عرض مشاركة واحدة
  #56  
قديم 15 محرم 1439هـ/5-10-2017م, 03:28 PM
جمهرة علوم القرآن جمهرة علوم القرآن غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 7,975
افتراضي

المسألة الخامسة: الجواب عن اختلاف ترتيب السور في مصاحف الصحابة

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (المسألة الخامسة: الجواب عن اختلاف ترتيب السور في مصاحف الصحابة
مصاحف الصحابة وكبار التابعين منها ما كُتب قبل جمع عثمان، ومنها ما كتب بعده أو بقي بعده لم يتلف في زمن عثمان.
فأما ما كان قبل جمع عثمان فإنّ اختلاف الترتيب فيه راجع إلى اجتهاد كلّ قارئ، ولم يكن ترتيب السور في مصاحفهم واجباً عليهم كما أنه لم يكن من الواجب عليهم في التلاوة ترتيب السور.
لكن لمّا جمع عثمان الناسَ على مصحف واحد بترتيب واحد وانعقد الإجماع عليه لم يسغ لأحد أن يكتب مصحفاً يخالف فيه ترتيب سور المصاحف العثمانية.

وقد كان لبعض الصحابة قبل الجمع العثماني مصاحف وصحف كتبوا فيها عدداً من السور تختلف في ترتيبها عن ترتيب السور في المصاحف العثمانية.
قال شقيق بن سلمة: قال عبد الله بن مسعود: «لقد تعلمت النظائر التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرؤهن اثنين اثنين، في كل ركعة»، فقام عبد الله ودخل معه علقمة، وخرج علقمة فسألناه، فقال: عشرون سورة من أول المفصل على تأليف ابن مسعود، آخرهن الحواميم: حم الدخان وعم يتساءلون). رواه البخاري.
فقوله: (على تأليف ابن مسعود) يدلّ على أنّ لها تأليفاً مختلفاً عما يعهده المخاطبون، وكان ذلك التأليف قبل جمع عثمان.

وكان لابن مسعود مصحف، ولأبيّ بن كعب مصحف، ولأبي موسى الأشعري مصحف، ولأبي الدرداء مصحف، ولغيرهم من الصحابة وكبار التابعين مصاحف قبل جمع عثمان، وسيأتي الحديث عنها في درس "مصاحف الصحابة "، وعامّة هذه المصاحف قد أُتلف بأمر عثمان بن عفان، وبقي عدد قليل تأخّر إتلافُه.
وكان بين تلك المصاحف من الاختلاف في الأحرف وترتيب السور ما استدعى الجمع العثماني، بل نُقل ما هو أشدّ من ذلك وهو تضمّن بعض تلك المصاحف لآيات وسور منسوخة التلاوة كسورتي الخلع والحفد.
قال عبد الأعلى بن عبد الأعلى: حدثنا هشام، عن محمد بن سيرين (أن أبيَّ بن كعب كتبهن في مصحفه خمسَهن، أم الكتاب، والمعوذتين، والسورتين، وتركهن ابن مسعود كلهن، وكتب ابن عفان فاتحة الكتاب، والمعوذتين، وترك السورتين). رواه عمر بن شبة.

فأما كتابة السور والآيات المنسوخة في بعض المصاحف قبل جمع عثمان فهو راجع إلى أحد أمرين:
أولهما: عدم العلم بالنسخ، ولا ريب أن اجتماع القراء في زمن عثمان أدعى لانتفاء هذه العلّة، ولذلك لم يثبت في المصاحف العثمانية ما نُسخت تلاوته.
والثاني: أن بقاءها ليس لتلاوتها كما تتلى سور القرآن غير المنسوخة، ولا لإقرائها، وإنما للعلم بها، ولأنّ تلك المصاحف خاصة بأصحابها.

ولمّا جمع عثمان الناس على مصحف واحد عزم على كلّ من عنده مصحف أو صحف فيها قرآن أن يأتي به؛ فسلّمه الناس مصاحفهم فلمّا نسخ ما فيها وأتمّ جمع المصاحف واطمئنّ الصحابة لصحّة الجمع، أمر بحرق بقية المصاحف؛ وبعث إلى الأمصار بمصاحف وأمر بحرق ما سواها.
فأتلفت عامّة المصاحف بأمر عثمان بن عفان رحمه الله كما سبق بيانه، لكن بقي مما لم يتلف: المصحف الذي جمعه أبو بكر؛ فإنّ عثمان ردّه إلى حفصة وبقي إلى زمن معاوية ثم أتلفه مروان بن الحكم.
وكان ابن مسعود قد خطب في الكوفة وأمر الناس ألا يسلموا مصاحفهم؛ ثمّ إنّه استجاب بعد ذلك وأقام مصحفه على المصحف الذي بعث به عثمان إلى أهل الكوفة.
واستقرّ ترتيب السور في المصاحف على ترتيب المصاحف العثمانية، وأجمعت الأمّة على ذلك، فلا يسوغ أن يُكتب مصحف تامّ على ترتيب يخالف ترتيب المصاحف العثمانية.

لكن بقي بين المصاحف أوجهٌ من الاختلاف في الرسم وفي عدّ الآي كما سبق بيانه.

وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أنّ ما خالف المصاحف العثمانية في الترتيب من مصاحف الصحابة فإنما سببه أنه كان قبل العرضة الأخيرة.
قال ابن بطال: (وأما ما روى من اختلاف مصحف أبىّ وعلىّ وعبد الله إنما كان قبل العرض الأخير، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم رتب لهم تأليف السور بعد أن لم يكن فعل ذلك).
وهذا القول أدّاه إليه قوله بتوقيف ترتيب السور، وهو قول مرجوح كما تقدّم، وقد ثبت اختلاف مصاحف الصحابة في الترتيب، وليس كلّ الاختلاف مرجعه إلى النسخ.

وعلى هذا فكلّ اختلاف قبل جمع عثمان فهو مرفوع بالجمع العثماني الذي استقرّ عليه الأمر.
وما بقي من اختلاف في مصاحف بعض الصحابة أو التابعين فالأظهر أنه من بقايا ما لم يُتلف من تلك المصاحف، ثم لم يبق بعد ذلك منها شيء.
قال ابن جريج: أخبرني يوسف بن ماهك، قال: إني عند عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، إذ جاءها عراقي، فقال: أي الكفن خير؟
قالت: (ويحك، وما يضرك؟)
قال: يا أم المؤمنين، أريني مصحفك؟
قالت: (لمَ؟)
قال: (لعلي أؤلّف القرآنَ عليه، فإنه يُقرأ غير مؤلف).
قالت: (وما يضرّكَ أيَّهُ قرأتَ قبل!! إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل، فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر أبدا، ولو نزل: لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنا أبدا، لقد نزل بمكة على محمد صلى الله عليه وسلم وإني لـَجاريةٌ أَلعب: {بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر} وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده).
قال: (فأخرجت له المصحف، فأملت عليه آي السور). رواه البخاري.
قال ابن كثير: (كأنَّ هذا قبل أن يبعث أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه إلى الآفاق بالمصاحف الأئمة المؤلفة على هذا الترتيب المشهور اليوم، وقبل الإلزام به).
وتعقّبه ابن حجر بقوله: (كذا قال وفيه نظر؛ فإن يوسف بن ماهك لم يدرك زمان أرسل عثمان المصاحف إلى الآفاق؛ فقد ذكر المزي أن روايته عن أبيّ بن كعب مرسلة، وأبيّ عاش بعد إرسال المصاحف على الصحيح وقد صرَّح يوسف في هذا الحديث أنه كان عند عائشة حين سألها هذا العراقي)ا.هـ.
قلت: يوسف بن ماهك توفّي سنة 113هـ، وبين جمع عثمان ووفاته نحو 88 سنة؛ ولم أجد له رواية متصلة عمّن مات في زمن عثمان؛ فلعله إنما ولد في زمانه أو بعده.

وقد حُمل سؤال هذا السائل العراقي على أحد أمرين:
أحدهما: أن يكون سؤاله عن ترتيب السور، ويشهد له قولها رضي الله عنها: (وما يضرّك أيّه قرأت قبل).
والثاني: أن يكون سؤاله عن عدد الآي، وهو من علوم القرآن التي يُعنى بها القُرّاء، ويشهد لهذا الاحتمال قولُه: (فأملت عليه آي السور).
قال ابن حجر: (كأن تقول له سورة كذا مثلا كذا آية، الأولى كذا، الثانية إلخ، وهذا يرجع إلى اختلاف عدد الآيات، وفيه اختلاف بين المدني والشامي والبصري، وقد اعتنى أئمة القراء بجمع ذلك وبيان الخلاف فيه)ا.هـ.

والاحتمال الأوّل أجاب عنه ابن حجر بقوله: (الذي يظهر لي أن هذا العراقي كان ممن يأخذ بقراءة ابن مسعود، وكان ابن مسعود لما حضر مصحف عثمان إلى الكوفة لم يوافق على الرجوع عن قراءته ولا على إعدام مصحفه...فكان تأليف مصحفه مغايراً لتأليف مصحف عثمان، ولا شكَّ أنَّ تأليف المصحف العثماني أكثر مناسبة من غيره فلهذا أطلق العراقي أنه غير مؤلف وهذا كله على أن السؤال إنما وقع عن ترتيب السور ويدل على ذلك قولها له وما يضرك أيه قرأت قبل)ا.هـ.
قال: (ويحتمل أن يكون السؤال وقع عن الأمرين).
وقد أحسن ابن حجر رحمه الله الجواب عن هذا الأثر). [جمع القرآن:195 - 200]


رد مع اقتباس