عرض مشاركة واحدة
  #10  
قديم 18 شعبان 1435هـ/16-06-2014م, 02:10 PM
أم إسماعيل أم إسماعيل غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Dec 2010
المشاركات: 4,914
افتراضي

تفاسير القرن الثامن الهجري

تفسير قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({واعلموا أنّما غنمتم من شيءٍ فأنّ للّه خمسه وللرّسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السّبيل إن كنتم آمنتم باللّه وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان واللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ (41)}
يبيّن تعالى تفصيل ما شرعه مخصّصًا لهذه الأمّة الشّريفة، من بين سائر الأمم المتقدّمة، من إحلال المغانم. و"الغنيمة": هي المال المأخوذ من الكفّار بإيجاف الخيل والرّكاب. و"الفيء": ما أخذ منهم بغير ذلك، كالأموال الّتي يصالحون عليها، أو يتوفّون عنها ولا وارث لهم، والجزية والخراج ونحو ذلك. هذا مذهب الإمام الشّافعيّ في طائفةٍ من علماء السّلف والخلف.
ومن العلماء من يطلق الفيء على ما تطلق عليه الغنيمة، والغنيمة على الفيء أيضًا؛ ولهذا ذهب قتادة إلى أنّ هذه الآية ناسخةٌ لآية "الحشر": {ما أفاء اللّه على رسوله من أهل القرى فللّه وللرّسول ولذي القربى واليتامى والمساكين} الآية [الحشر: 7]، قال: فنسخت آية "الأنفال" تلك، وجعلت الغنائم: أربعة أخماسها للمجاهدين، وخمسًا منها لهؤلاء المذكورين. وهذا الّذي قاله بعيدٌ؛ لأنّ هذه الآية نزلت بعد وقعة بدر، وتلك نزلت في بني النّضير، ولا خلاف بين علماء السّير والمغازي قاطبةً أنّ بني النّضير بعد بدرٍ، هذا أمرٌ لا يشكّ فيه ولا يرتاب، فمن يفرّق بين معنى الفيء والغنيمة يقول: تلك نزلت في أموال الفيء وهذه في المغانم. ومن يجعل أمر المغانم والفيء راجعًا إلى رأي الإمام يقول: لا منافاة بين آية الحشر وبين التّخميس إذا رآه الإمام، واللّه أعلم.
وقوله تعالى: {واعلموا أنّما غنمتم من شيءٍ فأنّ للّه خمسه} توكيدٌ لتخميس كلّ قليلٍ وكثيرٍ حتّى الخيط والمخيط، قال اللّه تعالى: {ومن يغلل يأت بما غلّ يوم القيامة ثمّ توفّى كلّ نفسٍ ما كسبت وهم لا يظلمون} [آل عمران: 161].
وقوله: {فأنّ للّه خمسه وللرّسول} اختلف المفسّرون هاهنا، فقال بعضهم: للّه نصيبٌ من الخمس يجعل في الكعبة.
قال أبو جعفرٍ الرّازيّ، عن الرّبيع، عن أبي العالية الرّياحي قال: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يؤتى بالغنيمة فيقسّمها على خمسةٍ، تكون أربعة أخماسٍ لمن شهدها، ثمّ يأخذ الخمس فيضرب بيده فيه، فيأخذ منه الّذي قبض كفّه، فيجعله للكعبة وهو سهم اللّه. ثمّ يقسّم ما بقي على خمسة أسهمٍ، فيكون سهمٌ للرّسول، وسهمٌ لذوي القربى، وسهمٌ لليتامى، وسهمٌ للمساكين، وسهمٌ لابن السّبيل
وقال آخرون: ذكر اللّه هاهنا استفتاح كلام للتبرك، وسهم لرسوله عليه السلام
قال الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ، رضي اللّه عنهما: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إذا بعث سريّة فغنموا، خمّس الغنيمة، فضرب ذلك الخمس في خمسةٍ. ثمّ قرأ: {واعلموا أنّما غنمتم من شيءٍ فأنّ للّه خمسه وللرّسول} [قال: وقوله] {فأنّ للّه خمسه} مفتاح كلام، لله ما في السموات وما في الأرض، فجعل سهم اللّه وسهم الرّسول واحدًا.
وهكذا قال إبراهيم النّخعي، والحسن بن محمد ابن الحنفيّة. والحسن البصريّ، والشّعبيّ، وعطاء بن أبي رباحٍ، وعبد اللّه بن بريدة وقتادة، ومغيرة، وغير واحدٍ: أنّ سهم اللّه ورسوله واحدٌ.
ويؤيّد هذا ما رواه الإمام الحافظ أبو بكرٍ البيهقيّ بإسنادٍ صحيحٍ، عن عبد اللّه بن شقيقٍ، عن رجلٍ من بلقين قال: أتيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وهو بوادي القرى، وهو يعرض فرسًا، فقلت: يا رسول اللّه، ما تقول في الغنيمة؟ فقال: "للّه خمسها، وأربعة أخماسٍ للجيش". قلت: فما أحدٌ أولى به من أحدٍ؟ قال: " لا ولا السّهم تستخرجه من جنبك، ليس أنت أحقّ به من أخيك المسلم"
وقال ابن جريرٍ: حدّثنا عمران بن موسى، حدّثنا عبد الوارث، حدّثنا أبانٌ، عن الحسن قال: أوصى أبو بكرٍ بالخمس من ماله، وقال: ألا أرضى من مالي بما رضي اللّه لنفسه
ثمّ اختلف قائلو هذا القول، فروى عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ قال: كانت الغنيمة تقسّم على خمسة أخماسٍ، فأربعةٌ منها بين من قاتل عليها، وخمسٌ واحدٌ يقسّم على أربعةٍ فربعٌ للّه وللرّسول ولذي القربى -يعني: قرابة النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم. فما كان للّه وللرّسول فهو لقرابة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، ولم يأخذ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم من الخمس شيئًا، [والرّبع الثّاني لليتامى، والرّبع الثّالث للمساكين، والرّبع الرّابع لابن السّبيل].
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا أبو معمر المنقري، حدّثنا عبد الوارث بن سعيدٍ، عن حسينٍ المعلّم، عن عبد اللّه بن بريدة في قوله: {واعلموا أنّما غنمتم من شيءٍ فأنّ للّه خمسه وللرّسول} قال: الّذي للّه فلنبيّه، والّذي للرّسول لأزواجه.
وقال عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاءٍ بن أبي رباحٍ قال: خمس اللّه والرّسول واحدٌ، يحمل منه ويصنع فيه ما شاء -يعني: النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا أعمّ وأشمل، وهو أنّ الرّسول صلّى اللّه عليه وسلّم يتصرّف في الخمس الّذي جعله اللّه له بما شاء، ويردّه في أمّته كيف شاء -ويشهد لهذا ما رواه الإمام أحمد حيث قال:
حدّثنا إسحاق بن عيسى، حدّثنا إسماعيل بن عيّاشٍ، عن أبي بكر بن عبد اللّه بن أبي مريم، عن أبي سلّامٍ الأعرج، عن المقدام بن معد يكرب الكنديّ: أنّه جلس مع عبادة بن الصّامت، وأبي الدّرداء، والحارث بن معاوية الكنديّ، رضي اللّه عنهم، فتذاكروا حديث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فقال أبو الدّرداء لعبادة: يا عبادة، كلمات رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في غزوة كذا وكذا في شأن الأخماس؟ فقال عبادة: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم صلّى بهم في غزوةٍ إلى بعيرٍ من المغنم، فلمّا سلّم قام رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فتناول وبرة بين أنملتيه فقال: "إنّ هذه من غنائمكم، وإنّه ليس لي فيها إلّا نصيبي معكم إلّا الخمس، والخمس مردودٌ عليكم، فأدّوا الخيط والمخيط، وأكبر من ذلك وأصغر، ولا تغلّوا، فإنّ الغلول نارٌ وعارٌ على أصحابه في الدّنيا والآخرة، وجاهدوا النّاس في اللّه القريب والبعيد، ولا تبالوا في اللّه لومة لائمٍ، وأقيموا حدود اللّه في الحضر والسّفر، وجاهدوا في [سبيل] اللّه، فإنّ الجهاد بابٌ من أبواب الجنّة [عظيمٌ] ينجّي به اللّه من الهمّ والغمّ"
هذا حديثٌ حسنٌ عظيمٌ، ولم أره في شيءٍ من الكتب السّتّة من هذا الوجه. ولكن روى الإمام أحمد أيضًا، وأبو داود، والنّسائيّ، من حديث عمرو بن شعيبٍ، عن أبيه، عن جده عن عبد اللّه بن عمرٍو، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم نحوه في قصّة الخمس والنّهي عن الغلول
وعن عمرو بن عبسة أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم صلّى بهم إلى بعيرٍ من المغنم، فلمّا سلّم أخذ وبرةً من ذلك البعير ثمّ قال: "ولا يحلّ لي من غنائمكم مثل هذه، إلّا الخمس، والخمس مردودٌ فيكم". رواه أبو داود والنّسائيّ
وقد كان للنّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم من المغانم شيءٌ يصطفيه لنفسه عبدًا أو أمةً أو فرسًا أو سيفًا أو نحو ذلك، كما نصّ على ذلك محمّد بن سيرين وعامرٌ الشّعبيّ، وتبعهما على ذلك أكثر العلماء.
وروى الإمام أحمد، والتّرمذيّ -وحسّنه -عن ابن عبّاسٍ: أنّ رسول اللّه صلّى الله عليه وسلم تنفل سيفه ذا الفقار يوم بدرٍ، وهو الّذي رأى فيه الرّؤيا يوم أحدٍ
وعن عائشة، رضي اللّه عنها، قالت: كانت صفيّة من الصّفيّ. رواه أبو داود في سننه
وروى أيضًا بإسناده، والنّسائيّ أيضًا عن يزيد بن عبد اللّه قال: كنّا بالمربد إذ دخل رجلٌ معه قطعة أديمٍ، فقرأناها فإذا فيها: "من محمّدٍ رسول اللّه إلى بني زهير بن أقيشٍ، إنّكم إن شهدتم أن لا إله إلّا اللّه، وأنّ محمّدًا رسول اللّه، وأقمتم الصّلاة، وآتيتم الزّكاة، وأدّيتم الخمس من المغنم، وسهم النّبيّ وسهم الصّفيّ، أنتم آمنون بأمان اللّه ورسوله". فقلنا: من كتب لك هذا؟ فقال: رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم
فهذه أحاديث جيّدةٌ تدلّ على تقرّر هذا وثبوته؛ ولهذا جعل ذلك كثيرون من الخصائص له صلوات اللّه وسلامه عليه.
وقال آخرون: إنّ الخمس يتصرّف فيه الإمام بالمصلحة للمسلمين، كما يتصرّف في مال الفيء.
وقال شيخنا الإمام العلّامة ابن تيميّة، رحمه اللّه: وهذا قول مالكٍ وأكثر السّلف، وهو أصحّ الأقوال.
فإذا ثبت هذا وعلم، فقد اختلف أيضًا في الّذي كان يناله عليه السّلام من الخمس، ماذا يصنع به من بعده؟ فقال قائلون: يكون لمن يلي الأمر من بعده. روي هذا عن أبي بكر وعلي وقتادة جماعة، وجاء فيه حديثٌ مرفوعٌ
وقال آخرون: يصرف في مصالح المسلمين.
وقال آخرون: بل هو مردودٌ على بقيّة الأصناف: ذوي القربى، واليتامى، والمساكين، وابن السّبيل، اختاره ابن جريرٍ.
وقال آخرون: بل سهم النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وسهم ذوي القربى مردودان على اليتامى والمساكين وابن السّبيل.
قال ابن جريرٍ: وذلك قول جماعةٍ من أهل العراق.
وقيل: إنّ الخمس جميعه لذوي القربى كما رواه ابن جرير.
حدّثنا الحارث، حدّثنا عبد العزيز، حدّثنا عبد الغفّار، حدّثنا المنهال بن عمرٍو، وسألت عبد اللّه بن محمّد بن عليٍّ، وعليّ بن الحسين، عن الخمس فقالا هو لنا. فقلت لعليٍّ: فإنّ اللّه يقول: {واليتامى والمساكين وابن السّبيل} فقالا يتامانا ومساكيننا.
وقال سفيان الثّوريّ، وأبو نعيم، وأبو أسامة، عن قيس بن مسلم: سألت الحسن بن محمد ابن الحنفيّة، رحمه اللّه تعالى، عن قول اللّه تعالى: {واعلموا أنّما غنمتم من شيءٍ فأنّ للّه خمسه وللرّسول} قال هذا مفتاح كلامٍ، للّه الدّنيا والآخرة. ثمّ اختلف النّاس في هذين السّهمين بعد وفاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فقال قائلون: سهم النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم تسليمًا للخليفة من بعده. وقال قائلون: لقرابة النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم. وقال قائلون: سهم القرابة لقرابة الخليفة. فاجتمع قولهم على أن يجعلوا هذين السّهمين في الخيل والعدة في سبيل اللّه، فكانا على ذلك في خلافة أبي بكرٍ وعمر، رضي اللّه عنهما
قال الأعمش، عن إبراهيم كان أبو بكرٍ وعمر يجعلان سهم النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم في الكراع والسّلاح، فقلت لإبراهيم: ما كان عليٌّ يقول فيه؟ قال: كان [عليٌّ] أشدّهم فيه.
وهذا قول طائفةٍ كثيرةٍ من العلماء، رحمهم اللّه.
وأمّا سهم ذوي القربى فإنّه يصرف إلى بني هاشمٍ وبني المطّلب؛ لأنّ بني المطّلب وازروا بني هاشمٍ في الجاهليّة [وفي أوّل الإسلام] ودخلوا معهم في الشّعب غضبًا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وحمايةً له: مسلمهم طاعةً للّه ولرسوله، وكافرهم حميّة للعشيرة وأنفةً وطاعةً لأبي طالبٍ عمّ رسول اللّه. وأمّا بنو عبد شمسٍ وبنو نوفلٍ -وإن كانوا أبناء عمّهم -فلم يوافقوهم على ذلك، بل حاربوهم ونابذوهم، ومالئوا بطون قريشٍ على حرب الرّسول؛ ولهذا كان ذمّ أبي طالبٍ لهم في قصيدته اللّاميّة أشدّ من غيرهم، لشدّة قربهم. ولهذا يقول في أثناء قصيدته
جزى الله عنّا عبد شمس ونوفلاعقوبة شرٍّ عاجلٍ غير آجل
بميزان قسط لا يخيس شعيرةله شاهدٌ من نفسه غير عائل
لقد سفهت أحلام قوم تبدّلوابني خلف قيضا بنا والغياطل
ونحن الصّميم من ذؤابة هاشموآل قصى في الخطوب الأوائل
وقال جبير بن مطعم بن عديّ [بن نوفلٍ] مشيت أنا وعثمان بن عفّان -يعني ابن أبي العاص بن أميّة بن عبد شمسٍ -إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فقلنا: يا رسول اللّه، أعطيت بني المطّلب من خمس خيبر وتركتنا، ونحن وهم منك بمنزلةٍ واحدةٍ، فقال: "إنّما بنو هاشمٍ وبنو عبد المطّلب شيءٌ واحدٌ".
رواه مسلمٌ وفي بعض روايات هذا الحديث: "إنّهم لم يفارقونا في جاهليّةٍ ولا إسلامٍ"
وهذا قول جمهور العلماء أنّهم بنو هاشمٍ وبنو المطّلب.
قال ابن جريرٍ: وقال آخرون: هم بنو هاشمٍ. ثمّ روى عن خصيف، عن مجاهدٍ قال: علم اللّه أنّ في بني هاشمٍ فقراء، فجعل لهم الخمس مكان الصّدقة.
وفي روايةٍ عنه قال: هم قرابة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم الّذين لا تحلّ لهم الصّدقة.
ثمّ روي عن عليّ بن الحسين نحو ذلك.
قال ابن جريرٍ: وقال آخرون: بل هم قريشٌ كلّها.
حدّثني يونس بن عبد الأعلى، حدّثني عبد اللّه بن نافعٍ، عن أبي معشر، عن سعيدٍ المقبري قال: كتب نجدة إلى عبد اللّه بن عبّاسٍ يسأله عن "ذي القربى"، فكتب إليه ابن عبّاسٍ: كنّا نقول: إنّا هم فأبى ذلك علينا قومنا، وقالوا: قريشٌ كلّها ذوو قربى
وهذا الحديث في صحيح مسلمٍ، وأبي داود، والتّرمذيّ، والنّسائيّ من حديث سعيدٍ المقبريّ عن يزيد بن هرمز أنّ نجدة كتب إلى ابن عبّاسٍ يسأله عن ذوي القربى فذكره إلى قوله: "فأبى ذلك علينا قومنا" والزّيادة من أفراد أبي معشرٍ نجيح بن عبد الرّحمن المدنيّ، وفيه ضعفٌ.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا إبراهيم بن مهديٍّ المصّيصيّ، حدّثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، عن حنش، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "رغبت لكم عن غسالة الأيدي؛ لأنّ لكم من خمس الخمس ما يغنيكم أو يكفيكم".
هذا حديثٌ حسن الإسناد، وإبراهيم بن مهديٍّ هذا وثّقه أبو حاتمٍ، وقال يحيى بن معين يأتي بمناكير واللّه أعلم.
وقوله: {واليتامى} أي: يتامى المسلمين. واختلف العلماء هل يختصّ بالأيتام الفقراء، أو يعمّ الأغنياء والفقراء؟ على قولين.
و {المساكين} هم المحاويج الّذين لا يجدون ما يسدّ خلّتهم ومسكنتهم.
{وابن السّبيل} هو المسافر، أو المريد للسّفر، إلى مسافةٍ تقصر فيها الصّلاة، وليس له ما ينفقه في سفره ذلك. وسيأتي تفسير ذلك في آية الصّدقات من سورة "براءة"، إن شاء اللّه تعالى، وبه الثّقة، وعليه التّكلان.
وقوله: {إن كنتم آمنتم باللّه وما أنزلنا على عبدنا} أي: امتثلوا ما شرعنا لكم من الخمس في الغنائم، إن كنتم تؤمنون باللّه واليوم الآخر وما أنزل على رسوله؛ ولهذا جاء في الصّحيحين، من حديث عبد اللّه بن عبّاسٍ، في حديث وفد عبد القيس: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: "وآمركم بأربعٍ وأنهاكم عن أربعٍ: آمركم بالإيمان باللّه ثمّ قال: هل تدرون ما الإيمان باللّه؟ شهادة أن لا إله إلّا اللّه، وأنّ محمّدًا رسول اللّه، وإقام الصّلاة وإيتاء الزّكاة، وأن تؤدّوا الخمس من المغنم.." الحديث بطوله فجعل أداء الخمس من جملة الإيمان، وقد بوّب البخاريّ على ذلك في "كتاب الإيمان" من صحيحه فقال: (باب أداء الخمس من الإيمان)، ثمّ أورد حديث ابن عبّاسٍ هذا، وقد بسطنا الكلام عليه في "شرح البخاريّ" وللّه الحمد والمنّة
وقال مقاتل بن حيّان: {وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان} أي: في القسمة، وقوله: {يوم التقى الجمعان واللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ} ينبّه تعالى على نعمته وإحسانه إلى خلقه بما فرق به بين الحقّ والباطل ببدرٍ ويسمّى "الفرقان"؛ لأنّ اللّه تعالى أعلى فيه كلمة الإيمان على كلمة الباطل، وأظهر دينه ونصر نبيّه وحزبه.
قال عليّ بن أبي طالبٍ والعوفي، عن ابن عبّاسٍ: {يوم الفرقان} يوم بدرٍ، فرق اللّه فيه بين الحقّ والباطل. رواه الحاكم.
وكذا قال مجاهدٌ، ومقسم وعبيد اللّه بن عبد اللّه، والضّحّاك، وقتادة، ومقاتل بن حيّان، وغير واحدٍ: أنّه يوم بدرٍ.
وقال عبد الرّزّاق، عن معمر، عن الزّهريّ، عن عروة بن الزّبير في قوله: {يوم الفرقان} يوم فرق اللّه [فيه] بين الحقّ والباطل، وهو يوم بدرٍ، وهو أوّل مشهدٍ شهده رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم. وكان رأس المشركين عتبة بن ربيعة، فالتقوا يوم الجمعة لتسع عشرة -أو: سبع عشرة -مضت من رمضان، وأصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يومئذٍ ثلثمائةٍ وبضعة عشر رجلًا والمشركون ما بين الألف والتّسعمائة.
فهزم اللّه المشركين، وقتل منهم زيادةٌ على السّبعين، وأسر منهم مثل ذلك.
وقد روى الحاكم في مستدركه، من حديث الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن ابن مسعودٍ، قال في ليلة القدر: تحرّوها لإحدى عشرة يبقين فإنّ صبيحتها يوم بدرٍ. وقال: على شرطهما
وروي مثله عن عبد اللّه بن الزّبير أيضًا، من حديث جعفر بن برقان، عن رجلٍ، عنه.
وقال ابن جريرٍ: حدّثنا ابن حميدٍ، حدّثنا يحيى بن واضحٍ، حدّثنا يحيى بن يعقوب أبو طالبٍ، عن ابن عون محمّد بن عبيد اللّه الثّقفيّ عن أبي عبد الرّحمن السّلميّ قال: قال الحسن بن عليٍّ: كانت ليلة "الفرقان يوم التقى الجمعان" لسبع عشرة من رمضان إسنادٌ جيّدٌ قويٌّ.
ورواه ابن مردويه، عن أبي عبد الرّحمن عبد اللّه بن حبيبٍ، عن عليٍّ قال: كانت ليلة الفرقان، ليلة التقى الجمعان، في صبيحتها ليلة الجمعة لسبع عشر مضت من شهر رمضان.
وهو الصّحيح عند أهل المغازي والسّير.
وقال يزيد بن أبي حبيبٍ إمام أهل الدّيار المصريّة في زمانه: كان يوم بدرٍ يوم الاثنين ولم يتابع على هذا، وقول الجمهور مقدّمٌ عليه، واللّه أعلم). [تفسير القرآن العظيم: 4/ 59-66]

تفسير قوله تعالى: {إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({إذ أنتم بالعدوة الدّنيا وهم بالعدوة القصوى والرّكب أسفل منكم ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ولكن ليقضي اللّه أمرًا كان مفعولا ليهلك من هلك عن بيّنةٍ ويحيا من حيّ عن بيّنةٍ وإنّ اللّه لسميعٌ عليمٌ (42)}
يقول تعالى [مخبرًا] عن يوم الفرقان: {إذ أنتم بالعدوة الدّنيا} أي: إذ أنتم نزولٌ بعدوة الوادي الدّنيا القريبة إلى المدينة، {وهم} أي: المشركون نزولٌ {بالعدوة القصوى} أي: البعيدة الّتي من ناحية مكّة، {والرّكب} أي: العير الّذي فيه أبو سفيان بما معه من التّجارة {أسفل منكم} أي: ممّا يلي سيف البحر {ولو تواعدتم} أي: أنتم والمشركون إلى مكان {لاختلفتم في الميعاد}
قال محمّد بن إسحاق: وحدّثني يحيى بن عبّاد بن عبد اللّه بن الزّبير، عن أبيه في هذه الآية قال: ولو كان ذلك عن ميعادٍ منكم ومنهم، ثمّ بلغكم كثرة عددهم وقلّة عددكم، ما لقيتموهم، {ولكن ليقضي اللّه أمرًا كان مفعولا} أي: ليقضي اللّه ما أراد بقدرته من إعزاز الإسلام وأهله، وإذلال الشّرك وأهله، عن غير ملأٍ منكم، ففعل ما أراد من ذلك بلطفه.
وفي حديث كعب بن مالكٍ قال: إنّما خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم والمسلمون يريدون عير قريشٍ، حتّى جمع اللّه بينهم وبين عدوّهم على غير ميعادٍ
وقال ابن جريرٍ: حدّثني يعقوب، حدّثني ابن عليّة، عن ابن عونٍ، عن عمير بن إسحاق قال: أقبل أبو سفيان في الرّكب من الشّام، وخرج أبو جهلٍ ليمنعه من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه، فالتقوا ببدرٍ، لا يشعر هؤلاء بهؤلاء، ولا هؤلاء بهؤلاء، حتّى التقت السّقاة، ونهد النّاس بعضهم لبعضٍ
وقال محمّد بن إسحاق في السّيرة: ومضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم على وجهه ذلك حتّى إذا كان قريبًا من "الصّفراء" بعث بسبس بن عمرٍو، وعديّ بن أبي الزّغباء الجهنيين، يلتمسان الخبر عن أبي سفيان، فانطلقا حتّى إذا وردا بدرًا فأناخا بعيريهما إلى تلٍّ من البطحاء، فاستقيا في شنٍّ لهما من الماء، فسمعا جاريتين يختصمان، تقول إحداهما لصاحبتها: اقضيني حقّي. وتقول الأخرى: إنّما تأتي العير غدًا أو بعد غدٍ، فأقضيك حقّك. فخلّص بينهما مجدي بن عمرٍو، وقال: صدقت، فسمع ذلك بسبس وعديّ، فجلسا على بعيريهما، حتّى أتيا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فأخبراه الخبر. وأقبل أبو سفيان حين ولّيا وقد حذر، فتقدّم أمام عيره وقال لمجديّ بن عمرٍو: هل أحسست على هذا الماء من أحدٍ تنكره؟ فقال: لا واللّه، إلّا أنّي قد رأيت راكبين أناخا إلى هذا التّلّ، فاستقيا في شنّ لهما، ثمّ انطلقا. فجاء أبو سفيان إلى مناخ بعيريهما، فأخذ من أبعارهما، ففتّه، فإذا فيه النّوى، فقال: هذه واللّه علائف يثرب. ثمّ رجع سريعًا فضرب وجه عيره، فانطلق بها فساحل حتّى إذا رأى أن قد أحرز عيره بعث إلى قريشٍ فقال: إنّ اللّه قد نجّى عيركم وأموالكم ورجالكم، فارجعوا.
فقال أبو جهلٍ: واللّه لا نرجع حتّى نأتي بدرًا -وكانت بدر سوقًا من أسواق العرب -فنقيم بها ثلاثًا، فنطعم بها الطّعام، وننحر بها الجزر ونسقى بها الخمر، وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب وبسيرنا، فلا يزالون يهابوننا بعدها أبدًا.
فقال الأخنس بن شريق: يا معشر بني زهرة، إنّ اللّه قد نجّى أموالكم، ونجّى صاحبكم، فارجعوا. فأطاعوه، فرجعت بنو زهرة، فلم يشهدوها ولا بنو عدي
قال محمّد بن إسحاق: وحدّثني يزيد بن رومان، عن عروة بن الزّبير قال: وبعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم -حين دنا من بدرٍ -عليّ بن أبي طالبٍ، وسعد بن أبي وقّاصٍ، والزّبير بن العوّام، في نفرٍ من أصحابه، يتجسّسون له الخبر فأصابوا سقاةً لقريشٍ: غلامًا لبني سعيد بن العاص، وغلامًا لبني الحجّاج، فأتوا بهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فوجدوه يصلّي، فجعل أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يسألونهما: لمن أنتما؟ فيقولان: نحن سقاة لقريشٍ، بعثونا نسقيهم من الماء. فكره القوم خبرهما، ورجوا أن يكونا لأبي سفيان، فضربوهما فلمّا ذلقوهما قالا نحن لأبي سفيان. فتركوهما، وركع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وسجد سجدتين، ثمّ سلّم وقال: "إذا صدقاكم ضربتموهما، وإذا كذباكم تركتموهما. صدقا، واللّه إنّهما لقريشٍ، أخبراني عن قريشٍ". قالا هم وراء هذا الكثيب الّذي ترى بالعدوة القصوى -والكثيب: العقنقل -فقال لهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "كم القوم؟ " قالا كثيرٌ. قال: "ما عدّتهم؟ " قالا ما ندري. قال: "كم ينحرون كلّ يومٍ؟ " قالا يومًا تسعًا، ويومًا عشرًا، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "القوم ما بين التّسعمائة إلى الألف". ثمّ قال لهما: "فمن فيهم من أشراف قريشٍ؟ " قالا عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو البختري بن هشامٍ، وحكيم بن حزام، ونوفل بن خويلدٍ، والحارث بن عامر بن نوفلٍ، وطعيمة بن عديّ بن [نوفلٍ، والنّضر بن الحارث، وزمعة بن الأسود، وأبو جهل بن هشامٍ، وأميّة] بن خلفٍ، ونبيه ومنبّه ابنا الحجّاج، وسهيل بن عمرٍو، وعمرو بن عبد ودٍّ. فأقبل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم على النّاس فقال: "هذه مكّة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها"
قال محمّد بن إسحاق، رحمه اللّه تعالى: وحدّثني عبد اللّه بن أبي بكر بن حزمٍ: أنّ سعد بن معاذٍ قال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، لمّا التقى النّاس يوم بدرٍ: يا رسول اللّه، ألا نبني لك عريشًا تكون فيه، وننيخ إليك ركائبك، ونلقى عدوّنا، فإن أظفرنا اللّه عليهم وأعزّنا فذاك ما نحب، فقال: وإن تكن الأخرى فتجلس على ركائبك، وتلحق بمن وراءنا من قومنا، فقد -واللّه-تخلّف عنك أقوامٌ ما نحن بأشدّ لك حبًّا منهم، لو علموا أنّك تلقى حربًا ما تخلّفوا عنك، ويوادّونك وينصرونك. فأثنى عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم خيرًا، ودعا له به. فبني له عريشٌ، فكان فيه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأبو بكرٍ، ما معهما غيرهما
قال ابن إسحاق: وارتحلت قريشٌ حين أصبحت، فلمّا أقبلت ورآها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم تصوّب من العقنقل -وهو الكثيب -الّذي جاءوا منه إلى الوادي قال: "اللّهمّ هذه قريشٌ قد أقبلت بفخرها وخيلائها تحادّك وتكذّب رسولك، اللّهمّ أحنهم الغداة"
وقوله: {ليهلك من هلك عن بيّنةٍ ويحيى من حيّ عن بيّنةٍ} قال محمد بن إسحاق: أي ليكفر من كفر بعد الحجّة، لما رأى من الآية والعبرة، ويؤمن من آمن على مثل ذلك.
وهذا تفسيرٌ جيّدٌ. وبسط ذلك أنّه تعالى يقول: إنّما جمعكم مع عدوّكم في مكانٍ واحدٍ على غير ميعادٍ، لينصركم عليهم، ويرفع كلمة الحقّ على الباطل، ليصير الأمر ظاهرًا، والحجّة قاطعةً، والبراهين ساطعةً، ولا يبقى لأحدٍ حجّةٌ ولا شبهةٌ، فحينئذٍ {يهلك من هلك} أي: يستمرّ في الكفر من استمرّ فيه على بصيرةٍ من أمره أنّه مبطلٌ، لقيام الحجّة عليه، {ويحيى من حيّ} أي: يؤمن من آمن {عن بيّنةٍ} أي: حجّةٍ وبصيرةٍ. والإيمان هو حياة القلوب، قال اللّه تعالى: {أومن كان ميتًا فأحييناه وجعلنا له نورًا يمشي به في النّاس} [الأنعام: 122]،وقالت عائشة في قصّة الإفك: فيّ هلك من هلك أي: قال فيها ما قال من الكذب والبهتان والإفك.
وقوله: {وإنّ اللّه لسميعٌ} أي: لدعائكم وتضرّعكم واستغاثتكم به {عليمٌ} أي: بكم وأنّكم تستحقّون النّصر على أعدائكم الكفرة المعاندين). [تفسير القرآن العظيم: 4/ 66-69]

تفسير قوله تعالى: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({إذ يريكهم اللّه في منامك قليلا ولو أراكهم كثيرًا لفشلتم ولتنازعتم في الأمر ولكنّ اللّه سلّم إنّه عليمٌ بذات الصّدور (43) وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقلّلكم في أعينهم ليقضي اللّه أمرًا كان مفعولا وإلى اللّه ترجع الأمور (44)}
قال مجاهدٌ: أراه اللّه إيّاهم في منامه قليلًا فأخبر النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أصحابه بذلك، فكان تثبيتًا لهم.
وكذا قال ابن إسحاق وغير واحدٍ. وحكى ابن جريرٍ عن بعضهم أنّه رآهم بعينه الّتي ينام بها.
وقد روى ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا يوسف بن موسى المدبّر، حدّثنا أبو قتيبة، عن سهلٍ السّرّاج، عن الحسن في قوله: {إذ يريكهم اللّه في منامك قليلا} قال: بعينك.
وهذا القول غريبٌ، وقد صرّح بالمنام هاهنا، فلا حاجة إلى التّأويل الّذي لا دليل عليه
وقوله: {ولوأراكهم كثيرًا لفشلتم} أي: لجبنتم عنهم واختلفتم فيما بينكم، {ولكنّ اللّه سلّم} أي: من ذلك: بأن أراكهم قليلًا {إنّه عليمٌ بذات الصّدور} أي: بما تجنّه الضّمائر، وتنطوي عليه الأحشاء، فيعلم خائنة الأعين وما تخفي الصّدور). [تفسير القرآن العظيم: 4/ 69]

تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله: {وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا} وهذا أيضًا من لطفه تعالى بهم، إذ أراهم إيّاهم قليلًا في رأي العين، فيجرّؤهم عليهم، ويطمعهم فيهم.
قال أبو إسحاق السّبيعي، عن أبي عبيدة، عن عبد اللّه بن مسعودٍ، رضي اللّه عنه، قال: لقد قلّلوا في أعيننا يوم بدرٍ، حتّى قلت لرجلٍ إلى جانبي: تراهم سبعين؟ قال: لا بل [هم] مائةٌ، حتّى أخذنا رجلًا منهم فسألناه، قال كنّا ألفًا. رواه ابن أبي حاتمٍ، وابن جريرٍ.
وقوله: {ويقلّلكم في أعينهم} قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا سليمان بن حربٍ، حدّثنا حمّاد بن زيدٍ، عن الزّبير بن الخرّيت عن عكرمة: {وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقلّلكم في أعينهم} قال: حضّض بعضهم على بعضٍ.
إسنادٌ صحيحٌ.
وقال محمّد بن إسحاق: حدّثني يحيى بن عبّاد بن عبد اللّه بن الزّبير، عن أبيه في قوله تعالى: {ليقضي اللّه أمرًا كان مفعولا} أي: ليلقي بينهم الحرب، للنّقمة ممّن أراد الانتقام منه، والإنعام على من أراد تمام النّعمة عليه من أهل ولايته.
ومعنى هذا أنّه تعالى أغرى كلًّا من الفريقين بالآخر، وقلّله في عينه ليطمع فيه، وذلك عند المواجهة. فلمّا التحم القتال وأيّد اللّه المؤمنين بألفٍ من الملائكة مردفين، بقي حزب الكفّار يرى حزب الإيمان ضعفيه، كما قال تعالى: {قد كان لكم آيةٌ في فئتين التقتا فئةٌ تقاتل في سبيل اللّه وأخرى كافرةٌ يرونهم مثليهم رأي العين واللّه يؤيّد بنصره من يشاء إنّ في ذلك لعبرةً لأولي الأبصار} [آل عمران: 13]،وهذا هو الجمع بين هاتين الآيتين، فإنّ كلًّا منها حقٌّ وصدقٌ، وللّه الحمد والمنّة). [تفسير القرآن العظيم: 4/ 69-70]


رد مع اقتباس