عرض مشاركة واحدة
  #8  
قديم 10 جمادى الآخرة 1435هـ/10-04-2014م, 07:09 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن السادس الهجري

تفسير قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ (14) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله تعالى: {زيّن للنّاس حبّ الشّهوات من النّساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذّهب والفضّة والخيل المسوّمة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدّنيا واللّه عنده حسن المآب (14)}
قرأ جمهور الناس «زين» على بناء الفعل للمفعول ورفع «حبّ» على أنه مفعول لم يسم فاعله، وقرأ الضحاك ومجاهد «زين» على بناء الفعل للفاعل ونصب «حبّ» على أنه المفعول، واختلف الناس من المزين؟ فقالت فرقة: «الله زين ذلك» وهو ظاهر قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأنه قال لما نزلت هذه الآية: «قلت الآن يا رب حين زينتها لنا فنزلت: {قل أأنبّئكم بخيرٍ من ذلكم} [آل عمران: 15]»، وقالت فرقة: «المزين هو الشيطان»، وهذا ظاهر قول الحسن بن أبي الحسن، فإنه قال: «من زينها؟ ما أحد أشد لها ذما من خالقها».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «وإذا قيل زين الله، فمعناه بالإيجاد والتهيئة لانتفاع وإنشاء الجبلة عن الميل إلى هذه الأشياء، وإذا قيل زين الشيطان فمعناه بالوسوسة والخديعة وتحسين أخذها من غير وجوهها. والآية تحتمل هذين النوعين من التزيين ولا يختلف مع هذا النظر». وهذه الآية على كلا الوجهين ابتداء وعظ لجميع الناس، وفي ضمن ذلك توضيح لمعاصري محمد عليه السلام من اليهود وغيرهم، والشّهوات ذميمة واتباعها مرد وطاعتها مهلكة، وقد قال عليه السلام: «حفت النار بالشهوات وحفت الجنة بالمكاره» فحسبك أن النار حفت بها، فمن واقعها خلص إلى النار، وو القناطير جمع قنطار، وهو العقدة الكبيرة من المال، واختلف الناس في تحرير حده كم هو؟ فروى أبي بن كعب، عن النبي عليه السلام أنه قال: «القنطار ألف ومائتا أوقية»، وقال بذلك معاذ بن جبل وعبد الله بن عمر وأبو هريرة وعاصم بن أبي النجود وجماعة من العلماء، وهو أصح الأقوال، لكن القنطار على هذا يختلف باختلاف البلاد في قدر الأوقية، وقال ابن عباس والضحاك بن مزاحم والحسن بن أبي الحسن: «القنطار ألف ومائتا مثقال»، وروى الحسن ذلك مرفوعا عن النبي عليه السلام، قال الضحاك: «وهو من الفضّة ألف ومائتا»، وروي عن ابن عباس أنه قال: «القنطار من الفضّة اثنا عشر ألف درهم، ومن الذّهب ألف دينار»، وروي ذلك عن الحسن والضحاك وقال سعيد بن المسيب: «القنطار ثمانون ألفا»، وقال قتادة: «القنطار مائة رطل من الذّهب أو ثمانون ألف درهم من الفضّة»، وقال السدي: «القنطار ثمانية آلاف مثقال وهي مائة رطل، وقال مجاهد القنطار سبعون ألف دينار»، وروي ذلك عن ابن عمر، وقال أبو نضرة: «القنطار ملء مسك ثور ذهبا».
قال ابن سيده: «هكذا هو بالسريانية»، وقال الربيع بن أنس: «القنطار المال الكثير بعضه على بعض»، وحكى النقاش عن ابن الكلبي: «أن القنطار بلغة الروم ملء مسك ثور ذهبا»، وقال النقاش: «القناطير ثلاثة، والمقنطرة تسعة لأنه جمع الجمع»، وهذا ضعف نظر وكلام غير صحيح، وقد حكى مكي نحوه عن ابن كيسان أنه قال: «لا تكون المقنطرة أقل من تسعة» وحكى المهدوي عنه وعن الفراء: «لا تكون المقنطرة أكثر من تسعة»، وهذا كله تحكم. قال أبو هريرة: «القنطار اثنا عشر ألف أوقية»، وحكى مكي قولا «إن القنطار أربعون أوقية ذهبا أو فضة»، وقاله ابن سيده في المحكم، وقال: «القنطار بلغة بربر ألف مثقال»، وروى أنس بن مالك عن النبي عليه السلام في تفسير قوله تعالى: {وآتيتم إحداهنّ قنطاراً} [النساء: 20] قال: «ألف دينار» ذكره الطبري، وحكى الزجاج أنه قيل: «إن القنطار هو رطل ذهبا أو فضة وأظنها وهما، وإن القول مائة رطل فسقطت مائة للناقل، والقنطار إنما هو اسم المعيار الذي يوزن به، كما هو الرطل والربع، ويقال لما بلغ ذلك الوزن هذا قنطار أي يعدل القنطار»، والعرب تقول: قنطر الرجل إذا بلغ ماله أن يوزن بالقنطار، وقال الزجاج: «القنطار مأخوذ من عقد الشيء وأحكامه والقنطرة المعقودة نحوه، فكأن القنطار عقدة مال».
واختلف الناس في معنى قوله: المقنطرة فقال الطبري: «معناه المضعفة»، وكأن القناطير ثلاثة والمقنطرة تسع، وقد تقدم ذكر هذا النظر، وقال الربيع: «معناه المال الكثير بعضه فوق بعض»، وقال السدي: «معنى المقنطرة، المضروبة حتى صارت دنانير أو دراهم»، وقال مكي: «المقنطرة المكملة»، والذي أقول: إنها إشارة إلى حضور المال وكونه عتيدا، فذلك أشهى في أمره وذلك أنك تقول في رجل غني من الحيوان والأملاك: فلان صاحب قناطير مال أي لو قومت أملاكه لاجتمع من ذلك ما يعدل قناطير، وتقول في صاحب المال الحاضر العتيد هو صاحب قناطير مقنطرة أي قد حصلت كذلك بالفعل بها، أي قنطرت فهي مقنطرة، وذلك أشهى للنفوس وأقرب للانتفاع وبلوغ الآمال. وقد قال مروان بن الحكم: «ما المال إلا ما حازته العياب»، وإذا كان هذا فسواء كان المال مسكوكا، أو غير مسكوك، أما أن المسكوك أشهى لما ذكرناه، ولكن لا تعطي ذلك لفظة المقنطرة.
والخيل: جمع خائل عند أبي عبيدة، سمي بذلك الفرس لأنه يختال في مشيه فهو كطائر وطير، وقال غيره: هو اسم جمع لا واحد له من لفظه، واختلف المفسرون في معنى المسوّمة فقال سعيد بن جبير وابن عباس وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى والحسن والربيع ومجاهد: «معناه الراعية في المروج والمسارح تقول: سامت الدابة أو الشاة إذا سرحت وأخذت سومها من الرعي أي غاية جهدها ولم تقصر عن حال دون حال»، وأسمتها أنا إذا تركتها لذلك، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «في سائمة الغنم الزكاة» ومنه قوله عز وجل: {فيه تسيمون} [النحل: 10] وروي عن مجاهد أنه قال: «المسوّمة معناه المطهمة الحسان»، وقاله عكرمة، سومها الحسن، وروي عن ابن عباس أنه قال: «المسوّمة معناه المعلمة، شيات الخيل في وجوهها» وقاله قتادة، ويشهد لهذا القول بيت لبيد:
وغداة قاع القرنتين أتينهم ....... زجلا يلوح خلالها التّسويم
وأما قول النابغة:
بسمر كالقداح مسوّمات ....... عليها معشر أشباه جنّ
فيحتمل أن يريد المطهمة الحسان، ويحتمل أن يريد المعلمة بالشيات ويحتمل أن يريد المعدة، وقد فسر الناس قوله تعالى: {مسوّمةً عند ربّك} [هود: 83] بمعنى معدة، وقال ابن زيد في قوله تعالى: {والخيل المسوّمة} معناه: «المعدة للجهاد».
قال القاضي أبو محمد عبد الحق:«قوله: للجهاد ليس من تفسير اللفظة»، والأنعام الأصناف الأربعة: الإبل والبقر والضأن والمعز والحرث هنا اسم لكل ما يحرث، وهو مصدر سمي به، تقول: حرث الرجل إذا أثار الأرض لمعنى الفلاحة فيقع اسم الحرث على زرع الحبوب وعلى الجنات وغير ذلك من أنواع الفلاحة. وقوله تعالى: {إذ يحكمان في الحرث} [الأنبياء: 78] قال جمهور المفسرين، كان كرما، والمتاع ما يستمتع به وينتفع مدة ما منحصرة، والمآب المرجع، تقول: آب الرجل يؤوب، ومنه قول الشاعر:
رضيت من الغنيمة بالإياب
وقول الآخر:
... ... ... ... ....... إذا ما القارظ العنزيّ آبا
وقول عبيد:
... ... ... ... ....... وغائب الموت لا يؤوب
وأصل مآب مأوب، نقلت حركة الواو إلى الهمزة وأبدل من الواو ألف، مثل مقال، فمعنى الآية تقليل أمر الدنيا وتحقيرها، والترغيب في حسن المرجع إلى الله تعالى في الآخرة، وفي قوله: {زيّن للنّاس} تحسر ما على نحو ما في قول النبي عليه السلام: «تتزوج المرأة لأربع»- الحديث- وقوله تعالى: {قل أأنبّئكم} [آل عمران: 15] بمثابة قول النبي عليه السلام: «فاظفر بذات الدين» ). [المحرر الوجيز: 2/ 170-175]

تفسير قوله تعالى: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله تعالى: {قل أأنبّئكم بخيرٍ من ذلكم للّذين اتّقوا عند ربّهم جنّاتٌ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواجٌ مطهّرةٌ ورضوانٌ من اللّه واللّه بصيرٌ بالعباد (15)}
في هذه الآية تسلية عن الدنيا وتقوية لنفوس تاركيها، وذكر تعالى حال الدنيا وكيف استقر تزيين شهواتها، ثم جاء الإنباء بخير من ذلك، هازا للنفوس وجامعا لها لتسمع هذا النبأ المستغرب النافع لمن عقل، وأنبئ: معناه أخبر، وذهبت فرقة من الناس إلى أن الكلام الذي أمر النبي عليه السلام بقوله تم في قوله تعالى: {عند ربّهم} و{جنّاتٌ} على هذا مرتفع بالابتداء المضمر تقديره: ذلك جنات، وذهب آخرون إلى أن الكلام تم في قوله: {من ذلكم} وأن قوله: {للّذين} خبر متقدم، و{جنّاتٌ} رفع بالابتداء، وعلى التأويل الأول يجوز في جنّاتٌ الخفض بدلا من خير، ولا يجوز ذلك على التأويل الثاني، والتأويلان محتملان، وقوله: {من تحتها} يعني من تحت أشجارها وعلوها من الغرف ونحوها وخالدين نصب على الحال، وقوله: {وأزواجٌ} عطف على الجنات وهو جمع زوج وهي امرأة الإنسان، وقد يقال زوجة، ولم يأت في القرآن، و{مطهّرةٌ}، معناه من المعود في الدنيا من الأقذار والريب وكل ما يصم في الخلق والخلق، ويحتمل أن يكون الأزواج الأنواع والأشباه، والرضوان، مصدر من الرضى وفي الحديث عن النبي عليه السلام: «أن أهل الجنة إذا استقروا فيها وحصل لكل واحد منهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر قال الله لهم: أتريدون أن أعطيكم ما هو أفضل من هذا؟ قالوا يا ربنا وأي شيء أفضل من هذا؟ فيقول الله تعالى: «أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبدا»، هذا سياق الحديث، وقد يجيء مختلف الألفاظ والمعنى قريب بعضه من بعض، وفي قوله تعالى: {واللّه بصيرٌ بالعباد} وعد ووعيد). [المحرر الوجيز: 2/ 175-176]

تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله تعالى: {الّذين يقولون ربّنا إنّنا آمنّا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النّار (16) الصّابرين والصّادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار (17)}
{الّذين} بدل من {للذين اتقوا} [آل عمران: 15]، فسر في هذه الآية أحوال المتقين الموعودين بالجنات، ويحتمل أن يكون إعراب قوله: {الّذين} في هذه الآية رفعا على القطع وإضمار الابتداء ويحتاج إلى القطع وإضمار فعل في قوله: {الصّابرين} والخفض في ذلك كله على البدل أوجه. ويجوز في الّذين، وما بعده النصب على المدح؟). [المحرر الوجيز: 2/ 176-177]

تفسير قوله تعالى: {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (والصبر في هذه الآية معناه على الطاعات وعلى المعاصي والشهوات، والصدق معناه في الأقوال والأفعال، والقنوت، الطاعة والدعاء أيضا وبكل ذلك يتصف المتقي، والإنفاق معناه في سبيل الله ومظان الأجر كالصلة للرحم وغيرها، ولا يختص هذا الإنفاق بالزكاة المفروضة، والاستغفار طلب المغفرة من الله تعالى، وخص تعالى السحر لما فسر النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: «ينزل ربنا عز وجل كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول، من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ فلا يزال كذلك حتى يطلع الفجر».
وروي في تفسير قول يعقوب عليه السلام: سوف أستغفر لكم ربي، أنه أخر الأمر إلى السحر، وروى إبراهيم بن حاطب عن أبيه قال: «سمعت رجلا في السحر في ناحية المسجد يقول: رب أمرتني فأطعتك، وهذا سحر فاغفر لي، فنظرت فإذا ابن مسعود»، وقال أنس بن مالك: «أمرنا أن نستغفر بالسحر سبعين استغفارة» ، وقال نافع: «كان ابن عمر يحيي الليل صلاة ثم يقول: يا نافع آسحرنا؟ فأقول- لا- فيعاود الصلاة ثم يسأل، فإذا قلت نعم قعد يستغفر»، فلفظ الآية إنما يعطي طلب المغفرة، وهكذا تأوله من ذكرناه من الصحابة، وقال قتادة: «المراد بالآية المصلون بالسحر»، وقال زيد بن أسلم: «المراد بها الذين يصلون صلاة الصبح في جماعة وهذا كله يقترن به الاستغفار، والسحر والسحر، بفتح الحاء وسكونها آخر الليل»، قال الزجاج وغيره: «هو قبل طلوع الفجر»، وهذا صحيح لأن ما بعده الفجر هو من اليوم لا من الليلة، وقال بعض اللغويين: السحر من ثلث الليل الآخر إلى الفجر.
قال الفقيه الإمام: والحديث في التنزل وهذه الآية في الاستغفار يؤيدان هذا، وقد يجيء في أشعار العرب ما يقتضي أن حكم السحر يستمر فيما بعد الفجر نحو قول امرئ القيس:
يعلّ به برد أنيابها ....... إذا غرّد الطّائر المستحر
يقال: أسحر واستحر إذا دخل في السحر، وكذلك قولهم: نسيم السحر، يقع لما بعد الفجر، وكذلك قول الشاعر: ربيع بن زياد
تجد النساء حواسرا يندبنه ....... قد قمن قبل تبلج الأسحار
فقد قضى أن السحر يتبلج بطلوع الفجر، ولكن حقيقة السحر في هذه الأحكام الشرعية من الاستغفار المحمود، ومن سحور الصائم، ومن يمين لو وقعت إنما هي من ثلث الليل الباقي إلى السحر). [المحرر الوجيز: 2/ 177-178]


رد مع اقتباس