عرض مشاركة واحدة
  #9  
قديم 4 صفر 1440هـ/14-10-2018م, 08:18 PM
جمهرة التفاسير جمهرة التفاسير غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 2,953
افتراضي

تفاسير القرن الثامن الهجري

تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({إنّ الّذين يتلون كتاب اللّه وأقاموا الصّلاة وأنفقوا ممّا رزقناهم سرًّا وعلانيةً يرجون تجارةً لن تبور (29) ليوفّيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنّه غفورٌ شكورٌ (30)}.
يخبر تعالى عن عباده المؤمنين الّذين يتلون كتابه ويؤمنون به ويعملون بما فيه، من إقام الصّلاة، والإنفاق ممّا رزقهم اللّه في الأوقات المشروعة ليلًا ونهارًا، سرًّا وعلانيةً، {يرجون تجارةً لن تبور} أي: يرجون ثوابًا عند اللّه لا بدّ من حصوله. كما قدّمنا في أوّل التّفسير عند فضائل القرآن أنّه يقول لصاحبه: "إنّ كلّ تاجرٍ من وراء تجارته، وإنّك اليوم من وراء كلّ تجارةٍ"؛ ولهذا قال تعالى: {ليوفّيهم أجورهم ويزيدهم من فضله} أي: ليوفّيهم ثواب ما فعلوه ويضاعفه لهم بزياداتٍ لم تخطر لهم، {إنّه غفورٌ} أي: لذنوبهم، {شكورٌ} للقليل من أعمالهم.
قال قتادة: كان مطرف، رحمه اللّه، إذا قرأ هذه الآية يقول: هذه آية القرّاء.
قال الإمام أحمد: حدّثنا أبو عبد الرّحمن، حدّثنا حيوة، حدّثنا سالم بن غيلان أنّه سمع درّاجا أبا السّمح يحدّث عن أبي الهيثم، عن أبي سعيدٍ الخدريّ، رضي اللّه عنه، أنّه سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: "إنّ اللّه تعالى إذا رضي عن العبد أثنى عليه سبعة أصنافٍ من الخير لم يعمله، وإذا سخط على العبد أثنى عليه سبعة أصنافٍ من الشّرّ لم يعمله، غريب جدا). [تفسير ابن كثير: 6/ 545-546]

تفسير قوله تعالى: {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({والّذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحقّ مصدّقًا لما بين يديه إنّ اللّه بعباده لخبيرٌ بصيرٌ (31)}.
يقول تعالى: {والّذي أوحينا إليك} يا محمّد من الكتاب، وهو القرآن {هو الحقّ مصدّقًا لما بين يديه} أي: من الكتب المتقدّمة يصدّقها، كما شهدت له بالتّنويه، وأنّه منزّلٌ من ربّ العالمين.
{إنّ اللّه بعباده لخبيرٌ بصيرٌ} أي: هو خبيرٌ بهم، بصيرٌ بمن يستحقّ ما يفضّله به على من سواه. ولهذا فضّل الأنبياء والرّسل على جميع البشر، وفضّل النّبيّين بعضهم على بعضٍ، ورفع بعضهم درجاتٍ، وجعل منزلة محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم فوق جميعهم، صلوات اللّه عليهم أجمعين). [تفسير ابن كثير: 6/ 546]

تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({ثمّ أورثنا الكتاب الّذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالمٌ لنفسه ومنهم مقتصدٌ ومنهم سابقٌ بالخيرات بإذن اللّه ذلك هو الفضل الكبير (32)}.
يقول تعالى: ثمّ جعلنا القائمين بالكتاب العظيم، المصدّق لما بين يديه من الكتب، الّذين اصطفينا من عبادنا، وهم هذه الأمّة، ثمّ قسّمهم إلى ثلاثة أنواعٍ، فقال: {فمنهم ظالمٌ لنفسه} وهو: المفرّط في فعل بعض الواجبات، المرتكب لبعض المحرّمات. {ومنهم مقتصدٌ} وهو: المؤدّي للواجبات، التّارك للمحرّمات، وقد يترك بعض المستحبّات، ويفعل بعض المكروهات. {ومنهم سابقٌ بالخيرات بإذن اللّه} وهو: الفاعل للواجبات والمستحبّات، التّارك للمحرّمات والمكروهات وبعض المباحات.
قال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ في قوله: {ثمّ أورثنا الكتاب الّذين [اصطفينا من عبادنا]}، قال: هم أمّة محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم ورّثهم اللّه كلّ كتابٍ أنزله، فظالمهم يغفر له، ومقتصدهم يحاسب حسابًا يسيرًا، وسابقهم يدخل الجنّة بغير حسابٍ.
وقال أبو القاسم الطّبرانيّ: حدّثنا يحيى بن عثمان بن صالحٍ، وعبد الرّحمن بن معاوية العتبيّ قالا حدّثنا أبو الطّاهر بن السّرح، حدّثنا موسى بن عبد الرّحمن الصّنعانيّ، حدّثني ابن جريج، عن عطاءٍ، عن ابن عبّاسٍ، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه قال ذات يوم: "شفاعتي لأهل الكبائر من أمّتي". قال ابن عبّاسٍ: السّابق بالخيرات يدخل الجنّة بغير حسابٍ، والمقتصد يدخل الجنّة برحمة اللّه، والظّالم لنفسه وأصحاب الأعراف يدخلون الجنّة بشفاعة محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم.
وهكذا روي عن غير واحدٍ من السّلف: أنّ الظّالم لنفسه من هذه الأمّة من المصطفين، على ما فيه من عوجٍ وتقصيرٍ.
وقال آخرون: بل الظّالم لنفسه ليس من هذه الأمّة، ولا من المصطفين الوارثين الكتاب.
قال ابن أبي حاتمٍ، حدّثنا أبي، حدّثنا عليّ بن هاشم بن مرزوقٍ، حدّثنا ابن عيينة، عن عمرٍو، عن ابن عبّاسٍ، رضي اللّه عنهما: {فمنهم ظالمٌ لنفسه} قال: هو الكافر. وكذا روى عنه عكرمة، وبه قال عكرمة أيضًا فيما رواه ابن جريرٍ.
وقال ابن أبي نجيح، عن مجاهدٍ في قوله: {فمنهم ظالمٌ لنفسه} قال: هم أصحاب المشأمة.
وقال مالكٌ عن زيد بن أسلم، والحسن، وقتادة: هو المنافق.
ثمّ قد قال ابن عبّاسٍ، والحسن، وقتادة: وهذه الأقسام الثّلاثة كالأقسام الثّلاثة المذكورة في أوّل سورة "الواقعة" وآخرها.
والصّحيح: أنّ الظّالم لنفسه من هذه الأمّة وهذا اختيار ابن جريرٍ كما هو ظاهر الآية، وكما جاءت به الأحاديث عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، من طرقٍ يشدّ بعضها بعضًا، ونحن نورد منها ما تيسّر:
الحديث الأوّل: قال الإمام أحمد: حدّثنا محمّد بن جعفرٍ، حدّثنا شعبة، عن الوليد بن العيزار، أنّه سمع رجلًا من ثقيف يحدّث عن رجلٍ من كنانة، عن أبي سعيدٍ الخدريّ، رضي اللّه عنه، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه قال في هذه الآية: {ثمّ أورثنا الكتاب الّذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالمٌ لنفسه ومنهم مقتصدٌ ومنهم سابقٌ بالخيرات بإذن اللّه}، قال: "هؤلاء كلّهم بمنزلةٍ واحدةٍ وكلّهم في الجنّة". هذا حديثٌ غريبٌ من هذا الوجه وفي إسناده من لم يسمّ، وقد رواه ابن جريرٍ وابن أبي حاتمٍ، من حديث شعبة، به نحوه.
ومعنى قوله: "بمنزلةٍ واحدةٍ" أي: في أنّهم من هذه الأمّة، وأنّهم من أهل الجنّة، وإن كان بينهم فرقٌ في المنازل في الجنّة.
الحديث الثّاني: قال الإمام أحمد: حدّثنا إسحاق بن عيسى، حدّثنا أنس بن عياضٍ اللّيثيّ أبو ضمرة، عن موسى بن عقبة، عن [عليّ] بن عبد اللّه الأزديّ، عن أبي الدّرداء، رضي اللّه عنه، قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: "قال اللّه: {ثمّ أورثنا الكتاب الّذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالمٌ لنفسه ومنهم مقتصدٌ ومنهم سابقٌ بالخيرات بإذن اللّه}، فأمّا الّذين سبقوا فأولئك الّذين يدخلون الجنّة بغير حسابٍ، وأمّا الّذين اقتصدوا فأولئك يحاسبون حسابًا يسيرا، وأما الّذين ظلموا أنفسهم فأولئك الّذين يحبسون في طول المحشر، ثمّ هم الّذين تلافاهم برحمته، فهم الّذين يقولون: {الحمد للّه الّذي أذهب عنّا الحزن إنّ ربّنا لغفورٌ شكورٌ الّذي أحلّنا دار المقامة من فضله لا يمسّنا فيها نصبٌ ولا يمسّنا فيها لغوبٌ}.
طريقٌ أخرى: قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أسيد بن عاصمٍ، حدّثنا الحسين بن حفصٍ، حدّثنا سفيان، عن الأعمش، عن رجلٍ، عن أبي ثابتٍ، عن أبي الدّرداء قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: {ثمّ أورثنا الكتاب الّذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالمٌ لنفسه} قال: "فأمّا الظّالم لنفسه فيحبس حتّى يصيبه الهمّ والحزن، ثمّ يدخل الجنّة".
ورواه ابن جريرٍ من حديث سفيان الثّوريّ، عن الأعمش قال: ذكر أبو ثابتٍ أنّه دخل المسجد، فجلس إلى جنب أبي الدّرداء، فقال: اللّهمّ، آنس وحشتي، وارحم غربتي، ويسّر لي جليسًا صالحًا. قال أبو الدّرداء: لئن كنت صادقًا لأنا أسعد بك منك، سأحدّثك حديثًا سمعته من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لم أحدّث به منذ سمعته منه، ذكر هذه الآية: {ثمّ أورثنا الكتاب الّذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالمٌ لنفسه ومنهم مقتصدٌ ومنهم سابقٌ بالخيرات}، فأمّا السّابق بالخيرات فيدخلها بغير حسابٍ وأمّا المقتصد فيحاسب حسابًا يسيرًا، وأمّا الظّالم لنفسه فيصيبه في ذلك المكان من الغمّ والحزن، وذلك قوله: {الحمد للّه الّذي أذهب عنّا الحزن}.
الحديث الثّالث: قال الحافظ أبو القاسم الطّبرانيّ: حدّثنا عبد اللّه بن محمّد بن العبّاس، حدّثنا ابن مسعودٍ، أخبرنا سهل بن عبد ربّه الرّازّيّ، حدّثنا عمرو بن أبي قيسٍ، عن ابن أبي ليلى، عن أخيه، عن عبد الرّحمن بن أبي ليلى، عن أسامة بن زيدٍ: {فمنهم ظالمٌ لنفسه ومنهم مقتصدٌ ومنهم سابقٌ بالخيرات} الآية، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "كلّهم من هذه الأمّة".
الحديث الرّابع: قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا محمّد بن عزيز، حدّثنا سلامة، عن عقيل، عن ابن شهابٍ، عن عوف بن مالكٍ، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه قال: "أمّتي ثلاثة أثلاتٍ: فثلثٌ يدخلون الجنّة بغير حسابٍ ولا عذابٍ، وثلثٌ يحاسبون حسابًا يسيرًا ثمّ يدخلون الجنّة، وثلثٌ يمحّصون ويكشفون، ثمّ تأتي الملائكة فيقولون: وجدناهم يقولون: "لا إله إلّا اللّه وحده". يقول اللّه عزّ وجلّ: صدقوا، لا إله إلّا أنا، أدخلوهم الجنّة بقولهم: "لا إله إلّا اللّه وحده" واحملوا خطاياهم على أهل النّار، وهي الّتي قال اللّه تعالى: {وليحملنّ أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم} [العنكبوت: 13]،وتصديقها في الّتي فيها ذكر الملائكة، قال اللّه تعالى: {ثمّ أورثنا الكتاب الّذين اصطفينا من عبادنا} فجعلهم ثلاثة أنواعٍ، وهم أصنافٌ كلّهم، فمنهم ظالمٌ لنفسه، فهذا الّذي يكشف ويمحّص". غريبٌ جدًّا.
أثرٌ عن ابن مسعودٍ: قال ابن جريرٍ: حدّثني ابن حميدٍ، حدّثنا الحكيم بن بشيرٍ، عن عمرو بن قيسٍ، عن عبد اللّه بن عيسى، عن يزيد بن الحارث، عن شقيق أبي وائلٍ، عن عبد اللّه بن مسعودٍ، أنّه قال: هذه الأمّة ثلاثة أثلاثٍ يوم القيامة: ثلثٌ يدخلون الجنّة بغير حسابٍ، وثلثٌ يحاسبون حسابًا يسيرًا، وثلثٌ يجيئون بذنوبٍ عظامٍ حتّى يقول: ما هؤلاء؟ -وهو أعلم تبارك وتعالى-فتقول الملائكة: هؤلاء جاءوا بذنوبٍ عظامٍ، إلّا أنّهم لم يشركوا بك فيقول الرّبّ عزّ وجلّ: أدخلوا هؤلاء في سعة رحمتي: وتلا عبد اللّه هذه الآية: {ثمّ أورثنا الكتاب الّذين اصطفينا من عبادنا [فمنهم ظالمٌ لنفسه]} الآية.
أثرٌ آخر: قال أبو داود الطّيالسيّ، عن الصّلت بن دينارٍ أبو شعيب، عن عقبة بن صهبان الهنائي قال: سألت عائشة، رضي اللّه عنها، عن قول الله: {ثمّ أورثنا الكتاب الّذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالمٌ لنفسه} الآية، فقالت لي: يا بنيّ، هؤلاء في الجنّة، أمّا السّابق بالخيرات فمن مضى على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم،، شهد له رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بالحياة والرّزق، وأمّا المقتصد فمن اتّبع أثره من أصحابه حتّى لحق به، وأمّا الظّالم لنفسه فمثلي ومثلكم. قال: فجعلت نفسها معنا.
وهذا منها، رضي اللّه عنها، من باب الهضم والتّواضع، وإلّا فهي من أكبر السّابقين بالخيرات؛ لأنّ فضلها على النّساء كفضل الثّريد على سائر الطّعام.
وقال عبد اللّه بن المبارك، رحمه اللّه: قال أمير المؤمنين عثمان بن عفّان، رضي اللّه عنه: في قوله تعالى: {فمنهم ظالمٌ لنفسه} قال: هي لأهل بدونا، ومقتصدنا أهل حضرنا، وسابقنا أهل الجهاد. رواه ابن أبي حاتمٍ.
وقال عوف الأعرابيّ: حدّثنا عبد اللّه بن الحارث بن نوفلٍ قال: حدّثنا كعب الأحبار قال: إنّ الظّالم لنفسه من هذه الأمّة، والمقتصد والسّابق بالخيرات كلّهم في الجنّة، ألم تر أنّ اللّه تعالى قال: {ثمّ أورثنا الكتاب الّذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالمٌ لنفسه ومنهم مقتصدٌ ومنهم سابقٌ بالخيرات بإذن اللّه ذلك هو الفضل الكبير جنّات عدنٍ يدخلونها} إلى قوله: {والّذين كفروا لهم نار جهنّم} قال: فهؤلاء أهل النّار.
[و] رواه ابن جريرٍ من طرقٍ، عن عوفٍ، به. ثمّ قال:
حدّثني يعقوب بن إبراهيم، حدّثنا ابن عليّة، أخبرنا حميدٌ، عن إسحاق بن عبد اللّه بن الحارث، عن أبيه أنّ ابن عبّاسٍ سأل كعبًا عن قوله: {ثمّ أورثنا الكتاب الّذين اصطفينا من عبادنا} إلى قوله: {بإذن اللّه} قال: تماسّت مناكبهم ورب كعبٍ، ثمّ أعطوا الفضل بأعمالهم.
ثمّ قال ابن جريرٍ: حدّثنا ابن حميدٍ، حدّثنا الحكم بن بشيرٍ، حدّثنا عمرو بن قيسٍ، عن أبي إسحاق السّبيعي في هذه الآية: {ثمّ أورثنا الكتاب الّذين اصطفينا من عبادنا} الآية، قال أبو إسحاق: أمّا ما سمعت منذ ستّين سنةً فكلّهم ناجٍ.
ثمّ قال: حدّثنا ابن حميدٍ، حدّثنا الحكم، حدّثنا عمرٌو، عن محمّد بن الحنفيّة قال: إنّها أمّةٌ مرحومةٌ، الظّالم مغفورٌ له، والمقتصد في الجنان عند اللّه، والسّابق بالخيرات في الدّرجات عند اللّه.
ورواه الثّوريّ، عن إسماعيل بن سميع، عن رجلٍ، عن محمّد بن الحنفيّة، بنحوه.
وقال أبو الجارود: سألت محمّد بن عليٍّ -يعني: الباقر-عن قوله: {فمنهم ظالمٌ لنفسه} فقال: هو الّذي خلط عملًا صالحًا وآخر سيّئًا.
فهذا ما تيسّر من إيراد الأحاديث والآثار المتعلّقة بهذا المقام. وإذا تقرّر هذا فإنّ الآية عامّةٌ في جميع الأقسام الثّلاثة من هذه الأمّة، فالعلماء أغبط النّاس بهذه النّعمة، وأولى النّاس بهذه الرّحمة، فإنّهم كما قال الإمام أحمد، رحمه اللّه:
حدّثنا محمّد بن يزيد، حدّثنا عاصم بن رجاء بن حيوة، عن قيس بن كثيرٍ قال: قدم رجلٌ من أهل المدينة إلى أبي الدّرداء -وهو بدمشق-فقال: ما أقدمك أي أخي؟ قال: حديثٌ بلغني أنّك تحدّث به عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم. قال أما قدمت لتجارةٍ؟ قال: لا. قال: أما قدمت لحاجةٍ؟ قال: لا؟ قال: أما قدمت إلّا في طلب هذا الحديث؟ قال: نعم. قال: فإنّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: "من سلك طريقًا يطلب فيه علمًا، سلك اللّه به طريقًا إلى الجنّة، وإنّ الملائكة لتضع أجنحتها رضًا لطالب العلم، وإنّه ليستغفر للعالم من في السموات والأرض حتّى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب. إنّ العلماء هم ورثة الأنبياء، وإنّ الأنبياء لم يورّثوا دينارًا ولا درهمًا، وإنّما ورّثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظٍّ وافرٍ".
وأخرجه أبو داود، والتّرمذيّ، وابن ماجه، من حديث كثير بن قيسٍ -ومنهم من يقول: قيس بن كثيرٍ-عن أبي الدّرداء. وقد ذكرنا طرقه واختلاف الرّواة فيه في شرح "كتاب العلم" من "صحيح البخاريّ"، وللّه الحمد والمنّة.
وقد تقدّم في أوّل "سورة طه" حديث ثعلبة بن الحكم، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "يقول اللّه تعالى يوم القيامة للعلماء: إنّي لم أضع علمي وحكمي فيكم إلّا وأنا أريد [أن] أغفر لكم، على ما كان منكم، ولا أبالي"). [تفسير ابن كثير: 6/ 546-550]

تفسير قوله تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({جنّات عدنٍ يدخلونها يحلّون فيها من أساور من ذهبٍ ولؤلؤًا ولباسهم فيها حريرٌ (33) وقالوا الحمد للّه الّذي أذهب عنّا الحزن إنّ ربّنا لغفورٌ شكورٌ (34) الّذي أحلّنا دار المقامة من فضله لا يمسّنا فيها نصبٌ ولا يمسّنا فيها لغوبٌ (35)}.
يخبر تعالى أنّ مأوى هؤلاء المصطفين من عباده، الّذين أورثوا الكتاب المنزّل من ربّ العالمين يوم القيامة {جنّات عدنٍ} أي: جنّات الإقامة يدخلونها يوم معادهم وقدومهم على ربّهم، عزّ وجلّ، {يحلّون فيها من أساور من ذهبٍ ولؤلؤًا}، كما ثبت في الصّحيح عن أبي هريرة رضي اللّه عنه، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه قال: "تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء".
{ولباسهم فيها حريرٌ} ولهذا كان محظورًا عليهم في الدّنيا، فأباحه اللّه لهم في الدّار الآخرة، وثبت في الصّحيح أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال: "من لبس الحرير في الدّنيا لم يلبسه في الآخرة". وقال: " [لا تشربوا في آنية الذّهب والفضّة] هي لهم في الدّنيا ولكم في الآخرة".
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا عمرو بن سوادٍ السّرحي، أخبرنا ابن وهبٍ، عن ابن لهيعة، عن عقيل بن خالدٍ، عن الحسن، عن أبي هريرة، رضي اللّه عنه؛ أنّ أبا أمامة حدّث: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حدّثهم، وذكر حليّ أهل الجنّة فقال: "مسوّرون بالذّهب والفضّة، مكلّلة بالدّرّ، وعليهم أكاليل من درّ وياقوتٍ متواصلةٌ، وعليهم تاجٌ كتاج الملوك، شبابٌ جردٌ مردٌ مكحّلون"). [تفسير ابن كثير: 6/ 551]

تفسير قوله تعالى: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) :({وقالوا الحمد للّه الّذي أذهب عنّا الحزن} وهو الخوف من المحذور، أزاحه عنّا، وأراحنا ممّا كنّا نتخوّفه، ونحذره من هموم الدّنيا والآخرة.
وقال عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن ابن عمر قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم "ليس على أهل "لا إله إلّا اللّه" وحشةٌ في قبورهم ولا في منشرهم، وكأنّي بأهل "لا إله إلّا الله" ينفضون التراب عن رؤوسهم، ويقولون: {الحمد للّه الّذي أذهب عنّا الحزن} رواه ابن أبي حاتمٍ من حديثه.
وقال الطّبرانيّ: حدّثنا جعفر بن محمّدٍ الفريابيّ، حدّثنا يحيى بن موسى المروزيّ، حدّثنا سليمان بن عبد اللّه بن وهبٍ الكوفيّ، عن عبد العزيز بن حكيمٍ، عن ابن عمر قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "ليس على أهل "لا إله إلّا اللّه" وحشةٌ في الموت ولا في قبورهم ولا في النّشور. وكأنّي أنظر إليهم عند الصّيحة ينفضون رؤوسهم من التّراب، يقولون: {الحمد للّه الّذي أذهب عنّا الحزن إنّ ربّنا لغفورٌ شكورٌ}
قال ابن عبّاسٍ، وغيره: غفر لهم الكثير من السّيّئات، وشكر لهم اليسير من الحسنات). [تفسير ابن كثير: 6/ 551-552]

تفسير قوله تعالى: {الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({الّذي أحلّنا دار المقامة من فضله}: يقولون: الّذي أعطانا هذه المنزلة، وهذا المقام من فضله ومنّه ورحمته، لم تكن أعمالنا تساوي ذلك. كما ثبت في الصّحيح أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "لن يدخل أحدًا منكم عمله الجنّة". قالوا: ولا أنت يا رسول اللّه؟ قال: "ولا أنا، إلّا أن يتغمّدني اللّه برحمةٍ منه وفضلٍ".
{لا يمسّنا فيها نصبٌ ولا يمسّنا فيها لغوبٌ} أي: لا يمسّنا فيها عناءٌ ولا إعياءٌ.
والنصب واللّغوب: كلٌّ منهما يستعمل في التّعب، وكأنّ المراد ينفي هذا وهذا عنهم أنّهم لا تعب على أبدانهم ولا أرواحهم، واللّه أعلم. فمن ذلك أنّهم كانوا يدئبون أنفسهم في العبادة في الدّنيا، فسقط عنهم التّكليف بدخولها، وصاروا في راحةٍ دائمةٍ مستمرّةٍ، قال اللّه تعالى: {كلوا واشربوا هنيئًا بما أسلفتم في الأيّام الخالية} [الحاقّة: 24] ). [تفسير ابن كثير: 6/ 552]

رد مع اقتباس