عرض مشاركة واحدة
  #15  
قديم 23 محرم 1436هـ/15-11-2014م, 11:03 PM
أم سهيلة أم سهيلة غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Mar 2013
المشاركات: 2,672
افتراضي

الخلاصة في أحكام مس المصحف على غير طهارة

قال صَالِحٌ بْنُ مُحَمَّدِ
الرَّشيدِ (م):(
اشتراط الطهارة لمس المصحف
لأهل العلم في مسألة الطهارة لمباشرة المصحف بالمس قولان في الجملة:
أحدهما اعتبار هذا الشرط، والثاني عدم اعتباره.
سبب الاختلاف:
وسبب هذا الاختلاف والله أعلم هو تردد مفهوم قوله تعالى: {لا يمسه إلا المطهرون}بين أن يكون المطهرون هم بنو آدم، وبين أن يكون المطهرون هم الملائكة، وبين أن يكون هذا الخبر مفهومه النهي، وبين أن يكون خبرا لا نهيا.
فمن فهم من {المطهرون} بني آدم، وفهم من الخبر النهي قال: لا يجوز أن يمس المصحف إلا طاهر.
ومن فهم منه الخبر فقط، وفهم من لفظ {المطهرون} الملائكة، قال: إنه ليس في الآية دليل على اشتراط هذه الطهارة في مس المصحف.
كما اختلفوا في ثبوت الآثار المتضمنة لمنع غير الطاهر من مس القرآن على ما سيأتي بسطه وإيضاحه عند عرض ونقد حجج الفريقين.
مذاهب العلماء في اعتبار الطهارة لمس المصحف والقول باعتبار الطهارة من الحدث في الجملة لماس المصحف هو الذي عليه جماهير أهل العلم من السلف والخلف، حتى قال النووي في تبيانه عن القول الآخر المقابل لقول الجمهور بأنه قول ضعيف. وقد حكى القول باعتبار الطهارة لمس المصحف عن جمع من الصحابة رضي الله عنهم كعلي بن أبي طالب وابن عباس في رواية عنه،وبه قال ابن مسعود وابن عمر وسعد بن أبي وقاص وسلمان الفارسي في المشهور عنه، وقال به جمهور التابعين كأبي وائل وسعيد بن المسيب وابن جبير في رواية عنه والحسن البصري وطاووس ومجاهد والقاسم بن محمد وسائر الفقهاء السبعة وهو محكي عن الشعبي والحكم وحماد، لكن قصروا المنع على المس بباطن الكف. والقول باشتراط الطهارة لمس المصحف هو اختيار أبي عبيد والأوزاعي وإسحاق وأبي ثور والثوري وخلق لا يحصى من أهل العلم.
والقول باشتراط الطهارة هو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة، ومن تابعهم من فقهاء الأمصار وفي مختلف الأعصار.
قالوا لا يجوز للمسلم المكلف أن يمس المصحف بغير وضوء، فلا بد عندهم من الطهارتين الكبرى والصغرى معا، فالطهارة من الأحداث جميعا شرط لجواز مس المصحف عند الجمهور إلا لضرورة، كخوف غرق أو حرق، أو وقوع بيد كافر، أو قاذورة.
إلا أن مالكا رحمه الله قد خفف في رواية عنه عن الحائض والنفساء والمحدث حدثا أصغر، إذا كان المس على وجه التعلم أو التعليم.
وقد ذهب ابن رشد إلى القول بحمل إحدى الروايتين على الأخرى جمعا بينهما، خلافا لمن لم ير الجمع من أصحابه، وقد منع ابن حبيب المس للمعلم إذا كان محدثا، لأن التعليم صناعة وتكسب، بخلاف التعلم فإنه حاجة ترفع الحرج والمشقة.
وسوى أصحاب مالك في التسهيل لأجل التعلم بين الصغير والبالغ، وبين القليل والكثير خلافا لم رأى الاقتصار على ما لم يأخذ حكم المصحفية، وقد مضت الإشارة إلى طرف من هذا في مسألة اسم المصحف، وسيأتي في مسألة تمكين الصغير منه مفصلا إن شاء الله تعالى .
القائلون بعدم اشتراط الطهارة:

وقد ذهب إلى القول بانتفاء اشتراط الطهارة طائفة من أهل العلم منهم ابن عباس وأنس وسلمان في رواية عنهم، وأبو العالية، وقتادة والضحاك وأبو الشعثاء
جابر بن زيد، والحسن البصري، وأبو نهيك والسدي وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وداود بن علي، وأهل الظاهر. وهو رواية ثانية عن كل من الحكم وحماد بن سليمان وأبي حنيفة.
الاستدلال:
وقد استدل كل فريق لما ذهب إليه بجملة من الحجج النقلية والعقلية.
حجة مشترطي الطهارة لمس المصحف:
وقد استدل الجمهور لما ذهبوا إليه من اشتراط الطهارة لمس المصحف بأدلة من الكتاب والسنة والمعقول:
أولا- دليلهم من الكتاب:
استدلوا من الكتاب بقوله تعالى في سورة الواقعة: {إنه لقرءان كريم. في كتاب مكنون. لا يمسه إلا المطهرون. تنزيل من رب العالمين}
وجه الاحتجاج من الآيات المذكورة:
قالوا فقد دلت آيات الواقعة أحسن دلالة على أنه لا يمس القرآن غير طاهر، حيث تضمنت نهيا بصيغة الخبر عن أن يمس المصحف إلا من كان متطهرا من الأحداث، بل يمكن أن يبقى الخبر على ظاهره، أعني أن يكون خبرا في صيغته ومعناه، دون أن يستلزم محذورا أو خلفا في الخبر إذا قلنا بأن الخبر في الآية يتضمن
نفيا لوجود مس مشروع حال انتفاء الطهارة، فيكون المعنى أنه لا يمس القرآن مسا مأذونا فيه شرعا، إلا المطهرون، أي المتطهرون من الأحداث، لا يقال بأن آيات الواقعة
خاصة باللوح المحفوظ والملائكة، بمعنى أن الضمير في قوله لا يمسه عائد على اللوح المحفوظ والمطهرون هم الملائكة فإن هذا ممتنع لثلاثة أوجه:
أحدها:/ أن قوله: {لا يمسه إلا المطهرون}قد جاء في سياق الكلام على القرآن في قوله تعالى: {إنه لقرآن كريم. في كتاب مكنون.}، واللوح المحفوظ شامل القرآن وغيره.
والوجه الثاني:/ أن الآية قد تضمنت استثناء، فلا يجوز أن يحمل معناها على الملائكة لكونهم جميعا من المطهرين، وليس بينهم غير مطهر، فيحصل استثناءه، وهذا يستلزم إلغاء الاستثناء في الآية وهو تعطيل للفظ الشارع، وتجريد له عن الفائدة، وهذا باطل لا يجوز القول به.
الوجه الثالث:/ أن الآيات المذكورة قد ختمت بقوله تعالى: {تنزيل من رب العالمين}، واللوح المحفوظ غير منزل، فتعين صرف الآيات وحملها على القرآن الذي بين أيدينا، لا سيما وقد جاءت السنة بما يشهد لهذا الفهم مثل قوله عليه السلام: (لا يمس القرآن إلا طاهر). على ما سيأتي تفصيله عند الاحتجاج بالسنة.
إذا تقرر هذا فإنه لا يمس المحدث المصحف لا موضع الكتابة منه، ولا حاشيته، ولا جلده، ولا الدف أو الورق الأبيض المتصل به، لا ببطن الكف ولا بظهره، ولا شيء من جسده، على أن بعض القائلين باشتراط الطهارة لمس المصحف لم يروا في آيات الواقعة دلالة صريحة لما ذهبوا إليه وسلموا اختصاصها بما في السماء، قالوا نعم، الوجه في هذا والله أعلم أن القرآن الذي في اللوح المحفوظ هو القرآن الذي في المصحف، كما أن الذي في هذا المصحف هو الذي في هذا المصحف بعينه، سواء كان المحل ورقا، أو أديما، أو حجرا، أو لخافا ، فإذا كان من حكم الكتاب الذي في السماء أن لا يمسه إلا المطهرون وجب أن يكون الكتاب الذي في الأرض كذلك لأن حرمته كحرمته أو يكون اسم جنس يعم كل ما فيه القرآن سواء كان في السماء أو في الأرض، وقد أوحي إلى ذلك قوله تعالى:
{رسول من الله يتلوا صحفا مطهرة.فيها كتب قيمة}وكذلك قوله تعالى: {في صحف مكرمة.مرفوعة مطهرة}فوصفها أنها مطهرة، فلا يصلح للمحدث مسها.
قالوا ولقد فهم المسلمون الأوائل دلالة آية الواقعة على هذا المعنى فمنعوا من لم يكن مسلما من مسه، فمن ذلك قول فاطمة بنت الخطاب لأخيها عمر حين طلب منها أن تعطيه الصحيفة التي فيها القرآن لينظر فيها، وهو حينها لم يسلم بعد، فقالت له أخته: (إنك رجس ولا يمسه إلا المطهرون، فقم فاغتسل أو توضأ)، وهي لم تمكنه من ذلك إلا بعد أن طمعت بإسلامه، وظهر لها منه أماراته حين اغتسل وتوضأ.
ثانيا- حجتهم من السنة:
واستدل القائلون باشتراط الطهارة لمس المصحف بجملة من الأحاديث والآثار الدالة على منع غير الطاهر من مس المصحف، من مثل:
أ- حديث عمرو بن حزم أن في الكتاب الذي كتبه النبي صلى الله عليه وسلم له: (أن لا يمس القرآن إلا طاهر).
وفي لفظ: (ألا تمس القرآن طهر).
قال الإمام الشافعي في الرسالة: (ولم يقبلوا كتاب آل عمرو بن حزم- والله أعلم- حتى يثبت لهم أنه كتاب رسول الله)
وقال أبو القاسم البغوي: (سمعت أحمد بن حنبل، وسئل عن حديث الصدقات الذي يرويه يحي بن حمزة أصحيح هو؟
فقال: أرجو أن يكون صحيحا).
وقال أيضا: (لا أشك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتبه).
وقال يعقوب: (لا أعلم كتابا أصح من هذا الكتاب، فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين يرجعون إليه ويدعون رأيهم).
)
وقال الحاكم: ( قد شهد عمر بن عبد العزيز والزهري لهذا الكتاب بالصحة).
وقال ابن عبد البر في التمهيد: ( روي مسندا من وجه صالح، هو كتاب مشهور عند أهل السير، معروف عند أهل العلم يستغنى بها في شهرتها عن الإسناد). وقد خلص الألباني أيضا إلى تصحيح حديث عمرو بن حزم هذا.
ب- وحديث عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يمس القرآن إلا طاهر).
ج- وحديث حكيم بن حزام قال: (لما بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قال:" لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر").
وفي لفظ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (لا تمس القرآن إلا وانت طاهر).
د- حديث عثمان بن أبي العاص قال: ( كان فيما عهد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تمس المصحف وأنت غير طاهر).
هـ - وحديث ثوبان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا يمس القآن إلا طاهر "
و – وحديث معاذ بن جبل رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم لما بعثه إلى اليمن كتب له فى عهده أن لا يمس القرآن إلا طاهر ).
ز – عن مصعب بن سعد بن أبى وقاص قال : ( كنت أمسك المصحف على سعد فحتككت فقال : لعلك مسست ذكرك ؟. فقلت : نعم . قال : قم فتوضأ . قال . فقمت فتوضأت ثم رجعت ).
ح – عن عبد الرحمن بن يزيد قال : ( كنا مع سلمان فخرج لبعض حاجته ثم جاء , فقلت يا أبا عبد الله لو توضأت لعلنا نسألك عن آيات . قال : إنى لست أمسه إنما " لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ " فقرأ علينا ما شئنا ).
ط – عن نافع عن ابن عمر أنه قال : ( لا يمس المصحف إلا متوضئ )
ى – قصة فاطمة بنت الخطاب رضى الله عنها حين منعت أخاها عمر من مس الصحيفة التى فيها القرآن حتى يغتسل , وقد مرت عند الكلام عن وجه الدلالة من آية الواقعة قريبا .
وجه الدلالة من الأحاديث والآثار السابقة :
قالوا فهذه الأحاديث والآثار نص فى المطلوب فحديث عمر بن حزم مثلا وإن كان ضعيف السند لكنه دليل من حيث قبول الناس له واستنادهم عليه فيما جاء فيه من أحكام الزكاة والديات وغيرها , وتلقيهم له بالقبول سلفا وخلفا يدل على أن لهذا الحديث أصلا , وكثيرا ما يكون قبول الناس للحديث سواء كان عمليا أو علميا قائما مقام السند أو أكثر وأعظم , والأمة تستدل بحديث عمرو بن حزم من زمن الصحابة والتابعين إلى يومنا هذا . فمثله لا يقال عنه ليس له أصل , أو هو مردود فإن مثل هذا القول بعيد جدا . قالوا: فإذا حكمنا بصحة هذا الحديث بناء على شهرته صار دليلا على اشتراط الطهارة لمس المصحف , ولا نسلم بأن قوله طاهر فى الحديث محتمل لطهارة القلب من الشرك , لكونه مشتركا يتناول الطهارة من الشرك وطهارة البدن من اللنجس وطهارته من الحدث الأكبر والحدث الأصغر , لأنه وإن دل على ذلك كله إلا إن المأمل فى قوله عليه السلام لا يمس القرآن إلا طاهر , وفى كون الطاهر لا يطلق على الطاهر من الحدث الأكبر والأصغر لقوله تعالى : {مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ } ولكونه عليه السلام ليس من عادته أن يعبر عن المؤمن بالطاهر بل يعبر عن المؤمن بوضعه , وهو الإيمان لأنه أكمل وأبين وأظهر , فإنه يتبين للناظر رجحان حمل المشترك على جميع معانيه متى أمكن وانتفى التناقض بينها كما هنا , بل إن القول بحمل المشترك على جميع معانيه هو المذهب القوى عند علماء الأصول . ولا يقول قائل إن حديث تعمرو بن حزم مكتوب إلى أهل اليمن , وهم حينها ليسوا بمسلمين , فكون قرينة توجيهه لغير المسلمين دالة على أن المراد بالطاهر هو المؤمن , فهذه المقولة وإن كانت واردة , لكن التعبير بالطهارة عن الإيمان نادرا فى كلامه عليه السلام , لأنه عليه السلام يعلق الشئ بالإيمان , ويصف المؤمن بوضعه الذى هو الإيمان , لأنه الوصف الأكمل فما الذى يمنعه عليه السلام من أن يقول لا يمس القرآن إلا مؤمن مع أن هذا أبين وأوضح لا سيما والمقام مقام بيان , فترجح بذلك كون المراد بالطهارة فى الحديث الطاهر من الأحداث , لأنه الحقيقة الشرعية فى هذا الباب .
ثالثا – حجتهم من المعقول :
قالوا لأن فى اشتراط الطهارة لمس المحف إكراما للقرآن وتعظيما له , حكى هذا عن الإمام وغيره قالوا : ولوسلمنا بعدم دلالة آية الواقعة على المطلوب بالنص فإنها تدل على المطلوب من باب التنبيه والإشارة إذا كانت الصحف التى فى السماء لا يمسها إلا المطهرون , فكذلك التى بأيدينا من القرآن لا ينبغى أن يمسها إلا طاهر , من باب القياس الأولى . حكاه بن القيم عن شيخه ابن تيميه .
قال أبو العباس فى شرحه على العمدة : ( والوجه فى هذا والله أعلم أن القرآن الذى فى اللوح المحفوظ هو القرآن الذى فى المصحف , كما أن الذى فى هذا المصحف هو الذى فى هذا المصحف بعينه , سواء كان المحل ورقا , أو أديما , أو حجرا , أو لخافا , فإذا كان من حكم الكتاب الذى فى السماء أن لا يمسه إلا المطهرون وجب أن يكون الكتاب الذى الذى فى الأرض كذلك , لأن حرمته كحرمته , أو يكون الكتاب اسم جنس يعم كل ما فيه القرآن , سواء كان فى السماء أو الأرض . وقد أوحى إلى ذلك قوله تعالى : {رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُّطَهَّرَةً } , {فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ }
فوصفها أنها مطهرة فلا يصح للمحدث مسها .
قالوا فإن قيل بـأن لفظ الطاهر مشترك يحتمل عدة معانى , كطهارة القلب من الشرك , طهارة البدجن من النجس , وطهارة الحدث الأصغر والأكبر , والدليل إذا دخله الأحتمال سقط به الآستدلال , قلنا لا مانع من حمل اللفظ على جميع هذه المعانى إن كان لفظ الطهارة مشتركا بينهما , وحمل المشترك على جميع معانيه هو المذهب القوى وإنما يمتنع حمل المشترك إذا كان بين أمرين متضادين فلا يحمل على أحدهما إلا الدليل .
حجة من لم يشترط الطهارة لمس المصحف :
احتج من لم يشترط الطهارة لمس القرآن بكون ذلك حكما شرعيا يحتاج فى إثباته إلى دليل شرعى , ولا دلي على ذلك من كتاب ولا سنة ثابتة , فإذا لم يكن دليل رجعنا إلى البراءة الأصلية ولم نأثم عباد الله بغير برهان , أو نكلفهم بأمر فيه مشقة وحرج , لا سيما فى أوقات المكارة كشدة البرد مثلا , فمس القرآن بغير وضوء جائز , برهان ذلك أن قراءة القرآن بالمصحف من أفعال الخير مندوب إليه مأجور فاعله , فمن ادعى المنع من ذلك فى بعض الأحوال كلف أن يأتى البرهان .
قالوا ولا نسلم دلالة آية الواقعة على اشتراط الطهارة لمس المصحف , لأن قوله تعالى : {لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} خبر بضم السين ولو كان نهيا لقال لا يمسنه .
فعلى هذا يكون مرجع الضمير فى قوله : { لَّا يَمَسُّهُ } هو الكتاب المكنون المذكور فى الآية قبله , وقد قيل فى تفسيره بأنه اللوح المحفوظ , والصحيح أنه الكتاب الذى بأيدى الملائكة , وهو المذكور فى قوله :
ويدل على أنه الكتاب الذى بأيدى الملائكة قوله : {} . فهذا يدل على أنه بأيديهم يمسونه وهذا هو الصحيح فى معنى الآية لوجوه عدة آثرت ذكرها فى الحاشية ليطلع عليها من رامها .
قالوا وما الآثار التى احتج بها من اشتراط الطهارة لمس المصحف فإنه لا يصح منها شئ , لأنها إما مرسلة , وإما صحيفة لا تسند , وإما عن مجهول , وإما عن ضعيف . قال ابن حزم فى المحلى إثر إيجازه العلل المذكورة : وقد تقضيناها فى غير هذا المكان .
واستدل ابن حزم بالقياس على قراءة القرآن من غير مس , وبقول من قال بجوواز مس القرآن من وراء الحوائل , قال : ( قال على : هذه تفاريق لا دليل على صحتها لا من قرآن ولا من سنة - لا صحيحة ولا سقيمة – ولا من إجماع , ولا من قياس , ولا من قول صاحب , ولئن كان الخرج حاجزا بين الحومل وبين القرآن , فإن اللوح وظهر الورقة حاجز أيض بين الماس وبين القرآن ولا فرق) . ولا يخفى ما فى قول ابن حزم هذا من منافاة لأصله , وما هو متقرر عند أهل الظلهر من عدم اعتبار القياس لكونه فى زعمهم ضربا من الظن , وأن الظن لا يغنى من الحق شيئا .
قالوا ومما يدل على عدم اعتبار الطهارة لمس مكتوب القرآن ما روى أن االنبى صلى الله عليه وسلم : " كتب إلى قيصر : "" {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ}. وقد علم من حالهم أنهم يمسونه ويتداولونه على غير طهارة , قالوا ولأن الطهارة لما لم تجب لقراءة القرآن , فأولى ألا تجب لحمل القرآ. قالوا : ولأن كلما لم يكن ستر العورة مستحقا فيه , لم تكن الطهارة مستحقة فيه كأحاديث النبى صلى الله عليه وسلم وكتب الفقه .
والذيم لم يعتبروا شرط الطهارة لمس المصحف قد أيدوا مذهبهم من وجه آخر مبنى على التسليم بأن المراد بالمطهرين المتصفين بذلمك من الناس , وأن مرجع الضمير فى قوله: {لَّا يَمَسُّهُ} هو المصحف , وأن قوله : " لا يمس القرآن إلا طاهر "
ثابت الرفع إلى صلى الله قالوا على التسليم بذلك كله , فإنه لا دليل على الطهارة من الأحداث لكونه محتملا , لأن المطهر من ليس بنجس , والمؤمن ليس بنجس دائما لحديث : " إن المؤمن لا ينجس " , وهو متفق عليه . فلا يصح حمل المطهر على من ليس بجنب أو حائض أو محدث أو متنجس بنجاسة عينية , بل يتعين حمله على من ليس بمشرك , كما قال الله تعالى : " إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ"
وللحديث السابق ولحديث النهى عن السفر بالقرآن إلى أرض العدو . ولو سلم صدق اسم الطاهر على من ليس بمحدث حدثا أكبر أو أو أصغر , فقد عرفت أن الراجح كون المشترك مجملا فى معانية فلا يعين حتى يبين , وقد دل الدليل ههنا أن المراد به غيره لحديث : " المؤمن لا ينجس "
جواب مشترطى الطهارة عن اعتراضات مخالفيهم :
ويمكن الجواب عما أعترض به القائلون بعدم اعتبار الطهارة كشرط لمس المصحف على أدلة الجمهور بأجوبة هى بمثابة المخلص لما مر تفصيله عند ذكر أدلة الجمهور , ووجه الدلالة من كل دليل فيها فهو اختصار يذكر هنا لما تم بسطه هناك فيقال إن اعتراض المخالف على الاستدلال بلآيات الواقعة غير مسلم لوجوه :
أحدها : أن دعوى توجه النهى فى الآيه إلى اللوح المحفوظ غير مسلمة , لأن النهى إنما ورد عم مس كتاب منزل , واللوح المحفوظ غير منزل .
والوجه الثانى : أن لفظ المطهرون فى الآية لا يراد بهم الملائكة , لأن وجود الاستثناء يتنصب مانعا من ذلك , إذ ليس فى الملائكة من ليس بمطهر يتوجه إليه الأستثناء , وإذا كان ذلك كذلك أفضى القول به إلى تعطيل لفظ من ألفاظ الشارع عن معناه وتجريده عن فائدته .
الوجه الثالث: أنا لا نسلم بأن قوله تعالى : {لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} خبر لا نهى , بل نقول بأنه نهى بصيغة الخبر سلمنا كونه خبرا لكن التعبير بالخبر عن النهى معهود فى الشرع واللغة , بل قال علماء البيان بأنه أبلغ من صرح الأمر والنهى , لأن المتكلم لشدة تأكد طلبه نزل المطلوب منزلة الواقع لا محالة . ومنه قوله تعالى : {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً}. وقوله عليه السلام :" لابيع الرجل على بيع أخيه " بلفظ الخبر , والمراد النهى , بل يمكن أن يبقى الخبر على ظاهره , أعنى أن يكون خبرا فى صيغته ومعناه دون أن يستلزم محذورا أو خلفا فى الخبر إذا قلنا بأن الخبر فى الآيه يتضمن نفيا لوجود مس مشروع حال انتفاء الطهارة , فيكون المعنى أنه لا يمس القرآن مسا مأذونا فيه شرعا إلا المطهرون أى المتطهرون الأحداث .
الوجه الرابع : أن الأعتراض على دلالة الآية على اشتراط الطهارة من الأحداث إذا فرضت جدلا ممنوعهة لكون المطهر أو الطاهر مشتركا لفظيا يحتمل معانى عدة كطهارة القلب من الشرك وطهارة البدن من النجس , وطهارة الحدث الأصغر والأكبر والدليل إذا دخله الاحتمال سقط به الإستدلال , فجوابه أنه لا مانع من حمل اللفظ على جميع هذه المعانى إن كان لفظ الطهارة مشتركا بينها , وحمل المشترك على جميع معانيةه هو المذهب القوى . وإنما يمتنع حمل المشترك إذا كان بين أمرين متضادين , فلا يحمل على أحدهما إلا لدليل .
ومما يؤيد إرداة الطاهر من الأحداث فى عرف الشارع قول الله عزوجل فى آية المائدة : {مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ } وقوله صلى الله عليه وسلم :" لايمس القرآن إلا طاهر " , محمول على الطهارة المعهودة فى الشرع لكونه عليه السلام ليس من عادته أن يعبر عن المؤمن بالطاهر , بل يعبر عن المؤمن بوصفه وهو الإيمان , لأنه أكمل وأبين وأظهر . فلا يسع المتعمين فى ذلك إلا أن يرجح حمل المشترك المذكور على الطهارة الحسية من الأحداث .
والوجه الخامس : قالوا ولو سلمنا بعدم دلالة آية الواقعة على المطلوب بالنص , فإنها تدل على المطلوب من باب التنبيه والإشارة فإذا كانت الصحف التى فى السماء لا يمسها إلا المطهرون , فكذلك الصحف التى بأيدينا من القرآن لا ينبغى أن يمسها إلا طاهر من باب القياس الأولى .
قالوا وأما الجواب عن رد مانعى أشتراط الطهارة للسنن الدالة على اعتبارها ودعوى عدم صحة شئ من تلك السنن , فملخصه أن جمعا من أئمة المحدثين كمالك والشافعى وأحمد قد احتجوا بها ولا سيما حديث عمرو بن حزم فى هذا الباب وهو حديث قد احتجت به الأمة وتلقته بالقبول من لدن الصحابة والتابعين إلى يومنا هذا , وجعلوه مستندا لثبوت أحكام كثيرة كالزكاة والدياتن , فتلقى الأمة له بالقبول سلفا وخلفا يدل على أن لهذا الحديث أصلا , ولهذا قال الإمام الشافعى فى الرسالة : ( ولم يقبلوا كتاب آل عمرو بن حزم والله أعلم - حتى يثبت لهم أنه كتاب رسول الله ).
وقال أبو القاسم البغوى : ( سمعت أحمد بن حنبل وسئل عن حديث الصدقات الذى يرويه يحى بن حمزة أصحيح هو ؟ . فقال : أرجو أن يكون صحيحا ). وقال أيضا : (لا أشك أن رسول صلى الله عليه وسلم كتبه ).
وقال يعقوب بن سفيان : ( لا أعلم كتابا أصح من هذا الكتاب , فإن أصحاب رسول الله والتابعين يرجعون إليه ويدعون رأيهم ).
وقال الحاكم : ( قد شهد عمر بن عبد العزيز والزهرى لهذا الكتاب بالصحة ). وقال ابن عبد البر فى التمهيد جوابا عن دعوى الإرسال( روى مسندا من وجه صالح , وهو كتاب مشهور عن أهل السير , معروف عند أهل العلم معرفة يستغنى بها فى شهرتها عن الإسناد )
وقد خلص صاحب الأرواء أيضا إلى تصحيح حديث عمرو بن حزم هذا بعد أن كان يميل إلى تضعيفه
وفى الباب أيضا حديث ابن عمر وقد احتج به الإمام أحمد , وذكر الحافظ بن حجر أن إسناد هذا الحديث لابأس به وذكر الأثرم أن أحمد احتج به . وكذا أورده الألبانى فى صحيح الجامع وصححه
وفى الباب أيضا حديث حكيم بن حزام صححه الحاكم , ووافقه الذهبى
كما صح القول باعتبار الطهارة لمس المصحف موقوفا على طائفة من الصحابة كسعد بن أبى وقاص , وسلمان الفارسى وابن عمر , وحكاه الماوردى فى الحاوى عن على بن أبى طالب رضى الله عنه , بل كان القول باعتبار الطهارة لمس مكتوب القرآن مستقرا فى أذهان المسلمين منذ الأيام الأولى وقبل الهجرة , كما هو مشهور فى قصة عمر بن الخطاب مع أخته فاطمة ومنعها اياه من مس الصحيفة التى فيها القرآن بحجة كونه كافرا نجسا , والقرآن لا يمسه إلا المطهرون
وقال غير واحد من أهل العلم بعد حكايته الآثار الموقوفة على الصحابة رضوان الله عليهم , بأنه لم يعرف لهم مخالف من الصحابة .
كما وإن القول باعتبار الطهارة لمس المصحف هو الذى عليه خلق كثير من التابعين وتابيعهم ,وأئمة المجتهدين , مما يدل على أن ذلك كان معروفا عندهم ثابنا لديهم فكيف يدعى بعد ذلك كله ألا دليل على اعتبار الطهارة لمس المصحف يصلح ناقلا عن البراءة الأصلية , ولأنه لما كان التطهير من النجاسة مستحقا كان التطهير من الحدث مستحقا فيه كالصلاة .
فأما الجواب عن كتابه إلى قيصر فمن وجهين :
أحدهما : أن قيصر كان مشركا والمشرك ممنوع من مسه بلإتفاق , فلم يكن فيه دليل
والثانى : أنه كان كتابا قد تضمن مع القرآن دعاء الإسلام فلم يكن القرآن بانفراده مقصودا فجاز تغليب المقصود فيه .
وأما الجواب عن قولهم إن تلاوة القرآن أغلظ حكما , فهو أنه غير مسلم ألا ترى أن الكافر لا يمنع من تلاوة القرآن , ويمنع من مس المصحف فكذلك المحدث !
وأما الجواب عن ستر العورة فلأن العضو الذى يمسه به من جسده لا يتعدى كشف العورة إليه , ويتعدى حكم الحدث إليه فافترقا). [المتحف:120-154]

قال صَالِحٌ بْنُ مُحَمَّدِ الرَّشيدِ (م):(قد مضى فى مسألة اشتراط الطهارة لمس المصحف من هذا " البحث ذكر المذاهب فى اعتبار هذا الشرط أو ألغائه , وحجة كل مذهب مع قدر من البسط , بيد أن تحرج النساء ولا سيما المنتسبات منهن إلى تعليم من ملابسة الكتب المتضمنة لشئ من القرآن فضلا عما تقتضيه مقامات التعليم من حاجة إلى مس المصضحف , ولا سيما فى مواسم الأختبارات , حيث لا يجدن بدا من ذلك , رأيت من المناسب أن أخص ميألة مس الحائض والنفساء للمصحف بمبحث مستقل يسهل معه الوقوف على أقوال أهل العلم فى هذه المسألة بعينها بغض النظر عن كونها فردا من أفراد مبحث اشتراط الطهارة لمس المصحف .. فأقول وبالله التوفيق :
تتخلص أقوال أهل العلم فى مسألة مس الحائض والنفساء للمصحف فى أربعة مذاهب :
أحدها : الجواز مطلقا لعدم الدليل على اشتراط الطهارة لمس المصحف أصلا .
والثانى : مقابلة , فلا يجوز على هذا المذهب مس المصحف للحائض والنفساء مطلقا , لقوله تعالى عن القرآن : ( لا يمسه إلا المطهرون ), ولقوله عليه السلام : ( لا يمس القرآن إلا طاهر " , وقوله : " لا يقرأ الجنب ولا الحائض شيئا من القرآن " , وهذا هو الذى عليه جماهير أهل العلم بما فيهم أتباع المذاهب الأربعة وغيرهم .
القول الثالث : أن مس المصحف زمن الحيض أو النفاس جائز إذا احتاجت المرأة إليه لتعلم أو لتعليم أو خافت النسيان , بل إن من القائلين بهذا المذهب من أوجب على الحائض ذلك إن ظنن نسيانا ولم يكن بد لها من استذكار القرآن إلا به .
قالوا : وقد كان النساء يحضن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم , فلو كانت القراءة محرمة عليهم كالصلاة لكان هذا مما بينه النبى صلى الله عليه وسلم لأأمته , وتعلمه أمهات المؤمنين , وكان ذلك مما ينقلونه إلى الناس , فلما لم ينقل أحد عن النبى صلى الله عليه وسلم فى ذلك نهيا لم يجز أن تجعل حراما مع العلم أنه لم ينه عن ذلك , وإذا لم ينه عنه مع كثرة الحيض فى زمنه علم أنه ليس بمحرم , وإذا لم يثبت فى تحريم قراءة القرآن زم الحيض دليل , وكانت القراءة لا تتأتى إلا بالمصحف لم يكن مس المصحف محرما لكونه وسيلة لذلمك , وللوسائل حكم المقاصد .
ورابع هذه المذاهب : أنه لا يجوز للحائض والنفساء أن تمس المصحف من وراء الحوائل إذا احتاجت إلى مسه , وقلنا بأنه لها أن تقرأ زمن حيضها أو نفاسها , على أن من أصحاب هذا المذهب من فرق بين الحائض والنفساء , فرأى بأن الحيض يتكرر والنفاس يندر , فجوز القراءة فيما يتكرر دون ما يندر
ثم إن القائلين بجواز مس المصحف من وراء الحوائل قد اختلفوا فى ما هية هذه الحوائل , فمنهم من اشترط أن تكون الحوائل منفصلة عن المصحف وعن بدن القارئ ومنهم من جوز المس من وراء الكم والقفاز وما شاكلهما وإن كان متصلا ببدن الماس , ومنهم من اعتبر غلاف المصحف كافيا لجواز المس حال الحدث على ما مضى تفصيله فى غير موضع من هذا البحث , وعلى ما هو مبين فى النصوص التالية فى هذا الشأن .
وقد عقد ابن المنذر بابا فى ذكر مس الجنب والحائض المصحف والدنانير والدراهم المنقوش عليها قرآنا , ثم قال : ( اختلف أهل العلم فى مس الحائض والجنب المصحف , فكره كثير منهم ذلك , منهم ابن عمر ) . ثم مضى فى ذكر الروايات بأسانيدها , وحكى المنع من مس المصحف عن الحسن والشعبى وطاؤس والقاسم وعطاء والحكم وحماد , وهو مذهب النخعى والزهرى . قال ابن المنذر : ( وكره مالك أن يحمل المصحف بعلاقته أو على وسادة أحد إلا وهو طاهر . قال : ولا بأس أن يجعله فى الخرج والتابوت والغرارة ونحو ذلك من على غير وضوء , ويحمل النصرانى واليهودى المصحف فى الغرارة والتابوت فى مذهبه ) . وقال الأوزاعى والشافعى:( لا يحمل المصحف الجنب والحائض ) . وقال أحمد وإسحاق : ( لا يقرأ فى المصحف إلا متوضئ . قال إسحاق : لما صح قول النبى صلى الله عليه وسلم : ( لا يمس القرآن إلا طاهر ), وكذلك كان فعل أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم وكره أحمد أن يمس المصحف أحد على غير طهارة , إلا أن يتصفحه بعود أو بشئ )
وقال أبو ثور : ( لا يمس المصحف جنب ولا حائض ولا غير متوضئ . قال : وذلك أن الله تعالى يقول : {لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ}. قال : وهذا قول مالك وأبى عبد الله ).
وحكى يعقوب عن النعمان أنه قال فى الرجل الجنب يأخذ الصرة فيها دراهم فيها السورة من القرآن أو المصحف بعلاقته , قال: ( لا يأخذ الدراهم إذا كان جنبا وفيها السورة من القرآن فى غير صرة , وكذلك المصحف فى غير علاقته ).
وقال أبو يوسف ومحمد : ( لايأخذ ذلك وهو على غير وضوء إلا فى صرة أو علاقة ). ثم ذكر حجة المانعين على نحو مما مر فى مسألة اشتراط الطهارة لمس المصحف , ثم قال: ( ورخص بعض من كان فى عصرنا للجنب والحائض فى مس المصحف ولبس التعاويذ ومس الدراهم والدجنانير التى فيها ذكر الله تعالى على غير طهارة ) . ثم ذكمر جواب المرخصين على أدلة المانعين , ثم قال ابن المنذر : ( والأكثر من أهل العلم على القول الأول ). ثم ذكر ابن المنذر حجة المرخصين على ما سيأتى بيانه عند الاستدلال .
الاستدلال :
المتتبع لنصوص الفقهاء فى مسألة مس المصحف وقراءة القراءن زمن الحيض أو النفاس يلحظ أن جمهور الفقهاء قد عول فيما ذهب إليه من منع الحائض والنفساء من مس المصحف أو قراءة القرآن على الأدلة التى اعتمدوها فى اشتراط الطهارة من الحدثين على ما مر تفصيله فى المسألة المذكورة , فلا معنى لإعادته هنا , إلا أن السرخسى فى المبسوط قد ذكر فى منع الحائض من مس القرآن دليلا خاصا فى محل النزاع حيث قال فى معرض الاحتجاج لمذهب المانعين : ( وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بعض القبائل لا يمس القرآن حائض ولا جنب ). بيد أن السرخسى حين ذكر هذا الأثر لم يسنده ولم يسم رواية ولم يعزه إلى شئ من دواوين السنة , بل لا أجد لهذا الأثر بهذا اللفظ ذكرا فيما وقف عليه من كتب فقهاء المذهب الحنفى السابقين على السرخسى أو اللاحقين له , ولم أجد لهذا اللفظ ذكرا فى كافة دواوين السنة التى تيسر لى الوقوف عليها , نعم قد روى الحديث بلفظ : " لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئا من القرآن " مرفوعا وموقوفا عن ابن عمر . وعن جابر رضى الله عنهما , لكن جمهور نقاد الحديث قد أطبقوا على تضعيفه مرفوعا وموقفا . وقد بسط الألبانى الكلام على ذلك فى الإرواء , وتابعه محقق الخلافيات للبيهقى , إلا أن الأخير قد مال إلى تصحيح رواية موقوفة على جابر رضى الله عنه ذكرها ابن المنذر فى الأوسط قال : ( أخبرنا ابن عبد الحكم , أنا ابن وهب , أخبرنى ابن لهيعة عن أبى الزبير : " أنه سأل جابرا عن المرأة الحائض والنفساء هل تقرأ شيئا من القرآن ؟ فقال جابر : لا "). قال محقق الخلافيات : ( وإسناده صحيح , رواه عن ابن لهيعة عبد الله بن وهب ولم يعنن أبو الزبير , ولم أر أحد نبه على هذا الطريق ولله الحمد والمنة ). ثم وجدت مرسلا لأبى الشعثاء جابر بن زيد الأزدى ذكره الربيع بن حبيب البصرى فى مسنده من طريق أبى عبيده مسلم بن أبى كريمة التميمى عن جابر بن زيد الأزدى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الجنب والحائض والذين لم يكونوا على طهارة : " لا يقرأ القرآن ولا يطؤون مصحفا بأيديهم حتى يكونون متوضئين ""
مناقشة الجمهور لأدلة المرخصين :
وقد أجمل الماوردى فى الحاوى أدلة المرخصين للحائض والنفساء فى مس المصحف , ثم ناقشها دليلا دليلا , ويأتى نصه بتمامه عند عرض نصوص الشافعية قريبا.
حجة المرخصين : قال ابن المنذر : ( واحتجت هذه الفرقة بقول النبى صلى الله عليه وسلم لعائشة : " أعطينى الخمرة . قالت : إنى حائض . قال : إن حيضتك ليست بيدك " . وبقول عائشة : " كنت أغسل رأس النبى صلى الله عليه وسلم وأنا حائض "
قال: وفى هذا دليل على أن الحائض لاتنجس ما تمس , إذ ليس جميع بدنها نجس , وإذا ثبت أن بدنها غير نجس إلا الفرج ثبت أن النجس فى الفرج لكون الدم فيه , وسائر البدن طاهر ")
وقد الحكى المنذر فى الأوسط القول بمنع الحائض من مس القرآن تلاوته عن طائفة من السلف , فذكر القول بكراهة القراءة لللحائض عن عمر وعلى وجابر والحسن وقتادة وعبيدة وعطاء وأبى العالية وابن جبير وجابر بن زيد . قال ابن المنذر : ( واختلف فى قراءة الحائض عن الشافعى , فحكى أبو ثور عنه أنه قال : لابأس أن تقرأ . وحكى الربيع عنه أنه قال : لا يقرأ الجنب ولا الحائض , ولا يحملان المصحف . وكان أحمد يكره أن تقرأ الحائض , وذكر الجنب فقال : " أما حديث على فقال : ولا حرف , الأثرم عنه " . وحكى إسحاق بن منصور عنه أنه قال : يقرأ طرف الآية ,والشئ كذلك , وكذلك قال إسحاق . وحكى أبو ثور عن الكوفى أنه قال : لا تقرأ الحائض . وقال أبو ثور : لا تقرأ الحائض ولا الجنب القرآن )
قال مالك : ( لا يقرأ الجنب القرآن إلا أن يتعوذ بالآية والآيتين عند منامة , ولا يدخل المسجد إلا عابر سبيل , وكذلك الحائض ). وحكى ابن المنذر فى الأوسط الترخيص للحائض فى قراءة القرآن عن طائفة من أهل العلم , قال : ( قال محمد بن مسلمة : " كره للجنب أن يقرأ القرآن حتى تغتسل " . قال : وقد أرخص فى الشئ الخفيف مثل الآية واليتين يتعوذ بهما , وأما الحائض ومن سواها فلا يكره لها أن تقرأ القرآن , لأن أمرها يطول فلا تدع القرآن , والجنب ليس كحالها)
جملة من نصوص الفقهاء فى مسألة مس الحائض للمصحف , وقراءتها للقرآن :
وإتماما للفائدة ولكى يكون القارئ على بينة مما قيل فى هذا الشأن , أسوق هنا طائفة من نصوص فقهاء كل مذهب منالمذاهب الأربعة المعتبرة , يتبين من خلالها موقف كل فقيه من هذه المسألة , ومستنده فيما اختاره وذهب إليه , مراعيا فى ذكر هذه النصوص وترتبها الاعتبار الزمنى والسبق التاريخى لإمام كل مذهب منها طبقا لما هو معتاد فى مثل هذا البا , ووفقا لما جرى عليه جمهور الكاتبين فى الفقه المقارن من تقديم المذهب الحنفى فالمالكى فالشافعى فالحنبلى .
نصوص فقهاء الحنفية:
قال السرخسى فى المبسوط وهو بصدد تعداد الأشياء التى يمنعها الحيض , قال : ( ومنها أنها لا تمس المصحف ولا اللوح المكتوب عليه آيه تامة من القرآن لقوله تعالى : ( لا يمسه إلا المطهرون ) وهذا وإن قيل فى تأويله لا ينزله إلا سفرة الكرام البررة فظاهره يفيد منع غير الطاهر من مسه وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بعض القبائل :
" لا يمس القرآن حائض ولا جنب " , ومنها أنها لا تقرأ القرآن إلا على قول مالك رحمه الله تعالى , فإنه كان يجوز للحائض قراءة القرآن دون الجنب , قال لأن الجنب قادر على تحصيل صفة الطهارة بالأغتسال , فيلزمه تقديمه على القراءة , والحائض عاجزة عن ذلك فكان لها ان تقرأ.
" ولنا " حديث ابن عمر أن النبى صلى الله عليه وسلم كان ينهى الحائض والجنب عن قراءة القرآن , ثم عجزها عن تحصيل صفة الطهارة يدل على تغليظ ما بها من الحدث , فلا يدل على إطلاق القراءة لها . وذكر الطحاوى رحمه الله تعالى أنها إنما تمنع عن قراءة آية تامة , ولا تمنع عن قراءة ما دون ذلك . قال الكرخى رحمه الله تعالى : تمنع عن قراءة ما دون الآية أيضا على قصد قراءة القرآن , كما تمنع عن قراءة الآية التامة لأن الكل قرآن .
قراءة آيه تامة , ولا تمنع عن قراءة ما دون ذلك . قال الكرخى رحمة الله تعالى : تمنع عن قراءة ما دون الآية أيضا على قصد قراءة القرآن , كما تمنع عن قراءة الآية التامة , لأن الكل قرآن .
وجه قول ا لطحاوى رحمه الله : أن المتعلق بالقرآن حكمان : جواز الصلاة ومنع الحائض عن قراءته ثم فى حق أحد الحكمين يفصل بين الآية وما دونها , وكذلك فى الحكم الآخر ). وجزم الكاسانى فى البدائع بمنع الحائض والنفساء من قراءة ومس المصحف إلا بغلافه
وقال الأندربتى فى الفتاوى التاريخانية وهو فى معرض ذكر الأشياء التى يمنعها الحيض , قال : ( ومنها أن لا تمس المصحف ولا الدرهم المكتوب عليه آية تامة من القرآن , ولااللوح المكتوب عليه آيه تامة من القرآن . وهل يكره لها مس المصحف بكمها أو ذيلها؟ قال بعض مشايخنا رحمهم الله : يكره , وعامتهم على أنه لا يكره , لأن المحرم هو المس , وأنه اسم للمباشرة باليد من غير حائل , ألا ترى أن المرأة إذا وقعت فى ردغة حل لأجنبى أن يأخذ بيدها بحائل ثوب , وكذا حرمة المصاهرة لا تثبت بالمس بالحائل , وفى الصيرفية : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) قرآن تمنع من مسها , وفى الذخيرة قال محمد رحمة الله فى رواية : لابأس بمسه بالكم . ويكره للحائض مس كتب الفقه وما هو من كتب الشريعة , ولا بأس بالكم . وفتاوى أهل سمر قند : ويكره للجنب والحائض أن يكتب الكتاب الذى فى بعض سطوره آية من القرآن , وإن كان لا يقرءان ولا ينبغى . وفى التهذيب ويكره للحائض أن تقرأ التوراة والإنجيل والزبور .
م: ولا بأس لها أن تمس المصحف بغلاف , والغلاف هو الجلد الذى عليه فى أصح القولين . وقيل هو المنفصل كالخريطة ونحوها . ولا بأس لها بكتابة القرآن عند أبى يوسف رحمه الله إذا كانت الصحيفة علىالأرض , لأنها لا تحمل المصحف , والكتابة تقع حرفا حرفا , وليس الحرف الواحد بقرآن . وقال محمد رحمه الله : أحب إلى أن لا تكتب . ومنها ألا تقرأ القرآن عندنا , والآية وما دونها فى تحريم القراءة سواء , هكذا ذكر الكرخى رحمه اله فى كتابه . وفى الخلاصة والنصاب : هو الصحيح , وقيد الطحاوى رحمة الله فى حرمة القراءة بآية تامة , وفى المنظومة فى باب مالك رحمه الله :
وتقرأ القرآن فى الحيض اعلمن
م: وهذا إذا قصدت القراءة فإن لم تقصد بها نحو أن تقرأ : " الحمد لله "" شكرا للنعمه فلا بأس به , وذكر الصدر الشهيدرحمه الله فى مختصر كتاب الحيض أن الآية إذا كانت طويلة فقراءتها حرام عليها , وإن كانت قصيرة إن كانت تجرى على اللسان عند الكلام كقوله : بسم الله الرحمن الرحيم . الحمد لله رب العالمين ) يحرم أيضا , وإن كانت لا تجرى على اللسان عند الكلام كقوله : ( ثم نظر ) , وكقوله : ( ولم يولد ) فلا بأس به . وفى الحجة : وقراءته بالفارسية أيضا على قول أبى حنيفة رحمه الله لا يجوز , وإذا حاضت المعلمة فينبغى لها أن تعلم الصبيان كلمة كلمة وتقطع بين الكلمتين على قول الكرخى رحمه الله , وعلى قول الطحاوى رحمه الله تعلم نصف آية وتقطع , ثم تعلم نصف آيه ,ولا يكره لها التهجى بالقرآن , وكذلك لا يكره لها قراءة دعاء القنوت : اللهم إنا نستعينك . وفى السنغاقى : النظر إلى المصحف لا يكره للجنب والحائض ) . انتهى التتارخانية .
واختلف قول فقهاء الحنيفة فى تعليل جواز نظر المحدث فى المصحف , فقال بعضهم : لأن الجنابة لا تحل العين .
وقال ابن عابدين فى حاشيته : ( تقد ما يفيد أن الجنابة تحلها وسقط غسلها .............؟
للحرج ط الأولى أن يعلل بعدم المس كما قال ح , لأنه لم يوجد فى النظر إلا المحاذاة . قال ومثل الجنب فى عدم كراهة النظر من غير مس الحائض والنفساء قال لكن الوضوء لمطلق الذكر مندوب وتركه خلاف الأولى )
وذكر الحصكفى فى الدر فى أصل المسألة أن الحيض يمنع قراءة قرآن بقصده ومسه ولو مكتوبا بالفارسية فى الأصح إلا بغلافه المنصل كما مر , وكذا يمنع حمله كلوح وورق فيه آيه . قال ولا يكره تحريما ممس قرآن بكم عند الجمهور تيسيرا وصحح فى الهدية الكراهة وهو الأحوط .
وقال ابن عابدين فى الحاشية : ( قوله بقصده فلو قرأت الفاتحة على وجه الدعاء أو شيئا من الآيات التى فيها معنى الدعاء ولم ترد القراءة لا بأس به كما كما قدمناه عن العيون لأبى الليث , وأن مفهومه أن ما ليس فيه معنى الدعاء كسورة أبى لهب لا يؤثر فيه قصد غير القرآنية . قوله ومسه أى القرآن ولو فى لوح أو درهم أو حائط , لكن لا يمنع إلا من مس الكتوب بخلاف المصحف , فلا يجوز مس الجلد وموضع الباض منه . وقال بعضهم يجوز وهذا أقرب إلى القياس والمنع أقرب إلى التعظيم كما فى البحر , أى والصحيح المنع كما ذكره , ومثل القرآن سائر الكتب السماوية كما قدمناه عن القهستانى وغيره , وفى التفسير والكتب الشرعية خلاف مر . وقوله إلا بغلافه المنفصل أى كالجراب والخريطة دون المتصل كالجلد المشرز هو الصحيح , وعليه الفتوى , لأن الجلد تبع له سراج , وقدمنا أن الخريطة الكيس أقول ومثلها صندوق الربعة , وهل مثلها كرسى المصحف إذا سمر به يراجع . قوله وكذا يمنع حمله تبع فيه صاحب البحر حيث ذكره عند تعداد أحكام الحيض , وفيه أنه إن أراد به حمله استقلالا أغنى عنه ذكر المس أو تبعا فلا يمنع منه , فى الحلية عن المحيط لو كان المصحف فى صندوق فلا بأس للجنب أن يحمله , وفيها قالوا لا بأس بأن يحمل خرجا فيه محص , قال بعضهم يكره . وقال آخر يكره أخذ زمام الإبل التى عليها المصحف . قال المحبوبى : ولكنه بعيد وهو كما قال أ. هـ أقول وقد يقال يمكن تصوير الحمل بدون مس وتبيعه كحمله مربوطا بخيط مثلا , لكن الظاهر جوازه تأمل ) . انتهى
كلام ابن عابدين
والمتأمل فى نصوص فقهاء الحنفية يلحظ أنهم يعطون الكتب السماوية السابقة حرمة كحرمة القرآن فى حين أنهم يترددون فى إثبات هذه الحرمة لقرآن إذا كان مختلطا بالتفسير أو غيره من العلوم الشرعية , وهو عجيب منهم لا يوافقهم عليه غيرهم من فقهاء المذاهب الثلاثة , لأن الكتب السماوية السابقة قد بدلت وحرفت من قبل أهل الكتاب , والقدر الذى لم يبدل منها على تقدير وجوده مجهول وليس بأعلى حرمة من منسوخ التلاوة , فضلا عن ثابتها مما ليس بمجرد عن غيره
نصوص فقهاء المالكية :
اختلفت نصوص فقهاء المالكية فى مسألة مس الحائض والجنب للمصحف فمنهم من صرح باختلاف الرواية فيها عن مالك رحمه الله , كالقاضى سند بن عنان الأسدى صاحب الطراز فى شرح المدونة ومنهم من أنكر اختلاف الرواية فيها وجعل المنع من مس المصحف للحائض والجنب قولا واحدا وهو المأخوذ من كلام ابن رشد فى المقدمات , على أن كلامه فى البيان والتحصيل مشعر بموافقته للقاضى سند , حيث حكى رواية بالتخفيف عن الحائض , لكن فى مقام التعليم خاصة , وهو الذى صرح به متأخروا المالكية كخليل وشراحه .. وهاك نصوصهم فى هذا الشأن :

قال القرافى فى الذخيرة فى باب الغسل منها : ( فى الطراز : يفارق الجنب الحائض فى جواز قراءة القرآن ظاهرا , ومس المصحف للقراءة على المشهور فى الحائض لحاجة التعليم وخوف النسيان ) . إلى أن قال : ( والأصل فى المنع حديث الترمذى : قال عليه السلام : " لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئا من القرآن "
قال بن رشد فى المقدمات بعد أن بين أن الأشياء التى يمنعها الحيض خمسة عشر , عشرة منها متفق عليها , وخمسة مختلف فيها , ثم أخذ فى تفصيل العشرة المتفق عليها إلى أن قال : ( والخمس مس المصحف , وفى ذلك اختلاف شاذ فى غير المذهب ) . ثم ذكر الخمسة المختلف فيها إلى أن قال : ( والثانى قراءة القرآن ظاهرا اختلف فيه قول الأمام مالك , والثالث رفع الحدث من غيرهما قيل أنهما يمنعان فلا يكون للمرأة إذا لأجنبت ثم حاضت أن ترفع حكم الجنابة عنها بالاغتسال لتقرأ القرآن ظاهرا , وقيل أن حكم الجنابة مرتفع مع الحيض فيكون لها أن تقرأ القرآن ظاهرا , وإن لم تغتسل للجنابة وهو الصواب , وقيل أنهما لايمنعان فيكون لها إذا أجنبت ثم حاضت أن ترفع حدث الجنابة بالغسل , فتقرأ القرآن ظاهرا لبقاء حدث الحيضة عليها خاصة , فيأتى فى المرأة تجنب ثم تحيض ثلاثة أقوال : أحدها أن لها أن تقرأ القرآن ظاهرا إلا أن تغتسل للجنابة ).
وعلل القاضى عبد الوهاب فى الإشراف جواز القراءة للحائض بقوله : ( ووجه الجواز قوله عليه السلام : "" اقراؤا القرآن "" , واقل أحوال هذا اللفظ الإباحة , ولأنه حدث لا يؤمر معه بالوضوء عن النوم كالحدث الأصغر , ولأن بها ضرورة إلى ذلك كضرورة المحدث لأن الحيض عادة مالوفة تدوم بها الأيام ولا يقدر على رفعة فيشق عليها الأمتناع من القراءة أياما تباعا , فجاز لهذه الضرورة أن يعفى لها عن المنع كما جاز ذلك للمحدث )أ.هـ كلام القاضى عبد الوهاب فى الإشراف , ولم يذكر فى منع كل من الحائض والجنب من مس المصحف خلافا لغير داود الظاهرى , جزم فى المعونة أيضا بمنع المحدث حدثا أعلى أو أدنى من مس المصحف , وذكر فى حكم القراءة للحائض روايتين , وبين وجه كل كل منهما بنحو مما مر
وقال ابن رشد فى البيان والتحصيل فى سماع ابن القاسم عن مالك رحمه الله قال ( وسئل عن الحائض تكتب القرآن فى الوح وتمكسك اللوح فتقرأ فيه؟ قال : لا بأس به على وجه التعليم
قال محمد بن رشد : قد مضى فى رسم شك فى طوافه من سماع ابن القاسم وجه القول فى هذه المسألة , والمعنى الذى من أجله وقع التخفيف فيها , فمن أراد الوقوف عليه تأمله هناك وبالله التوفيق )
والكلام الذى أشار إليه ابن رشد وأحال عليه قد مضى بعضه فى مسألة اشتراط الطهارة لمس المصحف , مسألة تمكين الصغير منه . قال ابن رشد : ( إنما خفف مالك رحمه الله للرجل الذى يتعلم القرآن أن يمس اللوح فيه القرآن , وخفف ذلك ابن القاسم أيضا للمعلم يشكل ألواح الصبيان , لأن النهى إنما ورد أن لا يمس القرآن إلا طاهر , وحقيقة لفظ القرآن إذا أطلق أن يقع على جملته , وإن كان قد يطلق ويراد به بعضه على ضرب من التجوز , فتقول سمعت فلانا يقرأ القرآن , وإن كنت لم تسمعه يقرأ منه إلا سورة واحدة أو آة واحدة , فتكون صادقا فى قولك , فلما كان لفظ القرآن يقع على كله وقد يقع على بعضه لم يتحقق ورود النهى فى مس بعضه لم يتحقق ورود النهى فى مس بعضه على غير طهارة , فمن أجل ذلك خفف للذى يتعلم القرآن أو يشكل أواح الصبيان أن يمس اللوح فيه القرآن على غير وضوء لما يلحقه من المشقة فى أن يتوضأ كلما أحدث ولعل ذلك يكون فى الأحيان التى يثقل فيها مس الماء فيكون ذلك سببا إلى المنع من تعلمه , وهذه هى العلة فى تخفيف ذلك للصبيان , لأنهم وإن كانوا غير متعبدين فآباؤهم فيهم متعبدون بمنعهم مما لا يحل كشرب كشرب الخمر وأكل الخنزير وما أشبه ذلك , ألآ ترى أنه خفف لهم التضاريس يتعلمون فيها فى الكتاب , وكلره أن يمسوا فيها المصحف الجامع للقرآن إلا على وضوء , ومن الدليل على ما قلناه من الفرق بين جملة القرآن وبعضه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو , وكتب إلى هرقل عظيم الروم : " بسم الله الرحمن الرحيم , من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم , أما بعد فإنى أدعوك بدجعاية الإسلام , أسلم تسلم , وأسلم يؤتك الله عزوجل أجرك مرتين , فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين ( ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ) إلى قوله : ( فإنا مسلمون ) " . لهذا جاز للرجل أن يكتب فى الكتاب الآية والآيتين على غير وضوء فى سماع أشهب من كتاب الصلاة , ومن هذا الكتاب فى بعض الروايات أن الرجل لا يمس اللوح إذا قرأ فيه على غير وضوء , فإن لم يكن معناه على غير التعلم فهو معارض لهذه الرواية , فتأمل ذلك تجده صحيحا والله أعلم )
وقال بن رشد فى موضع من البيان أيضا فى سماع أشهب عن الإمام مالك قال : ( وسئل عن الرجل يقرأ القرآن فى الوح وهو غير متوضئ ؟ فقال : لا أرى أن يمسه . قال محمد بن رشد: معناه إذا كان يقرأ فيه على غير وجه التعليم لأنه قد خففه فى رسم شك فى طوافه من سماع ابن القاسم من كتاب الوضوء إذا كان على وجه التعليم , ومضى هناك القول على وجه تخيفه وحمل كلامه على أن بعضه مفسر لبعض أولى من حمله على الخلاف ما أمكن ذلك , وبالله التوفيق )
ولا يخفى ميل ابن رشد إلى إنكار الرواية المقتضية لجواز مس المصحف للحائض ومن فى حكمها فى مقام التعليم خاصة على ما رجحه المتأخرون من أصحاب مالك أو على الإطلاق كما فى نقل صاحب الطراز وقد مر على أن خليل فى باب الحيض قد جزم بمنع الحائض من مس المصحف قال فى أثناء تعداه لما يمنعه الحيض : ( ومس مصحف لا قراءة ). قال الخرشى : أى إن الحيض يمنع مس المصحف ولا يمنع من القراءة ظاهرا أو فى المصحف دون مس خافت النسيان أم لا لعدم تمكنها من الغسل , ولذا تمنع من الوضوء للنوم فلو طهرت منعت من القراءة ولا تنام حتى تتوضأ كالجنب )
قال العدوى فى حاشيته عليه : (" قوله منعت من القراءة ) اعتمد عج خلاف هذا وهو أن الحائض تقرأ فى حال السيلان مطلقا , خافت النسيان أم لا , كانت جنبا أم لا , وبعد انقطاعه تقرأ أيضا , إلا أن تكون جنبا فلا تقرأ والنفساء كالحائض واعتمده بعض الشيوخ )
فظاهر كلامهم فى باب الحيض مشعر بمنع الحائض من مس المصحف الكامل ومس ما يقع عليه اسم المصحف مطلقا , لكن كلامهم فى باب الوضوء يتضمن تفصيلا . قال خليل فى باب الوضوء فيما يستثنى مما يمنع مسه حال الحدث قال : ( ولوح لمعلم ومتعلم وإن حائضا ). قال الخرشى : ( أى ولا يمنع مس لوح لمعلم يصلحه , ومتعلم صبى أو رجل على غير وضوء , وإن امرأة حائضا من معلم ومتعلم , والمراد بالمعلم من يريد إصلاح اللوح كان جالسا للتعليم أو لا , وقوله لمعلم ومتعلم أى حال التعلم أو التعليم وما يتعلق بذلك كما هو ظاهر كلام ابن حبيب )
قال خليل : ( وجزء لمتعلم وإن بلغ ) . قال الخرشى : ( أى وجاز مس جزء لمتعلم صبى , بل ولو بلغ , والمراد بالجزء ما قابل الكامل , لكن جزء له بال , ثم إن المعتمد أن للمتعلم مس الكامل لأن ابن بشير حكى الاتفاق على جواز مس الكامل ).
قال العدوى فى حاشيته (" قوله ولوح .. إلخ " ) المراد جنس اللوح بالنسبة للمعلم والواحد بالنسبة للمتعلم , ومثل المتعلم المعلم " قوله وإن حائضا " قال فى ك :
وتخصيص الحائض بالذكر يخرج الجنب , وهو ظاهر إطلاقهم انتهى . " أقول " والأظهر كلام الشارح فى ك , وقال أيضا فى ك: ومثل المتعلم المحتاج إلى الكشف عن آيه توقف فيها . " قوله وما يتعلق به " كحال الذهاب به إلى وضعه فى محله . " قوله وإن بلغ " وإن حائضا . " قوله ما قابل الكامل " لما كان يتوهم منه أنه يشمل , ولو تسعة أعشاره مثلا , وهذا لايجوز افادك أن المراد جزء له بال عرفا كأن يكون خمسة أحزاب مثلا , قال لكن جزء له بال فى العرف فلا يشمل ما إذا كان تسعة أعشاره , هذا ملخص كلام الشيخ إبراهيم اللقانى , وهذا كله مراعة لقول المصنف جزء ,وإلا فالمعتمد أنه يجوز مس الكامل " قوله ثم أن المعتمد .. إلخ " وأفاد ابن مرزوق أن المعلم كالمتعلم فى جواز ابن القاسم عن مالك . " قوله لأن مس الكامل على ما ورواه ابن بشير " أى فأقل مراتبه أن يكون هو الراجح )
وعبارة الدردير فى شرحه الكبير على خليل : ( ولا لوح لمعلم ومتعلم حال التعليم والتعلم ,وما ألحق بهما مما يضطر إليه كحمله لبيت مثلا , فيجوز للمشقة , وإن كان كل من المعلم والمتعلم حائضا لا جنبا لقدرته على إزالة مانعه بخلاف الحائض ولا يمنع مس أو حمل جزء , بل ولا كامل على المعتمد لمتعلم وكذا معلم على المعتمد وإن بلغ , أو حائضا لا جنبا ). وقال الدسوقى فى حاشيته عليه : (" قوله ومتعلم " ) أى وإن كان متذكرا يراجع بنية الحفظ ) قال الشيخ عليش : لا مجرد التعبد بالتلاوة فيتوضأ . أ. هـ ضوء .
قال الدسوقى أيضا : ( قوله تعالى وما ألحق بهما إلخ ") أى على ما يفيده إطلاق المصنف كابن حبيب خلافا لظاهر العتيبة من قصر الجواز على حالة التعلم والتعليم " قوله لا جنبا إلخ " المعتمد الجواز له كالحائض كما فى حاشيتة شيخنا على عبق , وكما فى بن نقلا عن المقرى وعن سيدى عبد القادر الفاسى . وقال عج : ظاهر إطلاقهم أن الجنب كالحائض . وفى كبير الخرشى تخصيص الحائض بالذكر يخرج الجنب , وهو ظاهر لأن رفع حدثه بيده , ولا يشق كالوضوء , وارتضاه شيخنا فى حاشيته على صغيره , لكنه قد رجع عنه كما علمت . " قوله ولا يمنع " أى الحدث " قوله على المعتمد " أى لحكاية ابن بشير الاتفاق على جواز مس الكامل المتعلم وقول التوضيح أن كلام ابن بشير ليس بجيد حيث حكى الاتفاق مع وجود الخلاف , رده ابن مرزوق بأن أقل أحواله أن يكون هو المعتمد . " قوله لمتعلم " مثله من كان يغلط فى القرآن ويضع المصحف عنده , وهو المعتمد . " قوله لمتعلم " مثله من كان يغلط فى القرآن ويضع المصحف عنده , وهو يقرأ أو كلما غلط راجعه كما قاله شيخنا . " قوله وكذا معلم على المعتمد " أى كما هو رواية ابن القاسم عن مالك , لأن حاجة المعلم كحاجة المتعلم خلافا لابن حبيب قائلا إن حاجة المعلم صناعة وتكسب
لا الحفظ كحاجة المتعلم )
نصوص فقهاء الشافعية :
قال المزنى فى مختصره , وعنه الماوردى فى الحاوى : ( قال الشافعى رحمه الله :
" ولا يحمل المصحف ولا يمسه إلا طاهر " . قال الماوردى : وهذا كما قال , والطهارة واجبة لحمل المصحف ومسه ,ولا يجوز أن يحمله من ليس بطاهر )
وقال البيهقى فى معرفة السنن : ( قال الشافعى رحمه الله فى " سنن حرملة " : قال الله عزوجل : { لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ } فاختلف فيها بعض أهل التفسير , فقال بعضهم : فرض لا يمسه إلا مطهر . يعنى متطهر تجوز له الصلاة ) . قال البيهقى : ( قال الشافعى : وهذا المعنى تحتمله الآية ... والله أعلم )
وقال الماردوى بعد أن ذكر المذاهب فى مسألة اشتراط الطهارة لمس المصحف , وحجة كل مذهب ومناقشة تلك الحجج , قال : { فإذا ثبت أن الطهارة مستحقة فى حمل المصحف فلا يجوز للجنب والمحدث والحائض والنفساء حمله )
إلى أن قال : ( فإذا تقرر ما وصفنه فكل هؤلاء لا يجوز لهم حمل المصحف , ولا سبعا منه , ولا جزءا وإن قل , وسواء حملوه مباشرين له بأيديهم أو وضعوه فى أكمامهم أو أخذوه بعلاقه , كل ذلك ممنوع منه . وقال أبو حنيفة : التحريم مقصور على مسه دون حمله . كما يحرم المحرم مس الطيب , ولا يحرم عليه حمله , وهذا غير صحيح لأن حمل المصحف أبلغ فى الاستيلاء عليه من مسه , فلما حرم الأدنى من المس كان تحريم الأغلظ من الحمل أولى فأما الطيب فى المحرم فالتحريم فيه مقصور على الاستمتاع به وليس فى حمله استمتاع به , وفى حمله إن كان رطبا استمتاع به يحرم يمنع منه وليس فيه إن كان يابسا استمتاع به فلم يحرم , وتحريم المصحف لحرمته فاستوى فيه مسه وحمله
فصل: وكذلك لا يجوز لهم مسه ولا مس ما لاكتابة فيه من جلده وورقه , وأجاز أبو حنيفة للمحدث دون الجنب أن يمس من المصحف ما لاكتابة فيه من جلد وورق , وأن يحمله بعلاقته استدلالا بأن الحرمة إنما تختص بالكتابة المتلوة دون الجلد والورق , وهذا خطأ لأن الجلد والورق الذى لا كتابة فيه من جملة المصحف , بدليل أن من حلف لا يمس المصحف حنث بمس جلده وبياضه كما يحنث بمس كتابته , فوجب أن يحرم عليه مس جلده , كما يحرم عليه مس كتابته كالجنب , وقد تحرر من هذا الاستدلال قياسان :
أحدهما : أن ما حرم أن يمسه الجنب حرم أن يمسه كالكتابة.
والثانى : أن من حرم عليه من المصحف مس ما فيه من الكتابة حرم عليه أن يمس ما لس فيه كتابة كالجنب ) . ثم ذكر الماوردى ما يتعلق بحمل الدراهم المكتوب عليها القرآن , وحمل كتب العلم الشرعى المتضمنة لشئ من القرآن إلى أن قال : (فأما حمل المصحف مع قماش هو فى جملته , فإن كان المقصود منه القرآن لم يجز لهم حمله , وإن كان جملة القماش مقصودا ففى جواز حملهم له وجهان :
أحدهما : لا يجوز تغليبا لحرمة القرآن .
والثانى : يجوز اعتبار بالأغلب , وقد حكاه حرملة عن الشافعى ). ثم ذكر ما يتعلق بمس الصغار للمصحف , وتقليب المحدث لورق المصحف بواسطة , ثم قال : ( فأما إن كتب مصحفا , فإن كان حاملا لما يكتب منه لم يجز محدثا كان أو جنبا , وإن كان غير حامل له فإن كان محدثا جاز لأنه ليس كتابته بأكثر من تلاوته , وللمحدث أن يتلو القرآن , وإن كان جنبان ففيه وجهان :
أحدهما : لايجوز , لأنه بمثابة التالى له , ولا يجوز للجنب أن يتلو القرآن .
الوجه الثانى : يجوز , لأن التلاوة أغلظ حالا من الكتابة , ألا ترى أن المصلى لو كتب الفاتحة لم يجزه عن تلاوتها , فجاز للجنب أن يكتب القرآن , وإن لم يتله .. والله أعلم).
وعن قراءة الحائض والنفساء والجنب قال الماوردى : ( قال المزنى : قال الشافعى رحمه الله :" ولا يمنع من قراءة القرآن إلا الجنب " ) وقال الماوردى : وهذا كما قال , لا يجوز للجنب والحائض والنفساء أن يقرأوا القرآن, ولا شيئا منه . وجوز لهم داود فى قراءة القرآن . وقال مالك : يجوز للحائض أن تقرأ دون الجنب . واستدل داود بقوله تعالى :( فاقرءوا ما تيسر منه ) , فكان على عمومه , ورواية عائشة أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يذكر الله على كل أحيانه , وبما روى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه
قال : " لا حسد إلا فى اثنين , رجل آتاه الله مالا فهو ينفقه فى سبيل الله , ورجل آتاه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل وأطراف النهار ")
ودليلنا : رواية عبد الله بن سلمة عن على بن أبى طالب أن النبى صلى الله عليه وسلم لم يكن يحجبه عن قراءة القرآن إلا أن يكون جنبا . وروى موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " لا يقرأ الجنب والحائض شيئا من القرآن " .
وروى عن عمر بن الخطاب أنه قال : يارسول الله إنك تأكل وتشرب وأنت جنب . فقال النبى صلى الله عليه وسلم : " إنى آكل وأشرب وأنا جنب ولا أقرأ وأنا جنب " . ولأن تحريم القراءة على الجنب قد كان مشهورا فى الصحابة , منتشرا عند الكافة , حتى لا يخفى على رجالهم ونسائهم ). ثم ذكر قصة عبد بن رواحة مع امرأته ثم قال : ( فثبت أن ذلك إجماع ) فأما مالك فإنه قال : (إن الحائض إن لم تقرأ نسيت لتطاول الحيض بها , وأنه قد ربما استوعب شطر زمانها , وليس كذلك الجنب ). وهذا خطأ لورود النص بنهى الجنب والحائض , ولأن حدث الحيض أغلظ من حدث الجنابة , ولأنه يمنع من الصيام والوطء ولا يمنع منهما الجنابة , فلما كان الجنب ممنوعا فأولى أن تكون الحائض ممنوعة , ثم من الدليل عليهما أن حرمة القرآن أعظم من حرمة المسجد فلما كان المسجد ممنوعا من الحائض فأولى أن يكون ممنوعين من القرآن , وأما الجواب عن الآية فمن وجهين :
أحدهما : أن المراد بها فصلوا ما تيسر من الصلاة , فعبر عن الصلاة بالقرآن لما يتضمنها منه .
والثانى : أنه عام خص منه الجنب والحائض بدلي . وأما حديث عائشة : " أنه كان يذكر الله على كل حال " فمحمول على الأذكار التى ليست قرآنا , والحديث الآخر مخصوص .
قال المارودى: ( "فصل " فإذا ثبت أن الجنب والحائض والنفساء ممنوعون من قراءة القرآن فلا يجوز لهم أن يقرأو الآية والآيتين تعوذا وتبركا . وقال أبو حنيفة : يجوز أن يقرأوا صدر الآية , ولا يجوز أن يقرأوا باقيها , وكلا المذهبين خطأ, لأن حرمة يسيره كحرمة كثيرة فوجب أن يستويا فى الحظر , ولأن ما منعت الجنابة من كثيره منعت من يسيره كالصلاة .
" فصل " ويجوز للمحدث أن يقرأ "" لأن النبى صلى الله عليه وسلم لم يكن يحجبه شئ عن قراءة القرآن إلا أن يكون جنبا "" فدل على أن الحدث لم يمنعه , وكذلك المستحاضة يجوز أن تقرأ لأنها كالمحدث , فلو أراد الجنب والحائض أن يقرءا بقلوبهما من غير أن يتلفظا به بلسانهما جاز , وهكذا لو نظرا فى المصحف أو قرأ عليهما القرآن كان حائزا لهما , لأن الإسرار بالقرآن كالجهر فى صحة الصلاة .. والله أعلم )أ. هـ كلام الماوردى فى الحاوى . ومع أن الماوردى لم يذكر فى منع الحائض من قراءة القرآن عند الشافعية خلافا , إلا أن الوزير ابن هبيرة الحنبلى قد ذكر فى إفصاحه أن للشافعى قولا آخر أنه يجوز للحائض أن تقرأ , حكاه أبو ثور عنه . قال الوزير : ( قال صاحب الشامل وأصحابه لا يعرفون هذا القول ).
نصوص فقهاء الحنابلة :
قال الخرقى : ( ولا يمس المصحف إلا طاهر ) . قال الموفق فى المغنى : ( يعنى من الحدثين جميعا , وروى هذا عن ابن عمر والحسن وعطاء وطاوس والشعبى والقاسم بم محمد , وهو قول مالك والشافعى وأصحاب الرأى , ولا نعلم مخالفا لهم إلا داود , فإنه أباح مسه ). ثم ذكر حجج الفريقين على نحو مما تقدم فى مسألة اشتراط الطهارة لمس المصحف .
وقال الخرقى أيضا : ( ولا يقرأ القرآن جنب ولا حائض ولا نفساء ). قال الموفق بعد أن ذكر المسألة الخرقى هذه : ( رويت الكراهة لذلك عن عمر وعلى والحسن والنخعى والزهرى وقتادة والشافعى وأصحاب الرأى .
وقال الأوزاعى : لا يقرأ إلا آية الركوب والنزول : ( سبحان الذى سخر لنا هذا ), ( وقل رب أنزلنى منزلا مباركا ). وقال ابن عباس : يقرأ ورده . وقال سعيد بن المسيب : يقرأ القرآن , أليس هو فى جوفه ؟ وحكى عن مالك للحائض القراءة دون الجنب , لأن أيامها تطول , فإن منعناها من القراءة نسيت , ولنا ما روى عن على رضى الله عنه " أن النبى صلى الله عليه وسلم لم يكن حجبه – أو قال - يحجزه عن قراءة القرآن شئ ليس الجنابة ) رواه أبو داود والنسائى والترمذى وقال حديث حسن صحيح .
وعن ابن عمر أن النبى صلى الله عليه وسلم قال :"" لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئا من القرآن "" رواه أبو داود والترمذى وقال يرويه إسماعيل بن عياش عن نافع , وقد ضعف البخارى روايته عن أهل الحجاز وقال : إنما روايته عن أهل الشام .

وإذا ثبت هذا فى الجنب ففى الحائض أولى , لأن حدثها آكد , ولذلك حرم الوطء ومنع الصيام وأسقط الصلاة وساواها فى سائر أحكامها .
" فصل " ويحرم عليهم قراءة آية , فأما بعض آيه فإن كان مما لا يتميز به القرآن عن غيره كالتسمية والحمد لله وسائر الذكر فإن لم يقصد به القرآن فلابأس , فإنه لا خلاف فى أن لهم ذكر الله تعالى ويحتاجون إلى التسمية عند اغتسالهم , ولا يمكنهم التحرز من هذا , وإن قصدوا به القراءة أو كان ما قرأوه شيئا يتميز به القرآن عن غيره من الكلام ففيه روايتان :
"" إحداهما " لا يجوز .. وروى عن على رضى الله عنه أنه سئل عن الجنب يقرأ القرآن ؟ فقال : ولا حفا . وهذا مذهب الشافعى لعموم الخبر فى النهى , ولأنه قرآن فمنع من قراءته كالآية.

" والثانية" : لا يمنع منه , وهو قول أبى حنيفة , لأنه لا يحصل به الإعجاز ولا يجزئ فى الخطبة , ويجوز إذا لم يقصد به القرآن , كذلك إذا قصد ) .
قال شمس الدين ابن قدامة فى الشرح الكبير وهو بصدد ذكر الأشياء التى يمنعها الحيض , قال : (" والخامس " مس المصحف لقوله تعالى : {لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ}, ولقول النبى صلى الله عليه وسلم فى كتاب عمرو بن حزم : " لا تمس القرآن إلا و أنت طاهر" رواه الأثرم .
وقال الشيخ تقى الدين بن تيمية فى شرح العمدة : ( الفصل الثالث : أنه لا يجوز لها قراءة القرآن ومس المصحف واللبث فى المسجد , لأن حدثها كحدث الجنب وأغلظ لقيام سبب الحدث , وسواء فى ذلك ما قبل الانقطاع وما بعده لأن أحسن أحوالها أن تكون كاجنب ).
بيد أن أبا العباس بن تيمية قد أفتى بجواز مس الحائض للمصحف إذا احتاجت إلى ذلك , فقد جاء فى غير موضع من مجموع فتاوى الشيخ التصريح بمثل هذا .
قال أبو العباس بن تيمية وهو بصدد الكلام عن الحائض : ( ولو كان لها مصحف ولم يمكنها حفظه إلا بمسه مثل أن يريد أن يأخذه لص أو كافر , أو ينبه أحد , أو يتهبه منها ولم يمكنها منعه إلا بمسه لكان ذلك جائزا لها مع أن المحدث لا يمس المصحف ).
وقال أبو العباس أيضا : ( ثم مس المصحف يشترط له الطهارة الكبرى والصغرى عند جماهير العلماء , وكما دل عليه الكتاب والسنة , وهو ثابت عن سلمان وسعد وغيرهم من الصحابة , وحرمة المصحف أعظم من حرمة المساجد , ومع هذا إذا اضطر الجنب والمحدث والحائض إلى مسه مسه ) . قال أبو العباس : ( ومس المصحف قد يجب فى بعض الأحوال , إذا احتيج إليه لصيانته الواجبة , والقراءة الواجبة , أو الحمل الواجب , إذا لم يمكن أداء الواجب إلا يمسه ) . وذكر أبو العباس فى موضع آخر أنه يحرم على الحائض مس المصحف عند عامة العلماء , وكذلك قراءة القرآن فى أحد قولى العلماء . قال : ( والذين حرموا عليها القراءة كأحمد فى المشهور عنه , وكذلك الشافعى مع أبى حنيفة , تنازعووا فى إباحة قراءة القرآن لها وللنفساء قبل الغسل وبعد انقطاع الدم على ثلاثة أقوال :
أحدها : إباحتها للحائض والنفساء , وهو اختيار القاضى أبى يعلى , وقال هو ظاهر كلام أحمد.
والثانى : منع الحائض والنفساء .
والثالث : إباحتها للنفساء دون الحائض , اختاره الخلال من أصحاب أحمد). وقال أبو العباس فى موضع آخر : ( وإنما تنازعوا فى قراءة القرآن , وليس فى منعها من القرآن سنة أصلا , فإن قوله : " لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئا من القرآن " حديث ضعيف باتفاق أهل المعرفة بالحديث , رواه إسماعيل بن عياش عن موسى بن عقبة أصحابهم المعروفون بنقل السنن عنهم . وقد كان النساء يحضن على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم , فلو كانت القراءة محرمة عليهن كالصلاة لكان هذا مما بينه النبى صلى الله عليه وسلم لأمته , وتعلمه أمهات المؤمنين , وكان ذلك مما ينقلونه إلى الناس , فلما لم ينقل أحد عن النبى صلى الله عليه وسلم فى ذلك نهيا لم يجز أن تجعل حراما , مع العلم أنه لم ينه عن ذلك , وإذا لم ينه عنه مع كثرة الحيض فى زمنه علم منه أنه ليس بمحرم )
وحكى أبو العباس فى موضع مذهب أهل الظاهر فى المسألتي مس المصحف وقراءة حال الحيض , وعدم اشتراطهم الطهارة لذلك , وذكر كلام ابن حزم فى هذا الشأن , قال: ( فيجوز عند للجنب والمحدث والحائض قراءة القرآن , والسجود فيه , ومس المصحف , قال : لأن هذه الأفعال خير مندوب إليها , فمن ادعى منع هؤلاء منها فعليه الدليل )
وقال أبو العباس فى موضع آخر وهو بصدد الكلام عن النفساء : ( وأما قراءتها القرآن , فإن لم تخف النسيان فلا تقرؤه , وأما إذا خافت النسيان فإنها تقرؤه فى أحد قولى العلماء , وإذا انقطع الدم واغتسلت قرأت القرآن وصلت بالاتفاق , فإن تعذر اغتسالها لعدم الماء أو لخوف ضرر لمرض فإنها تتيمم وتفعل بالتيمم ما تفعل بالاغتسال والله أعلم)
وقال ابن مفلح فى الفروع فى أصل المسألة , وهو بصدد ذكر الأشياء التى يمنعها الحيض , قال : ( ومس المصحف " و" وقيل : لا وحكى رواية , اختاره شيخنا , قال : إن ظنت نسيانه وجبت , ونقل الشالنجى كراهتها { القراءة } لها ولجنب , وعنه لا يقرآن وهى أشد , ونقل إبراهيم بن الحرث فيها أحاديث كراهية ليست قوية , وكرهها لها ).
وقال المرداوى فى الإنصاف عند قول الموفق بمنع الحائض من قراءة القرآن , قال : ( قوله " وقراءةالقرآن " تمنع الحائض من قراءة القرآن مطلقا على الصحيح من المذهب , وعليه جماهير الأصحاب , وقطع به كثير منهم . ويل : لا تمنع منه , وحكى رواية . قال فى الرعاية : وهو بعيد الأثر . واختاره الشيخ تقى الدين , ومنع من قراءة الجنب , وقال : إن ظنت نسيانه وجبت القراءة . واختاره أيضا فى الفائق , ونقل الشالنجى : كراهة القراءة لها وللجنب , وعنه لا يقرآن وأشد . فعلى المذهب : تقدم تفاصيل ما يقرأ من لزمه الغسل , وهى منهم فى أثناء بابه , فليعاود ) وقال البهوتى فى الأقناع عند ذكره للأشياء التى يمنعها الحيض قال :
( والثالث " قراءة القرآن " لما تقدم فى الغسل من قوله صلى الله عليه وسلم " لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئا من القرآن " . والرابع " مس المصحف " لما تقدم ).[المتحف:536-558]
قال صَالِحٌ بْنُ مُحَمَّدِ الرَّشيدِ (م):(التيمم لمس المصحف

لأهل العلم فى جواز التيمم بنية مس المصحف قولان فى الجملة :
أحدهما : الجواز , لأن التيمم طهارة كاملة يرتفع بها الحدث لكون التراب يقوم مقام الماء عنده فقدة حقيقة أو حكما
القول الثانى : أنه لا يجوز التيمم بقصد مس المصحف ,لأنها طهارة ضرورة , فلا يستباح بها غير الواجبات , ولأنها لا ترفع الحدث
وقد ذهب إلى القول الأول – أعنى صحة التيمم بنية مس المصحف – جمهور أهل العلم , وهو مذهب الحنفية , والمالكية, والشافعية , والحنابلة وذهب قوم إلى القول بعد الجواز التيمم بقصد مس المصحف , وهو مقتضى مذهب أبى مخرمة وأصحابه فى نفى صحة التيمم إلا المكتوبة . وكره الأوزاعى أن يمس التيمم مصحف حكى ذلك عنهم ابن المنذر فى الأوسط , وابن قدامة فى المغنى ثم إن القائلين بصحة التيمم لمس المصحف وهم الجمهور قد أطلقوا الجواز ولم يقيدوه بالحاجة إلى مس المصحف , بيد أن الموفق بن قدامة فى المغنى قد قال : ( وإن احتاج المحدث إلى مس المصحف عند عدم الماء تيمم وجاز مسه ), إلا أن الموفق فى موضع من المغنى قد أغفل ذكر هذا القيد . وقد عبر المرداوى عن القول بتقييد الجواز بالحاجة بقيل وذكر ابن مفلح والمرداوى القول بتقيد جواز التيمم بالحاجة اختيارا للموفق وقد اختلفت كلمة الفقهاء فيما يجوز فعله من القرب بتيمم نوى به مس المصحف .
فمنهم من اعتبره طهارة مطلقة يفعل بها كل ماكلنت الطهارة شرطا فى صحته , ومنهم من قصر الجواز على مس المصحف وما فى درجته من القرب كالطواف والقراءة مثلا , ومنهم من جوز فعل سائر النوافل بالتيمم بنية مس المصحف , ومنهم من قصر الجواز على ما كان قربة غير مقصودة أصالة , وإن قصدت ضمنا كمس المصحف واللبث فى المسجد وهذا الاختلاف ينبنى على كون التيمم مبيحا أو رافعا , فمن قال بأنه رافع جعله كطهارة الماء سواء , وهذا مذهب داود , واختيار أبى سعيد البلخى من الحنفية وحكاه فى البحر عن بعض المالكية والشافعية
وأما من قصر الجواز على ما دون الفرائض فقد نظر إلى كون الفرائض متبوعة لا تابعة وأن قصد مس المصحف بالتيمم أضعف من قصد الفريضة , وهكذا يكون تعليل من راع الدرجة بين النوافل فجوز بالتيمم لمس المصحف فعل ما كان فى درجته دون ما هو أعلى منه فى الدرجة من النوافل .
وأما من منع الصلاة بالتيمم للمصحف فقد راعى افتقارها لطهارتى الحدث والخبث بخلاف مس المصحف فإن طهارة الخبث لا تشترط له , وأما من قصر الجواز على ما كان قربة غير مقصودة كدخول المسجد على ما صرح به جمع من فقهاء حنفية , وإن استكشله صاحب الفرائض منهم على ما ذكره شارح الملتقى مردفا فقد قال الكاسانى عن هذه المسألة : ( فأما إذا تيمم لدخول المسجد أو لمس المصحف لا يجوز له أن يصلى به , لأن دخول المسجد ومس المصحجف ليس بعبادة مقصودة بنفسه , ولا هو من جنس أجزاؤ الصلاة فيقع طهورا لما أوقعه لا غير )
والجمهور على أن التيمم بنية مس المصحف لا يصح إلا إذا توافرت له الشروط المعتبرة فى صحة التيمم أصلا , لكن بعض فقهاء الحنفية قد قال بصحة التيمم لمس المصحف مع وجود الماء , وجزم به فى التتارخانية , ووهن صاحب المنية من فقهاء الحنفية هذا القول .
قال الحصكفى الدر : ( وفى المنية وشرحها تيممه لدخول مسجد ومس مصحف مع وجود الماء ليس بشئ , بل هو عدم لأنه ليس لعبادة يخاف فوتها )
والطهارة معتبرة لدخول المسجد حال الجنابة وما شاكلها , وكذا تعتبر الطهارة لدخول المسجد لأداء تحيته مثلا , وقد يأتى فى مسألة نية الوضوء لمس المصحف ما يوضح هذا المعنى)). [المتحف:478-481]
قال صَالِحٌ بْنُ مُحَمَّدِ الرَّشيدِ (م):(ثوب المصحف قد يعبر عن ثوب المصحف بالخريطه أو الغلاف أو الكيس , والكلام عن ثوب المصحف يتناول مادته وحكم مسه حال الحدث , واتباعه للمصحف فى البيع على القول بجواز بيع المصحف .
فلا خلاف بين أهل العلم القول بجواز اتخاذ الثوب للمصحف صيانتة له وتعظيما , ولا خلاف بينهم أيضا فى جواز كون ثوب المصحف من أديم أو نسيج حتى ولو كان هذا النسيج حريرا ما دامت مادة الثوب طاهرة
وقد صرح أكثر الفقهاء بإباحة ثوب المصحف من التحرير . قال ابن مفلح فى الآداب الشرعية : ( لا يكره تطييب المصحف , ولا جعله على كرسى , أو كيس حرير نص عليه , بل يباح ذلك وتركه بالأرض وعلله الآمدى فقال : إنه معفو عن يسيره فى ذلك , وتعظيم له كلبسه فى الحرب ) . وقال فى موضع من الآداب أيضا :
( وذكر غير واحد من أصحابنا أن الإمام أحمد رضى الله عنه نص على أن أباحة جعل المصحف فى كيس حرير واتخاذه له , ولو أبيح جعل غير المصحف فيه واتخاذه له لما خص المصحف بالذكر , وعلل الآمدى مسألة المصحف بأنه يسير , وفى ذلك تعظيم له , وهذا من الآمدى يدل على تحريم الكثير لغير المصحف , تعليله صريح فى إباحة اليسير المفرد كما هو مذهب إسحاق وقال ابن البزاز الحنفى : ( وستر الكعبة من الحرير والديباج لم يجوزه الشافعى فى أصح وجهيه , وجوز كون خريطة المصحف من الحرير وجها واحدا ).
وقال الشروانى فى حاشيتخ على التحفة : ( يجوز منه أى الحرير كيس المصحف للرجل مغنى ونهاية ) . ثم قال : ( وكذا علاقته )
مسه حال الحدث :
ولا يخلو مس ثوب المصحف من أن يكون والمصحف بداخله , أو أن يكون منفصلا عنه , فإن كان المصحف بداخله فلا يجوز مس الخريطة حال الحدث فى المشهور عند كل من المالكية , والشافعية , وهو رواية عن الإمام أحمد حكاه عنه بعض الأصحاب , وهو الذى مال إليه متأخروا الحنفية , على أن جمهور العلم قد قالوا بجواز مس المحدث لخريطة المصحف حتى لو كان بداخلها , بل جوز حمل المصحف بخريطته وعلاقته , وهذا هو المذهب عن متقدمى الحنفية , وهو المذهب عند الحنابلة بل قد قال القاضى أبو يعلى فى كتابه الروايتين والوجهين : ( لا يختلف المذهب أنه يجوز حمل المصحف بالعلاقة والغلاف ).
وجزم به ابن مفلح فى الفروع قال : ( لأن غلافه ليس بمصحف بدليل البيع وذكره النووى قولا للشافعية وضعفه
قال فى التبيان l ويحرم مس الخريطة والغلاف والصندوق إذا كان فيهن المصحف , فهذا هو المذهب المختار , وقيل لا تحرم هذه الثلاثة وهو ضعيف ) ). [المتحف:482-484]

قال صَالِحٌ بْنُ مُحَمَّدِ الرَّشيدِ (م):(حمل المصحف حال الحدث لا يخلو حمل المصحف حال الحدث من أن يكون حملا معه مس مباشر للمصحف، أو أن يكون حملا بواسطة كعلاقته وخريطته، أو حمله على وسادة مثلا، فإن كان الحمل للمصحف مصحوبا بمسه مباشرة جرى فيه الخلاف السالف في مسألة الطهارة لمس المصحف، وإذا كان الحمل مجردا عن المس بأن كان حملا بواسطة فجمهور أهل العلم على القول بإباحته في حق المحدث مطلقا، وسواء كان حدثه أصغر أو أكبر، أو كان جنبا أو حائضا، لأنه لا يعد ماسا للمصحف ما دام حمله له بواسطة.
وذهب فريق من أهل العلم إلى القول بمنع المحدث من حمل المصحف حال الحدث ولو كان الحمل بواسطة، إلا أن يكون مضطرا إلى حمله، كالخوف عليه من غرق أو حرق، أو وقوع في نجاسة أو يد كافر أو طفل مجنون، فيلزمه حين إذ حمله ولو كان محدثا.
والقول بجواز حمل المحدث للمصحف بواسطة محكي عن طائفة من السلف كالحسن البصري، وعطاء، وسعيد بن جبير، وأبي وائل، وأبي رزين ، وسفيان الثوري، وهو مذهب أبي حنيفة، وأحمد بن حنبل.
وهو قول مرجوح عند الشافعية ضعفه النووي، وهو المعتمد عند متأخري
المالكية في حق المتعلم والمعلم خاصة على ما مر بيانه في غير موضع من هذا البحث.
وقد ذهب إلى القول بمنع المحدث من حمل المصحف بعلاقته أو خريطته أو نحوهما من الوسائط جمهور أهل الحنفية؛ وخاصة المتأخرون منهم، وهو المشهور عند المالكية في غير مقام التعلم والتعليم، كما ذهب إلى القول بمنع المحدث من حمل المصحف ولو بواسطة جمهور الشافعية؛ بل ضعف بعضهم الوجه المحكي بالجواز.
والقول بمنع المحدث من حمل المصحف ولو بواسطة رواية ثانية عن الإمام أحمد، حكاها ابن هبيرة وابن مفلح، على أن القاضي في الروايتين والوجهين قد قال بأنه لا يختلف المذهب أنه يجوز حمل المصحف بالعلاقة والغلاف.
أثر القصد في حكم حمل المصحف:
قال الهيتمي في التحفة بعد أن تكلم عن منع المحدث من حمل المصحف: (ومثله حمل حامل المصحف بقصده، لأن المصحف تابع حينئذ، أي بالنسبة للقصد فلا فرق بين كبر جرم المتاع وصغره، كما شمله إطلاقهم أو مطلقا على ما اقتضاه كلام الرافعي، وجرى عليه شيخنا وغيره، لكن قضية ما في المجموع عن الماوردي الحرمة، وهي قياس ما يأتي في استواء التفسير والقرآن، وفي بطلان الصلاة إذا أطلق فلم يقصد تفهيما ولا قراءة، ويؤيده تعليلهم الحل في الأولى بأنه لم يخل بالتعظيم إذ حمله هنا يخل لعدم قصد يصرفه عنه، فإن قصد المصحف حرم ، وإن قصدها فقضية عبارة سليم؛ بل صريحها الحرمة خلافا للأذرعي، وجرى عليها غير واحد من المتأخرين، وهو القياس، وجرى آخرون أخذا من العزيز على الحل).
وقال الرملي في النهاية: (ولو حمل حامل المصحف لم يحرم، لأنه غير حامل له عرفا).
قال الشبراملسي في حاشيته على النهاية: (" قوله ولو حمل حامل المصحف" أي ولو كان بقصد حمل المصحف، ثم ظاهر عبارته أنه لا فرق في الحامل للمصحف بين الكبير والصغير الذي لا ينسب إليه حمل، وأنه لا فرق بين الآدمي وغيره، ويؤيده ما علل به من العرف، ووجه التأييد أنه في العرف يقال هو حامل للطفل، لكن بهامش عن بعضهم تقييده بما إذا كان الحامل ينسب إليه الحمل: أي بحيث يستقل بحمله لو انفرد أ.ه وينبغي عدم التقييد بذلك.
"قوله لم يحرم" وإن قصد المصحف خلافا لحج حيث قال بالحرمة، إذا قصد المصحف). وقال العبادي في حاشيته على التحفة: ("قوله ومثله حمل حامله" قضيته أن يجري فيه تفصيل المتاع في القصد وعدمه، وهو كما قال في شرح العباب أنه لا يبعد. وقد يقال: المتجه الحل مطلقا، لأن حمل حامله لا يعد حملا له، فلا اعتبار بقصده).
وذكر الشرواني في حاشيته على التحفة أيضا نحوا مما مر، إلا أن قال: (وعبارة شيخنا ولا يحرم حمل حامله مطلقا عند العلامة الرملي. وقال العلامة ابن حجر: فيه تفصيل الأمتعة. وقال الطبلاوي: إن نسب الحمل إليه بأن كان الحامل للمصحف صغيرا وإلا فلا).
ولم يظهر لي وجه القول بمنع المحدث من حمل المصحف بواسطة، لا سيما مع الأخذ بعين الاعتبار كون المنع من مس المصحف تعبديا، وما هذا سبيله يقتصر فيه على مورد النص، وهو المس المباشر..فأما الحمل بواسطة فليس بمس، فلا يكون داخلا في مورد النص المانع من المس، ثم وجدت محقق الخلافيات للبيهقي قد ذكر قول ابن الملقن في خلاصة البدر المنير عن حديث حكيم بن حزام: "لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر".
قال الرافعي: (ويروي أنه قال: "لا يحمل المصحف ولا يمسه إلا طاهر". قال: قلت غريبة).
وقال ابن حجر في تلخيص الحبير: (هذا اللفظ لا يعرف في شيء من كتب الحديث، ولا يوجد ذكر حمل المصحف في شيء من الروايات، وأما المس ففيه الأحاديث الماضية)). [المتحف:583-587]
قال صَالِحٌ بْنُ مُحَمَّدِ الرَّشيدِ (م):(مس المصحف من وراء الحوائل مر في مسألة اشتراط الطهارة لمس المصحف أن جمهور العلماء من السلف والخلف يقولون باعتبار هذا الشرط في مس المصحف مسا مباشرا، ثم اختلفوا في كون الطهارة معتبرا لمس المصحف من وراء الحوائل، فذهب جمهورهم إلى أنه يجوز للمحدث أن يمس المصحف من وراء الحوائل كمس المصحف من وراء خريطته أو مسه من وراء الكم أو كان بيدي الماس قفزان مثلا، لأن الماس بحائل لا يقال له ماس للمصحف، فالنهي غير متناول له فلا يحرم عليه لا سيما وأن نهي غير الطاهر عن مس المصحف نهي تعبدي لا يعقل معناه، وما هذا سبيله يقتصر فيه على مورده.
والقول بإباحة مس المصحف من وراء الحوائل هو المذهب عند متقدمي الحنفية، والحنابلة، ووجه عند الشافعية، وذكره النووي في الروضة، وأنكره في غيرها من كتبه وغلط قائله.
وذهبت المالكية والشافعية وأحمد في رواية عنه، وجمع من متأخري الحنفية إلى القول بالمنع من مس المصحف ولو من وراء الحوائل في حق من يمنع من مس المصحف مسا مباشرا.
واشترط فريق ثالث لجواز المس من وراء الحوائل ألا تكون متصلة بالماس ولا بالمصحف، وقد مضى تفصيل ذلك عند الكلام على مسألتي جلد المصحف وغلافه.
وقد مر في غير موضع من هذا البحث أيضا الرواية عن جمع من السلف في التسهيل في ذلك كالمروي عن أبي وائل من أنه كان يرسل خادمه وهي حائض إلى أبي رزين فتأتيه بالمصحف فتمسكه بعلاقته، ذكر البخاري تعليقا، ووصله ابن أبي شيبة. ومنها ما روي عن الحسن أنه كان لا يرى بأسا أن يتعلق الجنب بالمصحف أو يجوز به من مكان لآخر.. وعن القاسم الأعرج قال: (كان لسعيد بن جبير بأصبهان غلام مجوسي يخدمه، فكان يأتيه بالمصحف في علاقته). وعن عطاء قال: (لا بأس أن تأخذ الطامث بعلاقة المصحف). وعن سفيان قال: (لا بأس أن يأخذ الجنب والحائض والصبي بعلاقة المصحف)، أخرجهن ابن أبي داود وغيره على ما جرى بسطه في غير موضع من هذا البحث.. والله أعلم بالصواب).[المتحف:694-692]


رد مع اقتباس