عرض مشاركة واحدة
  #8  
قديم 18 شعبان 1435هـ/16-06-2014م, 02:09 PM
أم إسماعيل أم إسماعيل غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Dec 2010
المشاركات: 4,914
افتراضي

تفاسير القرن السادس الهجري

تفسير قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: واعلموا أنّما غنمتم من شيءٍ فأنّ للّه خمسه وللرّسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السّبيل إن كنتم آمنتم باللّه وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان واللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ (41)
موضع «أن» الثانية رفع، التقدير «فحكمه أن»، فهي في موضع خبر الابتداء، والغنيمة في اللغة ما يناله الرجل أو الجماعة بسعي من ذلك قول الشاعر [امرؤ القيس]: [الوافر]
وقد طفت في الآفاق حتى = رضيت من الغنيمة بالإياب
وقال آخر: [البسيط]
ومطعم الغنم يوم الغنم مطعمه = أنّى توجّه والمحروم محروم
ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في الرهن: «له غنمه وعليه حرمه» وقوله: «الصيام في الشتاء هو الغنيمة الباردة» فالشيء الذي يناله المسلمون من عدوهم بالسعي وإيجاف الخيل والركاب غنيمة، ولزم هذا الاسم هذا المعنى حتى صار عرفا له، والفيء مأخوذ من فاء إذا رجع وهو كل ما دخل على المسلمين من غير حرب ولا إيجاف كخراج الأرض وجزية الجماجم وخمس الغنيمة ونحو هذا.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والزكوات أيضا مال على حدته، أحكامه منفردة دون أحكام هذين، قال سفيان الثوري وعطاء بن السائب: الغنيمة ما أخذ عنوة والفيء ما أخذ صلحا، وهذا قريب مما بيناه، وقال قتادة: الفيء والغنيمة شيء واحد فيهما الخمس، وهذه الآية التي في الأنفال ناسخة لقوله في سورة الحشر وما أفاء اللّه على رسوله من أهل القرى [الآية: 7] وذلك أن تلك كانت الحكم أولا، ثم أعطى الله أهلها الخمس فقط وجعل الأربعة الأخماس في المقاتلين.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا قول ضعيف نص العلماء على ضعفه وأن لا وجه له من جهات، منها أن هذه السورة نزلت قبل سورة الحشر هذه ببدر، وتلك في بني النضير وقرى عرينة، ولأن الآيتين متفقتان وحكم الخمس وحكم تلك الآية واحد لأنها نزلت في بني النضير حين جلوا وهربوا وأهل فدك حين دعوا إلى صلح ونال المسلمون ما لهم دون إيجاف، وحكى ابن المنذر عن الشافعي أن في الفيء الخمس، وأنه كان في قرى عرينة زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وأن أربعة أخماسها كان للرسول صلى الله عليه وسلم خاصة دون المسلمين يضعها حيث شاء.
وقال أبو عبيدة: هذه الآية ناسخة لقوله في أول السورة قل الأنفال للّه والرّسول [الأنفال: 1] ولم يخمس رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائم بدر فنسخ حكمه في ترك التخميس بهذه الآية.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ويظهر في قول علي بن أبي طالب في البخاري كانت لي شارق من نصيبي من المغنم ببدر وشارق أعطانيها رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخمس حينئذ أن غنيمة بدر خمست فإن كان ذلك فسد قول أبي عبيدة، ويحتمل أن يكون الخمس الذي ذكره علي بن أبي طالب من إحدى الغزوات التي كانت بين بدر وأحد، فقد كانت غزوة بني سليم وغزوة السويق وغزوة ذي أمر وغزوة نجران ولم يحفظ فيها قتال ولكن يمكن أن غنمت غنائم والله أعلم.
وقوله في هذه الآية من شيءٍ ظاهره عام ومعناه الخصوص، فأما الناض والمتاع والأطفال والنساء وما لا يؤكل لحمه من الحيوان ويصح تملكه فليس للإمام في جميع ذلك ما كثر منه وما قل كالخايط والمخيط إلا أن يأخذ الخمس ويقسم الباقي في أهل الجيش، وأما الأرض فقال فيها مالك: يقسمها الإمام إن رأى ذلك صوابا كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بخيبر، ولا يقسمها إن أداه اجتهاده إلى ذلك كما فعل عمر بأرض مصر سواد الكوفة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: لأن فعل عمر ليس بمخالف لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، إذ ليست النازلة واحدة بحسب قرائن الوقتين وحاجة الصحابة وقلتهم، وهذا كله انعكس في زمان عمر، وأما الرجال ومن شارف البلوغ من الصبيان فالإمام عند مالك وجمهور العلماء مخير فيهم على خمسة أوجه، منها القتل وهو مستحسن في أهل الشجاعة والنكاية، ومنها الفداء وهو مستحسن في ذي المنصب الذي ليس بشجاع ولا يخاف منه رأي ولا مكيدة لانتفاع المسلمين بالمال الذي يؤخذ منه، ومنها المن وهو مستحسن فيمن يرجى أن يحنو على أسرى المسلمين ونحو ذلك من القرائن، ومنها الاسترقاق، ومنها ضرب الجزية والترك في الذمة، وأما الطعام والغنم ونحوهما مما يؤكل فهو مباح في بلد العدو يأكله الناس فما بقي كان في المغنم.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وأما أربعة أخماس ما غنم فيقسمه الإمام على الجيش، ولا يختص بهذه الآية ذكر القسمة فأنا أختصره هنا، وأما الخمس فاختلف العلماء فيه، فقال مالك رحمه الله: الرأي فيه للإمام يلحقه ببيت الفيء ويعطي من ذلك البيت لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رآه، كما يعطي منه اليتامى والمساكين وغيرهم، وإنما ذكر من ذكر على وجه التنبيه عليهم لأنهم من أهم من يدفع إليه، قال الزجّاج محتجا لمالك:
قال الله تعالى: يسئلونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خيرٍ فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السّبيل [البقرة: 215].
وللإمام بإجماع أن ينفق في غير هذه الأصناف إذا رأى ذلك، وقالت فرقة: كان الخميس يقسم على ستة أقسام، قسم لله وهو مردود على فقراء المسلمين أو على بيت الله، وقسم للنبي صلى الله عليه وسلم، وقسم لقرابته، وقسم لسائر من سمي، حكى القول منذر بن سعيد ورد عليه، قال أبو العالية الرياحي: كان النبي صلى الله عليه وسلم، يقبض من خمس الغنيمة قبضة فيجعلها للكعبة فذلك لله، ثم يقسم الباقي على خمسة، قسم له وقسم لسائر من سمي، وقال الحسن بن محمد وابن عباس وإبراهيم النخعي وقتادة والشافعي: قوله فأنّ للّه خمسه استفتاح كلام كما يقول الرجل لعبده قد أعتقك الله وأعتقتك على جهة التبرك وتفخيم الأمر، والدنيا كلها لله، وقسم الله وقسم الرسول واحد، وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يقسم الخمس على خمسة أقسام كما تقدم، وقال ابن عباس أيضا فيما روى عنه الطبري، الخمس مقسوم على أربعة أقسام، وسهم الرسول صلى الله عليه وسلم، لقرابته وليس لله ولا للرسول شيء، وقالت فرقة: قسم الرسول صلى الله عليه وسلم، بعد موته مردود على أهل الخمس القرابة وغيرها، وقالت فرقة: هو مردود على الجيش أصحاب الأربعة الأخماس، وقال علي بن أبي طالب: يلي الإمام منهم سهم الله ورسوله، وقالت فرقة: هو موقوف لشراء العدد وللكراء في سبيل الله، وقال إبراهيم النخعي وهو الذي اختاره أبو بكر وعمر فيه، وقال أصحاب الرأي: الخمس بعد النبي صلى الله عليه وسلم، مقسوم ثلاثة أقسام، قسم لليتامى، وقسم للمساكين وقسم لابن السبيل، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يورث، فسقط سهمه وسهم ذوي القربى، وحجتهم فيه منع أبي بكر وعمر وعثمان لذوي القربى.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ولم يثبت المنع بل عورض بنو هاشم بأن قريشا قربى، وقيل لم يكن في مدة أبي بكر مغنم، وقال الشافعي: يعطى أهل الخمس منه ولا بد ويفضل الإمام أهل الحاجة ولكن لا يحرم صنفا منهم حرمانا تاما، وقول مالك رحمه الله: إن للإمام أن يعطي الأحوج وإن حرم الغير.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مخصوصا من الغنيمة بثلاثة أشياء كان له خمس الخمس، وكان له سهم في سائر الأربعة الأخماس، وكان له صفيّ يأخذه قبل القسمة، دابة أو سيف، أو جارية ولا صفيّ لأحد بعده بإجماع إلا ما قال أبو ثور من أن الصفيّ باق للإمام، وهو قول معدود في شواذ الأقوال، وذوو القربى قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال علي بن الحسين وعبد الله بن الحسن وعبد الله بن عباس: هم بنو هاشم فقط، فقال مجاهد: كان آل محمد صلى الله عليه وسلم لا تحل لهم الصدقة فجعل لهم خمس الخمس، قال ابن عباس: ولكن أبى ذلك علينا قومنا، وقالوا قريش كلها قربى، وقال الشافعي: هم بنو هاشم وبنو المطلب فقط، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعثمان بن عفان وجبير بن مطعم في وقت قسمة سهم ذوي القربى من خيبر على بني هاشم وبني المطلب «إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد ما فارقونا في جاهلية ولا في الإسلام».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: كانوا مع بني هاشم في الشعب وقالت فرقة: قريش كلها قربى، وروي عن علي بن الحسين وعبد الله بن محمد بن علي أنهما قالا: الآية كلها في قريش، والمراد يتامى قريش ومساكينها، وقالت فرقة: سهم القرابة بعد النبي صلى الله عليه وسلم موقوف على قرابته، وقد بعثه إليهم عمر بن عبد العزيز إلى بني هاشم وبني المطلب فقط، وقالت فرقة: هو لقرابة الإمام القائم بالأمر، وقال قتادة: كان سهم ذوي القربى طعمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان حيا، فلما توفي جعل لولي الأمر بعده، وقاله الحسن بن أبي الحسن البصري، وحكى الطبري أيضا عن الحسن أنه قال: اختلف الناس في هذين السهمين بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فقال قوم: سهم النبي صلى الله عليه وسلم للخليفة، وقال قوم: سهم النبي صلى الله عليه وسلم لقرابة النبي صلى الله عليه وسلم، وقال قوم: سهم القرابة لقرابة الخليفة، فاجتمع رأيهم أن يجعلوا هذين السهمين في الخيل والعدة، فكان على ذلك مدة أبي بكر رضي الله عنه، قال غير الحسن وعمر واليتامى الذين فقدوا آباءهم من الصبيان، واليتم في بني آدم من قبل الآباء وفي البهائم من قبل الأمهات، والمساكين الذين لا شيء لهم وهو مأخوذ من السكون وقلة الحراك، وابن السّبيل الرجل المجتاز الذي قد احتاج في سفر، وسواء كان غنيّا في بلده أو فقيرا فإنه ابن السبيل يسمى بذلك إما لأن السبيل تبرزه فكأنها تلده، وإما لملازمة السبيل كما قالوا ابن ماء وأخو سفر، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة ابن زنى» وقد تقدم.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وقد اقتضبت فقه هذه الآية حسب الاختصار والله المستعان.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وما في قوله أنّما غنمتم بمعنى الذي، وفي قوله غنمتم ضمير يعود عليها، وحكي عن الفراء أنه جوز أن تكون «ما» شرطية بتقدير أنه ما، وحذف هذا الضمير لا يجوز عند سيبويه إلا في الشعر، ومنه: إن من يدخل الكنيسة يوما وقرأ الجمهور «فأن لله» بفتح الهمزة، وقرأ الجعفي عن أبي بكر عن عاصم وحسين عن أبي عمرو «فإن» بكسر الهمزة، وقرأ الحسن «خمسه» بسكون الميم، وقوله تعالى: إن كنتم آمنتم باللّه الآية، قال الزجّاج عن فرقة: المعنى فاعلموا أن الله مولاكم إن كنتم، «فإن» متعلقة بهذا الوعد، وقال أيضا عن فرقة: إنها متعلقة بقوله واعلموا أنّما غنمتم.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا هو الصحيح، لأن قوله واعلموا يتضمن بانقياد وتسليم لأمر الله في الغنائم فعلق «أن» بقوله واعلموا على هذا المعنى أي إن كنتم مؤمنين بالله فانقادوا وسلموا لأمر الله فيما أعلمكم به من حال قسمة الغنيمة، وقوله وما أنزلنا عطف على قوله باللّه والمشار إليه ب ما هو النصر والظهور الذي أنزله الله يوم بدر على نبيه وأصحابه، أي إن كنتم مؤمنين بالله وبهذه الآيات والعظائم الباهرة التي أنزلت يوم بدر، ويحتمل أن تكون الإشارة إلى قرآن نزل يوم بدر أو في قصة يوم بدر على تكره في هذا التأويل الأخير.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ويحتمل أن يكون المعنى واعلموا أنما غنمتم يوم الفرقان يوم التقى الجمعان فإن خمسه لكذا وكذا إن كنتم آمنتم، أي فانقادوا لذلك وسلموا وهذا تأويل حسن في المعنى، ويعترض فيه الفصل بين الظرف وما تعلق به بهذه الجملة الكثيرة من الكلام، ويوم الفرقان معناه يوم الفرق بين الحق والباطل بإعزاز الإسلام وإذلال الشرك، والفرقان مصدر من فرق يفرق، والجمعان يريد جمع المسلمين وجمع الكفار، وهو يوم الوقعة التي قتل فيها صناديد قريش ببدر، ولا خلاف في ذلك، وعليه نص ابن عباس ومجاهد ومقسم والحسن بن علي وقتادة وغيرهم. وكانت يوم الجمعة السابع عشر من رمضان في السنة الثانية من الهجرة هذا قول جمهور الناس.
وقال أبو صالح: لتسع عشرة، وشك في ذلك عروة بن الزبير، وقال لتسع عشرة أو لسبع عشرة، والصحيح ما عليه الجمهور، وقوله عز وجل: واللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ، يعضد أن قوله وما أنزلنا على عبدنا يراد به النصر والظفر، أي الآيات والعظائم من غلبة القليل الكثير، وذلك بقدرة الله تعالى الذي هو على كل شيء قدير). [المحرر الوجيز: 4/ 192-199]

تفسير قوله تعالى: {إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: إذ أنتم بالعدوة الدّنيا وهم بالعدوة القصوى والرّكب أسفل منكم ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ولكن ليقضي اللّه أمراً كان مفعولاً ليهلك من هلك عن بيّنةٍ ويحيى من حيّ عن بيّنةٍ وإنّ اللّه لسميعٌ عليمٌ (42)
العامل في إذ قوله التقى وبالعدوة شفير الوادي وحرفه الذي يتعذر المشي فيه بمنزلة رحا البير لأنها عدت ما في الوادي من ماء ونحوه أن يتجاوز الوادي أي منعته، ومنه قول الشاعر:
عدتني عن زيارتك العوادي = وحالت دونها حرب زبون
ولأنها ما عدا الوادي أي جاوزه، وتسمى الضفة والفضاء المساير للوادي عدوة للمجاورة، وهذه هي العدوة التي في الآية، وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي «بالعدوة» بضم العين، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «بالعدوة» بكسر العين، وهما لغتان، وقرأ الحسن بن أبي الحسن وقتادة وعمرو «بالعدوة» بفتح العين، ويمكن أن تكون تسمية بالمصدر، قال أبو الفتح: الذي في هذا أنها لغة ثالثة كقولهم في اللبن رغوة ورغوة ورغوة، وروى الكسائي: كلمته بحضرة فلان وحضرته إلى سائر نظائر، ذكر أبو الفتح كثيرا منها، وقوله الدّنيا والقصوى إنما بالإضافة إلى المدينة، وفي حرف ابن مسعود «إذ أنتم بالعدوة العليا وهم بالعدوة السفلى»، ووادي بدر آخذ بين الشرق والقبلة منحرف إلى البحر الذي هو قريب من ذلك الصقع، والمدينة من الوادي من موضع الوقعة منه في الشرق وبينهما مرحلتان، حدثني أبي أنه رأى هذه المواضع على ما وصفت وقال ابن عباس: بدر بين مكة والمدينة، والدّنيا من الدنو، والقصوى من القصو، وهو البعد، وكان القياس أن تكون القصيا لكنه من الشاذ، وقال الخليل في العين: شذت لفظتان وهما القصوى والفتوى، وكان القياس فيهما بالياء كالدنيا والعليا،
والرّكب بإجماع من المفسرين غير أبي سفيان، ولا يقال ركب إلا لركاب الإبل وهو من أسماء الجمع، وقد يجمع راكب عليه كصاحب وصحب وتاجر وتجر، ولا يقال ركب لما كثر جدا من الجموع.
وقال القتبي: الركب العشرة ونحوها، وهذا غير جيد لأن النبي صلى الله عليه وسلم، قد قال «والثلاثة ركب» الحديث وقوله أسفل في موضع خفض تقديره في مكان أسفل كذا قال سيبويه، قال أبو حاتم: نصب «أسفل» على الظرف ويجوز «الركب أسفل» على معنى وموضع الركب أسفل أو الركب مستقرا أسفل.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وكان الركب ومدبر أمره أبو سفيان بن حرب قد نكب عن بدر حين نذر بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأخذ سيف البحر فهو أسفل بالإضافة إلى أعلى الوادي من حيث يأتي، وقال مجاهد في كتاب الطبري: أقبل أبو سفيان وأصحابه من الشام تجارا لم يشعروا بأصحاب بدر ولم يشعر أصحاب محمد بكفار قريش ولا كفار قريش بمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى التقوا على ماء بدر من يسقي لهم كلهم، فاقتتلوا فغلبهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فأسروهم.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وفي هذا تعقب، وكان من هذه الفرق شعور يبين من الوقوف على القصة بكمالها، وقوله ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد قال الطبري وغيره: لو تواعدتم على الاجتماع ثم علمتم كثرتهم وقلتكم لخالفتم ولم تجتمعوا معهم، وقال المهدوي: المعنى أي لاختلفتم بالقواطع والعوارض القاطعة بين الناس.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا نيل واضح، وإيضاحه أن المقصد من الآية نعمة الله وقدرته في قصة بدر وتيسيره ما يسر من ذلك، فالمعنى إذ هيأ الله لكم هذه الجمال ولو تواعدتم لها لاختلفتم إلا مع تيسير الذي تمم ذلك، وهذا كما تقول لصاحبك في أمر سناه الله دون تعب كثير: ولو بنينا على هذا وسعينا فيه لم يتم هكذا، ثم بين تعالى أن ذلك إنما كان بلطف الله عز وجل ليقضي اللّه أمراً أي لينفذ ويظهر أمرا قد قدره في الأول مفعولًا لكم بشرط وجودكم في وقت وجودكم، وذلك كله معدوم عنده، وقوله تعالى: ليهلك من هلك عن بيّنةٍ الآية، قال الطبري: المعنى ليقتل من قتل من كفار قريش وغيرهم ببيان من الله وإعذار بالرسالة، ويحيى أيضا ويعيش من عاش عن بيان منه أيضا وإعذار لا حجة لأحد عليه، فالهلاك والحياة على هذا التأويل حقيقتان، وقال ابن إسحاق وغيره: معنى ليهلك أي ليكفر، ويحيى أي ليؤمن، فالحياة والهلاك على هذا مستعارتان، والمعنى أن الله تعالى جعل قصة بدر عبرة وآية ليؤمن من آمن عن وضوح وبيان ويكفر أيضا من كفر عن مثل ذلك، وقرأ الناس «ليهلك» بكسر اللام الثانية وقرأ الأعمش «ليهلك» بفتح اللام، ورواها عصمة عن أبي بكر عن عاصم، و «البينة» صفة أي عن قضية بينة، واللام الأولى في قوله ليهلك رد على اللام في قوله ليقضي.
وقرأ ابن كثير في رواية قنبل وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص «من حيّ» بياء واحدة مشددة، وقرأ نافع وابن كثير في رواية البزي وعاصم في رواية أبي بكر «من حيي» بإظهار الياءين وكسر الأولى وفتح الثانية، قال من قرأ «حيّ» فلأن الياء قد لزمتها الحركة فصار الفعل بلزوم الحركة لها مشبها بالصحيح مثل عض وشم ونحوه، ألا ترى أن حذف الياء من جوار في الجر والرفع لا يطرد في حال النصب إذا قلت رأيت جواري لمشابهتها بالحركة سائر الحروف الصحاح، ومنه قوله كلّا إذا بلغت التّراقي [القيامة: 26]، وعلى نحو «حيّ» جاء قول الشاعر: [مجزوء الكامل]
عيّوا بأمرهم كما = عيّت ببيضتها الحمامه
ومنه قول لبيد: [الرمل]
سألتني جارتي عن أمتي = وإذا ما عيّ ذو اللب سأل
وقول المتلمس: [الطويل]
فهذا أوان العرض حيّ ذبابه = زنابيره والأزرق المتلمس
ويروى جن ذبابه،
قال أبو علي وغيره: هذا أن كل موضع تلزم الحركة فيه ياء مستقبلية فالإدغام في ماضيه جائز، ألا ترى أن قوله تعالى: على أن يحيي الموتى [الأحقاف: 33، القيامة: 40] لا يجوز الإدغام فيه لأن حركة النصب غير لازمة، ألا ترى أنها تزول في الرفع وتذهب في الجزم، ولا يلتفت إلى ما أنشد بعضهم لأنه بيت مجهول: [الكامل]
وكأنها بين النساء سبيكة = تمشي بسدة بيتها فتعي
قال أبو علي وأما قراءة من قرأ «حيي»، فبين ولم يدغم، فإن سيبويه قال: أخبرنا بهذه اللغة يونس، قال وسمعنا بعض العرب يقول أحيياء قال أبو حاتم: القراءة إظهار الياءين والإدغام حسن فاقرأ كيف تعلمت فإن اللغتين مشهورتان في كلام العرب، والخط فيه ياء واحدة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وفي هذه اللفظة استوعب أبو علي القول فيما تصرف من «حيي» كالحي الذي هو مصدر منه وغيره). [المحرر الوجيز: 4/ 199-204]

تفسير قوله تعالى: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: إذ يريكهم اللّه في منامك قليلاً ولو أراكهم كثيراً لفشلتم ولتنازعتم في الأمر ولكنّ اللّه سلّم إنّه عليمٌ بذات الصّدور (43) وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلاً ويقلّلكم في أعينهم ليقضي اللّه أمراً كان مفعولاً وإلى اللّه ترجع الأمور (44)
المهدوي إذ نصب بتقدير واذكر.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: أو بدل من إذ المتقدمة وهو أحسن، وتظاهرت الروايات أن هذه الآية نزلت في رؤيا رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم، رأى فيها عدد الكفار قليلا فأخبر بذلك أصحابه فقويت نفوسهم وحرضوا على اللقاء، فهذا معنى قوله في منامك أي في نومك قاله مجاهد وغيره.
وروي عن الحسن أن معنى قوله في منامك أي في عينك إذ هي موضع النوم، وعلى هذا التأويل تكون الرواية في اليقظة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا القول ضعيف، وعليه فسر النقاش وذكره عن المازني، والضمير على التأويلين من قوله يريكهم عائد على الكفار من أهل مكة، ومما يضعف ما روي عن الحسن أن معنى هذه الآية يتكرر في التي بعدها، لأن النبي صلى الله عليه وسلم مخاطب في الثانية أيضا، وقد تظاهرت الرواية أن النبي صلى الله عليه وسلم، انتبه وقال لأصحابه أبشروا فلقد نظرت إلى مصارع القوم، ونحو هذا، وقد كان علم أنهم ما بين التسعمائة إلى الألف، فكيف يراهم ببصره بخلاف ما علم، والظاهر أنه رآهم في نومه قليلا قدرهم وحالهم وبأسهم مهزومين مصروعين، ويحتمل أنه رآهم قليلا عددهم، فكان تأويل رؤياه انهزامهم، فالقلة والكثرة على الظاهر مستعارة في غير العدد، كما قالوا: المرء كثير بأخيه، إلى غير ذلك من الأمثلة، والفشل الخور عن الأمر، إما بعد التلبس وإما بعد العزم على التلبس ولتنازعتم أي لتخالفتم وفي الأمر يريد في اللقاء والحرب وسلّم لفظ يعم كل متخوف اتصل بالأمر أو عرض في وجهه فسلم الله من ذلك كله، وعبر بعض الناس أن قال «سلم لكم أمركم» ونحو هذا مما يندرج فيما ذكرناه، وقوله إنّه عليمٌ بذات الصّدور أي بإيمانكم وكفركم فيجازي بحسب ذلك،
وقرأ الجمهور من الناس «ولكنّ الله سلم» بشد النون ونصب المكتوبة وقرأت فرقة «ولكن الله» برفع المكتوبة). [المحرر الوجيز: 4/ 204-206]

تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله وإذ يريكموهم إذ التقيتم الآية، وإذ عطف على الأولى، وهذه الرؤية هي في اليقظة بإجماع، وهي الرؤية التي كانت حين التقوا ووقعت العين على العين، والمعنى أن الله تعالى لما أراد من إنفاذ قضائه في نصرة الإسلام وإظهاره قلل كل طائفة في عيون الأخرى، فوقع الخلل في التخمين والحزر الذي يستعمله الناس في هذا التجسد كل طائفة على الأخرى وتتسبب أسباب الحرب، وروي في هذا عن عبد الله بن مسعود أنه قال: لقد قلت ذلك اليوم لرجل إلى جنبي أتظنهم سبعين؟ قال بل هم مائة، قال فلما هزمناهم أسرنا منهم رجلا فقلنا كم كنتم؟ قال ألفا.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ويرد على هذا المعنى في التقليل ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سأل عما ينحرون كل يوم، فأخبر أنهم يوما عشرا ويوما تسعا، قال هم ما بين التسعمائة إلى الألف، فإما أن عبد الله ومن جرى مجراه لم يعلم بمقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإما أن نفرض التقليل الذي في الآية تقليل القدر والمهابة والمنزلة من النجدة، وتقدم في مثل قوله ليقضي اللّه أمراً كان مفعولًا، والأمر المفعول المذكور في الآيتين هو للقصة بأجمعها، وذهب بعض الناس إلى أنهما لمعنيين من معاني القصة والعموم أولى، وقوله وإلى اللّه ترجع الأمور تنبيه على أن الحول بأجمعه لله وأن كل أمر فله وإليه، وقرأ الحسن وعيسى بن عمر والأعمش «ترجع» بفتح التاء وكسر الجيم، قال أبو حاتم: وهي قراءة عامة الناس، وقرأ الأعرج وابن كثير وأبو عمرو ونافع وغيرهم «ترجع» بضم التاء وفتح الجيم). [المحرر الوجيز: 4/ 206]


رد مع اقتباس