالٍ في المراد بهذا الخطاب في قوله: {لقد كنت في غفلةٍ من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديدٌ}
أحدها: أنّ المراد بذلك الكافر. رواه عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ. وبه يقول الضّحّاك بن مزاحمٍ وصالح بن كيسان.
والثّاني: أنّ المراد بذلك كلّ أحدٍ من برٍّ وفاجرٍ؛ لأنّ الآخرة بالنّسبة إلى الدّنيا كاليقظة والدّنيا كالمنام. وهذا اختيار ابن جريرٍ، ونقله عن حسين بن عبد اللّه بن عبيد اللّه بن عبّاسٍ.
والثّالث: أنّ المخاطب بذلك النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم. وبه يقول زيد بن أسلم، وابنه. والمعنى على قولهما: لقد كنت في غفلةٍ من هذا الشّأن قبل أن يوحى إليك، فكشفنا عنك غطاءك بإنزاله إليك، فبصرك اليوم حديدٌ.
والظّاهر من السّياق خلاف هذا، بل الخطاب مع الإنسان من حيث هو، والمراد بقوله: {لقد كنت في غفلةٍ من هذا} يعني: من هذا اليوم، {فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديدٌ} أي: قويٌّ؛ لأنّ كلّ واحدٍ يوم القيامة يكون مستبصرًا، حتّى الكفّار في الدّنيا يكونون يوم القيامة على الاستقامة، لكن لا ينفعهم ذلك. قال اللّه تعالى: {أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا} [مريم: 38]، وقال تعالى: {ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رءوسهم عند ربّهم ربّنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحًا إنّا موقنون} [السّجدة: 12]). [تفسير ابن كثير: 7/ 401]

رد مع اقتباس