عرض مشاركة واحدة
  #10  
قديم 17 شعبان 1435هـ/15-06-2014م, 03:21 PM
أم إسماعيل أم إسماعيل غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Dec 2010
المشاركات: 4,914
افتراضي

تفاسير القرن الثامن الهجري

تفسير قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {يسألونك عن الأنفال قل الأنفال للّه والرّسول فاتّقوا اللّه وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا اللّه ورسوله إن كنتم مؤمنين (1) }
قال البخاريّ: قال ابن عبّاسٍ الأنفال: الغنائم: حدّثنا محمّد بن عبد الرّحيم، حدّثنا سعيد بن سليمان، أخبرنا هشيم، أخبرنا أبو بشرٍ، عن سعيد بن جبيرٍ، قال: قلت لابن عبّاسٍ: سورة الأنفال؟ قال نزلت في بدرٍ.
أمّا ما علّقه عن ابن عبّاسٍ، فكذلك رواه عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ أنّه قال: "الأنفال": الغنائم، كانت لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم خالصةً، ليس لأحدٍ منها شيءٌ. وكذا قال مجاهدٌ، وعكرمة، وعطاءٌ، والضّحّاك، وقتادة، وعطاءٌ الخراسانيّ، ومقاتل بن حيّان، وعبد الرّحمن بن زيد بن أسلم، وغير واحدٍ إنّها الغنائم
وقال الكلبيّ، عن أبي صالحٍ، عن ابن عبّاسٍ أنّه قال: الأنفال: الغنائم، قال فيها لبيد: إنّ تقوى ربّنا خير نفلوبإذن الله ريثي وعجل
وقال ابن جريرٍ: حدّثني يونس، أخبرنا ابن وهبٍ، أخبرني مالك بن أنسٍ، عن ابن شهابٍ، عن القاسم بن محمّدٍ قال: سمعت رجلًا يسأل ابن عبّاسٍ عن "الأنفال"، فقال ابن عبّاسٍ، رضي اللّه عنهما: الفرس من النّفل، والسّلب من النّفل. ثمّ عاد لمسألته، فقال ابن عبّاسٍ ذلك أيضًا. ثمّ قال الرّجل: الأنفال الّتي قال اللّه في كتابه ما هي؟ قال القاسم: فلم يزل يسأله حتّى كاد يحرجه، فقال ابن عبّاسٍ: أتدرون ما مثل هذا، مثل صبيغٍ الّذي ضربه عمر بن الخطّاب
وقال عبد الرّزّاق: أخبرنا معمرٌ، عن الزّهريّ، عن القاسم بن محمّدٍ قال: قال ابن عباس: كان عمر بن الخطّاب، رضي اللّه عنه، إذا سئل عن شيءٍ قال: لا آمرك ولا أنهاك. ثمّ قال ابن عبّاسٍ: واللّه ما بعث اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلّا زاجرًا آمرًا محلًّا محرّمًا. قال القاسم: فسلّط على ابن عبّاسٍ رجلٌ يسأله عن الأنفال، فقال ابن عبّاسٍ: كان الرّجل ينفل فرس الرّجل وسلاحه. فأعاد عليه الرّجل، فقال له مثل ذلك، ثمّ أعاد عليه حتّى أغضبه، فقال ابن عبّاسٍ: أتدرون ما مثل هذا؟ مثل صبيغ الّذي ضربه عمر بن الخطّاب، حتّى سالت الدّماء على عقبيه -أو على: رجليه فقال الرّجل: أمّا أنت فقد انتقم اللّه لعمر منك
وهذا إسنادٌ صحيحٌ إلى ابن عبّاسٍ: أنّه فسّر النّفل بما ينفله الإمام لبعض الأشخاص من سلبٍ أو نحوه، بعد قسم أصل المغنم، وهو المتبادر إلى فهم كثيرٍ من الفقهاء من لفظ النّفل، واللّه أعلم.
وقال ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ: إنّهم سألوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن الخمس بعد الأربعة الأخماس، فنزلت: {يسألونك عن الأنفال}
وقال ابن مسعودٍ ومسروقٌ: لا نفل يوم الزّحف، إنّما النّفل قبل التقاء الصّفوف. رواه ابن أبي حاتمٍ عنهما.
وقال ابن المبارك وغير واحدٍ، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء بن أبي رباحٍ: {يسألونك عن الأنفال} قال: يسألونك فيما شذّ من المشركين إلى المسلمين في غير قتالٍ، من دابّةٍ أو عبدٍ أو أمةٍ أو متاعٍ، فهو نفلٌ للنّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم يصنع به ما يشاء.
وهذا يقتضي أنّه فسّر الأنفال بالفيء، وهو ما أخذ من الكفّار من غير قتالٍ.
وقال ابن جريرٍ: وقال آخرون: هي أنفال السّرايا، حدّثني الحارث، حدّثنا عبد العزيز، حدثنا علي بن صالح بن حيي قال: بلغني في قوله تعالى: {يسألونك عن الأنفال} قال: السّرايا.
ويعني هذا: ما ينفله الإمام لبعض السّرايا زيادةً على قسمهم مع بقيّة الجيش، وقد صرّح بذلك الشّعبيّ، واختار ابن جريرٍ أنّها الزّيادات على القسم، ويشهد لذلك ما ورد في سبب نزول الآية، وهو ما رواه الإمام أحمد حيث قال: حدّثنا أبو معاوية، حدّثنا أبو إسحاق الشّيبانيّ، عن محمّد بن عبد اللّه الثّقفيّ، عن سعد بن أبي وقّاصٍ قال: لمّا كان يوم بدرٍ، وقتل أخي عمير، وقتلت سعيد بن العاص وأخذت سيفه، وكان يسمّى "ذا الكتيفة"، فأتيت به نبيّ اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فقال: "اذهب فاطرحه في القبض". قال: فرجعت وبي ما لا يعلمه إلّا اللّه من قتل أخي وأخذ سلبي. قال: فما جاوزت إلّا يسيرًا حتّى نزلت سورة الأنفال، فقال لي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم: "اذهب فخذ سيفك"
وقال الإمام أحمد أيضًا: حدّثنا أسود بن عامرٍ، أخبرنا أبو بكرٍ، عن عاصم بن أبي النّجود، عن مصعب بن سعدٍ، عن سعد بن مالكٍ قال: قال: يا رسول اللّه، قد شفاني اللّه اليوم من المشركين، فهب لي هذا السّيف. فقال: "إنّ هذا السّيف لا لك ولا لي، ضعه" قال: فوضعته، ثمّ رجعت، قلت: عسى أن يعطى هذا السّيف اليوم من لا يبلي بلائي! قال: رجلٌ يدعوني من ورائي، قال: قلت: قد أنزل اللّه فيّ شيئًا؟ قال: "كنت سألتني السّيف، وليس هو لي وإنّه قد وهب لي، فهو لك" قال: وأنزل اللّه هذه الآية: {يسألونك عن الأنفال قل الأنفال للّه والرّسول}
ورواه أبو داود، والتّرمذيّ، والنّسائيّ من طرقٍ، عن أبي [بكر] بن عيّاشٍ، به وقال التّرمذيّ: حسنٌ صحيحٌ.
وهكذا رواه أبو داود الطّيالسيّ: أخبرنا شعبة، أخبرنا سماك بن حربٍ، قال: سمعت مصعب بن سعدٍ، يحدّث عن سعدٍ قال: نزلت فيّ أربع آياتٍ: أصبت سيفًا يوم بدرٍ، فأتيت النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فقلت: نفّلنيه. فقال: "ضعه من حيث أخذته" مرّتين، ثمّ عاودته فقال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: "ضعه من حيث أخذته"، فنزلت هذه الآية: "يسألونك عن الأنفال:
وتمام الحديث في نزول: {ووصّينا الإنسان بوالديه حسنًا} [العنكبوت: 8] وقوله تعالى: {إنّما الخمر والميسر} [المائدة: 90] وآية الوصيّة. وقد رواه مسلمٌ في صحيحه، من حديث شعبة، به
وقال محمّد بن إسحاق: حدّثني عبد اللّه بن أبي بكرٍ، عن بعض بني ساعدة قال: سمعت أبا أسيدٍ مالك بن ربيعة يقول: أصبت سيف ابن عائذٍ يوم بدرٍ، وكان السّيف يدعى بالمرزبان، فلمّا أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم النّاس أن يردّوا ما في أيديهم من النّفل، أقبلت به فألقيته في النّفل، وكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لا يمنع شيئًا يسأله، فرآه الأرقم بن أبي الأرقم المخزوميّ، فسأله رسول اللّه [صلّى اللّه عليه وسلّم] فأعطاه إيّاه
ورواه ابن جريرٍ من وجهٍ آخر.
[سببٌ آخر في نزول الآية]:
وقال الإمام أحمد: حدّثنا محمّد بن سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الرّحمن، عن سليمان بن موسى، عن مكحولٍ، عن أبي أمامة قال: سألت عبادة عن الأنفال، فقال: فينا -أصحاب بدر- نزلت، حين اختلفنا في النّفل، وساءت فيه أخلاقنا، فانتزعه اللّه من أيدينا، وجعله إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فقسمه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بين المسلمين عن بواءٍ -يقول: عن سواءٍ
وقال الإمام أحمد أيضًا: حدّثنا معاوية بن عمرٍو، أخبرنا أبو إسحاق، عن عبد الرّحمن بن الحارث بن عبد اللّه بن عيّاش بن أبي ربيعة، عن سليمان بن موسى، عن أبي سلّامٍ، عن أبي أمامة، عن عبادة بن الصّامت قال: خرجنا مع النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، فشهدت معه بدرًا، فالتقى النّاس، فهزم اللّه [تعالى] العدوّ، فانطلقت طائفةٌ في آثارهم يهزمون ويقتلون، وأكبّت طائفةٌ على العسكر يحوونه ويجمعونه. وأحدقت طائفةٌ برسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لا يصيب العدوّ منه غرّةً، حتّى إذا كان اللّيل، وفاء النّاس بعضهم إلى بعضٍ، قال الّذين جمعوا الغنائم: نحن حويناها، فليس لأحدٍ فيها نصيبٌ. وقال الّذين خرجوا في طلب العدوّ: لستم بأحقّ به منّا، نحن منعنا عنها العدوّ وهزمناهم. وقال الّذين أحدقوا برسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: لستم بأحقّ منّا، نحن أحدقنا برسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، وخفنا أن يصيب العدوّ منه غرّةً، فاشتغلنا به، فنزلت: {يسألونك عن الأنفال قل الأنفال للّه والرّسول فاتّقوا اللّه وأصلحوا ذات بينكم} فقسمها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بين المسلمين -وكان رسول اللّه إذا غار في أرض العدوّ نفّل الرّبع، فإذا أقبل وكلّ النّاس راجعًا، نفّل الثّلث، وكان يكره الأنفال ويقول: "ليردّ قويّ المؤمنين على ضعيفهم".
ورواه التّرمذيّ وابن ماجه، من حديث سفيان الثّوريّ، عن عبد الرّحمن بن الحارث به نحوه، وقال التّرمذيّ: هذا حديثٌ حسنٌ. ورواه ابن حبّان في صحيحه، والحاكم في مستدركه من حديث عبد الرّحمن بن الحارث وقال الحاكم: صحيح الإسناد على شرط مسلمٍ ولم يخرجاه.
وروى أبو داود والنّسائيّ، وابن جريرٍ، وابن مردويه -واللّفظ له -وابن حبّان، والحاكم من طرقٍ، عن داود بن أبي هندٍ، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ قال: لمّا كان يوم بدرٍ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "من صنع كذا وكذا فله كذا وكذا، فتسارع في ذلك شبّان الرّجال، وبقي الشّيوخ تحت الرّايات، فلمّا كانت المغانم، جاءوا يطلبون الّذي جعل لهم، فقال الشّيوخ: لا تستأثروا علينا، فإنّا كنّا ردءًا لكم، لو انكشفتم لفئتم إلينا. فتنازعوا فأنزل اللّه تعالى: {يسألونك عن الأنفال} إلى قوله: {وأطيعوااللّه ورسوله إن كنتم مؤمنين}
وقال الثّوريّ، عن الكلبيّ، عن أبي صالحٍ، عن ابن عباس قال: لمّا كان يوم بدرٍ قال رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم: "من قتل قتيلًا فله كذا وكذا، ومن أتى بأسيرٍ فله كذا وكذا". فجاء أبو اليسر بأسيرين، فقال: يا رسول اللّه، وعدتنا، فقام سعد بن عبادة فقال: يا رسول اللّه، إن أعطيت هؤلاء لم يبق لأصحابك شيءٌ، وإنّه لم يمنعنا من هذا زهادةٌ في الأجر، ولا جبنٌ عن العدوّ، وإنّما قمنا هذا المقام محافظةً عليك، نخاف أن يأتوك من ورائك، فتشاجروا، ونزل القرآن: {يسألونك عن الأنفال قل الأنفال للّه والرّسول} قال: ونزل القرآن: {واعلموا أنّما غنمتم من شيءٍ فأنّ لله خمسه [وللرّسول]} إلى آخر الآية [الأنفال: 41]
وقال الإمام أبو عبيدٍ القاسم بن سلّامٍ، رحمه اللّه، في كتاب "الأموال الشّرعيّة وبيان جهاتها ومصارفها": أمّا الأنفال: فهي المغانم، وكلّ نيلٍ ناله المسلمون من أموال أهل الحرب، فكانت الأنفال الأولى إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، يقول اللّه تعالى: {يسألونك عن الأنفال قل الأنفال للّه والرّسول} فقسمها يوم بدرٍ على ما أراده اللّه من غير أن يخمّسها على ما ذكرناه في حديث سعدٍ، ثمّ نزلت بعد ذلك آية الخمس، فنسخت الأولى
قلت: هكذا روى عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ، سواءً. وبه قال مجاهدٌ، وعكرمة والسّدّيّ.
وقال ابن زيدٍ: ليست منسوخةً، بل هي محكمةٌ.
قال أبو عبيدٍ: وفي ذلك آثارٌ، والأنفال أصلها جمع الغنائم، إلّا أنّ الخمس منها مخصوصٌ لأهله على ما نزل به الكتاب، وجرت به السّنّة. ومعنى الأنفال في كلام العرب: كلّ إحسانٍ فعله فاعلٌ تفضّلًا من غير أن يجب ذلك عليه، فذلك النّفل الّذي أحلّه اللّه للمؤمنين من أموال عدوّهم وإنّما هو شيءٌ خصّه اللّه به تطوّلًا منه عليهم بعد أن كانت المغانم محرّمةً على الأمم قبلهم، فنفلها اللّه هذه الأمّة فهذا أصل النّفل.
قلت: شاهد هذا في الصّحيحين عن جابرٍ: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال: "أعطيت خمسًا لم يعطهنّ أحدٌ قبلي" فذكر الحديث، إلى أن قال: "وأحلّت لي الغنائم ولم تحلّ لأحدٍ قبلي"، وذكر تمام الحديث
ثمّ قال أبو عبيدٍ: ولهذا سمّي ما جعل الإمام للمقاتلة نفلًا وهو تفضيله بعض الجيش على بعضٍ بشيءٍ سوى سهامهم، يفعل ذلك بهم على قدر الغناء عن الإسلام والنّكاية في العدوّ. وفي النّفل الّذي ينفله الإمام سننٌ أربعٌ، لكلّ واحدةٍ منهنّ موضعٌ غير موضع الأخرى:
فإحداهنّ: في النّفل لا خمس فيه، وذلك السّلب.
والثّانية: في النّفل الّذي يكون من الغنيمة بعد إخراج الخمس، وهو أن يوجّه الإمام السّرايا في أرض الحرب، فتأتي بالغنائم فيكون للسّريّة ممّا جاءت به الرّبع أو الثّلث بعد الخمس.
والثّالثة: في النّفل من الخمس نفسه، وهو أن تحاز الغنيمة كلّها، ثمّ تخمّس، فإذا صار الخمس في يدي الإمام نفل منه على قدر ما يرى.
والرّابعة: في النّفل في جملة الغنيمة قبل أن يخمّس منها شيءٌ، وهو أن يعطى الأدلّاء ورعاة الماشية والسّوّاق لها، وفي كلّ ذلك اختلافٌ.
قال الرّبيع: قال الشّافعيّ: الأنفال: ألّا يخرج من رأس الغنيمة قبل الخمس شيءٌ غير السّلب.
قال أبو عبيدٍ: والوجه الثّاني من النّفل هو شيءٌ زيدوه غير الّذي كان لهم، وذلك من خمس النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم؛ فإنّ له خمس الخمس من كلّ غنيمةٍ، فينبغي للإمام أن يجتهد، فإذا كثر العدوّ واشتدّت شوكتهم، وقلّ من بإزائه من المسلمين، نفل منه اتّباعًا لسنّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، وإذا لم يكن ذلك لم ينفل.
والوجه الثّالث من النّفل: إذا بعث الإمام سريّةً أو جيشًا، فقال لهم قبل اللّقاء: من غنم شيئًا فله بعد الخمس، فذلك لهم على ما شرط الإمام؛ لأنّهم على ذلك غزوا، وبه رضوا. انتهى كلامه
وفيما تقدّم من كلامه وهو قوله: "إنّ غنائم بدرٍ لم تخمّس"، نظرٌ. ويردّ عليه حديث عليّ بن أبي طالبٍ في شارفيه اللّذين حصلا له من الخمس يوم بدرٍ، وقد بيّنت ذلك في كتاب السّيرة بيانًا شافيًا وللّه الحمد [والمنّة]
وقوله تعالى: {فاتّقوا اللّه وأصلحوا ذات بينكم} أي: اتّقوا اللّه في أموركم، وأصلحوا فيما بينكم ولا تظالموا ولا تخاصموا ولا تشاجروا؛ فما آتاكم اللّه من الهدى والعلم خيرٌ ممّا تختصمون بسببه، {وأطيعوا اللّه ورسوله} أي: في قسمه بينكم على ما أراده اللّه، فإنّه قسّمه كما أمره اللّه من العدل والإنصاف.
وقال ابن عبّاسٍ: هذا تحريجٌ من اللّه على المؤمنين أن يتّقوا [اللّه] ويصلحوا ذات بينهم. وكذا قال مجاهدٌ.
وقال السّدّيّ: {فاتّقوا اللّه وأصلحوا ذات بينكم} أي: لا تستبّوا. ونذكر هاهنا حديثًا أورده الحافظ أبو يعلى أحمد بن عليّ بن المثنّى الموصليّ، رحمه اللّه، في مسنده، فإنّه قال: حدّثنا مجاهد بن موسى، حدّثنا عبد اللّه بن بكرٍ حدّثنا عبّاد بن شيبة الحبطيّ عن سعيد بن أنسٍ، عن أنسٍ، رضي اللّه عنه، قال: بينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم جالسٌ، إذ رأيناه ضحك حتّى بدت ثناياه، فقال عمر: ما أضحكك يا رسول اللّه بأبي أنت وأمّي؟ فقال: "رجلان جثيا من أمّتي بين يدي ربّ العزّة، تبارك وتعالى، فقال أحدهما: يا ربّ، خذ لي مظلمتي من أخي. قال اللّه تعالى: أعط أخاك مظلمتك. قال: يا ربّ، لم يبق من حسناتي شيءٌ. قال: ربّ، فليحمل عنّي من أوزاري" قال: وفاضت عينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بالبكاء، ثمّ قال: "إنّ ذلك ليومٌ عظيمٌ، يومٌ يحتاج النّاس إلى من يتحمّل عنهم من أوزارهم، فقال اللّه تعالى للطّالب: ارفع بصرك فانظر في الجنان، فرفع رأسه فقال: يا ربّ، أرى مدائن من فضّةٍ وقصورًا من ذهبٍ مكلّلةً باللّؤلؤ، لأيّ نبيٍّ هذا؟ لأيّ صدّيقٍ هذا؟ لأيّ شهيدٍ هذا؟ قال: هذا لمن أعطى الثّمن. قال: يا ربّ، ومن يملك ذلك؟ قال: أنت تملكه. قال: ماذا يا ربّ؟ قال: تعفو عن أخيك. قال: يا ربّ، فإنّي قد عفوت عنه. قال اللّه تعالى: خذ بيد أخيك فأدخله الجنّة". ثمّ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "فاتّقوا اللّه وأصلحوا ذات بينكم، فإنّ اللّه تعالى يصلح بين المؤمنين يوم القيامة"). [تفسير القرآن العظيم: 4/ 5-11]

تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({إنّما المؤمنون الّذين إذا ذكر اللّه وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانًا وعلى ربّهم يتوكّلون (2) الّذين يقيمون الصّلاة وممّا رزقناهم ينفقون (3) أولئك هم المؤمنون حقًّا لهم درجاتٌ عند ربّهم ومغفرةٌ ورزقٌ كريمٌ (4) }
قال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ قوله: {إنّما المؤمنون الّذين إذا ذكر اللّه وجلت قلوبهم} قال: المنافقون لا يدخل قلوبهم شيءٌ من ذكر اللّه عند أداء فرائضه، ولا يؤمنون بشيءٍ من آيات اللّه، ولا يتوكّلون، ولا يصلّون إذا غابوا، ولا يؤدّون زكاة أموالهم، فأخبر اللّه تعالى أنّهم ليسوا بمؤمنين، ثمّ وصف المؤمنين فقال: {إنّما المؤمنون الّذين إذا ذكر اللّه وجلت قلوبهم} فأدّوا فرائضه. {وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانًا} يقول: تصديقًا {وعلى ربّهم يتوكّلون} يقول: لا يرجون غيره.
وقال مجاهدٌ: {وجلت قلوبهم} فرقت، أي: فزعت وخافت. وكذا قال السّدّيّ وغير واحدٍ.
وهذه صفة المؤمن حقّ المؤمن، الّذي إذا ذكر اللّه وجل قلبه، أي: خاف منه، ففعل أوامره، وترك زواجره. كقوله تعالى: {والّذين إذا فعلوا فاحشةً أو ظلموا أنفسهم ذكروا اللّه فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذّنوب إلا اللّه ولم يصرّوا على ما فعلوا وهم يعلمون} [آل عمران: 135] وكقوله تعالى: {وأمّا من خاف مقام ربّه ونهى النّفس عن الهوى فإنّ الجنّة هي المأوى} [النّازعات: 40، 41] ولهذا قال سفيان الثّوريّ: سمعت السّدّيّ يقول في قوله تعالى: {إنّما المؤمنون الّذين إذا ذكر اللّه وجلت قلوبهم}
قال: هو الرّجل يريد أن يظلم -أو قال: يهمّ بمعصيةٍ- فيقال له: اتّق اللّه فيجل قلبه.
وقال الثّوريّ أيضًا: عن عبد اللّه بن عثمان بن خثيمٍ، عن شهر بن حوشبٍ، عن أمّ الدّرداء في قوله: {إنّما المؤمنون الّذين إذا ذكر اللّه وجلت قلوبهم} قالت: الوجل في القلب إحراق السّعفة، أما تجد له قشعريرةً؟ قال: بلى. قالت لي: إذا وجدت ذلك فادع اللّه عند ذلك، فإنّ الدّعاء يذهب ذلك.
وقوله: {وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانًا [وعلى ربّهم يتوكّلون]} كقوله: {وإذا ما أنزلت سورةٌ فمنهم من يقول أيّكم زادته هذه إيمانًا فأمّا الّذين آمنوا فزادتهم إيمانًا وهم يستبشرون} [التّوبة: 124]
وقد استدلّ البخاريّ وغيره من الأئمّة بهذه الآية وأشباهها، على زيادة الإيمان وتفاضله في القلوب، كما هو مذهب جمهور الأمّة، بل قد حكى الإجماع على ذلك غير واحدٍ من الأئمّة، كالشّافعيّ، وأحمد بن حنبلٍ، وأبي عبيدٍ، كما بيّنّا ذلك مستقصًى في أوّل الشّرح البخاريّ، وللّه الحمد والمنّة.
{وعلى ربّهم يتوكّلون} أي: لا يرجون سواه، ولا يقصدون إلّا إيّاه، ولا يلوذون إلّا بجنابه، ولا يطلبون الحوائج إلّا منه، ولا يرغبون إلّا إليه، ويعلمون أنّه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنّه المتصرّف في الملك، وحده لا شريك له، ولا معقّب لحكمه، وهو سريع الحساب؛ ولهذا قال سعيد بن جبيرٍ: التّوكّل على اللّه جماع الإيمان). [تفسير القرآن العظيم: 4/ 11-12]

تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله {الّذين يقيمون الصّلاة وممّا رزقناهم ينفقون} ينبّه بذلك على أعمالهم، بعد ما ذكر اعتقادهم، وهذه الأعمال تشمل أنواع الخير كلّها، وهو إقامة الصّلاة، وهو حقّ اللّه تعالى.
وقال قتادة: إقامة الصّلاة: المحافظة على مواقيتها ووضوئها، وركوعها، وسجودها.
وقال مقاتل بن حيّان: إقامتها: المحافظة على مواقيتها، وإسباغ الطّهور فيها، وتمام ركوعها وسجودها، وتلاوة القرآن فيها، والتّشهّد والصّلاة على النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، هذا إقامتها.
والإنفاق ممّا رزقهم اللّه يشمل خراج الزّكاة، وسائر الحقوق للعباد من واجبٍ ومستحبٍّ، والخلق كلّهم عيال اللّه، فأحبّهم إلى اللّه أنفعهم لخلقه.
قال قتادة في قوله {وممّا رزقناهم ينفقون} فأنفقوا ممّا أعطاكم اللّه، فإنّما هذه الأموال عواريٌّ وودائع عندك يا ابن آدم، أوشكت أن تفارقها). [تفسير القرآن العظيم: 4/ 12]

تفسير قوله تعالى: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله {أولئك هم المؤمنون حقًّا} أي: المتّصفون بهذه الصّفات هم المؤمنون حق الإيمان.
وقال الحافظ أبو القاسم الطّبرانيّ: حدّثنا محمّد بن عبد اللّه الحضرميّ، حدّثنا أبو كريب، حدّثنا زيد بن الحباب، حدّثنا ابن لهيعة، عن خالد بن يزيد السّكسكيّ، عن سعيد بن أبي هلالٍ، عن محمّد بن أبي الجهم، عن الحارث بن مالكٍ الأنصاريّ؛ أنّه مرّ برسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال له: "كيف أصبحت يا حارث؟ " قال: أصبحت مؤمنًا حقًّا. قال: "انظر ماذا تقول، فإنّ لكلّ شيءٍ حقيقةً، فما حقيقة إيمانك؟ " فقال: عزفت نفسي عن الدّنيا، فأسهرت ليلي، وأظمأت نهاري، وكأنّي أنظر إلى عرش ربّي بارزًا، وكأنّي أنظر إلى أهل الجنّة يتزاورون فيها، وكأنّي أنظر إلى أهل النّار يتضاغون فيها، فقال: "يا حارث، عرفت فالزم" ثلاثًا
وقال عمرو بن مرّة في قوله: {أولئك هم المؤمنون حقًّا} إنّما أنزل القرآن بلسان العرب، كقولك: فلانٌ سيّدٌ حقًّا، وفي القوم سادةٌ، وفلانٌ تاجرٌ حقًّا، وفي القوم تجّارٌ، وفلانٌ شاعرٌ حقًّا، وفي القوم شعراء.
وقوله: {لهم درجاتٌ عند ربّهم} أي: منازل ومقاماتٌ ودرجاتٌ في الجنّات، كما قال تعالى: {هم درجاتٌ عند اللّه واللّه بصيرٌ بما يعملون} [آل عمران: 163]
{ومغفرةٌ} أي: يغفر لهم السّيّئات، ويشكر لهم الحسنات.
وقال الضّحّاك في قوله: {لهم درجاتٌ عند ربّهم} أهل الجنّة بعضهم فوق بعضٍ، فيرى الّذي هو فوق فضله على الّذي هو أسفل منه، ولا يرى الّذي هو أسفل أنّه فضّل عليه أحدٌ.
ولهذا جاء في الصّحيحين أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "إنّ أهل علّيين ليراهم من أسفل منهم كما ترون الكوكب الغابر في أفقٍ من آفاق السّماء"، قالوا يا رسول اللّه، تلك منازل الأنبياء، لا ينالها غيرهم؟ فقال: "بلى، والّذي نفسي بيده رجالٌ آمنوا باللّه وصدّقوا المرسلين"
وفي الحديث الآخر الّذي رواه الإمام أحمد [و] أهل السّنن من حديث عطية، عن أبي سعيدٍ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "إنّ أهل الجنّة ليتراءون أهل الدّرجات العلى كما ترون الكوكب الغابر في أفق السّماء، وإنّ أبا بكرٍ وعمر منهم وأنعما").[تفسير القرآن العظيم: 4/ 12-13]


رد مع اقتباس