عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 13 رمضان 1438هـ/7-06-2017م, 10:32 AM
جمهرة علوم العقيدة جمهرة علوم العقيدة غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: May 2017
المشاركات: 1,193
افتراضي

قال أبو عمر عبد العزيز بن داخل المطيري: (
مُقَدّمَةُ الْكِتَابِ:
الحمدُ للهِ الذي لا إلهَ إلاَّ هوَ، لهُ الأسماءُ الحسنَى، المتفردِ بالكمالِ المطلقِ في ذاتِهِ وأسمائِهِ وصفاتِهِ العليا، المُتَنَزِّهِ عن النقائِصِ، والشرور، والمعايِبِ، وسائرِ ما لا يليقُ بكمالِهِ الأعلَى، المتعالي بعظمته عنْ أنْ يكونَ لهُ شريكٌ، أوْ نظيرٌ، أوْ شبيهٌ يُسَامِيهِ في المقامِ الأَسمَى، المستحقِّ لكمالِ الحُبِّ، والحمدِ، والتعظيمِ، على الوجهِ الأوفَى.
فلهُ الحمدُ كلُّهُ وبيَدِهِ الخيرُ كلُّهُ، وإليهِ يُرجَعُ الأمرُ كلُّهُ، لا إلهَ إلاَّ هوَ وَحدَهُ لا شريكَ لهُ في الآخرةِ والأُولَى.
خلقَ الخلقَ من العدَمِ، وأسبغَ عليهمُ النِّعَمَ، وتعرَّفَ إليهم بأسمائِهِ وصفاتِهِ، وأظهرَ آثارَها في أوامرِهِ ومخلوقاتِهِ؛ ليستدِلَّ بها الموفَّقُونَ على وَحدانيَّتِهِ وصِدْقِ رُسُلِهِ وآياتِهِ، ويعرِفوا بها كمالَ ربِّهِم وجلالَهُ وجمالَهُ.
والصلاةُ والسلامُ على خاتم أنبيائه، وصفوة أوليائه، نبيِّنَا محمَّدِ بنِ عبدِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ.

أمَّا بعْدُ:
فإنَّ أشرفَ العلومِ وأفضَلَها، وأجَلَّهَا وأَنْبَلَها: عِلْمُ العبدِ برَبِّهِ تعالى وأسمائِهِ وصفاتِهِ وأحكامِهِ، فهوَ قُطْبُ رَحَى السعادَةِ، ومِفتاحُ الفضلِ والزيادةِ، مَنْ رُزِقَ فيهِ مَقامَ صدْقٍ لمْ يُخطِئْهُ مغنَمٌ، ولمْ يأسَفْ على فائتٍ؛ فقدْ حازَ القِدْحَ المُعَلَّى، والفوزَ المُجَلَّى، ومَنْ أعرضَ عنهُ فهوَ البائسُ المحرومُ، والشقيُّ المذمومُ، لا تُسْتَقَالُ ندامَتُهُ، ولا تُفارِقُهُ ملامَتُهُ.
فهوَ العِلمُ الجديرُ بأنْ تُصْرَفَ نفائسُ الأوقاتِ في تحصيلِهِ، وتُقَدَّمَ أعظمُ التضحياتِ في سبيلِ بلوغِهِ؛ فإنَّ ثمْرَتَهُ لا تعدِلُها ثمْرَةٌ، وحَسْرةَ حرمانِها لا تعدِلُها حسْرةٌ، والحاجةَ إليهِ لا تعدِلُها حاجةٌ.
بلْ كلُّ علمٍ لا يُوصِلُ إليهِ ولا يُعِينُ عليهِ مَضْيَعةُ وقْتٍ، ومَجْلَبَةُ مَقْتٍ.
وهلْ أشرفُ مِنْ عِلْمٍ: معلومُهُ بارئُ البَرِيَّاتِ، ومُبدعُ الكائناتِ، الذي لهُ الخلقُ والأمْرُ، بَهَرَ العقولَ ببديعِ خلقِهِ، وحارَتِ الألبابُ في حِكَمِ شَرْعِهِ، وأَنِسَتِ القلوبُ بلذيذِ مُناجاتِهِ، واستنارتْ بمعرفةِ أسمائِهِ وصفاتِهِ، وشَرُفَتْ بعِلمِ أحكامِهِ وتشريعاتِهِ، مَنْ ذِكْرُهُ أُنْسٌ، وطاعتُهُ غُنْمٌ، والزُّلْفَى لديهِ أغلى الأمنيَّاتِ.
وهلْ أفضلُ مِنْ علْمٍ: منْ ثمَراتِهِ رؤيَةُ الملكِ العلاَّمِ، ومرافقةُ خِيرةِ الأنامِ، في جَنَّةٍ قدْ زُيِّنَتْ بما تشتهيهِ الأنفُسُ وتَلَذُّ الأعينُ، لا يخالطُ نعيمَها بؤْسٌ، ولا يُكَدِّرُ صفوَها شائبةُ كَدَرٍ، موضعُ سَوْطٍ فيها خيرٌ من الدنيا وما فيها من الحُطامِ.
وهلْ أجَلُّ مِنْ علْمٍ: هوَ أساسُ الإيمانِ، ومَعقِدُ الامتحانِ، ومِضْمارُ تسابُقِ الفُرْسانِ، السابقُ فيهِ هوَ السَّبَّاقُ ((مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا))، والحائدُ عنهُ هوَ المُعَذَّبُ الملهوفُ، المنقطِعُ الموقوفُ، قدْ خسِرَ خَسارةَ مَنْ لا يُسْتَصْلَحُ أمرُهُ، ولا يَنْجَبِرُ كسرُهُ، نعوذُ باللهِ العظيمِ من الخسرانِ.
وهلْ أَنْبَلُ مِنْ عِلْمٍ: يحملُ النفسَ على مكارمِ الأخلاقِ، ومحاسنِ الآدابِ، ويُخَلِّصُها منْ شَبَهِ الأنعامِ، وأخلاقِ سَفِلَةِ الأنامِ، يُهَذِّبُ النفسَ فَتَزْكُو، ويُطَهِّرُ القلبَ فيسْمُو، ويُنَقِّي السَّريرةَ فتصْفُو، ويُنِيرُ البصيرةَ، ويُعلي الهِمَّةَ، بهِ يَسْلَمُ القلبُ، ويَصِحُّ العِلْمُ، ويَصلُحُ العملُ، و تُحمَدُ السيرةُ، وتَحسُنُ العاقبةُ، ويَجْمُلُ الذكرُ.
فلا جَرَمَ كانَ الاشتغالُ بهِ عُنوانَ السعادةِ والفلاحِ، والاشتغالُ عنهُ آيَةَ الشَّقاوةِ والهلاكِ.
قالَ ابنُ القيِّمِ رحمهُ اللهُ تعالى في نُونِيَّتِهِ المُباركةِ:
والعلْمُ أقسامٌ ثلاثٌ ما لها = مِنْ رابعٍ والحقُّ ذُو تبيانِ
عِلمٌ بأوصافِ الإلهِ وفعلِهِ = وكذلكَ الأسماءُ للرَّحْمَنِ
والأمرُ والنهيُ الذي هوَ دِينُهُ = وجزاؤُهُ يومَ المَعادِ الثانِي
والكلُّ في القرآنِ والسُّنَنِ التي = جاءَتْ عن المبعوثِ بالفُرْقَانِ
فعلى قَدْرِ عِلمِ العبدِ بربِّهِ وعملِهِ بما يقتضيهِ ذلكَ العلمُ ترتفعُ درجتُهُ، وتسْمُو هِمَّتُهُ، وتزْكُو نفسُهُ، ويُثْمِرُ غرسُهُ؛ فإنَّ الدنيا مَزرَعةُ الآخرةِ، وإنَّما صلاحُ العبادةِ بصلاحِ العلْمِ؛ فالعلمُ باللهِ أصلُ الدينِ كلِّهِ.
ومنْ هنا يتبيَّنُ خَطَرُ الضلالِ في هذا البابِ؛ فإنَّهُ مَوْرِدُ هَلَكَةٍ، وَشَرَكُ شَبَكةٍ نصَبها الشيطانُ فاصطادَ بها مَنْ سبقَتْ لهم الشَّقاوَةُ، وحَقَّتْ عليهم الكلمَةُ؛ فاجْتالَهم عن الصراطِ المستقيمِ فَتَنَكَّبُوهُ، وأعْمَاهُم ـ بما زَيَّنَ لهُمْ ـ عن الحقِّ فلمْ يُبْصِرُوهُ:
ـ فهذا تائِهٌ حائرٌ؛ لا يعرفُ رَبَّهُ، ولا يدري في أيِّ مكانٍ هوَ، لا هوَ خارجَ العالمِ ولا داخِلَهُ، ولا مُتَّصِلٌ بهِ ولا منفصلٌ عنْهُ، ولا فوقُ ولا تحْتُ، ولا أمامُ ولا خلفُ، ولا يُشَارُ إليْهِ، ولا يُنعَتُ بصفَةٍ. ‍‍‍‍‍
- وهذا حُلُولِيٌّ ممقوتٌ؛ يزعمُ أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ حالٌّ في كلِّ مكانٍ بذاتِهِ، وأنَّهُ الوجودُ كلُّهُ.
- وهذا اتِّحَادِيٌّ ضالٌّ؛ يزعمُ أنَّهُ اتَّحدَ ببعضِ مخلوقاتِهِ.
- وهذا مُفَوِّضٌ جاهلٌ؛ شرعَ الأبوابَ للزائغينَ في قالَبِ التنزيهِ لربِّ العالمينَ.
- وهذا مشركٌ مُبْطِلٌ ؛ يدْعُو منْ دونِ اللهِ ما لا ينفعُهُ و لا يضرُّهُ.
- وهذا مُلْحِدٌ مُعَطِّلٌ مُسْتَنْكِفٌ مستكبرٌ؛ يزعمُ أنْ لا إلَهَ.
تعالى اللهُ عمَّا يقولُ الظالمونَ عُلُوًّا كبيرًا.
بلْ إذا تأمَّلْتَ جميعَ أبوابِ الدينِ التي ضلَّ فيها الضَّالُّونَ ـ منْ هذهِ الأُمَّةِ وغيرِها ـ وجَدْتَ أصلَ ضلالِهم الجهلَ باللهِ تعالى وأسمائِهِ وصفاتِهِ وأحكامِهِ، وما يجبُ لهُ ويمتنعُ عليْهِ.
وإيضاحُ هذهِ الجملةِ يستدعي أسْفَارًا؛ وحَسْبُكَ في هذا المقامِ مِثالٌ مُخْتَصَرٌ في بابٍ واحدٍ تَستجْلِي فيهِ هذهِ الحقيقةَ، وتقيسُ عليهِ بقِيَّةَ الأبوابِ:
فمِمَّا حدثَ فيهِ الاختلافُ: أفعالُ العبادِ وما يترتَّبُ عليهَا:
فالقَدَرِيَّةُ يقولونَ: إنَّ العبدَ خالقُ فِعلِ نفسِهِ، وهوَ الذي يجعلُ نفسَهُ مهتديًا أوْ ضالاًّ، ويجبُ على اللهِ ـ تعالى اللهُ عمَّا يقولونَ ـ أنْ يُثِيبَ العبدَ إذا أطاعَهُ كما يُثَابُ الأجيرُ، وأنْ يُخْلِدَهُ في النارِ إذا ارتكبَ كبيرةً من الكبائرِ.
والجَبْرِيَّةُ يقولونَ: إنَّ العبدَ مجبورٌ على فعلِهِ؛ ليسَ لهُ مَشيئةٌ ولا اختيارٌ؛ كالسِّكِّينِ في يدِ القاطِعِ. وغُلاتُهُمْ يقولونَ: كالرِّيشَةِ في مهبِّ الريحِ. ويجوزُ على اللهِ أنْ يُعَذِّبَ المؤمنَ الطائعَ بأشدِّ العذابِ ويُخْلِدَهُ في النارِ بغيرِ جُرْمٍ ارتكَبَهُ ولوْ قضى عُمُرَهُ كلَّهُ في طاعةِ اللهِ؛ كما يجوزُ عليهِ أنْ يُثِيبَ الكافرَ المُعَانِدَ بأعظمِ أنواعِ الثوابِ.
وكلا الطائفتَيْنِ جاهلتانِ باللهِ تعالى جهلاً عظيمًا، لمْ تعْرِفَاهُ المعرفةَ الصحيحة التي تُنْجِي من الضلالَةِ، وتُنَالُ بها السعادةُ.
فأَمَّا ضَلالُ القَدَرِيَّةِ فمنْشَؤُهُ الجهلُ بعمومِ خلقِ اللهِ تعالى، ونُفوذِ مشيئتِهِ، وعُمومِ تصرُّفِهِ الذي هوَ مُقتضى مُلْكِهِ؛ فهوَ الذي يخلُقُ ويرزُقُ، ويُعَافِي ويبتَلِي، ويَهدِي ويُثِيبُ فضلاً، ويُضِلُّ ويُعاقبُ عدْلاً، ويَخْفِضُ ويرفَعُ، ويُعطِي ويمنَعُ، ويَصِلُ ويقطَعُ، ويقبِضُ ويبسُطُ، ويفعَلُ ما يريدُ.
فإذا علِمَ العبدُ معنى اسمِ ((الخالِقِ)) واسمِ ((المالِكِ)) و((العليمِ)) و((القديرِ)) و((المُعْطِي المانِعِ))، ونحْوِها من الأسماءِ التي تدلُّ على عُمومِ تصرُّفِ اللهِ عزَّ وجلَّ في خلقِهِ، وتأمَّلَ آثارَها ولوازِمَها وفَقِهَ ذلكَ حقَّ الفقْهِ: تبيَّنَ لهُ ضلالُ القدَرِيَّةِ في هذا البابِ، وأنكرَ قلْبُهُ ما سَطَّرُوهُ، ولمْ يَغُرُّهُ ما شَبَّهُوا بهِ عَلَى مَنْ لا عِلمَ عندَهُ.
فكيفَ يكونُ خالقًا لكلِّ شيءٍ مَنْ أفعالُ العبادِ كلِّهِم ليستْ منْ خلقِهِ؟!
وكيفَ يكونُ قادرًا على كلِّ شيءٍ مَنْ لا يستطيعُ هدايَةَ عبدٍ منْ عبادِهِ أوْ إضلالَهُ؟!
وكيفَ يكونُ فعَّالاً لما يُرِيدُ مَنْ إذا شاءَ مِنْ عبدِهِ أنْ يعمَلَ عملاً وشاءَ العبدُ خِلافَهُ نفَذَتْ مشيئةُ العبدِ ولمْ تنْفُذْ مشيئةُ ربِّهِ؟!
وكيفَ يكونُ مَلِكًا حقًّا مَنْ لا يقدِرُ أنْ يَهْدِيَ ولا يُضِلَّ حقيقةً، ويخلُقُ عبادُهُ خلقًا بغيرِ إذنِهِ ومشيئتِهِ، بلْ يجعلونَ لهُ شريعةً يُوجِبُونَها عليْهِ؛ فيوجبونَ عليهِ أنْ يُثِيبَ الطائعَ ويُخْلِدَ صاحبَ الكبيرةِ المُوَحِّدَ في العذابِ الشديدِ كالمشركينَ؟!
إلى غيرِ هذهِ الأسماءِ التي يَسْتَدِلُّ بها المؤمنُ المُوَفَّقُ على ضلالِ هذهِ الطائفةِ وبُطْلانِ قولِهِم.
وأمَّا ضلالُ الجبْرِيَّةِ فمَنشؤُهُ الجهلُ بحكمةِ اللهِ عزَّ وجلَّ وحمْدِهِ وعدْلِهِ ورحمَتِهِ وإحسانِهِ:
فكيفَ يكونُ حكيمًا مَنْ يُنْزِّلُ الشرائعَ المُحكمَةَ المُتَضَمِّنَةَ للأوامرِ والنواهِي المُفَصَّلةِ على عبادٍ لا يستطيعونَ امتثالَها، بلْ همْ مجْبُورونَ على مُخالفَتِها، لا اختيارَ لهم ولا مشيئةَ، فسَوَاءٌ أنزلَ الشريعةَ أمْ لمْ يُنْزِلْهَا ليسَ لهمْ إلاَّ فعلُ ما أُجْبِرُوا عليْهِ؟!
وما هيَ فائدةُ إرسالِ الرُّسُلِ وإنزالِ الكُتُبِ وتصريفِ الآياتِ؟!
وكيفَ يكونُ عَدْلاً حَمِيدًا مَنْ يأْمُرُ العبدَ بأَمْرٍ ويُجْبِرُهُ على مخالفتِهِ، ثمَّ يُعاقِبُهُ على تلكَ المخالَفةِ أشدَّ العقابِ؟!
وكيفَ يكونُ رحْمَانًا رحيمًا مَنْ يُخْرِجُ عبدَهُ المؤمنَ المُخْبِتَ منْ قَرَارَةِ مُتَعَبَّدِهِ ومَحَلِّ سُجُودِهِ فَيُخْلِدُهُ في النارِ بلا جُرْمٍ ارتكَبَهُ ولا ذَنْبٍ اقترفَهُ؟!
وكيفَ يكونُ إلهًا وَدُودًا حميدًا يستحقُّ الحُبَّ والودَّ والحمدَ كلَّهُ مَنْ هذا شَأْنُهُ؟!
وهكذا سائرُ الأسماءِ الدالَّةِ على ضلالِ هذهِ الطائفَةِ؛ يَسْتَدِلُّ بها مَنْ نَوَّرَ اللهُ قلْبَهُ على بُطْلانِ قولِهِم.
والمقصودُ أنَّ العبدَ إذا تأمَّلَ أسماءَ اللهِ الحُسنَى وفَقِهَ معانِيَها ولوَازِمَها وآثارَها، واستقرَّ ذلكَ في قلْبِهِ وجدَ أسماءَ اللهِ عزَّ وجلَّ تُنَادِي أَبْيَنَ النداءِ: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)} [الصَّافَّات: 180-182].
وكانَ مُجَرَّدُ تصوُّرِهِ لأقوالِ أهلِ الضلالِ كافيًا في ردِّهِ ومعرفةِ بُطلانِهِ؛ لِمَا ترسَّخَ في قلْبِهِ منْ معْرِفَتِهِ بمُنَافَاتِهَا لحقائقِ أسماءِ اللهِ عزَّ وجلَّ وصفاتِهِ وما يليقُ بهِ تعالى ذِكْرُهُ.
ولسانُ حالِهِ يقولُ كُلَّمَا بلَغَتْهُ مَقالةٌ ضالَّةٌ منْ مَقَالاتِهِم: سُبْحَانَكَ هذا بهتانٌ عظيمٌ!.
وقدْ أشارَ اللهُ عزَّ وجلَّ إلى هذا المنهجِ؛ الذي هوَ الاستدلالُ بأسماءِ اللهِ الحسنى وصفاتِهِ العُلَى على بُطلانِ أقوالِ الضَّالِّينَ.
وهوَ منْ أعظمِ المناهجِ نفعًا، وأحسَنِها وَقْعًا، وأسْلَمِها وألْصَقِها بالإيمانِ واليقينِ لمَنْ كانتْ لهُ بصيرةٌ ومعرفةٌ بأسماءِ اللهِ الحسنَى:
قالَ اللهُ تعالى: {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ} [يونُس: 68-69].
فكونُه هو الغنيَّ يَنفِي أن يكونَ له ولدٌ، فإنَّ الاحتياجَ إلى الولدِ يُنافِي كَمالَ الغِنَى، واللهُ عزَّ وجلَّ هو الغنيُّ الذي له الغِنَى الكَامِلُ المُطلَقُ من جميعِ الوجوهِ عن كلِّ أحدٍ بكُلِّ اعتبارٍ، فلا يُمكِنُ أن يَحتاجَ إلى غيرهِ أبدًا.
فهو الغَنيُّ المُستغنِي عن كُلِّ أحدٍ.
وهو الغنيُّ الذي له كُلُّ ما في السماواتِ مِن خَلائِقَ لا يُحْصِيهِمْ إلا هو، ومِنْ خَزائِنَ لا يَعْلَمُ قَدْرَهَا غَيْرُه، وله كُلُّ ما في الأرضِ من خَلائِقَ وخَزائِنَ.
وكُلُّ شيءٍ تَحْتَ مُلْكِهِ وتَصرُّفِهِ وتَدبيرِهِ، ولو شاءَ أن يَخْلُقَ أضعافَها وأَضعافََ أضعافِها لم يُعْجِزْهُ ذلك وهو العليمُ القديرُ.
وتَأَمَّلْ قولَهُ تعالَى: {هُوَ الْغَنِيُّ}؛ فهذا الأسلوبُ يُسمَّى أُسلوبَ الحَصْرِ في لسانِ العَربِ، أي: هو وَحْدَهُ الغنيُّ الذي له كَمالُ الغِنَى المُطلقِ عَنْ كُلِّ أَحدٍ مِن جَميعِ الوُجوهِ.
وفي ضِمْنِ ذلك غِنَاهُ تَعالَى عَنِ الصَّاحِبَةِ إِذْ لا يُوجَدُ وَلَدٌ بِلا صَاحِبَةٍ وإلا كانَ خَلْقًا مِن سائرِ الخَلْقِ كمَا قَالَ تعَالَى: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ}.
فمَنْ آمَنَ بهذَا الاسمِ وعَرَفَ مَعْناهُ حَقَّ المعرفةِ عِلِمَ أنَّ ادِّعاءَ أولئكَ المدَّعينَ مِنْ أَعظمِ الزُّورِ والبُهتانِ، تَعالَى اللهُ عمَّا يَفتَرُونَ عُلوًّا عظيمًا، واستَنْكَرَها كلُّ عُضوٍ من أعْضائِهِ فيَقِفُ شَعْرُ رأسِهِ، ويَقْشَعِرُّ جِلدُهُ، ويَتَمَعَّرُ وَجْهُهُ، ويَشْمَئِزُّ قَلْبُه، ويَنْبُو سَمْعُهُ، وتُحَمْلِقُ عَيناهُ مِن هَوْلِ هذه الدَّعْوَى الشَّنِيعَةِ.
وهذا الإنكارُ في قَلْبِ المؤمنِ وجَسَدِهِ مُتلازِمٌ معَ قُوَّةِ المعرفةِ باللهِ تعالَى وبأَسْمائِهِ وصِفاتِه، وشِدَّةِ النَّفْرَةِ مِن هذه الدَّعوَى الباطلةِ الظالِمَةِ.
وهذا نظيرُ ما بَيَّنَهُ اللهُ لنا -في تصويرٍ عَظيمٍ تَرْتَجِفُ له القُلوبُ- مِن أَثَرِ هذا الافتراءِ على السَّماواتِ والأَرْضِ والجبالِ حتَّى كادَتْ مَعالِمُ الكَوْنِ تَتَغَيَّرُ لَوْلاَ لُطْفُ اللهِ عزَّ وجَلَّ وحِلمُهُ، ورَأْفَتُهُ بعِبادِهِ المُؤمنِينَ الَّذينَ يَسْتَنْكِرُونَ هذِهِ المقالَةَ الجَائِرَةَ.
قال اللهُ تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95)} [مريم: ٨٨ - ٩٥]
وقالَ: {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4)} [الزُّمَر: 4].
فكونُهُ تعالى الواحدَ ينفِي أنْ يكونَ لهُ مثيلٌ، ولو كانَ لهُ وَلَدٌ لَمْ يكنْ واحِدًا، فإنَّ الولدَ من جنسِ أبيهِ.
وكونُه القهَّارَ يدلُّ على اتِّصَافِهِ جلَّ وعَلا بالقهرِ المطلقِ، وهذَا ينفِي كذلكَ أن يكونَ لهُ ولدٌ، إذِ الأبوةُ مانعةٌ من القهرِ المطلَقِ، تعالى اللهُ عما يقولُ الظالمونَ علوًّا كبيرًا.
وهذانِ الاسمانِ الجليلانِ متلازمانِ؛ فإنَّ القهَّارَ لا بدَّ أنْ يكونَ واحدًا، إذْ لو شَارَكَهُ أحدٌ في صِفَةِ القهرِ لَمْ يكنْ قاهِرًا لَهُ، والواحدُ لا بدَّ أن يكونَ قهارًا، إذ لا شريكَ لهُ في ملكِهِ، ولا سَمِيَّ له، ولا نِدَّ له.
فتأملْ أثَرَ الإيمانِ بهذِهِ الأسماءِ الحسنَى فِي ردِّ هذَا القولِ الباطلِ الضالِّ، ثمَّ تأمَّلْ أثرَهُ في زيادةِ الإيمانِ واليقينِ والمعرفةِ باللهِ في قلبِ عبدِهِ المؤمنِ.
وقالَ: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} [المائدَة: 18]. فبَيَّنَ بُطلانَ زعْمِهِم بفِعْلٍ منْ أفعالِهِ ـ جلَّ وعَلا ـ وهوَ منْ آثارِ اسْمِهِ ((المَلِكِ)).
وقالَ في قارونَ: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا} [القَصَص: 78].
وقالَ: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53)} [النَّحْل: 52-53]؛ فأنكرَ عليهم عبادةَ غيرِهِ مُحتجًّا على ذلكَ بكونِهِ المُنْعِمَ المُغِيثَ؛ فهوَ الذي يَجْلُبُ لهم النعمَ، ويكشِفُ عنهم الضُّرَّ، وغيرُهُ لا يملِكُ لهم ضَرًّا ولا نَفعًا.
وقبلَ هذا قولُهُ تعالى: {وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52)} [النحل: 51-52].
وقالَ: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39) إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)} [النحل: 38-40]؛ فأنكرَ عليهم مَقالَتَهُم مُبَيِّنًا لهم أنَّ حكمتَهُ تأْبَى أنْ يترُكَ بَيانَ الحقِّ الذي اختلفوا فيهِ وبَيانَ كذِبِ الكفارِ عليهِ؛ وهذا منْ آثارِ اسْمِهِ ((الحكيمِ))، وأرْدَفَ ذلكَ ببَيانِ قُدْرَتِهِ تعالى على بَعْثِهِم، وأنَّ ذلكَ لا يُعْجِزُهُ.
وقالَ: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116)} [المؤمنون: 115-116]. وفي هذا المعنى قولُهُ تعالى: {إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35)} [الدخان: 34-35] إلى قوْلِهِ تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39)} [الدخان: 38-39]. وهذا منْ آثارِ اسْمِهِ ((الحكيمِ)).
وكذلكَ قولُـهُ تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28)} [ص: 27-28].
وقالَ تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6)}[الحجِّ: 5-6].
فانظُرْ كيفَ اقتلعَ جُذورَ الرَّيْبِ من القلبِ بهذا البيانِ الذي أساسُهُ أسماؤُهُ الحسنى وآثارُها.
ونظيرُ هذا قولُـهُ تعالَى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)} [يس: 78-83].
والآياتُ في هذا البابِ كثيرةٌ، والمقصودُ التنبيهُ عليها.

***
بلْ ما ارتكَبَ عبدٌ معصيَةً ولا قَصَّرَ في طاعةٍ إلاَّ بسببِ جهلِهِ باللهِ تعالى وبما يستحِقُّهُ من التعَبُّدِ بمُقتضَى أسمائِهِ الحسنى وصفاتِهِ العُلَى، والناسُ في هذا العلمِ على مراتبَ كثيرةٍ لا يُحْصِيهم إلاَّ مَنْ خلقَهُم:
فَمَنْ عَلِمَ أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ عليمٌ سميعٌ بصيرٌ، وأنَّهُ شديدُ العقابِ والبطْشِ، يَغَارُ إذا انْتُهِكَتْ محارِمُهُ، ولا يُعْجِزُهُ شيءٌ في الأرضِ ولا في السماءِ، ولا يخافُ عاقبةَ فعلِهِ، واستقرَّ ذلكَ في قلبِهِ ارتعَدَتْ فرائِصُهُ قبلَ أنْ يُفَكِّرَ في الإقدامِ على المعصيَةِ، فكانَ في هذا العلمِ خيرُ زاجرٍ لهُ عنْ فعلِ المعاصِي.
فلا يُقْدِمُ على المعصيَةِ إلاَّ حينَ يَغِيبُ عنهُ ذلكَ النورُ الإيمانيُّ أوْ يَضْعُفُ، وقدْ ذكرَ اللهُ عزَّ وجلَّ هذا المعنى في الكتابِ العزيزِ في غيرِ ما آيَةٍ:
فقالَ تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14)} [العلق: 9-14].
وقالَ: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9)} [البروج: 4-9].
وقالَ: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آَتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آَتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (78)} [التوبة: 75-78].
وقالَ: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108)} [النساء: 108].
وقال: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77)} [البقرة: 76-77].
وقالَ: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80)} [الزخرف: 80].
وقالَ: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30)} [النور: 30].
وقالَ: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67].
وقالَ: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)} [الحجر: 49-50].
وقالَ: {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28)} [المائدة: 28].
ومِنْ ألطَفِ ما وردَ في ذلكَ قولُهُ تعالى: {تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ} [الممتحنة: 1].
والآياتُ في هذا المعنى كثيرةٌ.
ومَنْ عَلِمَ أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يَرَى مكانَهُ، ويَسمَعُ كلامَهُ، ويَعلَمُ سِرَّه وجهرَهُ، وعَلِمَ أنَّهُ ذو الفضلِ العظيمِ، والإحسانِ العميمِ، والكرمِ الجزيلِ، وأنَّهُ قريبٌ مجيبٌ، رحيمٌ ودودٌ، شاكرٌ عليمٌ، حفيظٌ لأعمالِ عبادِهِ، وأنه معَ مَن ذَكَرَه، وآمنَ بهِ واتَّقَاهُ، وصبرَ ابتغاءَ وجهِهِ وطَلَبِ رِضَاهُ، وأنه يُحِبُّ المحسنينَ، ويُحِبُّ المتوكلينَ، ويُحبُّ التوابينَ، ويُحبُّ المتطهِّرينَ، وأنَّهُ قريبٌ مجيبٌ لا يُضيعُ عملَ عاملٍ منْ ذكرٍ أوْ أُنْثَى وهوَ مؤمنٌ، بلْ يَقْبَلُهُ ويُنَمِّيهِ، ويُباركُ لعاملِهِ فيهِ؛ واستقرَّ هذا العلمُ في قلْبِهِ، وضربَ بجُذُورِهِ فيهِ، آتَى أُكُلَهُ كلَّ حينٍ بإذنِ ربِّهِ عملاً صالحًا وحالاً مَرْضِيًّا؛ ذلكَ فضلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يشاءُ واللهُ واسعٌ عليمٌ.
فيبذُلُ العبدُ جُهْدَهُ، ويستفرِغُ وُسْعَهُ في التقرُّبِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ بأنواعِ القُرُباتِ، وتخليصِ العملِ من الشوائبِ والمُحْبِطَاتِ.
وإنَّما يضْعُفُ عزمُهُ، وتفْتُرُ هِمَّتُهُ إذا ضَعُفَ عندَهُ هذا النورُ الإيمانيُّ.
وهذا المعنى كثيرٌ جدًّا في القرآنِ العظيمِ:
قالَ اللهُ تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220)} [الشعراء: 217-220].
وقالَ: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)} [البقرة: 186].
وقالَ: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110)} [البقرة: 110].
وقالَ: {وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)} [الحشر: 18].
وقالَ: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)} [سورة البقرة: 215].
وقالَ: {وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115)} [سورة آل عمران: 115].
وقالَ: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30)} [الكهف: 30].
وقالَ: {وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35)} [سورة محمَّد: 35].
وقالَ: {كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3)} [مريم: 1-3].
ومِنْ ألطفِ ما وردَ في ذلكَ قولُهُ تعالى:{هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ} [آل عمرانَ: 38]. وذلكَ بعدَ قولِهِ جلَّ وعلا في سِياقِ قِصَّةِ مريمَ الصِّدِّيقَةِ: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)} [آل عمرانَ: 37].
وقالَ تعالى: {وَآَخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآَخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102) خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ} [التوبة: 102-105].
وقالَ: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54)} [الأنعام: 54].
وقالَ: {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ} الآيَةَ [آل عمرانَ: 15-17].
وقالَ:{فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18)} [الفتح: 18].
وممَّا لا يكادُ ينقضي منهُ العَجَبُ قولُهُ تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآَيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76)} [المائدة: 73-76].
فانظُرْ إلى جلالةِ هذهِ الآياتِ وما تضمَّنَتْهُ من الحُجَجِ البليغةِ والآياتِ البَيِّنَاتِ، ثمَّ تأمَّلْ سَعَةَ رحمةِ اللهِ عزَّ وجلَّ وعظيمَ حِلْمِهِ كيفَ دعَاهُم - وقدْ قالُوا هذهِ المقالةَ الشنيعةَ - إلى التوبةِ بأجملِ عَرْضٍ وألطفِهِ: {أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ} ثمَّ ذكرَ ما يُرَغِّبُهُمْ في ذلكَ ويُزِيلُ اليَأْسَ والقنوطَ منْ قلُوبِهِم فقال: {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74)} كثيرُ المغفرَةِ، واسعُ المغفرَةِ، لا يستعظِمُهُ ذَنْبٌ أنْ يَغفِرَهُ، ورَحْمَتُهُ وَسِعَتْ كلَّ شيءٍ، وعَمَّتْ كلَّ حَيٍّ.
وفي ضِمْنِ ذلكَ وَعْدَهُم بالمغفرةِ والرحمةِ والعفوِ عمَّا بَدَرَ منهم إنْ همْ تابوا إليهِ واستغفَرُوهُ.
فإذا عَلِمَ العبدُ ذلكَ تحرَّكَتْ دَواعِي الرُّجوعِ إلى اللهِ في قلْبِهِ , ولمْ يقْنَطْ منْ رحمةِ ربِّهِ عزَّ وجلَّ.
ثمَّ دَعَاهُم إلى عبادتِهِ وتوحيدِهِ، وبيَّنَ لهُم الأدلَّةَ القاطعةَ على بُطْلانِ زَعْمِهِمْ إِلَهِيَّةَ عِيسَى وأُمِّهِ دُونَ أنْ يُنْقِصَ قدْرَهُما، أو يهْضِمَهُما منْزِلَتَهُما، بلْ أَثْبَتَ لعِيسى الرسالةَ ولأُمِّهِ الصِّدِّيقِيَّةَ في بيانٍ مُوجَزٍ مُعجِزٍ، يأخُذُ بالألبابِ، فيُوقِنُ أولو الألبابِ أنَّهُ الحقُّ منْ ربِّهِمْ.
وبيانُ ذلكَ مِن وُجُوهٍ:
أوَّلُها: قولـُهُ تعالى: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ}؛ فإنَّ الإلهَ الحقَّ لا يكونُ إلاَّ واحدًا، وَ{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا}، وهذا يُبْطِلُ التثليثَ.
الثانِي: قولـُهُ تعالى: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ}، فهوَ رسولٌ منْ جُمْلَةِ رُسُلٍ ماتُوا وهوَ على إثْرِهِم، والإلهُ الحقُّ إنَّما هوَ الحيُّ الذي لا يموتُ.
الثالثُ: قولُهُ: {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ}، وفي هذا عِدَّةُ أدلَّةٍ:
أوَّلُها: أنَّهُ مخلوقٌ كائنٌ بعدَ أنْ لمْ يكُنْ، فلمْ يُوجَدْ إلاَّ بعدَ وِلادَةِ أُمِّهِ لهُ؛ ومثلُ هذا لا يَصلُحُ أنْ يكونَ إلهًا؛ فإنَّ الإلهَ الحقَّ إنَّما هوَ الأَوَّلُ والآخِرُ والظاهرُ والباطِنُ.
الثاني: أنَّهُ محتاجٌ في أصلِ حياتِهِ إلى غيرِهِ فوُجُودُهُ إنَّما كانَ بواسطةِ أُمِّهِ؛ والإلهُ الحقُّ إنَّما هوَ الحيُّ القَيُّومُ الذي قيامُ كلِّ شيءٍ بهِ، الغنيُّ الحميدُ الذي لا يحتاجُ إلى أحدٍ سواهُ طَرْفَةَ عيْنٍ.
الثالثُ: أنَّهُ مولودٌ؛ والإلهُ الحقُّ إنَّما هوَ الصَّمَدُ الذي لمْ يلِدْ ولمْ يُولَدْ.
الرابِعُ: أنَّهُ خارجٌ من المكانِ الذي قدْ علِمُوا؛ ومثلُ هذا لا يصلُحُ أنْ يكونَ إلهًا؛ فالإلهُ الحقُّ إنَّما هوَ القُدُّوسُ السلامُ المُتَنَزِّهُ عمَّا لا يَليقُ بجلالِهِ وعَظمتِهِ.
الخامِسُ: أنَّ أُمَّهُ صِدِّيقَةٌ؛ فهيَ أَمَةٌ عابدةٌ فقيرةٌ إلى مَنْ تعبُدُهُ، والفقيرُ لا يُنْتِجُ إلاَّ فقيرًا.
الوجهُ الرابِعُ: قولُهُ: {كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ}. وفي هذا عِدَّةُ أدلَّةٍ:
الأوَّلُ: أنَّ كونَهُما يأْكُلانِ الطعامَ دليلٌ على حاجَتِهما وفقْرِهما إليهِ، والفقيرُ المحتاجُ لا يصلحُ أنْ يكونَ إلهًا، فالإلهُ الحقُّ إنَّما هو الغنيُّ العزيزُ والحيُّ القيومُ الَّذي لا يَحتاجُ إلى غيرِهِ، ولا نقصَ يعترِي حياتَهُ.
الثانِي: أنَّ العقلاءَ قدْ علِموا أنَّ الذي يأكلُ الطعامَ لهُ جوفٌ وآلاتٌ تهضِمُ الطعامَ، وقنوَاتٌ يسيرُ فيها الطعامُ، والإلهُ الحقُّ إنَّما هوَ الصمَدُ الذي لا جوفَ لهُ، ولا يحتاجُ إلى ما يحتاجُ إليهِ البشَرُ.
الثالثُ: أنَّ الذي لا يستطيعُ تصريفَ الطعامِ داخلَ جسدِهِ وتسْيِيرَهُ في قنوَاتِهِ، وإيصالَ كلِّ عضوٍ منْ بَدَنِِهِ ما يحتاجُ إليهِ من الغِذاءِ؛ وإنَّما الذي يُسَيِّرُهُ ويُصَرِّفُهُ فيهِ غيرُهُ كيفَ يَستطيعُ أنْ يُدَبِّرَ شُؤُونَ الخلائقِ، ويجيبَ دعَوَاتِهِم، ويعْلَمَ سرائرَهُم وأحوالَهُم؟!!
إنَّما إلَهُهُمُ المَلِكُ القُدُّوسُ الذي قامَ بشُؤُونِهِم وَوَسِعَهُم عِلْمُهُ وحِفْظُهُ ورَحْمَتُهُ.
الرابعُ: أنَّ العقلاءَ قدْ علِمُوا أنَّ الذي يأكلُ الطعامَ لا بُدَّ لهُ منْ إخراجِهِ بعدَ هضْمِهِ، والذي تخرُجُ منهُ هذهِ الفَضَلاتُ المُسْتَقْذَرَةُ لا يصلُحُ أنْ يكونَ إلهًا؛ بل الإلهُ الحقُّ إنَّما هوَ القُدُّوسُ السلامُ المُتَنَزِّهُ عنْ مثلِ هذا وسائرِ ما لا يليقُ بجلالِهِ وقُدْسِيَّتِهِ.
الخامِسُ: أنَّ الذي يأكلُ الطعامَ عُرْضَةٌ لأنْ يأكلَ ما يضُرُّهُ، أوْ يُسِيءَ أكلَ ما فيه نفعٌ فيَمْرَضَ ويَسْقَمَ؛ ومثلُ هذا لا يَصلُحُ أنْ يكونَ إلهًا.
ثمَّ قالَ تعالى بعدَ هذا البيانِ: {انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآَيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75)}
-الوَجْهُ الخامِسُ: قولُهُ تعالى: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا}؛ فإنَّ العبدَ العاقلَ إنَّما يَعْبُدُ مَنْ يَجْلُبُ لهُ النفعَ ويدْفَعُ عنهُ الضُّرَّ، وليسَ هذا لغيرِ اللهِ تعالى؛ فهوَ النافعُ الضارُّ، وغيرُهُ إنَّما ضرَرُهُ ونفعُهُ بمشيئةِ اللهِ تعالى، وهوَ مَرْبُوبٌ مُدَبَّرٌ، ناصِيَتُهُ بيدِ ربِّهِ لا يستقلُّ بنَفعٍ ولا ضَرٍّ؛ فَمِنَ الحماقةِ عِبَادَةُ مَنْ هذا شأْنُهُ!!
-الوجهُ السادسُ: قولُهُ تعالى: {وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76)}، يسمَعُ دُعاءَهُم ويعلَمُ أحوالَهُم، ولا يخفَى عليهِ شيءٌ منْ أمْرِهِم؛ وهذا هوَ الإلهُ الحقُّ، ليسَ الذي لا يسمَعُ دُعَاءَ عابدِيهِ ولا يعْلَمُ أحوَالَهُم.
فاستبدالُ عبادةِ اللهِ تعالى الذي بيَدِهِ النفعُ والضرُّ وهوَ السميعُ العليمُ بعبادةِ مَنْ لا يَمْلِكُ لهُمْ ضَرًّا ولا نَفعًا، ولا يسمَعُ دُعاءَهُم ولا يَعْلَمُ أحوالَهُم منْ أعظمِ الجهلِ والسفَهِ.
فانْظُرْ كيفَ اجتذبَ القلوبَ إلى عبادَتِهِ وتوحيدِهِ بما لَهُ من الأسماءِ الحسنى والصفاتِ العُلَى.
والمقصودُ أنَّ العبدَ إذا عَلِمَ معانيَ أسماءِ اللهِ الحسنى وَفَقِهَ لَوَازِمَها وآثارَها دَعَاهُ ذلكَ إلى التعَبُّدِ للهِ تعالى بمُقْتَضَاهَا، فيجتنبُ المُنْكَرَاتِ، ويُسَارِعُ في الخيْراتِ.
ولا يزالُ بهِ الأمرُ حتَّى يتَزَكَّى في ضوءِ الأسماءِ الحسنى تزكيَةً إيمانيَّةً كريمةً؛ ويترقَّى في مراقِي العبوديةِ للهِ تعالى، حتى يبلُغَ الدرَجَاتِ العُلى نَسألُ اللهَ مِن فضلِه.
ويتجلَّى أثرُ هذا الإيمانِ في نفسِهِ، فيتحلَّى بمكارمِ الأخلاقِ ومحاسنِ الآدابِ، ويتركُ ما لا يليقُ بأمثالِهِ منْ مَعَائبِ القولِ والعملِ.
وكُلَّمَا عَلِمَ أنَّ اللهَ يُحِبُّ أمرًا سارعَ في أنْ يكونَ منْ أهلِ ذلكَ الأمْرِ، وإذا علمَ أنَّ اللهَ يكرهُ أمرًا سارعَ في اجتنابِهِ والتحَرُّزِ منْهُ، وهذا هوَ اتِّبَاعُ رِضوانِ اللهِ تعالى، نسألُ اللهَ الكريمَ أنْ نكونَ ممَّنِ اتَّبَعَ رِضوانَه.

* * *

إنَّ أسماءَ اللهِ الحسنى وصفاتِهِ العُلَى لَهِي قُرَّةُ عينِ العابدِ المستقيمِ، وسَلْوَةُ خاطرِ المُحْزَنِ المُسْتَضِيمِ، ونُصْرَةُ المسلِمِ المظلومِ، وفرَجُ المهمومِ والمغمومِ، ومُتَنَفَّسُ البائسِ المكروبِ، إذا تكَالَبَتْ عليهِ الكُروبُ، وتَعَاوَرَتْهُ الخُطوبُ، وضاقتْ عليهِ الأرضُ بما رَحُبَتْ، والنفسُ بما اسْتَجْلَبَتْ؛ عَلِمَ أنَّ لهُ رَبًّا يرَى مكَانَهُ ويسمَعُ كلامَهُ، ويعلَمُ حالَهُ؛ يُحبِيبُ دعوةَ المُضْطَرِّ، ويكشِفُ الضُّرَّ، وينصُرُ المظلومَ.
وهوَ المستعانُ يُعِينُ مَن استعانَ بهِ، وهوَ المُغِيثُ يُغِيثُ مَنِ استغاثَ بهِ، وهوَ الرحمنُ الرحيمُ، والوهَّابُ الكريمُ، و الغنيُّ الحميدُ.
وعلمَ أنَّهُ عزيزٌ ذُو انتقامٍ ينتقمُ لعبدِهِ المؤمنِ ممَّنْ كادَهُ وآذَاهُ.
وأنه ولِيُّ المؤمنينَ، وخيرُ الناصرينَ، وخيرُ الحافظينَ، وأرحَمُ الراحمينَ.
وأنه معَ مَن ذكَرَه، وآمنَ به وشكَرَه، وتابَ إليهِ واستغفرَه.
فزِع قلبُهُ إلى مَوْلاهُ، ولاذَ بجَنَابِهِ واعتصمَ بهِ واستمْسَكَ بحَبْلِهِ المتينِ؛ وعلمَ أنَّ ما هوَ فيهِ من الكَرْبِ والضِّيقِ إنَّما هوَ بعِلْمِهِ ومَشيئتِهِ، وأنَّهُ لمْ يُقَدِّرْهُ عليهِ إلاَّ لما لهُ في ذلكَ مِن الحكمةِ البالغةِ، والنِّعمةِ السابغةِ التي يَستحِقُّ عليها الحمدَ والحبَّ كُلَّهُ:
- فإمَّا مذنبٌ آبِقٌ يريدُ أنْ يَرْجِعَهُ إلى روضةِ الطاعةِ، ويُذِيقَهُ مرارةَ العصيانِ، وعاقبةَ الطغيانِ؛ فيَرْجعُ و يَسْتَعْتِبُ.
- وإمَّا مؤمنٌ صالحٌ يريدُ أنْ يرفعَ درَجاتِهِ، ويُكَفِّرَ سيئاتِهِ، ويُعْلِيَ منزلتَهُ، ويبتلِيَ في الإيمانِ والصبرِ قُوَّتَهُ، ويُبَاهِيَ بهِ ملائكتَهُ.
فتهدأُ بذلكَ نفسُهُ، وتَقَرُّ عينُهُ، ويَسْكُنُ جأْشُهُ، ويطْمَئِنُّ قلْبُهُ {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)} [الرعد: 28]. وهذا من السكينةِ التي يُنْزِلُها اللهُ تعالى على قلوبِ عبادِهِ المؤمنينَ.
انظرْ إلى قولِ اللهِ تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)} [الحجر: 97-99].
وتأمَّلْ أثرَهَا على قلبِ نبيِّنَا الكريمِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، وقدْ آذاهُ المشركونَ بأنواعِ
الكلام السيِّئِ، والاتهاماتِ الباطلةِ المتناقضةِ التي لا غايةَ منهَا إلا الإيذاءَ والصدَّ عنهُ بأيِّ وسيلةٍ كانت.
فقالوا عنه: ساحرٌ!، وقالوا: {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا}.
فاعجَبْ: كيف يجتَمِعُ الاتهامانِ؟!!
وقالوا: هو كاهنٌ، وقالوا: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ}.
فاعجَبْ أيضًا: كيف يَجْتَمِعانِ؟!!.
وقالوا عنه: مجنونٌ، وقالوا: يريدُ المُلْكَ والرِّئاسةَ.
فاعجَبْ: كيفَ يُمْكِنُ لمجنونٍ أن يكونَ أهلاً لطلبِ المُلكِ والرِّياسةِ؟!!
حتى إنَّهم من فَرْطِ ولَعِهِم بالاتهاماتِ الباطلةِ قالوا عنهُ: شاعرٌ!!
وهم يَعرِفونَ الشِّعرَ وبحورَه وهزَجَهُ ورَجَزَهُ، ويعرفونَ أنَّ القرآنَ لا يَلتئِمُ معَ الشِّعرِ ولا يُشبِههُ أيُّ شِعْرٍ.
ويعرفون أنهُ لم يَقُلْ قصيدةً قطُّ، وقدْ لَبِثَ فيهمْ عُمُرًا قبلَ بَعثتِهِ.
فانظُرْ إلى اتهاماتِهِمُ الباطلةِ المُتناقِضَةِ التي تَدُلُّ علَى أنَّهمْ إنما يُريدونَ أذيَّتَهُ والصَّدَّ عَنْهُ، ويَعرِفُون أنهم مُبطِلونَ أفَّاكُونَ فيما يَقُولُونَ.
وتأمَّلْ كونَ هذا الأذَى العظيمَ صادِراً مِن قومِه وذَوِي رَحمِهِ وقرابتِهِ الذينَ نَشَأَ بينَهُم فعرَفَهُ صغيرُهُم وكبيرُهُم، وذكَرُهُم وأُنثاهُم، بصدقِهِ وأمانَتِهِ، وحُسْنِ خُلُقِهِ وسيرَتِهِ، وإحسانِهِ إليهِمْ وصِلَتِهِ لَهُمْ.
ثمَّ هوَ يدْعُوهُم إلى ما فيهِ عزُّهُمْ ومَجدُهُم ونجاتُهُم في الدنيا والآخرةِ فيقابلونَهُ بهذا الأذَى والظلمِ العظيمِ..
وظُلْمُ ذَوِي القُربَى أشدُّ مضَاضَةً عَلَى المرءِ منْ وَقْعِ الحُسامِ المُهنَّدِ
فانتقِلْ بذِهنِكَ إلى تلكَ البِقاعِ، وإلى ذلكَ الزمانِ، وتَفَكَّرْ في نفسِكَ كيفَ أثَرُ تلكَ الاتهاماتِ الباطلةِ، والحربِ النفسيَّةِ، وذلكَ التآمُرِ البَغيضِ مِنْ كُبراءِ القومِ وسُفهائِهِم على نَفْسِ الرسولِ الكريمِ الَّذي جَاءَ لِيُخرِجَهم منَ الظُّلُماتِ إلى النورِ، ولِيأخُذَ بحُجَزِهِم عنِ النارِ؟!.
بل تعدَّى الأمرُ إلى السخريَةِ بهِ والاستهزاءِ المَقِيتِ بشَخْصِه وَرسَالتِهِ.
{وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41)} [الفرقان: 41].
يقولُ له أحدُ المستهزئينَ: أَمْرُطْ ثيابَ الكعبةِ إن كانَ اللهُ أَرسَلَكَ !
ويقولُ له آخَرُ: أمَا وَجدَ اللهُ أحَدًا يُرسِلُه غيرَكْ؟!
وَالْحَظْ مَعْنَى الاستِهْزاءِ وَالاحتِقارِ والاستِخْفافِ بشَخْصِ النبيِّ الكَرِيمِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، في قَوْلِهِم: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ}.
إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَقْوَالِهِمُ السَّيِّئَةِ الْمُشِينَةِ، الَّتِي تَنمُّ عَمَّا تَنمُّ عنهُ.
ثُمَّ تَأَمَّلْ تَثْبِيتَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ لِنَبِيِّهِ ورَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ}؛ تَجِدْ فِيهِ مِنَ التَّسْلِيَةِ وَالتَّثْبِيتِ مَا يُطَمْئِنُ الْقَلْبَ، ويُذْهِبُ الْهَمَّ وَالْغَمَّ، ويُجْلِي الْخَوْفَ والْحُزْنَ، ويُسَلِّي النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ تَسْلِيَةً عَظِيمَةً لا مَثِيلَ لَهَا.
وتَأَمَّلَ مَا وَرَاءَ هَذِه ِالنُّونِ العَظِيمَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {نَعْلَمُ} مِنَ الأَسْرَارِ الَّتِي تَحَارُ لَهَا الأَلْبَابُ، فتَقِفُ مُنْبَهِرَةً مِنْ عَظَمَةِ دَلائِلِهَا، حَيْثُ تَجِدُهَا تُشْعِرُ بِأَنَّ المَلَكُوتَ الأَعْلَى عَلَى عِلْمٍ بِمَا أَعْلَمَهُمُ اللهُ بِهِ مِنْ أَذِيَّةِ قَوْمِهِ لَهُ.
وهو علَى هذَا الكَوْكَبِ الصَّغِيرِ الَّذِي إِذَا نَسَبْتَهُ إِلَى عَظَمَةِ مَلَكُوتِ اللهِ تَعَالَى وَجَدْتَهُ ضَئِيلَ النِّسْبَةِ جِدًّا.
وأِنَّ الْمَلائِكَةَ جُنْدٌ مِنْ جُنْدِ اللهِ النَّاصِرِينَ لَهُ، وللهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزًا.
فقُوَّتُهُ لاَ تُضَاهِيهَا وَلاَ تُدَانِيهَا قُوَّةٌ، وعِزَّتُهُ لا يُمْكِنُ أَنْ تَنْخَرِمَ أَوْ تَشُوبَهَا أَيَّةُ شَائِبَةٍ، وأَنَّهُ قَدْ كَتَبَ العِزَّةَ لِنَفْسِهِ ولِرَسُولِهِ وللمُؤْمِنِينَ.
فتَضْمَحِلُّ أَمَامَ عَظَمَةِ مَدْلُولاتِ هذهِ الآيةِ العَظِيمَةِ جَمِيعُ مَعانِي الخَوْفِ والحَُزَنِ والضِّيقِ، ويَتَضَاءَلُ أَمَامَهَا كَيْدُ أُولَئِكَ الكَافِرِينَ الحَاقِدِينَ، حَيْثُ بَدَوْا فِي مَعَايِيرِ الإيمانِ واليَقِينِ لا يُسَاوُونَ شَيْئًا يُذْكَرُ أَمَامَ عَظَمَةِ مَلَكُوتِ اللهِ تَعالَى وقُدْرَتِهِ.
فَيَخِفُّ مَا كَانَ علَى النَّفْسِ ثَقِيلاً، وتَتَبَدَّدُ المَخاوِفُ، ويَذْهَبُ الهَمُّ والغَمُّ، ويَنْجَلِي الحَزَنُ، وتَنْزِلُ السَّكِينَةُ، ويَحِلُّ الأَمْنُ، وتَغْمُرُ القَلْبَ مشَاعِرُ الأُنْسِ باللهِ، والثِّقَةِ بِحِفْظِهِ ونَصْرِهِ، والطُّمَأْنِينَةِ بذِكْرِهِ، والتَّصْدِيقِ بِوَعْدِهِ، فيَنْشَغِلُ بِالأُنْسِ بِهِ تعَالَى عَنِ الوَحْشَةِ مِنْهُمْ، والفَرَحِ به جَلَّ وعَلا عَنِ الخَوْفِ مِنْهُمْ.
حَتَّى تَنْدَفِعَ مَعَ هَذَا اليَقِينِ العَظِيمِ رَغْبَةُ الانتقامِ مِنْهُمْ بمُعَاجَلَتُهُمْ بالعِقابِ معَ شِدَّةِ أَذَاهُمْ له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ.
في الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ! هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟
فقَالَ: (لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ، وَكَانَ أَشَدُّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ، إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كلاَلٍ فلم يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ؛ فَانْطَلَقْتُ وأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلاَّ بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ؛ فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي!
فنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْريلُ؛ فَنَادَانِي فَقَالَ: إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ.
قَالَ: فَنادَانِي مَلَكُ الجِبَالِ، وسَلَّمَ عَلَيَّ؛ ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ!
إِنَّ اللهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَأَنَا مَلَكُ الْجِبَالِ، وَقَدْ بَعَثَنِي رَبُّكَ إِلَيكَ لِتَأْمُرَنِي بِأَمْرِكَ.
فَمَا شِئْتَ؟ إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الأَخْشَبَيْنِ.
فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أَصْلابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ، لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا).
***
وتَأَمَّلْ أَيْضًا: مَا تُفِيدُهُ حروفُ اللامِ و (قَدْ) فِي قَوْلِهِ تَعالَى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ} الَّتِي تُؤَكِّدُ تَحَقُّقَ عِلْمِ اللهِ بِمَا يَقُولُونَ، وَهُوَ عِلْمٌ لَهُ لَوَازِمُهُ ومُقْتَضَيَاتُهُ وآثَارُهُ، لَيْسَ مُجَرَّدَ عِلْمٍ، ولَيْسَ عِلْمُهُ كَأَيِّ عِلْمٍ، بَلْ هُوَ عِلْمُ الَّذِي لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَلا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ، وَلاَ يُمْكِنُ أَنْ يُقِرَّ الظُلْمَ عَلَى رَسُولِهِ ووَلِيِّهِ، ولاَ يُمْكِنُ أَنْ يُهْمِلَهُ ويَتَخَلَّى عَنْهُ، سُبْحَانَهُ وبِحَمْدِهِ، فَهُوَ يَتَعَالَى ويَتَنَزَّهُ عَنْ أَنْ يَخْذُلَ رَسُولَهُ وَوَلِيَّهُ الَّذِي يَسْعَى فِي مَرْضَاتِهِ، ويُبَلِّغَ رِسَالاتِهِ.
وَهَذا مِنْ أَسْرَارِ الأَمْرِ بالتَّسْبِيحِ بِحَمْدِهِ جَلَّ وعَلا فِي الآيَةِ الَّتِي تَلِيهَا قَالَ تعَالَى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)}[الحجر: 97-99].
فَأَرْشَدَهُ إِلَى الإِعْرَاضِ عَنْهُمْ، والاستئناسِ بعِبادةِ اللهِ وَحدَهُ، ومُلازمةِ عبادَتِه والسُّجودِ له.
وكُلَّمَا كَانَ العَبْدُ أَكْثَرَ ذُلاً وخُضوعًا وانقِيادًا للهِ جَلَّ وعَلا كانَ نَصِيبُهُ مِن العِزَّةِ والرِّفْعَةِ والحِفْظِ أَكْمَلَ وأَعْظَمَ، وفَتَحَتْ لَهُ تِلْكَ العِبَادَةُ أَنْوَاعًا مِن العِلْمِ والمَعرفَةِ والإيمانِ واليَقينِ، الذي يَجِدُ مِن حَلاوتِهِ وبَرْدِهِ، وحُسنِ أثَرِهِ عليه وفَائِدَتِهِ، ما هو مِن أَعظمِ الأَدِلَّةِ على عِنايةِ اللهِ تعالى بعبدِهِ، وحُسنِ كِفايتِهِ ووِقايَتِهِ وحِفظِهِ له.
فيَكْتَسِبُ القلبُ ثِقَةً وطُمَأْنِينةً ويَقِينًا تَضْمَحِلُّ معه جميعُ أنواعِ الأذَى، وتَتلاشَى معه صُوَرُ الرَّهْبَةِ والخوفِ مما يَقُولونَ.
وتأمَّلْ على هذا النحوِ قولَهُ: {فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (76)} [يس: 76].
وقولَهُ: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: 48].
وقولَهُ: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83)} [الأنبياء: 83].
وقـولَهُ: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89)} [الأنبياء: 87-89].
وقولَهُ: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62)} [الشعراء: 61-62].
وقولَهُ: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)} [آل عمرانَ: 173-174].
وقولَهُ لموسَى وهَارُونَ: {لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46)} [طه: 46].
وقولـَه في محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)}[التوبة: 40]. والآياتُ في هذا المعنى كثيرةٌ.
وتأمَّلْ قولَ اللهِ تعالَى في أواخرِ سُورةِ الحَجِّ: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58)} [الحجِّ: 58] والآياتِ التي بعْدَها؛ فإنَّ لها شأنًا عظيمًا، ومعانيَ جليلةً يَحسُنُ الوقوفُ عليها وبيانُها.
وذلكَ أنَّ المهاجرينَ لمَّا كانوا قدْ تعرَّضُوا للفقرِ بتركِ أموالِهِم وأوطانِهِم، ومِنهم مَنْ خَرجَ لا يملِكُ إلاَّ ثوْبَهُ الذي عليهِ، ولَحِقَهُمْ منْ ذلكَ ما يَلحَقُ الفقيرَ من الهمِّ والغمِّ، وكانوا بعدَ ذلكَ على صِنفَينِ:
الصِّنفُ الأولُ: مَنْ يموتُ أوْ يُقْتَلُ والحالةُ هذهِ؛ فوعدَهُم اللهُ عزَّ وجلَّ أنْ يرزُقَهُم رِزقًا حسنًا أحسنَ من الذي خلَّفُوهُ، ثمَّ بيَّنَ لهم مِنْ أسمائِهِ وصفاتِهِ ما هوَ كفيلٌ بذلكَ، وأنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ هوَ خيرُ الرازقينَ.
وتأمَّلْ كيفَ ذكرَ هذا الاسمَ في سِياقِ جوابِ القَسَمِ تقريرًا لهذا المعنى ومُبالغةً في رَفعِ الهمِّ والغمِّ منْ قلوبِهم ؛ لئَلاَّ يأْسَوْا على ما أُخِذَ منهم في سبيلِ اللهِ عزَّ وجلَّ.
ثمَّ قالَ: {لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59)} [الحجِّ: 59] عليمٌ بصِدْقِ وعدِهِ، عليمٌ بما يُرْضِي عبادَهُ المؤمنينَ، حليمٌ يتجاوزُ عنْ سَيِّئَاتِهِم وتقصيرِهِم.
والصِّنفُ الآخَرُ: الذينَ يَبْقَوْنَ فيُقاتِلُونَ الكُفَّارَ منْ بعدِما أصابَهُم البغيُ والظلمُ؛ فقالَ تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60)} [الحجِّ: 60].
فتكَفَّلَ اللهُ بنَصْرِهِمْ وتمكِينِهِم وجَعْلِ العاقبةِ لهم في الدُّنْيا والآخرةِ، وأخبَرَهُم بعدْلِهِ وفضْلِهِ، فقالَ: {لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ}، وهذا مُقْتَضَى عدْلِـهِ عزَّ وجلَّ، فينتصِرُ لعبدِهِ المؤمنِ وينتقمُ لهُ ممَّنْ ظلمَهُ، وفي هذا رفعٌ للضررِ الدنيويِّ اللاحقِ بهِ.
وقولُهُ تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60)} فيهِ البِشارَةُ لهُ بالعفوِ والمغفرةِ؛ وهذا منْ فضْلِهِ سُبحانهُ وبحمدِهِ، وذلكَ يَتضمَّنُ إزالةَ الضررِ اللاحقِ بهِ منْ جِهةِ الذنوبِ والمعاصِي.
فرفعَ اللهُ عزَّ وجلَّ عنهُ ما يَضُرُّ بدِينِهِ ودُنياهُ، وجَعَلَ لهُ العاقِبةَ في الدنيا بالنصرِ والتمكينِ، وفي الآخرةِ بالعفوِ والمغفرةِ.
ثمَّ لمَّا كانَ الظلمُ ثقيلاً على نفوسِ المظلومينَ، يسْتَبْطِئُونَ النصرَ والفرَجَ، وقدْ يَعْرِضُ لقلوبِهم من الوساوسِ والخَطَرَاتِ ما يغُمُّهُم بهِ الشيطانُ منْ كَوْنِ هذا الظلمِ مُسْتَحْكِمًا لا يُمْكِنُ ارتفاعُهُ، أوْ أنَّ أسبابَ النصرِ بعيدةٌ عسيرةُ المنالِ؛ لِيُقَنِّطَهُم منْ رحمةِ اللهِ عزَّ وجلَّ، أرْشَدَهُم اللهُ عزَّ وجلَّ إلى التفكُّرِ في آلائِهِ وأسمائِهِ وآياتِهِ؛ فإنَّ التفكُّرَ فيها يُسَكِّنُ النفسَ، ويُطَمْئِنُ القلبَ، ويُسَلِّي المحزونَ.
فقالَ تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61)}[الحجِّ: 61] فكما أنَّهُ قادرٌ على تصريفِ الليلِ والنهارِ، فيَذْهَبُ بالنهارِ ويأتِي بالليلِ، ويَذهَبُ بالليلِ ويأتِي بالنهارِ، فهوَ قادرٌ على إزالةِ هذا الظلمِ والانتقامِ من الظالمينَ وإِدَالَةِ عبادِهِ المؤمنينَ عليهِمْ؛ فكما أنَّ الليلَ إذا اشتدَّ ظلامُهُ فهوَ أمارةُ قُرْبِ الفجْرِ، فكذلكَ الظلمُ إذا اشتدَّ فهوَ أمارةُ قُرْبِ الفرَجِ، وإنَّما هيَ آجالٌ مضروبةٌ، وأوقاتٌ محدودةٌ يبتلي اللهُ فيها عبادَهُ؛ فيَرضَى عنِ المؤمنينَ ويَمْحَقُ الكافرينَ.
ثمَّ ذكرَ لهم أمرًا آخرَ يُطَمْئِنُ قلوبَهُم بهِ، فقالَ: {وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61)} يسمَعُ ويُبْصِرُ ما يقعُ من الظلمِ، وهذا يستلزِمُ عنايتَهُ عزَّ وجلَّ بعبادِهِ، وأنَّهُ لا يُقِرُّ الظلمَ عليهم، وأنَّ هذا الإمهالَ إنَّما هوَ لحِكَمٍ يعلَمُها اللهُ عزَّ وجلَّ، وأنَّهُ لا يُهْمِلُ عبادَهُ ولا يخْذُلُهُم ولا يتْرُكُهُم عُرْضَةً لأعدائِهِ.
ثمَّ قالَ تعالى مُقَرِّرًا هذا المعنَى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62)} [الحجِّ: 62].
فبيَّنَ لعبادِهِ المؤمنينَ أمرًا آخَرَ يُطَمْئِنُ قُلوبَهُم، وهوَ أنَّهم يَعبُدونَ اللهَ عزَّ وجلَّ ((الحقَّ)) الذي لا أحدَ أَحقُّ بالعبادةِ منهُ، بلْ لا يَستحِقُّ العبادةَ أحدٌ سِوَاهُ، وأنَّ الظالمينَ المشركينَ إنَّما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الباطلَ؛ والإلهُ الحقُّ لا بُدَّ أنْ يغلِبَ الآلهةَ الباطلةَ ويَنْصُرَ أتباعَهُ على أتباعِها.
فكونُهُ الحقَّ يَقتضِي عَدمَ إقرارِ الباطلِ والظلمِ وهَضْمِ الحقِّ، بلْ لا بدَّ أنْ يَنصُرَ الحقَّ ويُعْلِيَهُ على الباطلِ.
ثمَّ ذكرَ مِنْ أسمائِهِ ما يَقتضِي نُصْـرَةَ أوليائِهِ وتمكِينَهُم ورَفْعَ الظُّـلمِ عنهُمْ، وهوَ أنَّهُ سبحـانَهُ ((العليُّ الكبيرُ))، فهوَ العليُّ بذاتِهِ وأسمائِهِ وصفاتِهِ، ودينُهُ هوَ أعلى الأديانِ، وعبادُهُ المؤمنونَ هم الأعْلَوْنَ، ومَنْ سِوَاهُم فهم الأذلُّونَ الأرْذَلُونَ، ولا يُمْكِنُ أنْ يَغلِبَ الأذلُّ الأعلَى.
وكذلكَ كونُهُ ((الكبيرَ)) أكبرُ منْ كلِّ شيءٍ بذاتِهِ وصفاتِهِ؛ وهذهِ الصفةُ تستلزمُ صفاتٍ عظيمةً جليلةً كالقُوَّةِ والقدرةِ والقَهرِ والجبَروتِ وشدَّةِ البطْشِ، وغيرِها من الصفاتِ التي تَقَرُّ بها عيونُ أوليائِهِ بأنَّ ربَّهُم الذي يعبدونَهُ ـ وهذهِ صفاتُهُ ـ لا يمكنُ أنْ يخْذُلَهُم، ولا يَعْجَزُ عنْ نُصْرَتِهِم.
فكونُهُ العليَّ يقتضي عدمَ خِذْلانِهِم.
وكونُهُ الكبيرَ يقتضي عدمَ عَجْزِهِ عنْ نُصْرَتِهم.
ثمَّ لمَّا كانت النفسُ البشريَّةُ مجبولةً على الاستعجالِ، وكأنَّ قائلاً قالَ: ما دامَ الأمرُ كذلكَ فَلِمَ لا يُعَجِّلُ النصرَ؟!، قالَ اللهُ عزَّ وجلَّ: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63)} [الحجِّ: 63]، فوجَّهَ أنظارَهُم إلى التفَكُّرِ في آيَةٍ منْ آياتِهِ المُشَاهَدَةِ ليَسْتَدِلُّوا بها على حِكمتِهِ تعالى فيما غابَ عنهم علمُهُ، وذلكَ أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ قادرٌ على أنْ يُنْبِتَ النباتَ بغيرِ ماءٍ أصلاً، ولكِنَّهُ لطيفٌ خبيرٌ يُوصِلُ الخيرَ إلى عبادِهِ بأسبابٍ خَفِيَّةٍ وجليَّةٍ على ما تقتضيهِ حِكمتُهُ ورحمتُهُ؛ فكما أنَّهُ يُنْزِلُ الماءَ من السحابِ وهوَ سببٌ مُشَاهَدٌ، ثمَّ يأخذُ الماءُ دَوْرَتَهُ معَ بُذورِ النباتِ تحتَ الأرضِ الصالحةِ للنباتِ وهوَ سببٌ خفِيٌّ، ثمَّ ما تَلْبَثُ الأرضُ أنْ تَخْضَرَّ ويَعُمَّها الربيعُ فيَستبشرُ بهِ أهلُ الأرضِ ويُسَرُّونَ مِنْ بعدِ ما كادُوا يُبْلِسونَ منْ شدَّةِ الجدْبِ والإمحالِ؛ فكذلكَ ما أنزلَ اللهُ إلى عبادِهِ منْ أوامرِهِ وأوْحَى إليهم منْ كلامِهِ هوَ كالغيثِ إذا خالطَ القلوبَ المستقيمةَ أخذَ دَوْرَتَهُ معَ بَذْرةِ الفطرةِ السليمةِ، فأينعَتْ ثمارُهُ، ورَبَعَتْ أقطارُهُ، وانجلَتْ عنهُ القسوَةُ، وعمَّتْهُ الصحوَةُ، فانطَلَقَت التباشيرُ بطُلوعِ الفجرِ وإدبارِ الليْلِ، وانقِشاعِ سَحابةِ الظلامِ الدامسِ.
وفي هذا إشارةٌ إلى أنَّ المسلمينَ إنَّما يُنْصَرُونَ بتمَسُّكِهِم بما أُوحِيَ إليهم واستِقَامَتِهِمْ على طاعةِ ربِّهِم، فلا تَلْبَثُ الآثارُ والنتائجُ حتَّى تَبْدُوَ ظاهرةً جليَّةً بإذنِ اللطيفِ الخبيرِ، فعليهمْ الاِشتغالُ بإصلاحِ قلوبِهم وأعمَالِهِم، واتِّباع هَدْيِ ربِّهم، وتَرْكِ الاستعجالِ، والحذَرِ من اليأسِ والقنوطِ؛ ولا يزَالونَ كذلكَ حتى يأتيَ نصرُ اللهِ.
وهكذا بَقِيَّةُ الآياتِ.
فانظُرْ إلى عَظمةِ هذا الكتابِ العزيزِ كيفَ يُجَلِّي الحَزَنَ، ويُذْهِبُ الهمَّ والغمَّ عنْ قلوبِ أولياءِ اللهِ المؤمنينَ الذينَ يتلونَهُ حقَّ تلاوتِهِ.
* * *
إنَّ الإيمانَ بأسماءِ اللهِ الحُسْنَى وصِفاتِهِ العُلَى لَيَهْدِي المُؤْمِنَ إلى عبادةِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ كأنَّهُ يَرَاهُ، وهذه هي مَرْتَبَةُ الإحسانِ العظيمةِ التي هي أَعْلَى مَراتبِ الدِّينِ -نَسْأَلُ اللهَ عزَّ وجَلَّ بُلوغَها والثَّباتَ عَلَيْهَا حتَّى المماتِ-؛ فيَجْتَهِدُ العَبْدُ في التَّقَرُّبِ إلى ربِّهِ جَلَّ وعَلا بمَا يُحِبُّ، واجتنابِ مَا يَكْرَهُهُ ويُبْغِضُهُ، حتَّى يُحِبَّ ما يُحِبُّهُ اللهُ، ويُبْغِضَ مَا يُبْغِضُهُ اللهُ، ويُعَظِّمَ مَا يُعَظِّمُهُ اللهُ، ويُحَقِّرَ ما يُحَقِّرُهُ اللهُ، فيَكُونَ مِنْ أَولِيَاءِ اللهِ المُخْبِتينَ الَّذِينَ يُحِبُّهُم ويُحِبُّونَهُ، ويَقْذِفُ اللهُ في قَلْبِه نُورًا عظيمًا، وفُرقانًا مُبينًا، ويَجِدُ مِن حَلاوةِ الإيمانِ وبَرْدِ اليَقينِ وطُمَأْنِينةِ القلبِ وانشِراحِ الصَّدرِ والحياةِ الطيبةِ ما يُعتبرُ بحقٍّ أَعْظَمَ نَعِيمٍ يُمْكِنُ أنْ يَنالَهُ أَحَدٌ في هذه الحياةِ الدُّنْيَا.
والأمرُ ـ واللهِ ـ أجَلُّ ممَّا ذَكرْتُ، وأعظَمُ ممَّا وَصفْتُ، وحاجةُ الناسِ إلى معرفَتِهِ والعملِ بهِ ماسَّةٌ، وصِلَتُهُ بأبوابِ الدينِ معلومةٌ بالضرورةِ.
وكانَ منْ توفيقِ اللهِ عزَّ وجلَّ أنِّي كُنْتُ أتَصَفَّحُ الكتابَ المُبَاركَ الذي صنَّفَهُ فضيلةُ الشيْخِ/ بكرِ بنِ عبدِ اللهِ أبو زيدٍ حَفِظَهُ اللهُ في تقريبِ علومِ ابنِ القيِّمِ رحمهُ اللهُ تعالى؛ ذلكَ الإمامُ الجليلُ الذي اشتُهِرَ بسَعَةِ علمِهِ، وصِحَّةِ منهجِهِ، وجَودةِ تآليفِهِ، وحُسْنِ أُسْلُوبِهِ، وكانَ كثيرًا ما يَرْبِطُ مسائلَ العلمِ والعملِ بالإيمانِ باللهِ عزَّ وجلَّ وأسمائِهِ وصفاتِهِ، وهوَ في المكانةِ والشهرةِ عندَ العامَّةِ والخاصَّةِ بمنزلةٍ تُغْنِي عن التعريفِ بهِ.
وكانَ منْ جُمْلَةِ ما تصفَّحْتُهُ ما جمَعَهُ فضيلةُ الشيخِ من الإشاراتِ إلى مباحِثَ تتعَلَّقُ بشرحِ أسماءِ اللهِ الحسنى منْ كُتُبِ ابنِ القيِّمِ رحمهُ اللهُ.
وكأنَّ الشيخَ حفِظهُ اللهُ آنَسَ أنَّ الأمرَ يحتاجُ إلى مَزيدِ بحثٍ، فقالَ (ص 81): (لابنِ القَيِّمِ رحمهُ اللهُ تعالى في هذا المبحَثِ العظيمِ مَباحِثُ مَنثُورةٌ في كُتُبِهِ، فيها منْ إبداءِ كُنوزِ العلمِ، ولطائفِ الأسرارِ، ما يفتَحُ للمسلمِ بابَيِ العلمِ واليقينِ؛ فها أنا ذا أجمَعُ لكَ مَظَانَّها في مكانٍ واحدٍ لعلَّ اللهَ سبحانهُ أنْ يُهَيِّئَ مَنْ يُفْرِدُهَا بكتابٍ مُستقِلٍّ دونَ أيِّ تعليقٍ أوْ تحشيَةٍ). اهـ.
فوافق كلامُهُ رغبةً كامِنةً في النَّفس، فاستَخَرْتُ اللهَ عزَّ وجلَّ واستَعَنْتُهُ ـ ونِعْمَ المُعِينُ ـ على جَمْعِ هذا البَحثِ وإعدَادِهِ.
فقُمْتُ باستقراءِ مَا وَقَفْتُ عليهِ منْ كُتُبِ ابنِ القيِّمِ رحمهُ اللهُ تعالى، وكنتُ إذا ما مَرَرْتُ بكلامٍ يتعَلَّقُ بالأسماءِ الحُسنى أشَرْتُ إلى موضعِهِ في آخرِ ذلكَ الكتابِ، حتَّى اجتمَعَ لي قدرٌ كبيرٌ والحمدُ للهِ تعالى.
ثمَّ قُمْتُ بتصنِيفِهِ على قسمَيْنِ:
القسمُ الأوَّلُ: يتعَلَّقُ بكلامٍ عامٍّ عن الأسماءِ الحسنَى.
والقسمُ الثانِي: يتعَلَّقُ بشرحٍ خاصٍّ لكلِّ اسمٍ من الأسماءِ الحسنى؛ إمَّا تصريحًا بأنْ يذكرَ الشيخُ ذلكَ الاسمَ، ثمَّ يأخذَ في شرْحِهِ، وإمَّا أنْ أُدْرِكَ مِنْ معنى كلامِهِ أنَّ هذا الكلامَ يُنَاسِبُ شرحَ اسمٍ من الأسماءِ الحسنَى، كالكلامِ في الحمدِ وسَعَتِهِ وشُمُولِهِ وبيانِ طُرُقِ حمدِ اللهِ عزَّ وجلَّ، كلُّ ذلكَ يُنَاسِبُ شرحَ اسمِ ((الحميدِ))، وهكذا بَقِيَّةُ الأسماءِ.
ثمَّ قُمْتُ بتصنيفِ القسمِ الأوَّلِ حَسَبَ ما تيَسَّرَ لي جمعُهُ إلى سبعةٍ وعشرينَ بابًا. وهذا بيانُها:
البابُ الأوَّلُ: في بيانِ أنَّ أفضلَ العلمِ: العلمُ بأسماءِ اللهِ الحسنى وصفاتِهِ العُلْيَا.
البابُ الثانِي: في بيانِ ما يُفْضِي إليهِ العلمُ بأسماءِ اللهِ الحسنى وصفاتِهِ العُلْيَا من المراتبِ العاليَةِ والمعارفِ الجليلَةِ.
البابُ الثالِثُ: في بيانِ أنَّ التفَكُّرَ في آياتِ اللهِ عزَّ وجلَّ دليلٌ إلى معرفةِ اللهِ بأسمائِهِ وصفاتِهِ.
البابُ الرابِعُ: في ذكرِ بعضِ ما تضمَّنَتْهُ سورةُ الفاتحةِ من المعارفِ الجليلةِ في بابِ الأسماءِ والصفاتِ.
البابُ الخامِسُ: في بيانِ دَلالةِ قولِ اللهِ تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} على ثبوتِ صفاتِ الكمالِ للهِ عزَّ وجلَّ.
البابُ السادِسُ: في بيانِ دَلالةِ قولِ اللَّهِ تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} على تفرُّدِ اللهِ عزَّ وجلَّ بصفاتِ الكمالِ.
البابُ السابِعُ: في بيانِ ما تضمَّنَهُ حديثُ: ((اللهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ ابْنُ عَبْدِكَ...)) منْ فوائدَ جليلةٍ ولطائفَ بديعةٍ في بابِ الأسماءِ والصفاتِ.
البابُ الثامِنُ: فيما دلَّ عليهِ قولُـهُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (( اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ... )) من الفوائدِ الجليلةِ في بابِ الأسماءِ والصفاتِ.
البابُ التاسِعُ: في بيانِ دَلالةِ الشريعةِ المُحْكَمَةِ على أسماءِ اللهِ الحسنى وصفاتهِ العُلَى.
البابُ العاشِرُ: في بيانِ دلالةِ العقلِ على ثبوتِ الأسماءِ والصفاتِ.
البابُ الحاديَ عشَرَ: في بيانِ أنَّ أسماءَ اللهِ الحسنى وصفاتِهِ العُلَى تقتضي كمالَ الربِّ جلَّ جلالُهُ، وتستلزِمُ توحيدَهُ وتفَرُّدَهُ بها.
البابُ الثانيَ عشَرَ: في بيانِ دَلالةِ أسماءِ اللهِ الحسنى وصفاتِهِ العُلَى وكمالِهِ المُقَدَّسِ على معنى شهادةِ: أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ، وأنَّ مُحَمَّدًا رسولُ اللهِ.
البابُ الثالثَ عشَرَ: في بيانِ أنَّ أسماءَ اللهِ الحسنى وصفاتِهِ العُلَى تقْتَضِي تنزيهَهُ سُبحانهُ وتعالى عن الشرورِ والنقائصِ والعيوبِ.
البابُ الرابعَ عشَرَ: في بيانِ أنَّ أسماءَ اللهِ الحسنى وصفاتِهِ العُلَى منْ مُوجِبَاتِ حَمْدِهِ ومُقْتَضِياتِ محبَّتِهِ.
البابُ الخامسَ عشَرَ: في بيانِ أضرارِ ومساوئِ الجهلِ باللهِ تعالى وأسمائِهِ الحسنى وصفاتِهِ العُلَى.
البابُ السادسَ عشَرَ: في بيانِ بعضِ ما يقتضيهِ العلمُ بأسماءِ اللهِ الحسنى وصفاتِهِ العُلَى منْ أنواعِ العبودِيَّةِ للهِ تعالى.
البابُ السابعَ عشَرَ: في بيانِ بعضِ ما تضمَّنَتْهُ فريضةُ الصلاةِ منْ لطَائفِ التعَبُّدِ للهِ تعالى بأسمائِهِ الحسنى وصفاتِهِ العُلَى.
البابُ الثامنَ عشَرَ: في بيانِ ما تضَمَّنَهُ خَتْمُ الآياتِ بالأسماءِ والصفاتِ من الفوائدِ الجليلةِ واللطائفِ البديعةِ.
البابُ التاسعَ عشَرَ: في بيانِ ما تضَمَّنَهُ العطفُ بينَ الأسماءِ الحسنى وتَرْكُهُ من اللطائفِ والأسرارِ.
البابُ العشرونَ: في بيانِ بعضِ ما تضَمَّنَهُ اقترانُ بعضِ الأسماءِ الحسنى ببعضٍ من اللطائفِ العجيبةِ والفوائدِ البديعَةِ.
البابُ الحادي والعشرونَ: في ذكرِ قواعدَ مُهِمَّةٍ في بابِ الأسماءِ والصفاتِ.
البابُ الثاني والعشرونَ: في بيانِ معنى كلمةِ (الذَّاتِ).
البابُ الثالثُ والعشرونَ: في بيانِ مسألةِ الاسمِ والمُسَمَّى.
البابُ الرابعُ والعشرونَ: في بيانِ الاشتراكِ والاختصاصِ في بعضِ ما يُطْلَقُ على الرَّبِّ جلَّ وعَلا وعلى العبدِ من الألفاظِ.
البابُ الخامسُ والعشرونَ: في بيانِ معنى الإلحادِ في أسماءِ اللهِ الحسنَى.
البابُ السادسُ والعشرونَ: في بيانِ أنَّ أسماءَ اللهِ الحسنى وصفاتِهِ العُلَى تستلزمُ آثارَها.
البابُ السابعُ والعشرونَ: في بيانِ دَلالةِ أسماءِ اللهِ الحسنى وصفاتِهِ العُلَى على خلقِ أفعالِ العبادِ، وأنَّ الطاعاتِ والمعاصيَ كُلَّها بتقديرِ اللهِ تعالى.
فهذا هوَ القِسْمُ الأوَّلُ، وأمَّا ما اجتمعَ لي منْ كلامِهِ رحمهُ اللهُ في القِسمِ الثاني فَمُتَفَاوِتٌ تفَاوُتًا كبيرًا منْ حيثُ القدرُ والأسلوبُ، فبعْضُهُ مبسوطٌ مُطَوَّلٌ قدْ يَزِيدُ على عشْرِ صَفَحاتٍ في بعضِ الأسماءِ، وبعْضُهُ مُتَوَسِّطٌ، وبعْضُهُ مُخْتَصَرٌ لا يزيدُ على سطرٍ أوْ سطريْنِ أوْ بيتٍ أوْ بيتَيْنِ من القصيدةِ النونيَّةِ، فكانَ أمامِي ثلاثُ خياراتٍ لتنسيقِ هذهِ النصوصِ:
- الخِيارُ الأوَّلُ: أنْ أجْعَلَها في بابٍ واحِدٍ؛ فأذكُرَ الشروحَ المُطَوَّلَةَ، ثُمَّ أُتْبِعَها بالشُّروحِ المختصَرَةِ. وعيبُ هذا الخِيارِ أنَّهُ يُخِلُّ بالترتيبِ المُسْتَحْسَنِ في شرحِ الأسماءِ الحسنَى، وهوَ أنْ تكونَ الأسماءُ المُتَعَلِّقَةُ بالأُلُوهِيَّةِ والرُّبُوبِيَّةِ وسَعَةِ المُلْكِ متواليَةً، وأسماءُ الرحمةِ والجمالِ والإحسانِ متواليَةً، وأسماءُ العظمةِ والجلالِ متواليَةً، وهكذا بَقِيَّةُ الأسماءِ الحسنَى.
فصَرَفْتُ النظرَ عنْ هذا الخِيارِ، والْتَفَتُّ إلى الخِيارِ الثانِي: وهوَ أنْ نُرَاعِيَ الترتيبَ المذكورَ معَ كونِ شروحِ الأسماءِ كُلِّها في بابٍ واحدٍ؛ إلاَّ أنَّ ظهورَ التفاوتِ في مقدارِ شروحِ الأسماءِ الحسنى حَالَ دونَ اختيارِ هذا الخِيارِ، ذلكَ أنَّهُ منْ غيرِ المناسبِ أنْ أذْكُرَ شرحًا مُطَوَّلاً لاسمٍ من الأسماءِ الحسنى قدْ يَستغرِقُ بضعَ عَشْرةَ صفحَةً، ثمَّ أُتْبِعَهُ بنصفِ سطرٍ في شرحِ اسمٍ غيرِهِ من الأسماءِ الحسنى، ثُمَّ أُعْقِبَهُ بشرحٍ مُطَوَّلٍ لاسْمٍ ثالثٍ.
- فالْتَمَسْتُ خِيارًا ثالثًا: أَخْلُصُ بهِ منْ هاتيْنِ المَنْقَصَتَيْنِ ؛ يُرَاعَى فيهِ الترتيبُ المذكورُ، وتَتَنَاسَبُ شروحُهُ فلا تَتفاوَتُ؛ فوَجَدْتُ أنَّهُ من المناسبِ أنْ أجعَلَ للشروحِ المُطَوَّلَةِ بابًا مستقِلاً، وأُعَنْوِنَ لهُ بما يدلُّ على بسْطِهِ ويُهَيِّئُ النفسَ للاسترسالِ فيهِ، ويكونُ منهجُ ابنِ القيِّمِ فيهِ متقاربًا، ذلكَ أنَّ غالِبَ هذهِ الشروحِ يترَكَّزُ على نقاطٍ مُهِمَّةٍ:
• أوَّلُها: بيانُ معنى الاسمِ في اللغَةِ.
• والثانيَةُ: بيانُ سَعَةِ معنى الاسمِ وعظمَتِهِ باعتبارِ إضافَتِهِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ.
• والثالثَةُ: بيانُ آثارِ الاسمِ في الخلقِ والأمْرِ؛ والآثارُ بحرٌ لا ساحلَ لَهُ.
• والرابعَةُ: بيانُ لوازمِ هذا الاسمِ منْ بَقِيَّةِ الأسماءِ الحسنَى.
فإذا قرأَ طالبُ العلمِ هذا البابَ وفَهِمَهُ كما ينبغي حَصَلَتْ لهُ مَلَكَةٌ ودُرْبَةٌ في معرفةِ سَعَةِ معاني أسماءِ اللهِ عزَّ وجلَّ وعظيمِ آثارِها وتَعَلُّقِها بالخلقِ والأمْرِ؛ فإذا ما تَأَمَّلَ اسمًا من الأسماءِ الحسنى التي لمْ تُذْكَرْ في هذا البابِ، واتَّبَعَ هذا المنهجَ الجليلَ في شرحِ أسماءِ اللهِ الحسنى تَبَيَّنَ لهُ بفضلِ اللهِ عزَّ وجلَّ من العلومِ والفوائدِ البديعةِ والمعاني الجليلةِ ما لمْ يكُنْ يخْطُرُ لهُ على بالٍ.
والمقصودُ أنْ يكونَ هذا البابُ على مَنْهَجِيَّةٍ واحدةٍ وأسلوبٍ مُتَقَارِبٍ؛ فإنَّ ذلكَ أدْعَى لحُسْنِ الفَهمِ ورُسُوخِهِ، فلذلكَ عَقَدْتُ البابَ الثامنَ والعشرينَ، وهُوَ: في بيانِ ما تضَمَّنَتْهُ بعضُ الأسماءِ الحسنى من المعاني الجليلَةِ، واللطائفِ والأسرارِ البديعَةِ.
وأمَّا البابُ الذي يليهِ، وهوَ البابُ التاسعُ والعشرونَ: في ذِكْرِ شرحٍ مُخْتَصَرٍ لبعضِ الأسماءِ الحسنَى؛ فالمقصودُ منهُ الاختصارُ والاقتصارُ في شروحِ الأسماءِ الحسنى على كلماتٍ يسيرةٍ يسهُلُ حِفْظُهَا واسْتِذْكَارُهَا.
ولمَّا كانَ الاقتصارُ على الشُّرُوحِ المختصرةِ التي لمْ تُذْكَرْ في البابِ السابقِ - وهيَ شروحُ خمسةٍ وعشرينَ اسمًا فقطْ - لا يُنْتِجُ وَحْدَةً موضُوعِيَّةً حَرَصْتُ على إتمامِ الفائدةِ فقُمْتُ بانتزاعِ شروحٍ مختصرةٍ من الشروحِ المُطَوَّلَةِ المذكورةِ في البابِ السابقِ تكونُ كالتلخيصِ لها بحيثُ تتوافقُ معَ الشروحِ المختصرَةِ، ويَنْتُجُ من المجموعِ شرحٌ مختصرٌ لأكثرَ منْ سبعينَ اسمًا من الأسماءِ الحسنى هيَ حصيلةُ ما جمَعْنَاهُ منْ كتُبِ ابنِ القيِّمِ رحمهُ اللهُ تعالى.
أمَّا إذا اعْتُبِرَت الأسماءُ المُتَقارِبَةُ كالعَلِيِّ والأَعْلَى والمُتَعَالِي، وكالقديرِ والقادرِ والمقتدِرِ، ونحْوِها معَ مراعاةِ الفَرْقِ في الصيغةِ وتأثيرِهِ على المعْنَى، فيكونُ في هذا الكتابِ شرحٌ لأكثرَ منْ خمسةٍ وثمانينَ اسمًا من الأسماءِ الحسنَى.
ثمَّ ختَمْتُ الكتابَ بمُلْحَقٍ يتعَلَّقُ بأبْياتٍ مُختارَةٍ من القصيدةِ النُّونيَّةِ , وثيقةِ الصلةِ بالبحثِ لا ينبغي إغفالُها، وعقَدْتُ لها البابَ الثلاثينَ، وهُوَ: في بيانِ أنَّ أقسامَ التوحيدِ الذي بعثَ اللهُ بهِ المرسَلينَ ترجِعُ إلى معاني أسماءِ اللهِ الحسنى، وقصَدْتُ بذلكَ أنْ يُمْعِنَ القارئُ النظرَ في هذا البابِ حتَّى يَصِلَ إلى هذهِ النتيجَةِ.
ولمَّا كانَ الجمعُ والتصنيفُ لا بُدَّ لهُ منْ تنسيقٍ حتَّى يبْدُوَ الكلامُ مُتَّسِقًا مُتَآلِفًا وَضَعْتُ أحْرُفًا - ورُبَّمَا كَلِماتٍ - تَرْبِطُ بينَ النصوصِ المنْقُولَةِ؛ وحتَّى لا يختلِطَ هذا بكلامِ ابنِ القيِّمِ رحمهُ اللهُ تعالى وضَعْتُهُ بينَ قوسَيْنِ ؛ معكوفَيْنِ [ ]، وجعَلْتُ كلامَ ابنِ القيِّمِ بينَ هلالَيْنِ ( )، وأشَرْتُ في نهايَتِهِ إلى موضعِ هذا الكلامِ منْ كُتُبِهِ باسمِ الكتابِ ورَقْمِ الصفحةِ لِمَنْ أرادَ الرجوعَ إليْهِ. ولمَّا كانَ سِياقُ الكلامِ يضْطَرُّنِي إلى حذفِ بعضِ الكلماتِ أوْ أَرَى حذْفَها لعدمِ تعلُّقِها بالبحثِ أشَرْتُ إلى موضعِ الحذفِ بثلاثِ نُقَطٍ ( … ) وهوَ يشمَلُ حذفَ حرفٍ فصَاعِدًا.
وإذا أَدْرَجْتُ كلامًا لابنِ القَيِّمِ في كلامٍ لهُ في كتابٍ آخرَ جَعَلْتُ النَّصَّ المُدْرَجَ بينَ أربعةِ أهِلَّةٍ هكذا (( ))، وأَشَرْتُ إلى موضعِ النصِّ المُدْرَجِ في كُتُبِهِ.
وقدْ أُشِيرُ إلى الأخطاءِ المطبَعِيَّةِ في الكتبِ التي نَقَلْتُ منها إذا رَأَيْتُ الأمرَ يسْتَدْعِي ذلِكَ.
ثمَّ إنِّي حَرَصْتُ على أنْ لا أَحْذِفَ من المادَّةِ العلمِيَّةِ المُودَعَةِ في البحثِ شيئًا ولوْ تكَرَّرَتْ؛ لأنَّ هذهِ النصوصَ يُوَضِّحُ بعْضُها بعْضًا، ورُبَّما فَهِمَ القارئُ منْ كلامِ ابنِ القَيِّمِ في موضعٍ ما لمْ يفْهَمْهُ في موضعٍ آخَرَ، ورُبَّما كانَ القارئُ باحثًا في مسألةٍ مُعيَّنَةٍ فَتَعْنيهِ كثرَةُ النقولِ، لا سِيَّما وهذهِ المواضيعُ المُهِمَّةُ يُرَسِّخُها في الذهنِ تَكْرَارُها وعَرْضُها بعِدَّةِ أساليبَ.
ولمَّا كانَ في النصوصِ المنقولةِ منْ كتبِ ابنِ القيِّمِ رحمهُ اللهُ تعالى ما ذَكَرْتُ من التفاوتِ اتَّبَعْتُ في تنسيقِها طريقةَ الأصلِ والحواشِي؛ وذلكَ لاعتبارَاتٍ:
الاعتبارُ الأوَّلُ: كثرةُ التَّكرارِ في النصوصِ المنقولةِ منْ كُتُبِ ابنِ القَيِّمِ رحمهُ اللهُ تعالى، فبعدَ أنْ صَنَّفْتُ النصوصَ على الأبوابِ والمسائلِ وجَدْتُ فيها تَكرارًا كثيرًا، على اختلافِ درَجاتِ التَّكرارِ:
فبعْضُها يكونُ تَكرارًا بنفسِ الألفاظِ.
وبعْضُها يكونُ التَّكرارُ فيها للمَعنَى على اختلافٍ يسيرٍ في الألفاظِ.
وبعْضُها يكونُ فيها تَكرارٌ ظاهرٌ معَ زيادةِ بعْضِها على بعضٍ في المعاني والألفاظِ.
فحَرَصْتُ على اختيارِ أجمعِ هذهِ النصوصِ ليكونَ في الأصْلِ، ثمَّ زِدْتُهُ بإدراجِ ما يُمْكِنُ إدْرَاجُهُ فيهِ من النصوصِ الأُخْرَى.
وما تبَقَّى من النصوصِ رَأَيْتُ أنَّهُ من التَّفْرِيطِ أنْ يُلْغَى ويُهْمَلَ فَجَعَلْتُهُ في الحاشيَةِ لمَنْ أرادَ الاستزادَةَ، ومَن اكتفى بالأصلِ فإنَّهُ لا يَحْتَاجُهُ.
الاعتبارُ الثانِي: تنَوُّعُ تلكَ النصوصِ في تعلُّقِها بالبابِ المُدْرَجَةِ فيهِ:
فبعْضُها وثيقُ الصلةِ بالبابِ كَقُطْبِ رَحَاهُ.
وبعْضُها لها تَعَلُّقٌ ما بالبابِ.
وبعْضُها يجرِي مَجْرَى التعليقِ والبيانِ لبعضِ النُّكتِ والفوائدِ المُودَعَةِ في البابِ.
فما كانَ منْ هذهِ النصوصِ وثيقَ الصلةِ بالبابِ جَعَلْتُهُ في الأصْلِ، وأمَّا القسمانِ الآخرانِ فما أمْكَنَ منها أنْ يُجْعَلَ في الأصلِ بحيثُ يَتَنَاسَبُ معَ السِّياقِ والسِّباقِ جَعَلْتُهُ في الأصْلِ، وإلاَّ اجْتَهَدْتُ في اختيارِ الموضعِ الذي يَصْلُحُ أنْ يكونَ حاشيَةً لهُ من الأصْلِ.
الاعتبارُ الثالِثُ: اختلافُ أساليبِ الكلامِ لاختلافِ السياقِ:
- فبعضُ النصوصِ منْ كلامِ ابنِ القيِّمِ رحمهُ اللهُ تعالى يكونُ في مَقامِ البيانِ والتفصيلِ لغرضِ التعليمِ والإرشادِ.
- وبعضُها يكونُ في مَقامِ الاستطرادِ والاستشهادِ بحيثُ يَعْرِضُ لهُ أثناءَ حديثِهِ عنْ مسألةٍ ما، ولا يكونُ هوَ المقصودَ بالكلامِ.
- وبعْضُها يكونُ في مَقامِ الردِّ على المخالفينَ والتشنيعِ عليهم، وبيانِ بُطْلانِ أقوالِهِم.
فيأتي كلامُهُ أحيانًا طويلاً مُسْتَرْسَلاً فيهِ، وأحيانًا مُقْتَضَبًا مختصرًا، وتارَةً هَيِّنًا ليِّنًا، وتارَةً قاسيًا شديدًا، ويَذْكُرُ أحيانًا بعضَ المعاني فلا يُتِمُّها اكتِفاءً بما عَرَضَ لهُ منها ممَّا يُتِمُّ مقصودَهُ فيما هوَ بصدَدِهِ، وأحيانًا يذْكُرُهُ مُفَصَّلاً مبسوطًا يستكمِلُ أجزاءَهُ ومبانِيَهُ.
فكانَ في دَمجِ هذهِ النصوصِ وتنسيقِها صُعوبةٌ، أمَّا جَمعُها في مَوضِعٍ واحدٍ في الأصلِ فظاهرُ التفاوُتِ، مُشَتِّتٌ للذِّهْنِ، مُشَوِّشٌ على الفكْرِ، وما مَثَلِي؛ إذْ أفعلُ ذلكَ إلاَّ كَمَنْ أرادَ أنْ يجمَعَ قصيدةً مِنْ قَصائدَ مُتَفَرِّقَةٍ في ديوانِ شاعرٍ فجاءَ كلُّ شَطرٍ فيها منْ بحْرٍ.
فرَأَيْتُ أنْ أُدْرِجَ في الأصلِ ما كانَ ألْيَقَ بالمقصودِ من الكتابِ، وأسْتَخْرِجَ من النصوصِ الأخرى ما يمكنُ إدراجُهُ في الأصلِ، وما تبَقَّى جَعَلْتُهُ في أنسبِ موضعٍ لهُ في الحاشيَةِ.
وتظهرُ فائدةُ هذا الأُسلُوبِ جلِيًّا في بابِ القواعدِ؛ حيثُ تُذْكَرُ القاعدةُ في الأصلِ بأسلوبِ البيانِ والتعليمِ؛ لأنَّهُ الأليقُ بها، ويُذْكَرُ في الحاشيَةِ استخدامُ ابنِ القَيِّمِ رحمهُ اللهُ تعالى لهذهِ القاعدةِ في رَدِّهِ على المخالفينَ، وكيفَ ينطلقُ منها ويَبْنِي عليها من الكلامِ العظيمِ والفوائدِ الجليلةِ ما يَشْفِي بهِ النفْسَ، ويُفْحِمُ بهِ الخصْمَ، فيكونُ في هذا دُرْبَةٌ عَمَلِيَّةٌ لطالبِ العلمِ على كيفِيَّةِ الاستفادةِ من القواعِدِ.
الاعتبارُ الرابعُ: مراعاةُ الوَحدةِ الموضُوعيَّةِ وجَوْدَةِ التأليفِ بينَ النصوصِ وحُسْنِ سَبْكِهَا واتِّسَاقِهَا؛ بحيثُ يكونُ المجموعُ من النُّقولِ المُنَسَّقَةِ كأنَّهُ مُؤَلَّفٌ مُسْتَقِلٌّ لابنِ القيِّمِ رحمهُ اللهُ تعالى لا يُشْعِرُ القارئَ بأنَّهُ يَقْرَأُ في كُتُبٍ مُتفرِّقَةٍ؛ فلا يتَشَتَّتُ ذهْنُهُ، ولا يتَشَعَّبُ فكرُهُ.
وهذا مَطلَبٌ مُهِمٌّ ؛ إذْ تَنْبَنِي عليهِ ثمْرةُ الكتابِ وما أُرِيدَ منْهُ، وجَعْلُ جميعِ النصوصِ في الأصلِ مُنْهِكٌ للكتابِ مُذْهِبٌ لتنَاسُقِهِ وتَتَابُعِ أفكارِهِ.
الاعتبارُ الخامِسُ: مراعاةُ تفاوُتِ طَبَقاتِ القُرَّاءِ.
فحَرَصْتُ على أنْ يكونَ الكتابُ ملائمًا لأكبرِ عدَدٍ ممكِنٍ من القُرَّاءِ؛ فَيُلائِمُ عُلَمَاءَنا ومشايخَنَا، ويُلائِمُ طلبةَ العلمِ على اختلافِ درَجاتِهِم، ويُلائِمُ الباحثينَ والمتخصِّصِينَ في هذا العلْمِ، وكذلكَ مُحِبِّو القراءةِ والمثقَّفُونَ، بحيثُ يجِدُ كلٌّ منهم بُغْيَتَهُ منْ هذا الكتابِ ولا يفُوتُهُ شيءٌ ممَّا جَمَعْتُهُ إنْ شاءَ اللهُ تعالى.

* * *
وسَمَّيْتُ الكتابَ بِـ ( المُرْتَبَعِ الأَسْنَى في رِيَاضِ الأَسْمَاءِ الحُسْنَى ).
والمُرْتَبَعُ في اللُّغَةِ: هوَ المكانُ الذي يُقَامُ فيهِ زَمَنَ الربيعِ، يُقَالُ لَهُ: المَرْبَعُ والمُرْتَبَعُ والمُتَرَبَّعُ، قالَ طَرَفَةُ بنُ العَبْدِ:

تَرَبَّعَتِ القُفَّيْن في الشَّوْلِ تَرْتَعِي ... حَدَائِقَ مَوْلِيِّ الأَسِرَّةِ أَغْيَدِ

وقالَ عَنْتَرَةُ العبْسِيُّ:
كيفَ المَزَارُ وقدْ تَرَبَّعَ أهلُها ... بعُنَيْزَتَيْنِ وأهلُنا بالغَيْلَمِ
وقالَ الحَرِيريُّ في مَقاماتِهِ، وهوَ منْ أهلِ العلمِ باللغةِ والأدَبِ:
خلِّ ادِّكارَ الأرْبُعِ ... والمعهَدِ المُرْتَبَعِِ ... والظَّاعِنِ المودِّعِِ ... وعَدِّ عَنْهُ وَدَعِِ
ومأخذُ التشبيهِ أنَّ المُرْتَبِعَ في أماكنِ الربيعِ يتَنَقَّلُ بينَ رياضِها ومُرُوجِها، ويَرَى منْ خُضْرَتِها وزَهرَتِها، ويجدُ منْ رَوْحِها وطِيبِها ما تنشرحُ لهُ نفسُهُ، وتَقَرُّ بهِ عينُهُ.
فكذلكَ الحالُ المرْجُوَّةُ لقارئِ هذا الكتابِ حينَ يتَنَقَّلُ بينَ أبوابِهِ وفُصُولِهِ يجدُ منْ فوائدِهِ ولطائِفِهِ ما ينشرحُ لهُ صدْرُهُ وتقَرُّ بهِ عينُهُ، بلْ لهذا الكتابِ مَزيدُ مَزِيَّةٍ عظيمةٍ, وهيَ سنَاؤُهُ ورِفعَتُهُ لتعَلُّقِهِ بأسماءِ اللهِ الحسنَى.
وقدْ شَرَعْتُ في إعدادِ هذَا الكتابِ في أوائلِ سنةِ 1417هـ وفرغتُ منهُ في شهرِ اللهِ المحرمِ من سنةِ 1419هـ.
وممَّا ينبغي أنْ يعْلَمَهُ قارئُ هذا الكتابِ أنَّ ابنَ القيِّمِ رحمهُ اللهُ تعالى قدْ سأَلَ اللهَ عزَّ وجلَّ أنْ يُعِينَهُ على كتابةِ شرحٍ للأسماءِ الحسنى في غيرِ مَوضِعٍ منْ كُتُبِهِ، وقدْ ذكرَ بَعضُ مَنْ تَرْجَمَ لهُ من العلماءِ أنَّ لهُ كتابًا في شرحِ الأسماءِ الحُسنَى، إلاَّ أنَّي لا أعْلَمُهُ في المطبوعاتِ ولا في المخطوطاتِ، فأَسْأَلُ اللهَ عزَّ وجلَّ بمَنِّهِ وكرَمِهِ إنْ كانَ لهذا الإمامِ كتابٌ في شرحِ أسمَائِهِ الحسنى أنْ يُهَيِّئَ منْ عبادِهِ مَنْ يجِدُهُ ويُخْرِجُهُ حتَّى يَعْظُمَ النفعُ بِهِ، واللهُ على ذلكَ قدِيرٌ، وهوَ أَكْرَمُ مَسْؤُولٍ.
كما نسْأَلُهُ عزَّ وجلَّ أنْ يُبَارِكَ في أوْقَاتِنا وأعْمَالِنا، وأنْ يُوَفِّقَنا لاتِّبَاعِ رِضْوَانِهِ واجتنابِ مَسَاخِطِهِ، وأنْ يُيَسِّرَ لنا العِلمَ النافعَ والعَمَلَ الصالحَ والدَّعوةَ إليهِ على بَصيرةٍ إيمانًا واحتسابًا.
اللَّهُمَّ علِّمْنا ما ينْفَعُنا، وانْفَعْنَا بما علَّمْتَنَا، وزِدْنَا علمًا وهُدًى وصلاحًا، إنَّكَ قريبٌ مُجِيبٌ.
اللَّهُمَّ تقَبَّلْ منَّا إنَّكَ أنتَ السميعُ العليمُ، واغفِرْ لنا وارْحَمْنَا إنَّكَ أنتَ الغفورُ الرحيمُ.
اللَّهُمَّ هَيِّئْ لنا منْ أمْرِنا رَشَدًا، ووفِّقْنا لصالحِ الأقوالِ والأعْمَالِ، والأخلاقِ والأحوالِ، يا حيُّ يا قَيُّومُ، يا ذا الجلالِ والإكرامِ.
اللَّهُمَّ صلِّ على مُحَمَّدٍ وعلى آلِ مُحَمَّدٍ كما صلَّيْتَ على آلِ إبراهيمَ، وَبَارِكْ على محمَّدٍ وعلى آلِ محمَّدٍ كما بارَكْتَ على آلِ إبراهيمَ في العالمينَ، إنَّكَ حميدٌ مجيدٌ.


وكتبَهُ


عبد العزيز بن داخل المطيري). [المرتبع الأسنى: ؟؟]

رد مع اقتباس