عرض مشاركة واحدة
  #10  
قديم 16 جمادى الآخرة 1435هـ/16-04-2014م, 04:39 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن الثامن الهجري

تفسير قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {حرّمت عليكم الميتة والدّم ولحم الخنزير وما أهلّ لغير اللّه به والمنخنقة والموقوذة والمتردّية والنّطيحة وما أكل السّبع إلّا ما ذكّيتم وما ذبح على النّصب وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسقٌ اليوم يئس الّذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا فمن اضطرّ في مخمصةٍ غير متجانفٍ لإثمٍ فإنّ اللّه غفورٌ رحيمٌ (3) }
يخبر تعالى عباده خبرًا متضمّنًا النّهي عن تعاطي هذه المحرّمات من الميتة وهي: ما مات من الحيوان حتف أنفه، من غير ذكاةٍ ولا اصطيادٍ، وما ذاك إلّا لما فيها من المضرّة، لما فيها من الدّم المحتقن، فهي ضارّةٌ للدّين وللبدن فلهذا حرّمها اللّه، عزّ وجلّ، ويستثني من الميتة السّمك، فإنّه حلالٌ سواءٌ مات بتذكيةٍ أو غيرها، لما رواه مالكٌ في موطّئه، والشّافعيّ وأحمد في مسنديهما، وأبو داود والتّرمذيّ والنّسائيّ وابن ماجه في سننهم، وابن خزيمة وابن حبّان في صحيحيهما، عن أبي هريرة، أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم سئل عن ماء البحر، فقال: "هو الطّهور ماؤه الحلّ ميتته ".
وهكذا الجراد، لما سيأتي من الحديث، وقوله: {والدّم} يعني [به] المسفوح؛ لقوله: {أو دمًا مسفوحًا} [الأنعام: 145] قاله ابن عبّاسٍ وسعيد بن جبير.
قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا كثير بن شهابٍ المذحجي، حدّثنا محمّد بن سعيد بن سابقٍ، حدّثنا عمرٌو-يعني ابن قيسٍ-عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ: أنه سئل عن الطّحال فقال: كلوه فقالوا: إنّه دمٌ. فقال: إنّما حرم عليكم الدّم المسفوح.
وكذا رواه حمّاد بن سلمة، عن يحيى بن سعيدٍ، عن القاسم، عن عائشة، قالت: إنّما نهى عن الدّم السّافح.
وقد قال أبو عبد اللّه محمّد بن إدريس الشّافعيّ: حدّثنا عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه عن ابن عمر قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم "أحلّ لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان فالحوت والجراد، وأما الدمان فالكبد والطّحال".
وكذا رواه أحمد بن حنبلٍ، وابن ماجه، والدّارقطنيّ، والبيهقيّ، من حديث عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم وهو ضعيفٌ. قال الحافظ البيهقيّ: ورواه إسماعيل بن أبي إدريس عن أسامة، وعبد اللّه، وعبد الرّحمن بن زيد بن أسلم، عن ابن عمر مرفوعًا.
قلت: وثلاثتهم ضعفاء، ولكنّ بعضهم أصلح من بعضٍ. وقد رواه سليمان بن بلالٍ أحد الأثبات، عن زيد بن أسلم، عن ابن عمر، فوقفه بعضهم عليه. قال الحافظ أبو زرعة الرّازّيّ: وهو أصحّ.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا عليّ بن الحسن، حدّثنا محمّد بن عبد الملك بن أبي الشّوارب، حدّثنا بشير بن سريج، عن أبي غالبٍ، عن أبي أمامة -وهو صديّ بن عجلان-قال: بعثني رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلى قومي أدعوهم إلى اللّه ورسوله، وأعرض عليهم شرائع الإسلام، فأتيتهم، فبينا نحن كذلك إذ جاؤوا بقصعة من دمٍ، فاجتمعوا عليها يأكلونها، قالوا: هلمّ يا صديّ، فكل. قال: قلت: ويحكم! إنّما أتيتكم من عند محرّم هذا عليكم، وأنزل اللّه عليه، قالوا: وما ذاك؟ قال: فتلوت عليهم هذه الآية: {حرّمت عليكم الميتة والدّم [ولحم الخنزير]} الآية.
ورواه الحافظ أبو بكر بن مردويه من حديث ابن أبي الشّوارب بإسنادٍ مثله، وزاد بعد هذا السّياق: قال: فجعلت أدعوهم إلى الإسلام، ويأبون عليّ، فقلت لهم: ويحكم، اسقوني شربةً من ماءٍ، فإنّي شديد العطش -قال: وعليّ عباءتي-فقالوا: لا ولكن ندعك حتّى تموت عطشًا. قال: فاغتممت وضربت برأسي في العباء، ونمت على الرّمضاء في حرٍّ شديدٍ، قال: فأتاني آتٍ في منامي بقدح من زجاجٍ لم ير النّاس أحسن منه، وفيه شرابٌ لم ير النّاس [شرابًا] ألذّ منه، فأمكنني منها فشربتها، فحيث فرغت من شرابي استيقظت، فلا واللّه ما عطشت ولا عريت بعد تيك الشربة.
ورواه الحاكم في مستدركه، عن عليّ بن حمشاذ عن عبد اللّه بن أحمد بن حنبلٍ، حدّثني عبد اللّه بن سلمة بن عيّاشٍ العامريّ، حدّثنا صدقة بن هرمز، عن أبي غالبٍ، عن أبي أمامة، قد ذكر نحوه وزاد بعد قوله: "بعد تيك الشّربة": فسمعتهم يقولون: أتاكم رجلٌ من سراة قومكم، فلم تمجعوه بمذقةٍ، فأتوني بمذقةٍ فقلت: لا حاجة لي فيها، إن اللّه أطعمني وسقاني، وأريتهم بطني فأسلموا عن آخرهم.
وما أحسن ما أنشد الأعشى في قصيدته الّتي ذكرها ابن إسحاق:
وإياك والميتات لا تقربنّها = ولا تأخذنّ عظمًا حديدًا فتفصدا
أي: لا تفعل كما يفعل الجاهليّة، وذلك أنّ أحدهم كان إذا جاع أخذ شيئًا محدّدًا من عظمٍ ونحوه، فيفصد به بعيره أو حيوانًا من أيّ صنفٍ كان، فيجمع ما يخرج منه من الدّم فيشربه؛ ولهذا حرّم اللّه الدّم على هذه الأمّة، ثمّ قال الأعشى:
وذا النّصب المنصوب لا تأتينّه = ولا تعبد الأصنام واللّه فاعبدا
وقوله: {ولحم الخنزير} يعني: إنسيّه ووحشيّه، واللّحم يعمّ جميع أجزائه حتّى الشّحم، ولا يحتاج إلى تحذلق الظّاهريّة في جمودهم هاهنا وتعسّفهم في الاحتجاج بقوله: {فإنّه رجسٌ أو فسقًا} يعنون قوله تعالى: {إلا أن يكون ميتةً أو دمًا مسفوحًا أو لحم خنزيرٍ فإنّه رجسٌ} [الأنعام: 145] أعادوا الضّمير فيما فهموه على الخنزير، حتّى يعمّ جميع أجزائه، وهذا بعيدٌ من حيث اللّغة، فإنّه لا يعود الضّمير إلّا إلى المضاف دون المضاف إليه، والأظهر أنّ اللّحم يعمّ جميع الأجزاء كما هو المفهوم من لغة العرب، ومن العرف المطّرد، وفي صحيح مسلمٍ، عن بريدة بن الخصيب الأسلميّ، رضي اللّه عنه، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "من لعب بالنردشير فكأنّما صبغ يده في لحم الخنزير ودمه" فإذا كان هذا التّنفير لمجرّد اللّمس فكيف يكون التّهديد والوعيد الأكيد على أكله والتّغذّي به، وفيه دلالةٌ على شمول اللّحم لجميع الأجزاء من الشّحم وغيره.
وفي الصّحيحين: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "إنّ اللّه حرّم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام". فقيل: يا رسول اللّه، أرأيت شحوم الميتة، فإنّها تطلى بها السّفن، وتدهن بها الجلود، ويستصبح بها النّاس؟ فقال: "لا هو حرامٌ".
وفي صحيح البخاريّ من حديث أبي سفيان: أنّه قال لهرقل ملك الروم: "نهانا عن الميتة والدم".
وقوله: {وما أهلّ لغير اللّه به} أي: ما ذبح فذكر عليه اسم غير اللّه، فهو حرامٌ؛ لأنّ اللّه أوجب أن تذبح مخلوقاته على اسمه العظيم، فمتى عدل بها عن ذلك وذكر عليها اسم غيره من صنمٍ أو طاغوتٍ أو وثنٍ أو غير ذلك، من سائر المخلوقات، فإنّها حرامٌ بالإجماع. وإنّما اختلف العلماء في المتروك التّسمية عليه، إمّا عمدًا أو نسيانًا، كما سيأتي تقريره في سورة الأنعام.
وقد قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا عليّ بن الحسن الهسنجاني، حدّثنا نعيم بن حمّادٍ، حدّثنا ابن فضيلٍ، عن الوليد بن جميع، عن أبي الطّفيل قال: نزل آدم بتحريم أربعٍ: الميتة، والدّم، ولحم الخنزير، وما أهلّ لغير اللّه به، وإنّ هذه الأربعة الأشياء لم تحلّ قطّ، ولم تزل حرامًا منذ خلق اللّه السّموات والأرض، فلمّا كانت بنو إسرائيل حرّم اللّه عليهم طيّباتٍ أحلت لهم بذنوبهم، فلمّا بعث اللّه عيسى ابن مريم، عليه السّلام، نزل بالأمر الأوّل الّذي جاء به آدم [عليه السّلام] وأحلّ لهم ما سوى ذلك فكذّبوه وعصوه. وهذا أثرٌ غريبٌ.
وقال ابن أبي حاتمٍ أيضًا: حدّثنا أبي، حدّثنا أحمد بن يونس، حدّثنا ربعيّ بن عبد اللّه قال: سمعت الجارود بن أبي سبرة -قال: هو جدّي-قال: كان رجلٌ من بني رياح يقال له: ابن وثيل، وكان شاعرًا، نافر-غالبًا-أبا الفرزدق بماءٍ بظهر الكوفة، على أن يعقر هذا مائةً من إبله، وهذا مائةً من إبله، إذا وردت الماء، فلمّا وردت الماء قاما إليها بالسّيوف، فجعلا يكسفان عراقيبها. قال: فخرج النّاس على الحمرات والبغال يريدون اللّحم -قال: وعليٌّ بالكوفة-قال: فخرج عليٍّ على بغلة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم البيضاء وهو ينادي: يا أيّها النّاس، لا تأكلوا من لحومها فإنّما أهلّ بها لغير اللّه.
هذا أثرٌ غريبٌ، ويشهد له بالصّحّة ما رواه أبو داود: حدّثنا هارون بن عبد اللّه، حدّثنا حمّاد بن مسعدة، عن عوفٍ، عن أبي ريحانة، عن ابن عبّاسٍ قال: نهى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم عن معاقرة الأعراب.
ثمّ قال أبو داود: محمّد بن جعفرٍ -هو غندر-أوقفه على ابن عبّاسٍ. تفرّد به أبو داود
وقال أبو داود أيضًا: حدّثنا هارون بن زيد بن أبي الزّرقاء، حدّثنا أبي، حدّثنا جرير بن حازمٍ، عن الزّبير بن خرّيتٍ قال: سمعت عكرمة يقول: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم نهى عن طعام المتباريين أن يؤكل.
ثمّ قال أبو داود: أكثر من رواه عن جريرٍ لا يذكر فيه ابن عبّاسٍ. تفرّد به أيضًا.
وقوله: {والمنخنقة} وهي الّتي تموت بالخنق إمّا قصدًا أو اتّفاقًا، بأن تتخبل في وثاقتها فتموت به، فهي حرام.
وأمّا {الموقوذة} فهي الّتي تضرب بشيءٍ ثقيلٍ غير محدّدٍ حتّى تموت، كما قال ابن عبّاسٍ وغير واحدٍ: هي الّتي تضرب بالخشب حتّى توقذ بها فتموت.
وقال قتادة: كان أهل الجاهليّة يضربونها بالعصى حتّى إذا ماتت أكلوها.
وفي الصّحيح: أنّ عديّ بن حاتمٍ قال: قلت: يا رسول اللّه، إنّي أرمي بالمعراض الصّيد فأصيب. قال: "إذا رميت بالمعراض فخزق فكله، وإن أصابه بعرضه فإنّما هو وقيذ فلا تأكله".
ففرّق بين ما أصابه بالسّهم، أو بالمزراق ونحوه بحدّه فأحلّه، وما أصابه بعرضه فجعله وقيذًا فلم يحلّه، وقد أجمع الفقهاء على هذا الحكم هاهنا، واختلفوا فيما إذا صدم الجارحة الصّيد فقتله بثقله ولم يجرحه، على قولين، هما قولان للشّافعيّ، رحمه اللّه:
أحدهما: [أنّه] لا يحلّ، كما في السّهم، والجامع أنّ كلًّا منهما ميّتٌ بغير جرحٍ فهو وقيذٌ.
والثّاني: أنّه يحلّ؛ لأنّه حكم بإباحة ما صاده الكلب، ولم يستفصل، فدلّ على إباحة ما ذكرناه؛ لأنّه قد دخل في العموم. وقد قرّرت لهذه المسألة فصلًا فليكتب هاهنا..
فصلٌ:
اختلف العلماء رحمهم اللّه تعالى، فيما إذا أرسل كلبًا على صيدٍ فقتله بثقله ولم يجرحه، أو صدمه، هل يحلّ أم لا؟ على قولين:
أحدهما: أنّ ذلك حلالٌ؛ لعموم قوله تعالى: {فكلوا ممّا أمسكن عليكم} [المائدة: 4] وكذا عمومات حديث عدي بن حاتمٍ. وهذا قولٌ حكاه الأصحاب عن الشّافعيّ، رحمه اللّه، وصحّحه بعض المتأخّرين [منهم] كالنّوويّ والرّافعيّ.
قلت: وليس ذلك بظاهرٍ من كلام الشّافعيّ في الأمّ والمختصر، فإنّه قال في كلا الموضعين: "يحتمل معنيين". ثمّ وجّه كلًّا منهما، فحمل ذلك الأصحاب منه فأطلقوا في المسألة قولين عنه، اللّهمّ إلّا أنّه في بحثه حكايته للقول بالحلّ رشّحه قليلًا ولم يصرّح بواحدٍ منهما ولا جزم به. والقول بذلك، أعني الحلّ، نقله ابن الصّبّاغ عن أبي حنيفة، من رواية الحسن بن زيادٍ، عنه، ولم يذكر غير ذلك وأمّا أبو جعفر بن جريرٍ فحكاه في تفسيره عن سلمان الفارسيّ، وأبي هريرة، وسعد بن أبي وقّاصٍ، وابن عمر. وهذا غريبٌ جدًّا، وليس يوجد ذلك مصرّحًا به عنهم، إلّا أنّه من تصرّفه، رحمه اللّه ورضي عنه.
والقول الثّاني: أنّ ذلك لا يحلّ، وهو أحد القولين عن الشّافعيّ، رحمه اللّه، واختاره المزني ويظهر من كلام ابن الصّبّاغ ترجيحه أيضًا، واللّه أعلم. ورواه أبو يوسف ومحمد عن أبي حنيفة، وهو المشهور عن الإمام أحمد بن حنبلٍ، رضي اللّه عنه وهذا القول أشبه بالصّواب، واللّه أعلم، لأنّه أجرى عن القواعد الأصوليّة، وأمسّ بالأصول الشّرعيّة. واحتجّ ابن الصّبّاغ له بحديث رافع بن خديج، قلت: يا رسول الله، إنا لاقو العدو غدا وليس معنا مدًى، أفنذبح بالقصب؟ قال: "ما أنهر الدّم وذكر اسم اللّه عليه فكلوه". الحديث بتمامه وهو في الصّحيحين.
وهذا وإن كان واردًا على سببٍ خاصٍّ، فالعبرة بعموم اللّفظ عند جمهورٍ من العلماء في الأصول والفروع، كما سئل عليه السّلام عن البتع -وهو نبيذ العسل-فقال: "كلّ شرابٍ أسكر فهو حرامٌ" أفيقول فقيهٌ: إنّ هذا اللّفظ مخصوصٌ بشراب العسل؟ وهكذا هذا كما سألوه عن شيءٍ من الذّكاة فقال لهم كلامًا عامًّا يشمل ذاك المسئول عنه وغيره؛ لأنّه عليه السّلام قد أوتي جوامع الكلم.
إذا تقرّر هذا فما صدمه الكلب أو غمّه بثقله، ليس ممّا أنهر دمه، فلا يحلّ لمفهوم هذا الحديث. فإن قيل: هذا الحديث ليس من هذا القبيل بشيءٍ؛ لأنّهم إنّما سألوا عن الآلة الّتي يذكّى بها، ولم يسألوا عن الشّيء الّذي يذكّى؛ ولهذا استثنى من ذلك السّنّ والظّفر، حيث قال: "ليس السّنّ والظّفر، وسأحدثكم عن ذلك: أما السن فعظم، وأما الظّفر فمدي الحبشة". والمستثنى يدلّ على جنس المستثنى منه، وإلّا لم يكن متّصلًا فدلّ على أنّ المسئول عنه هو الآلة، فلا يبقى فيه دلالةٌ لما ذكرتم.
فالجواب عن هذا: بأنّ في الكلام ما يشكل عليكم أيضًا، حيث يقول: "ما أنهر الدّم وذكر اسم اللّه عليه فكلوه". ولم يقل: "فاذبحوا به" فهذا يؤخذ منه الحكمان معًا، يؤخذ حكم الآلة الّتي يذكّى بها، وحكم المذكّى، وأنّه لا بدّ من إنهار دمه بآلةٍ ليست سنًّا ولا ظفرًا. هذا مسلكٌ.
والمسلك الثّاني: طريقة المزني، وهي أنّ السّهم جاء التّصريح فيه بأنّه إن قتل بعرضه فلا تأكل، وإن خزق فكل. والكلب جاء مطلقًا فيحمل على ما قيّد هناك من الخزق؛ لأنّهما اشتركا في الموجب، وهو الصّيد، فيجب الحمل هنا وإن اختلف السّبب، كما وجب حمل مطلق الإعتاق في الظّهار على تقييده بالإيمان في القتل، بل هذا أولى. وهذا يتوجّه له على من يسلم له أصل هذه القاعدة من حيث هي، وليس فيها خلافٌ بين الأصحاب قاطبةً، فلا بدّ لهم من جوابٍ عن هذا. وله أن يقول: هذا قتله الكلب بثقله، فلم يحلّ قياسًا على ما قتله السّهم بعرضه والجامع أنّ كلًّا منهما آلةٌ للصّيد، وقد مات بثقله فيهما. ولا يعارض ذلك بعموم الآية؛ لأنّ القياس مقدّمٌ على العموم، كما هو مذهب الأئمّة الأربعة والجمهور، وهذا مسلكٌ حسنٌ أيضًا.
مسلكٌ آخر، وهو: أنّ قوله تعالى: {فكلوا ممّا أمسكن عليكم} [المائدة: 4] عامٌّ فيما قتلن بجرح أو غيره، لكنّ هذا المقتول على هذه الصّورة المتنازع فيها لا يخلو: إمّا أن يكون نطيحًا أو في حكمه، أو منخنقًا أو في حكمه، وأيًّا ما كان فيجب تقديم [حكم] هذه الآية على تلك لوجوهٍ:
أحدها: أنّ الشّارع قد اعتبر حكم هذه الآية حالة الصّيد، حيث يقول لعديّ بن حاتمٍ: "وإن أصابه بعرضه فإنّما هو وقيذ فلا تأكله". ولم نعلم أحدًا من العلماء فصل بين حكمٍ وحكمٍ من هذه الآية، فقال: إن الوقيذ معتبرٌ حالة الصّيد، والنّطيح ليس معتبرًا، فيكون القول بحلّ المتنازع فيه خرقًا للإجماع لا قائل به، وهو محظورٌ عند كثيرٍ من العلماء.
الثّاني: أنّ تلك الآية: {فكلوا ممّا أمسكن عليكم} [المائدة: 4] ليست على عمومها بالإجماع، بل مخصوصةً بما صدن من الحيوان المأكول، وخرج من عموم لفظها الحيوان غير المأكول بالاتّفاق، والعموم المحفوظ مقدّمٌ على غير المحفوظ.
المسلك الآخر: أنّ هذا الصّيد والحالة هذه في حكم الميتة سواءٌ؛ لأنّه قد احتقن فيه الدّماء وما يتبعها من الرّطوبات، فلا تحلّ قياسًا على الميتة.
المسلك الآخر: أنّ آية التّحريم، أعني قوله: {حرّمت عليكم الميتة} إلى آخرها، محكمةٌ لم يدخلها نسخٌ ولا تخصيصٌ، وكذا ينبغي أن تكون آية التّحليل محكمةٌ، أعني قوله: {يسألونك ماذا أحلّ لهم قل أحلّ لكم الطّيّبات [وما علّمتم من الجوارح مكلّبين]} [المائدة: 4] فينبغي ألّا يكون بينهما تعارضٌ أصلًا وتكون السّنّة جاءت لبيان ذلك، وشاهد ذلك قصّة السّهم، فإنّه ذكر حكم ما دخل في هذه الآية، وهو ما إذا خزفه المعراض فيكون حلالًا؛ لأنّه من الطّيّبات، وما دخل في حكم تلك الآية، آية التّحريم، وهو ما إذا أصابه بعرضٍ فلا يؤكل؛ لأنّه وقيذٌ، فيكون أحد أفراد آية التّحريم، وهكذا يجب أنّ يكون حكم هذا سواءً، إن كان قد جرحه الكلب فهو داخلٌ في حكم آية التّحليل. وإن لم يجرحه بل صدمه أو قتله بثقله فهو نطيحٌ أو في حكمه فلا يكون حلالًا.
فإن قيل: فلم لا فصّل في حكم الكلب، فقال ما ذكرتم: إن جرحه فهو حلالٌ، وإن لم يجرحه فهو حرامٌ؟
فالجواب: أنّ ذلك نادرٌ؛ لأنّ من شأن الكلب أن يقتل بظفره أو نابه أو بهما معًا، وأمّا اصطدامه هو والصّيد فنادرٌ، وكذا قتله إيّاه بثقله، فلم يحتجّ إلى الاحتراز من ذلك لندوره، أو لظهور حكمه عند من علم تحريم الميتة والمنخنقة والموقوذة والمتردّية والنّطيحة. وأمّا السّهم والمعراض فتارةً يخطئ لسوء رمي راميه أو للهواء أو نحو ذلك، بل خطؤه أكثر من إصابته؛ فلهذا ذكر كلًّا من حكميه مفصّلًا واللّه أعلم؛ ولهذا لمّا كان الكلب من شأنه أنّه قد يأكل من الصّيد، ذكر حكم ما إذا أكل من الصّيد فقال: "إن أكل فلا تأكل، فإنّي أخاف أن يكون أمسك على نفسه" وهذا صحيحٌ ثابتٌ في الصّحيحين وهو أيضًا مخصوصٌ من عموم آية التّحليل عند كثيرين فقالوا: لا يحلّ ما أكل منه الكلب، حكي ذلك عن أبي هريرة، وابن عبّاسٍ. وبه قال الحسن، والشعبي، والنخعي. وإليه ذهب أبو حنيفة وصاحباه، وأحمد بن حنبلٍ، والشّافعيّ في المشهور عنه. وروى ابن جريرٍ في تفسيره عن عليٍّ، وسعدٍ، وسلمان، وأبي هريرة، وابن عمر، وابن عبّاسٍ: أنّ الصّيد يؤكل وإن أكل منه الكلب، حتّى قال سعدٌ، وسلمان، وأبو هريرة وابن عمر، وغيرهم: يؤكل ولو لم يبق منه إلّا بضعةٌ. وإلى ذلك ذهب مالكٌ والشّافعيّ في قوله القديم، وأومأ في الجديد إلى قولين، قال ذلك الإمام أبو نصر ابن الصّبّاغ وغيره من الأصحاب عنه.
وقد روى أبو داود بإسنادٍ جيّدٍ قويٍّ، عن أبي ثعلبة الخشني، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال في صيد الكلب: "إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم اللّه فكل وإن أكل منه، وكل ما ردّت عليك يدك".
ورواه أيضًا النّسائيّ من حديث عمرو بن شعيبٍ، عن أبيه، عن جدّه؛ أنّ أعرابيًّا يقال له: أبو ثعلبة قال: يا رسول اللّه، فذكر نحوه.
وقال محمّد بن جريرٍ في تفسيره: حدّثنا عمران بن بكّار الكلاعيّ، حدّثنا عبد العزيز بن موسى-هو اللّاحونيّ-حدّثنا محمّد بن دينارٍ -هو الطّاحيّ-عن أبي إياسٍ -وهو معاوية بن قرّة-عن سعيد بن المسيّب، عن سلمان الفارسيّ، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "إذا أرسل الرّجل كلبه على الصّيد فأدركه وقد أكل منه، فليأكل ما بقي.
ثمّ إنّ ابن جريرٍ علّله بأنّه قد رواه قتادة وغيره عن سعيد بن المسيّب، عن سلمان موقوفًا وأمّا الجمهور فقدّموا حديث "عديّ" على ذلك، وراموا تضعيف حديث أبي ثعلبة وغيره. وقد حمله بعض العلماء على أنّه إن أكل بعد ما انتظر صاحبه وطال عليه الفصل ولم يجئ، فأكل منه لجوعه ونحوه، فإنّه لا بأس بذلك؛ لأنّه -والحالة هذه؛ لا يخشى أنّه أمسك على نفسه، بخلاف ما إذا أكل منه أوّل وهلةٍ، فإنّه يظهر منه أنّه أمسك على نفسه، واللّه أعلم.
فأمّا الجوارح من الطّير فنصّ الشّافعيّ على أنّها كالكلاب، فيحرم ما أكلت منه عند الجمهور، ولا يحرم عند الآخرين. واختار المزنيّ من أصحابنا أنّه لا يحرم أكل ما أكلت منه الطّيور والجوارح، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد، قالوا: لأنّه لا يمكن تعليمها كما يعلّم الكلب بالضّرب ونحوه، وأيضًا فإنّها لا تعلّم إلّا بأكلها من الصّيد، فيعفى عن ذلك، وأيضًا فالنّصّ إنّما ورد في الكلب لا في الطّير. وقال الشّيخ أبو عليٍّ في "الإفصاح": إذا قلنا: يحرم ما أكل منه الكلب، ففي تحريم ما أكل منه الطّير وجهان، وأنكر القاضي أبو الطّيّب هذا التّفريع والتّرتيب، لنصّ الشّافعيّ، رحمه اللّه على التّسوية بينهما، واللّه سبحانه وتعالى أعلم.
وأمّا {المتردّية} فهي الّتي تقع من شاهقٍ أو موضعٍ عالٍ فتموت بذلك، فلا تحلّ.
قال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: {المتردّية} الّتي تسقط من جبلٍ. وقال قتادة: هي التي تتردى في بئر.
وقال السّدّيّ: هي الّتي تقع من جبلٍ أو تتردّى في بئرٍ.
وأمّا {النّطيحة} فهي الّتي ماتت بسبب نطح غيرها لها، فهي حرامٌ، وإن جرحها القرن وخرج منها الدّم ولو من مذبحها.
والنّطيحة فعيلةٌ بمعنى مفعولةٍ، أي: منطوحةٍ. وأكثر ما ترد هذه البنية في كلام العرب بدون تاء التّأنيث، فيقولون: كفٌّ خضيبٌ، وعينٌ كحيلٌ، ولا يقولون: كفّ خضيبةٍ، ولا عين كحيلةٍ: وأمّا هذه فقال بعض النّحاة: إنّما استعمل فيها تاء التّأنيث؛ لأنّها أجريت مجرى الأسماء، كما في قولهم: طريقةٌ طويلةٌ. وقال بعضهم: إنّما أتي بتاء التّأنيث فيها لتدلّ على التّأنيث من أوّل وهلةٍ، بخلاف: عينٍ كحيلٍ، وكفٍّ خضيبٍ؛ لأنّ التّأنيث مستفادٌ من أوّل الكلام.
وقوله: {وما أكل السّبع} أي: ما عدا عليها أسدٌ، أو فهدٌ، أو نمرٌ، أو ذئبٌ، أو كلبٌ، فأكل بعضها فماتت بذلك، فهي حرامٌ وإن كان قد سال منها الدّماء ولو من مذبحها، فلا تحلّ بالإجماع. وقد كان أهل الجاهليّة يأكلون ما أفضل السّبع من الشّاة أو البعير أو البقرة ونحو ذلك فحرّم اللّه ذلك على المؤمنين.
وقوله: {إلا ما ذكّيتم} عائدٌ على ما يمكن عوده عليه، ممّا انعقد سبب موته فأمكن تداركه بذكاةٍ، وفيه حياةٌ مستقرّةٌ، وذلك إنّما يعود على قوله: {والمنخنقة والموقوذة والمتردّية والنّطيحة وما أكل السّبع}
وقال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ في قوله: {إلا ما ذكّيتم} يقول: إلّا ما ذبحتم من هؤلاء وفيه روحٌ، فكلوه، فهو ذكيٌّ. وكذا روي عن سعيد بن جبيرٍ، والحسن البصريّ، والسّدّيّ.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبو سعيدٍ الأشجّ، حدّثنا حفص بن غياثٍ حدّثنا جعفر بن محمّدٍ، عن أبيه، عن علي قال: {وما أكل السّبع إلا ما ذكّيتم} قال: إن مصعت بذنبها أو ركضت برجلها، أو طرفت بعينها فكل.
وقال ابن جريرٍ: حدّثنا القاسم، حدّثنا الحسين، حدّثنا هشيمٌ وعبّادٌ قالا حدّثنا حجّاجٌ، عن حصينٍ، عن الشّعبيّ، عن الحارث، عن عليٍّ قال: إذا أدركت ذكاة الموقوذة والمتردّية والنّطيحة، وهي تحرّك يدًا أو رجلًا فكلها.
وهكذا روي عن طاوسٍ، والحسن، وقتادة وعبيد بن عمير، والضّحّاك وغير واحدٍ: أنّ المذكّاة متى تحرّكت بحركةٍ تدلّ على بقاء الحياة فيها بعد الذّبح، فهي حلالٌ. وهذا مذهب جمهور الفقهاء، وبه قال أبو حنيفة والشّافعيّ، وأحمد بن حنبلٍ. وقال ابن وهبٍ: سئل مالكٌ عن الشّاة الّتي يخرق جوفها السّبع حتّى تخرج أمعاؤها؟ فقال مالكٌ: لا أرى أن تذكّي أيّ شيءٍ يذكّى منها.
وقال أشهب: سئل مالكٌ عن الضّبع يعدو على الكبش، فيدقّ ظهره أترى أن يذكى قبل أن يموت، فيؤكل؟ قال إن كان قد بلّغ السّحرة، فلا أرى أن يؤكل وإن كان أصاب أطرافه، فلا أرى بذلك بأسًا. قيل له: وثب عليه فدقّ ظهره؟ فقال: لا يعجبني، هذا لا يعيش منه. قيل له: فالذّئب يعدو على الشّاة فيشقّ بطنها ولا يشقّ الأمعاء؟ فقال: إذا شقّ بطنها فلا أرى أن تؤكل.
هذا مذهب مالكٍ، رحمه اللّه، وظاهر الآية عامٌّ فيما استثناه مالكٌ، رحمه اللّه من الصّور الّتي بلغ الحيوان فيها إلى حالةٍ لا يعيش بعدها، فيحتاج إلى دليلٍ مخصّصٍ للآية، واللّه أعلم.
وفي الصّحيحين: عن رافع بن خديج أنّه قال: قلت: يا رسول الله، إنا لاقو العدو غدًا، وليس معنا مدى، أفنذبح بالقصب؟ فقال: "ما أنهر الدّم وذكر اسم اللّه عليه فكلوه، ليس السنّ والظّفر، وسأحدّثكم عن ذلك، أما السن فعظم، وأما الظفر فمدى الحبشة".
وفي الحديث الّذي رواه الدّارقطنيّ [عن أبي هريرة] مرفوعًا، وفيه نظرٌ، وروي عن عمر موقوفًا، وهو أصحّ "ألا إنّ الذّكاة في الحلق واللّبّة، ولا تعجّلوا الأنفس أن تزهق".
وفي الحديث الّذي رواه الإمام أحمد وأهل السّنن، من رواية حمّاد بن سلمة، عن أبي العشراء الدّارميّ، عن أبيه قال: قلت: يا رسول اللّه، أما تكون الذّكاة إلّا من اللّبّة والحلق؟ فقال: "لو طعنت في فخذها لأجزأ عنك.
وهو حديثٌ صحيحٌ ولكنّه محمولٌ على ما [لم] يقدر على ذبحه في الحلق واللّبّة.
وقوله: {وما ذبح على النّصب} قال مجاهدٌ وابن جريج كانت النّصب حجارةً حول الكعبة، قال ابن جريجٍ: وهي ثلاثمائةٍ وستّون نصبًا، كان العرب في جاهليّتها يذبحون عندها، وينضحون ما أقبل منها إلى البيت بدماء تلك الذّبائح، ويشرّحون اللّحم ويضعونه على النّصب.
وكذا ذكره غير واحدٍ، فنهى اللّه المؤمنين عن هذا الصّنيع، وحرّم عليهم أكل هذه الذّبائح الّتي فعلت عند النّصب حتّى ولو كان يذكر عليها اسم اللّه في الذّبح عند النّصب من الشّرك الّذي حرّمه اللّه ورسوله. وينبغي أن يحمل هذا على هذا؛ لأنّه قد تقدّم تحريم ما أهل به لغير الله.
وقوله تعالى: {وأن تستقسموا بالأزلام} أي: حرم عليكم أيّها المؤمنون الاستقسام بالأزلام: واحدها: زلم، وقد تفتح الزّاي، فيقال: زلم، وقد كانت العرب في جاهليّتها يتعاطون ذلك، وهي عبارةٌ عن قداحٍ ثلاثةٍ، على أحدها مكتوبٌ: "أفعل" وعلى الآخر: "لا تفعل" والثّالث "غفل ليس عليه شيءٌ. ومن النّاس من قال: مكتوبٌ على الواحد: "أمرني ربّي" وعلى الآخر: "نهاني ربّي". والثّالث غفلٌ ليس عليه شيءٌ، فإذا أجالها فطلع السّهم الآمر فعله، أو النّاهي تركه، وإن طلع الفارغ أعاد [الاستقسام.]
والاستقسام: مأخوذٌ من طلب القسم من هذه الأزلام. هكذا قرّر ذلك أبو جعفر بن جريرٍ.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا الحسن بن محمّد بن الصّبّاح، حدّثنا الحجّاج بن محمّدٍ، أخبرنا ابن جريجٍ وعثمان بن عطاءٍ، عن عطاءٍ، عن ابن عبّاسٍ: {وأن تستقسموا بالأزلام} قال: والأزلام: قداحٌ كانوا يستقسمون بها في الأمور.
وكذا روي عن مجاهدٍ، وإبراهيم النّخعي، والحسن البصريّ، ومقاتل بن حيّان.
وقال ابن عبّاسٍ: هي القداح، كانوا يستقسمون بها الأمور. وذكر محمّد بن إسحاق وغيره: أنّ أعظم أصنام قريشٍ صنمٌ كان يقال له: هبل، وكان داخل الكعبة، منصوبٌ على بئرٍ فيها، توضع الهدايا وأموال الكعبة فيه، كان عنده سبعة أزلامٍ مكتوبٌ فيها ما يتحاكمون فيه، ممّا أشكل عليهم، فما خرج لهم منها رجعوا إليه ولم يعدلوا عنه.
وثبت في الصّحيح: أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم لمّا دخل الكعبة، وجد إبراهيم وإسماعيل مصوّرين فيها، وفي أيديهما الأزلام، فقال: "قاتلهم اللّه، لقد علموا أنّهما لم يستقسما بها أبدًا."
وفي الصّحيح: أنّ سراقة بن مالك بن جعشم لمّا خرج في طلب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وأبي بكرٍ، وهما ذاهبان إلى المدينة مهاجرين، قال: فاستقسمت بالأزلام هل أضرّهم أم لا؟ فخرج الّذي أكره: لا تضرّهم قال: فعصيت الأزلام وأتبعتهم، ثمّ إنّه استقسم بها ثانيةً وثالثةً، كلّ ذلك يخرج الّذي يكره: لا تضرّهم وكان كذلك وكان سراقة لم يسلم إذ ذاك، ثمّ أسلم بعد ذلك.
وروى ابن مردويه من طريق إبراهيم بن يزيد، عن رقبة، عن عبد الملك بن عمير، عن رجاء بن حيوة، عن أبي الدّرداء قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "لن يلج الدّرجات من تكهّن أو استقسم أو رجع من سفرٍ طائرًا".
وقال مجاهدٌ في قوله: {وأن تستقسموا بالأزلام} قال: هي سهام العرب، وكعاب فارس والروم، كانوا يتقامرون بها.
وهذا الّذي ذكر عن مجاهدٍ في الأزلام أنّها موضوعةٌ للقمار، فيه نظرٌ، اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّهم كانوا يستعملونها في الاستخارة تارةً، وفي القمار أخرى، واللّه أعلم. فإنّ اللّه سبحانه [وتعالى] قد فرّق بين هذه وبين القمار وهو الميسر، فقال في آخر السّورة: {يا أيّها الّذين آمنوا إنّما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ من عمل الشّيطان فاجتنبوه لعلّكم تفلحون. إنّما يريد الشّيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء [في الخمر والميسر ويصدّكم عن ذكر اللّه وعن الصّلاة فهل أنتم] منتهون} [الآيتان:90، 91] وهكذا قال هاهنا: {وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسقٌ} أي: تعاطيه فسقٌ وغيٌّ وضلالٌ وجهالةٌ وشركٌ، وقد أمر اللّه المؤمنين إذا تردّدوا في أمورهم أن يستخيروه بأن يعبدوه، ثمّ يسألوه الخيرة في الأمر الّذي يريدونه، كما رواه الإمام أحمد والبخاريّ وأهل السّنن، من طرقٍ عن عبد الرّحمن بن أبي الموالي، عن محمّد بن المنكدر، عن جابر بن عبد اللّه قال: رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يعلّمنا الاستخارة كما يعلّمنا السّورة من القرآن، ويقول: "إذا همّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثمّ ليقل: اللّهمّ إنّي أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم؛ فإنّك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللّهمّ إنّ كنت تعلم هذا الأمر -ويسمّيه باسمه-خيرًا لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، فاقدره لي ويسّره لي وبارك لي فيه، اللّهمّ إن كنت تعلمه شرًّا لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، فاصرفني عنه، واصرفه عنّي، واقدر لي الخير حيث كان، ثمّ رضّني به". لفظ أحمد.
وقال التّرمذيّ: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ، لا نعرفه إلّا من حديث ابن أبي الموالي.
قوله: {اليوم يئس الّذين كفروا من دينكم} قال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: يعني: يئسوا أن يراجعوا دينهم..
وكذا روي عن عطاء بن أبي رباحٍ، والسّدّي ومقاتل بن حيّان. وعلى هذا المعنى يرد الحديث الثّابت في الصّحيح: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال: "إنّ الشّيطان قد يئس أن يعبده المصلّون في جزيرة العرب، ولكن بالتّحريش بينهم".
ويحتمل أن يكون المراد: أنّهم يئسوا من مشابهة المسلمين، بما تميّز به المسلمون من هذه الصّفات المخالفة للشّرك وأهله؛ ولهذا قال تعالى آمرًا عباده المؤمنين أن يصبروا ويثبتوا في مخالفة الكفّار، ولا يخافوا أحدًا إلّا اللّه، فقال: {فلا تخشوهم واخشون} أي: لا تخافوا منهم في مخالفتكم إيّاهم واخشوني، أنصركم عليهم وأبيدهم وأظفركم بهم، وأشف صدوركم منهم، وأجعلكم فوقهم في الدنيا والآخرة.
وقوله: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا} هذه أكبر نعم اللّه، عزّ وجلّ، على هذه الأمّة حيث أكمل تعالى لهم دينهم، فلا يحتاجون إلى دين غيره، ولا إلى نبيٍّ غير نبيّهم، صلوات اللّه وسلامه عليه؛ ولهذا جعله اللّه خاتم الأنبياء، وبعثه إلى الإنس والجنّ، فلا حلال إلّا ما أحلّه، ولا حرام إلّا ما حرّمه، ولا دين إلّا ما شرعه، وكلّ شيءٍ أخبر به فهو حقٌّ وصدقٌ لا كذب فيه ولا خلف، كما قال تعالى: {وتمّت كلمت ربّك صدقًا وعدلا} [الأنعام: 115] أي: صدقًا في الأخبار، وعدلًا في الأوامر والنّواهي، فلمّا أكمل الدّين لهم تمّت النّعمة عليهم ؛ ولهذا قال [تعالى] {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا} أي: فارضوه أنتم لأنفسكم، فإنّه الدّين الّذي رضيه اللّه وأحبّه وبعث به أفضل رسله الكرام، وأنزل به أشرف كتبه.
قال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ قوله: {اليوم أكملت لكم دينكم} وهو الإسلام، أخبر اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه وسلّم والمؤمنين أنّه أكمل لهم الإيمان، فلا يحتاجون إلى زيادةٍ أبدًا، وقد أتمّه اللّه فلا ينقصه أبدًا، وقد رضيه اللّه فلا يسخطه أبدًا.
وقال أسباطٌ عن السّدّيّ: نزلت هذه الآية يوم عرفة، فلم ينزّل بعدها حلالٌ ولا حرامٌ، ورجع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فمات. قالت أسماء بنت عميس: حججت مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم تلك الحجّة، فبينما نحن نسير إذ تجلّى له جبريل، فمال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم على الرّاحلة، فلم تطق الرّاحلة من ثقل ما عليها من القرآن، فبركت فأتيته فسجّيت عليه بردا كان عليّ.
قال ابن جريج وغير واحدٍ: مات رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بعد يوم عرفة بأحدٍ وثمانين يومًا.
رواهما ابن جريرٍ، ثمّ قال: حدّثنا سفيان بن وكيع، حدّثنا ابن فضيل، عن هارون بن عنترة، عن أبيه قال: لمّا نزلت {اليوم أكملت لكم دينكم} وذلك يوم الحجّ الأكبر، بكى عمر، فقال له النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: "ما يبكيك؟ " قال: أبكاني أنّا كنّا في زيادةٍ من ديننا، فأما إذ أكمل فإنّه لم يكمل شيءٌ إلّا نقص. فقال: "صدقت".
ويشهد لهذا المعنى الحديث الثّابت: "إنّ الإسلام بدأ غريبًا، وسيعود غريبًا، فطوبى للغرباء".
وقال الإمام أحمد: حدّثنا جعفر بن عون، حدّثنا أبو العميس، عن قيس بن مسلمٍ، عن طارق بن شهابٍ قال: جاء رجلٌ من اليهود إلى عمر بن الخطّاب [رضي اللّه عنه] فقال: يا أمير المؤمنين، إنّكم تقرءون آيةً في كتابكم، لو علينا معشر اليهود نزلت لاتّخذنا ذلك اليوم عيدًا. قال: وأيّ آيةٍ؟ قال قوله: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي} فقال عمر: واللّه إني لأعلم اليوم الّذي نزلت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، والسّاعة الّتي نزلت فيها على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، نزلت عشية عرفة في يوم جمعةٍ.
ورواه البخاريّ عن الحسن بن الصّبّاح عن جعفر بن عونٍ، به. ورواه أيضًا مسلمٌ والتّرمذيّ والنّسائيّ، من طرقٍ عن قيس بن مسلمٍ، به ولفظ البخاريّ عند تفسير هذه الآية من طريق سفيان الثّوريّ، عن قيسٍ، عن طارقٍ قال: قالت اليهود لعمر: إنّكم تقرؤون آيةً، لو نزلت فينا لاتّخذناها عيدًا. فقال عمر: إنّي لأعلم حين أنزلت، وأين أنزلت وأين رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حيث أنزلت: يوم عرفة، وأنا واللّه بعرفة -قال سفيان: وأشكّ كان يوم الجمعة أم لا {اليوم أكملت لكم دينكم} الآية.
وشكّ سفيان، رحمه اللّه، إن كان في الرّواية فهو تورّعٌ، حيث شكّ هل أخبره شيخه بذلك أم لا؟ وإن كان شكًّا في كون الوقوف في حجّة الوداع كان يوم جمعةٍ، فهذا ما إخاله يصدر عن الثّوريّ، رحمه اللّه، فإنّ هذا أمرٌ معلومٌ مقطوعٌ به، لم يختلف فيه أحدٌ من أصحاب المغازي والسّير ولا من الفقهاء، وقد وردت في ذلك أحاديث متواترةٌ لا يشكّ في صحّتها، واللّه أعلم، وقد روي هذا الحديث من غير وجهٍ عن عمر.
وقال ابن جريرٍ: حدّثني يعقوب بن إبراهيم، حدّثنا ابن عليّة، أخبرنا رجاء بن أبي سلمة، أخبرنا عبادة بن نسيّ، أخبرنا أميرنا إسحاق -قال أبو جعفر بن جريرٍ: هو إسحاق بن خرشة-عن قبيصة -يعني ابن ذؤيب-قال: قال كعبٌ: لو أنّ غير هذه الأمّة نزلت عليهم هذه الآية، لنظروا اليوم الّذي أنزلت فيه عليهم، فاتّخذوه عيدًا يجتمعون فيه. فقال عمر: أيّ آيةٍ يا كعب؟ فقال: {اليوم أكملت لكم دينكم} فقال عمر: قد علمت اليوم الّذي أنزلت فيه، والمكان الّذي أنزلت فيه، نزلت في يوم جمعةٍ ويوم عرفة، وكلاهما بحمد اللّه لنا عيدٌ.
وقال ابن جريرٍ: حدّثنا أبو كريب، حدّثنا قبيصة، حدّثنا حمّاد بن سلمة، عن عمّارٍ-هو مولى بني هاشمٍ-أنّ ابن عبّاسٍ قرأ: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا} فقال يهوديٌّ: لو نزلت هذه الآية علينا لاتّخذنا يومها عيدًا. فقال ابن عبّاسٍ: فإنّها نزلت في يوم عيدين اثنين: يوم عيدٍ ويوم جمعةٍ.
وقال ابن مردويه: حدّثنا أحمد بن كاملٍ، حدّثنا موسى بن هارون، حدّثنا يحيى بن الحمّاني، حدّثنا قيس بن الرّبيع، عن إسماعيل بن سلمان، عن أبي عمر البزّار، عن ابن الحنفيّة، عن عليٍّ [رضي اللّه عنه] قال: نزلت هذه الآية على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، وهو قائمٌ عشيّة عرفة: {اليوم أكملت لكم دينكم}
وقال ابن جريرٍ: حدّثنا أبو عامرٍ إسماعيل بن عمرٍو السّكوني، حدّثنا هشام بن عمّارٍ، حدثنا بن عيّاشٍ، حدّثنا عمرو بن قيسٍ السّكونيّ: أنّه سمع معاوية بن أبي سفيان على المنبر ينتزع بهذه الآية: {اليوم أكملت لكم دينكم} حتّى ختمها، فقال: نزلت في يوم عرفة، في يوم جمعةٍ.
وروى ابن مردويه، من طريق محمّد بن إسحاق، عن عمر بن موسى بن وجيهٍ، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة قال: نزلت هذه الآية: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا} يوم عرفة ورسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم واقفٌ على الموقف.
فأمّا ما رواه ابن جريرٍ وابن مردويه، والطّبرانيّ من طريق ابن لهيعة، عن خالد بن أبي عمران، عن حنش بن عبد اللّه الصّنعانيّ، عن ابن عبّاسٍ قال: ولد نبيّكم صلّى اللّه عليه وسلّم يوم الاثنين، [ونبّئ يوم الاثنين] وخرج من مكّة يوم الاثنين، ودخل المدينة يوم الاثنين، وأنزلت سورة المائدة يوم الاثنين: {اليوم أكملت لكم دينكم} ورفع الذّكر يوم الاثنين، فإنّه أثرٌ غريبٌ وإسناده ضعيفٌ.
وقد رواه الإمام أحمد: حدّثنا موسى بن داود، حدّثنا ابن لهيعة، عن خالد بن أبي عمران، عن حنش الصّنعانيّ، عن ابن عبّاسٍ قال: ولد النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم يوم الاثنين، واستنبئ يوم الاثنين، وخرج مهاجرًا من مكّة إلى المدينة يوم الاثنين، وقدم المدينة يوم الاثنين، وتوفّي يوم الاثنين، ووضع الحجر الأسود يوم الاثنين.
هذا لفظ أحمد، ولم يذكر نزول المائدة يوم الاثنين فاللّه أعلم. ولعلّ ابن عبّاسٍ أراد أنّها نزلت يوم عيدين اثنين كما تقدّم، فاشتبه على الرّاوي، واللّه أعلم.
[و] قال ابن جريرٍ: وقد قيل: ليس ذلك بيومٍ معلومٍ عند النّاس، ثمّ روي من طريق العوفيّ عن ابن عبّاسٍ في قوله: {اليوم أكملت لكم دينكم} يقول: ليس ذلك بيومٍ معلومٍ عند النّاس قال: وقد قيل: إنّها نزلت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في مسيره إلى حجّة الوداع. ثمّ رواه من طريق أبي جعفرٍ الرّازيّ، عن الرّبيع بن أنسٍ.
قلت: وقد روى ابن مردويه من طريق أبي هارون العيدي، عن أبي سعيدٍ الخدريّ؛ أنّها أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم غدير خم حين قال لعليٍّ: "من كنت مولاه فعليٌّ مولاه". ثمّ رواه عن أبي هريرة وفيه: أنّه اليوم الثّامن عشر من ذي الحجّة، يعني مرجعه عليه السّلام من حجة الوداع.
ولا يصحّ هذا ولا هذا، بل الصّواب الّذي لا شكّ فيه ولا مرية: أنّها أنزلت يوم عرفة، وكان يوم جمعةٍ، كما روى ذلك أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب، وعليّ بن أبي طالبٍ، وأوّل ملوك الإسلام معاوية بن أبي سفيان، وترجمان القرآن عبد اللّه بن عبّاسٍ، وسمرة بن جندبٍ، رضي اللّه عنهم، وأرسله [عامرٌ] الشّعبيّ، وقتادة بن دعامة، وشهر بن حوشب، وغير واحدٍ من الأئمّة والعلماء، واختاره ابن جريرٍ الطّبريّ، رحمه اللّه.
وقوله: {فمن اضطرّ في مخمصةٍ غير متجانفٍ لإثمٍ فإنّ اللّه غفورٌ رحيمٌ} أي: فمن احتاج إلى تناول شيءٍ من هذه المحرّمات الّتي ذكرها تعالى لضرورةٍ ألجأته إلى ذلك، فله تناول ذلك، واللّه غفورٌ رحيمٌ له؛ لأنّه تعالى يعلم حاجة عبده المضطرّ، وافتقاره إلى ذلك، فيتجاوز عنه ويغفر له. وفي المسند وصحيح ابن حبّان، عن ابن عمر قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "إنّ اللّه يحبّ أن تؤتى رخصته كما يكره أن تؤتى معصيته" لفظ ابن حبّان. وفي لفظٍ لأحمد من لم يقبل رخصة اللّه كان عليه من الإثم مثل جبال عرفة".
ولهذا قال الفقهاء: قد يكون تناول الميتة واجبًا في بعض الأحيان، وهو ما إذا خاف على مهجته التّلف ولم يجد غيرها، وقد يكون مندوبًا، و [قد] يكون مباحًا بحسب الأحوال. واختلفوا: هل يتناول منها قدر ما يسدّ به الرّمق، أو له أن يشبع، أو يشبع ويتزوّد؟ على أقوالٍ، كما هو مقرّرٌ في كتاب الأحكام. وفيما إذا وجد ميتةً وطعام الغير، أو صيدًا وهو محرمٌ: هل يتناول الميتة، أو ذلك الصّيد ويلزمه الجزاء، أو ذلك الطّعام ويضمن بدله؟ على قولين، هما قولان للشّافعيّ، رحمه اللّه. وليس من شرط جواز تناول الميتة أن يمضي عليه ثلاثة أيّامٍ لا يجد طعامًا، كما قد يتوهّمه كثيرٌ من العوامّ وغيرهم، بل متى اضطرّ إلى ذلك جاز له، وقد قال الإمام أحمد: حدّثنا الوليد بن مسلمٍ، حدّثنا الأوزاعيّ، حدّثنا حسّان بن عطيّة، عن أبي واقدٍ اللّيثيّ أنّهم قالوا: يا رسول اللّه، إنّا بأرضٍ تصيبنا بها المخمصة، فمتى تحلّ لنا بها الميتة؟ فقال: "إذا لم تصطبحوا، ولم تغتبقوا، ولم تجتفئوا بقلا فشأنكم بها ".
تفرّد به أحمد من هذا الوجه، وهو إسنادٌ صحيحٌ على شرط الصّحيحين. وكذا رواه ابن جريرٍ، عن عبد الأعلى بن واصلٍ، عن محمّد بن القاسم الأسديّ، عن الأوزاعيّ به لكن رواه بعضهم عن الأوزاعيّ، عن حسّان بن عطيّة، عن مسلم بن يزيد، عن أبي واقدٍ، به ومنهم من رواه عن الأوزاعيّ، عن حسّانٍ، عن مرثدٍ -أو أبي مرثدٍ-عن أبي واقدٍ، به ورواه ابن جريرٍ عن هنّاد بن السّريّ، عن عيسى بن يونس، عن حسّانٍ، عن رجلٍ قد سمّي له، فذكره. ورواه أيضًا عن هنّادٍ، عن ابن المبارك، عن الأوزاعيّ، عن حسّانٍ، مرسلًا
وقال ابن جريرٍ: حدّثني يعقوب بن إبراهيم، حدّثنا ابن عليّة، عن عون قال: وجدت عند الحسن كتاب سمرة، فقرأته عليه، فكان فيه: "ويجزى من الأضرار غبوق أو صبوحٌ ".
حدّثنا أبو كريب، حدّثنا هشيم، عن الخصيب بن زيدٍ التّميميّ حدّثنا الحسن، أنّ رجلًا سأل النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فقال: [إلى] متى يحلّ [لي] الحرام؟ قال: فقال: "إلى متى يروى أهلك من اللّبن، أو تجيء ميرتهم ".
حدّثنا ابن حميدٍ، حدّثنا سلمة، عن ابن إسحاق، حدّثنا عمر بن عبد اللّه بن عروة، عن جدّه عروة بن الزّبير، عن جدّته ؛ أنّ رجلًا من الأعراب أتى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم يستفتيه في الّذي حرّم اللّه عليه، والّذي أحلّ له، فقال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: "تحلّ لك الطّيّبات، وتحرم عليك الخبائث إلّا أن تفتقر إلى طعامٍ لا يحلّ لك، فتأكل منه حتّى تستغني عنه". فقال الرّجل: وما فقري الّذي يحلّ لي؟ وما غناي الّذي يغنيني عن ذلك؟ فقال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: "إذا كنت ترجو نتاجًا، فتبلغ بلحوم ماشيتك إلى نتاجك، أو كنت ترجو غنًى، تطلبه، فتبلغ من ذلك شيئًا، فأطعم أهلك ما بدا لك حتّى تستغني عنه". فقال الأعرابيّ: ما غناي الّذي أدعه إذا وجدته؟ فقال [النّبيّ] صلّى اللّه عليه وسلّم: "إذا أرويت أهلك غبوقا من اللّيل، فاجتنب ما حرّم اللّه عليك من طعامٍ، وأمّا مالك فإنّه ميسورٌ كلّه، ليس فيه حرامٌ".
ومعنى قوله: "ما لم تصطبحوا": يعني به: الغداء، "وما لم تغتبقوا": يعني به: العشاء، "أو تختفئوا بقلًا فشأنكم بها" [أي] فكلوا منها. وقال ابن جريرٍ: يروى هذا الحرف -يعني قوله: "أو تختفئوا [بقلًا] على أربعة أوجهٍ: "تختفئوا" بالهمزة، "وتحتفيوا" بتخفيف الياء والحاء، "وتحتفوا" بتشديد [الفاء] وتحتفوا" بالحاء وبالتّخفيف، ويحتمل الهمز، كذا ذكره في التّفسير.
حديثٌ آخر: قال أبو داود: حدّثنا هارون بن عبد اللّه، حدّثنا الفضل بن دكين، حدّثنا عقبة بن وهب بن عقبة العامريّ سمعت أبي يحدّث عن الفجيع العامريّ؛ أنّه أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فقال: ما يحلّ لنا من الميتة؟ قال: "ما طعامكم؟ " قلنا: نغتبق ونصطبح. قال أبو نعيمٍ: فسّره لي عقبة: قدح غدوة، وقدح عشيّة قال: "ذاك وأبي الجوع". وأحلّ لهم الميتة على هذه الحال.
تفرّد به أبو داود وكأنّهم كانوا يصطبحون ويغتبقون شيئًا لا يكفيهم، فأحلّ لهم الميتة لتمام كفايتهم، وقد يحتجّ به من يرى جواز الأكل منها حتّى يبلغ حدّ الشّبع، ولا يتقيّد ذلك بسدّ الرّمق، واللّه أعلم.
حديثٌ آخر: قال أبو داود: حدّثنا موسى بن إسماعيل، حدّثنا حمّادٌ، حدّثنا سماكٌ، عن جابر بن سمرة، أن رجلًا نزل الحرّة، ومعه أهله وولده، فقال له رجلٌ: إنّ ناقةً لي ضلّت، فإن وجدتها فأمسكها، فوجدها ولم يجد صاحبها، فمرضت فقالت امرأته: انحرها، فأبى، فنفقت، فقالت له امرأته: اسلخها حتّى نقدد شحمها ولحمها فنأكله. فقال: حتّى أسأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فأتاه فسأله، فقال: "هل عندك غنًى يغنيك؟ " قال: لا. قال: " فكلوها". قال: فجاء صاحبها فأخبره الخبر، فقال: هلّا كنت نحرتها؟ قال: استحييت منك.
تفرّد به وقد يحتجّ به من يجوز الأكل والشّبع، والتّزوّد منها مدّةً يغلب على ظنّه الاحتياج إليها واللّه أعلم.
وقوله: {غير متجانفٍ لإثمٍ} أي: [غير] متعاطٍ لمعصية اللّه، فإنّ اللّه قد أباح ذلك له وسكت عن الآخر، كما قال في سورة البقرة: {فمن اضطرّ غير باغٍ ولا عادٍ فلا إثم عليه إنّ اللّه غفورٌ رحيمٌ} [الآية: 173].
وقد استدلّ بهذه الآية من يقول بأنّ العاصي بسفره لا يترخّص بشيءٍ من رخص السّفر؛ لأنّ الرّخص لا تنال بالمعاصي، واللّه أعلم). [تفسير القرآن العظيم: 3/14-31]


رد مع اقتباس