عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 14 رمضان 1438هـ/8-06-2017م, 11:00 AM
جمهرة علوم العقيدة جمهرة علوم العقيدة غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: May 2017
المشاركات: 1,193
افتراضي

بَيَانِ بَعْضِ مَا تَضَمَّنَهُ خَتْمُ الآياتِ بالأسماءِ والصِّفَاتِ مِن الفَوائِدِ الجَلِيلَةِ واللَّطَائِفِ البَدِيعَةِ

قال ابن القيم محمد بن أبي بكر الزرعي الدمشقي (ت:751هـ) كما في المرتبع الأسنى
: (البابُ الثامنَ عشرَ: فِي بَيَانِ بَعْضِ مَا تَضَمَّنَهُ خَتْمُ الآياتِ بالأسماءِ والصِّفَاتِ مِن الفَوائِدِ الجَلِيلَةِ واللَّطَائِفِ البَدِيعَةِ
(إذا تَأَمَّلْتَ خَتْمَ الآياتِ بالأسماءِ والصفاتِ وَجَدتَ كَلامَهُ مختَتَماً بذكرِ الصِّفَةِ التي يقتضيها ذلكَ المقامُ، حتَّى كأنَّها ذُكرت دليلاً عليهِ ومُوجِبةً لهُ، وهذا كقولِهِ [تعالى]...: {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96)} [الأنعام: 96] في عِدَّةِ مواضعَ مِن القرآنِ، يَذْكُرُ ذلكَ عَقِيبَ ذِكْرِهِ الأجرامَ العُلويَّةَ وما تَضَمَّنَهُ مِنْ فَلْقِ الإصباحِ، وجَعْلِ الليلِ سَكَناً، وإجراءِ الشمسِ والقمرِ بحسابٍ لا يَعْدُوَانِهِ، وتَزيينِ السماءِ بالنجومِ وحراستِها. وأَخْبَرَ أنَّ هذا التقديرَ الْمُحْكَمَ الْمُتْقَنَ صادرٌ عنْ عِزَّتِهِ وعِلْمِهِ، ليسَ أمْراً اتِّفاقيًّا لا يُمْدَحُ بهِ فاعلُهُ , ولا يُثْنَى عليهِ بهِ كسائرِ الأمورِ الاتِّفاقيَّةِ.
ومِنْ هذا خَتْمُهُ سبحانَهُ قَصَصَ الأنبياءِ وأُمَمِهِم في سورةِ الشعراءِ عَقِيبَ كلِّ قِصَّةٍ: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)} [الشعراء: 9] فإنَّ ما حَكَمَ بهِ لرُسلِهِ وأَتباعِهِمْ ولأعدائِهم صادرٌ عنْ عِزَّةٍ ورَحمةٍ،فوَضَعَ الرحمةَ في مَحَلِّهَا وانتقَمَ مِنْ أعدائِهِ بعِزَّتِهِ، ونَجَّى رُسُلَهُ وأَتباعَهُمْ برَحمتِهِ) ([1]).
([وكذلك] إخبارُهُ عنْ صدورِ الخلْقِ والأمْرِ عنْ حِكمتِهِ وعِلْمِهِ. فيَذْكُرُ هذينِ الاسمينِ عندَ ذِكْرِ مَصدرِ خَلْقِهِ وشَرْعِهِ تَنبيهاً على أنهما إِنَّمَا صَدَرَا عنْ حِكمةٍ مقصودةٍ مُقارِنَةٍ للعلْمِ المحيطِ التامِّ. لقولـِهِ: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآَنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6)} [النمل: 6]، وقولِهِ: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1)} [الزمر: 1]. فذَكَرَ العزَّةَ الْمُتَضَمِّنَةَ لكمالِ القُدرةِ والتصَرُّفِ، والحكمةَ الْمُتَضَمِّنَةَ لكمالِ الحمدِ والعلْمِ. وقولِهِ: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)} [المائدة: 38] وسمِعَ بعضُ الأعرابِ قَارئاً يَقْرَأُها: "واللهُ غفورٌ رحيمٌ" فقالَ: ليسَ هذا كلامَ اللهِ.
فقيلَ: أتُكَذِّبُ بالقرآنِ؟ فقالَ: لا، ولكن لا يَحْسُنُ هذا. فرَجَعَ القارئُ إلى حِفْظِهِ فقالَ: {عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)}، فقالَ: صَدَقْتَ) ([2]).
(ولهذا؛ كثيراً ما يَقْرِنُ تعالى بينَ هذينِ الاسمينِ "العزيزِ الحكيمِ" في آياتِ التشريعِ والتكوينِ والجزاءِ؛ لتَدُلَّ عِبادَهُ على أنَّ مَصدرَ ذلكَ كلِّهِ عنْ حِكمةٍ بالغةٍ، وعِزَّةٍ قَاهرةٍ) ([3]).
([وكذلك] جوابُهُ - سُبحانَهُ- لِمَنْ سَأَلَ عن التخصيصِ والتمييزِ الواقعِ في أفعالِهِ بأنَّهُ لحِكمةٍ يَعْلَمُها هوَ سُبحانَهُ، وإن كانَ السائلُ لا يَعْلَمُها، كما أَجابَ الملائكةَ لَمَّا قالَ لهم: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] فقالوا: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة: 30] فأجابَهم بقولِهِ: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)} [البقرة: 30]... و... كانَ سؤالُهم إِنَّمَا وَقَعَ عنْ وَجهِ الْحِكمةِ، لم يَكن اعتراضاً على الربِّ تعالى.
ومِنْ هذا قولُهُ تعالى: {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آَيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124] فأجابَهم بأنَّ حِكمتَهُ وعِلْمَهُ يَأْبَى أن يَضَعَ رسالاتِهِ في غيرِ مَحَلِّها وعندَ غيرِ أهلِها... وكذلكَ قولُهُ: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)} [الأنعام: 53] فلَمَّا سَأَلُوا عن التخصيصِ بمشيئةِ اللهِ وأَنْكَرُوا ذلكَ أُجِيبُوا بأنَّ اللهَ أَعْلَمُ بِمَنْ يَصْلُحُ لمشيئتِهِ، وهوَ أَهْلٌ لها، وهم الشاكرونَ الذينَ يَعرفونَ قَدْرَ النعمةِ ويَشكرونَ عليها المنْعِمَ. فهؤلاءِ يَصْلُحُونَ لمشيئتِهِ... ولهذا يَذكرُ سُبحانَهُ صِفةَ العلْمِ حيث يَذْكُرُ التخصيصَ والتفصيلَ بينَهما على أنَّهُ إِنَّمَا حَصَلَ بعِلْمِهِ سُبحانَهُ بما في التخصيصِ المفَصَّلِ مِمَّا يَقتضِي تَخصيصَهُ وتَفصيلَهُ، وهوَ الذي جَعَلَهُ أَهْلاً لذلكَ. كما قالَ تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81)} [الأنبياء: 81] فذَكَرَ عِلْمَهُ عَقِيبَ ذِكْرِ تَخصيصِهِ سليمانَ بتَسخيرِ الريحِ لهُ وتخصيصِهِ الأرضَ المذكورةَ بالبَرَكَةِ.
ومنهُ قولُهُ: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97)} [المائدة: 97] فذَكَرَ صفةَ العلْمِ التي اقْتَضَتْ تَخصيصَ هذا المكانِ وهذا الزمانِ بأمْرٍ اخْتُصَّا بهِ دونَ سائرِ الأمكنةِ والأزمنةِ.
ومِنْ ذلكَ قولُهُ سبحانَهُ: {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26)} [الفتح: 26] فأَخْبَرَ أنَّهُ وَضَعَ هذهِ الكلمةَ عندَ أهلِها ومَنْ هُمْ أحقُّ بها، وأنَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يَسْتَحِقُّها مِنْ غيرِهم) ([4]).

[فصلٌ]:
(ومِنْ ذلكَ احتجاجُهُ سبحانَهُ على إثباتِ عِلْمِهِ بالجزئيَّاتِ كلِّها بأَحسنِ دليلٍ وأوضَحِهِ وأَصَحِّهِ حيث يقولُ: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13)} [الملك: 13]، ثُمَّ قَرَّرَ عِلْمَهُ بذلكَ بقولِهِ: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)} [الملك: 14].
وهذا مِنْ أبلغِ التقريرِ، فإنَّ الخالقَ لا بُدَّ أن يَعلمَ مخلوقَهُ، والصانعَ يَعلمُ مَصنوعَهُ، وإذا كنتمْ مُقِرِّينَ بأنَّهُ خالقُكم وخالِقُ صدورِكم وما تَضَمَّنَتْهُ فكيفَ تَخْفَى عليهِ وهيَ خَلْقُهُ.
وهذا التقريرُ مما يَصْعُبُ على القدَرِيَّةِ فَهْمُهُ، فإنَّهُ لم يَخْلُقْ عندَهم ما في الصدورِ، فلم يكنْ في الآيَةِ على أصولِهم دليلٌ على عِلْمِهِ بها، ولهذا طَرَدَ غُلاةُ القومِ ذلكَ، ونَفَوْا عِلْمَهُ فأَكْفَرَهُم السلَفُ قاطِبَةً.
وهذا التقريرُ مِن الآيَةِ صحيحٌ على التقديرينِ؛ أَعْنِي تقديرَ أن تكونَ “ مَنْ “ في مَحَلِّ رَفْعٍ على الفاعليَّةِ، وفي مَحَلِّ نَصْبٍ على المفعوليَّةِ:
- فعلى التقديرِ الأوَّلِ: ألا يَعلمُ الخالقُ الذي شأنُهُ الخلْقُ.
- وعلى التقديرِ الثاني: ألا يَعلمُ الربُّ مخلوقَهُ ومصنوعَهُ.
ثُمَّ ختَمَ الْحُجَّةَ باسمينِ مُقْتَضِيَيْنِ لثُبوتِها وهما: ((اللطيفُ)) الذي لَطُفَ صُنْعُهُ وحكمتُهُ ودَقَّ حتَّى عَجَزَتْ عنهُ الأفهامُ، و ((الخبيرُ)) الذي انتهى عِلْمُهُ إلى الإحاطةِ ببَواطنِ الأشياءِ وخفاياها، كما أحاطَ بظواهرِها، فكيفَ يَخْفَى على اللطيفِ الخبيرِ ما تَحويهِ الضمائرُ وتُخفيهِ الصدورُ) ([5]).
(وكذلكَ قولُهُ: {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13)} [الملك: 13]، ليسَ المرادُ بهِ: عليماً بمُجَرَّدِ الصدورِ، فإنَّ هذا ليسَ فيهِ كبيرُ أمْرٍ، وهوَ بمنـزِلَةِ أن يُقالَ: عليمٌ بالرؤوسِ والظهورِ والأيدي والأَرْجُلِ، وإِنَّمَا المرادُ بهِ: عليمٌ بما تُضْمِرُهُ الصدورُ مِنْ خيرٍ وشَرٍّ؛ أيْ: بالأسرارِ التي في الصدورِ وصاحبةِ الصدورِ، فأضافَ إليها بلفْظٍ يَعُمُّ جميعَ ما في الصدورِ مِنْ خيرٍ وشَرٍّ) ([6]).

[فصلٌ]:
(و [كذلك] قولُهُ: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)} [البقرة: 226-227] فخَتَمَ حُكْمَ الفَيْءِ - الذي هوَ الرجوعُ والعَوْدُ إلى رِضَى الزوجةِ والإحسانِ إليها- بأنَّهُ ((غفورٌ رحيمٌ)) يعودُ على عَبْدِهِ بمغفرتِهِ ورحمتِهِ إذا رَجَعَ إليهِ، والجزاءُ مِنْ جِنْسِ العَمَلِ، فكما رَجَعَ إلى التي هيَ أَحسنُ رَجَعَ اللهُ إليهِ بالمغفرةِ والرحمةِ.
{وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)} [البقرة: 227] فإنَّ الطلاقَ لَمَّا كانَ لفظاً يُسْمَعُ ومعنًى يُقْصَدُ، عَقَّبَهُ باسمِ ((السميعِ)) للنُّطْقِ بهِ ((العليم))ِ بمضمونِهِ.
((و[لَمَّا كانت] حركةُ اللسانِ بالكلامِ أعظمَ حركاتِ الجوارحِ وأشدَّها تأثيراً في الخيرِ والشرِّ والصلاحِ والفسادِ، بلْ عامَّةُ ما يَترتَّبُ في الوجودِ مِن الأفعالِ إِنَّمَا يَنْشَأُ بعدَ حركةِ اللسانِ... كانَ تقديمُ الصفةِ المتعلِّقَةِ بهِ [وهي(السمْعُ)] أهَمُّ وأَوْلَى،وبهذا يُعْلَمُ تقديمُهُ على ((العليمِ)) حيث وَقَعَ)) ([7]).
وكقولِهِ تعالى: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)} [البقرة: 235] .
فلَمَّا ذَكَرَ سبحانَهُ التعريضَ بخِطْبَةِ المرأةِ الدالِّ على أن المُعَرِّضَ في قلبِهِ رَغبةٌ فيها ومَحَبَّةٌ لها، وأنَّ ذلكَ يَحْمِلُهُ على الكلامِ الذي يَتَوَصَّلُ بهِ إلى نِكاحِها، رَفَعَ الجُناحَ عن التعريضِ وانطواءِ القلبِ على ما فيهِ مِن الْمَيْلِ والْمَحَبَّةِ، ونَفَى مُواعدَتَهُم سِرًّا، فقيلَ:
- هوَ النِّكاحُ، والمعنى: لا تُصَرِّحوا لهنَّ بالتزويجِ إلاَّ أن تُعَرِّضُوا تَعْرِيضاً، وهوَ القولُ المعروفُ.
- وقيلَ: هوَ أن يَتَزَوَّجَها في عِدَّتِها سرًّا، فإذا انْقَضَت العِدَّةُ أَظْهَرَ العَقْدَ، ويَدُلُّ على هذا قولُهُ: {وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [البقرة: 235] وهوَ انقضاءُ العِدَّةِ.
ومَنْ رَجَّحَ القولَ الأوَّلَ قالَ: دَلَّت الآيَةُ على إباحةِ التعريضِ بنَفْيِ الْجُناحِ، وتحريمِ التصريحِ بنفيِ الْمُواعَدَةِ سِرًّا، وتحريمِ عقْدِ النِّكاحِ قبلَ انقضاءِ العِدَّةِ، فلوْ كانَ معنى مُواعَدَةِ السرِّ هوَ إسرارَ العقْدِ كانَ تَكراراً.
ثُمَّ عَقَّبَ ذلكَ بقولِهِ: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} [البقرة: 235] أن تَتَعَدَّوا ما حَدَّ لكم، فإنَّهُ مُطَّلِعٌ على ما تُسِرُّونَ وما تُعلنونَ، ثُمَّ قالَ: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)} [البقرة: 235] لولا مَغفرتُهُ وحِلْمُهُ لعَنِتُّمْ غايَةَ العَنَتِ، فإنَّهُ سُبحانَهُ مُطَّلِعٌ عليكم يَعلمُ ما في قلوبِكم، ويَعلمُ ما تَعملونَ.
فإن وَقَعْتُمْ في شيءٍ مما نَهَاكُمْ عنهُ فبَادِرُوا إليهِ بالتوبةِ والاستغفارِ، فإنَّهُ الغفورُ الحليمُ.
وهذه طريقةُ القرآنِ يَقْرِنُ بينَ أسماءِ الرَّجَاءِ وأسماءِ المخافةِ كقولِهِ تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98)} [المائدة: 98]، وقالَ أهلُ الْجَنَّةِ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34)} [فاطر: 34] لَمَّا صَارُوا إلى كرامتِهِ بِمَغفرتِهِ ذنوبَهم، وشُكْرِهِ إحسانَهم قالوا: {إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34)} وفي هذا معنى التعليلِ؛ أيْ: بمغفرتِهِ وشُكْرِهِ وَصَلْنَا إلى دارِ كَرامتِهِ، فإنَّهُ غَفَرَ لنا السيِّئَاتِ، وشَكَرَ لنا الحسناتِ، وقالَ تعالى: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)} [النساء: 147] فهذا جزاءٌ لشُكرِهم؛ أيْ: إنْ شَكَرْتُمْ ربَّكمْ شَكَرَكُمْ، وهوَ عليمٌ بشُكرِكم لا يَخْفَى عليهِ مَنْ شَكَرَهُ مِمَّنْ كَفَرَهُ.
والقرآنُ مَملوءٌ مِنْ هذا، والمقصودُ التنبيهُ عليه) ([8]).
([وقد] جَرَتْ عادةُ القرآنِ بتهديدِ المخاطبينَ وتَحذيرِهم بما يَذْكُرُهُ مِنْ صفاتِهِ التي تَقتضِي الحذَرَ والاستقامةَ كقولِهِ: {فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)}[البقرة: 209] وقولِهِ: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134)} [النساء: 134] والقرآنُ مَملوءٌ مِنْ هذا؛ وعلى هذا فيكونُ في ضِمْنِ ذلكَ أَنِّي أَسمَعُ ما يَرُدُّونَ بهِ عليكَ، وما يُقابِلُونَ بهِ رِسالاتِي، وأُبْصِرُ ما يَفعلونَ) ([9]).
(ومِنْ هاهنا كانَ قولُ المسيحِ عليهِ السلامُ: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)} [المائدة: 118] أَحسنَ مِنْ أن يقولَ: وإن تَغفرْ لهم فإنكَ أنت الغفورُ الرحيمُ. أيْ: إن غَفرتَ لهم كانَ مَصدرُ مَغفرتِكَ عنْ عِزَّةٍ، وهيَ كمالُ القُدرةِ، وعنْ حِكمةٍ، وهيَ كمالُ العِلْمِ. فمَنْ غَفَرَ عنْ عَجْزٍ وجَهْلٍ بِجُرْمِ الجانِي، فأنتَ لا تَغفرُ إلاَّ عنْ قُدرةٍ تامَّةٍ، وعِلْمٍ تامٍّ، وحِكمةٍ تَضَعُ بها الأشياءَ مَواضعَها. فهذا أَحسنُ مِنْ ذِكْرِ ((الغفورِ الرحيمِ)) في هذا الموضعِ الدالِّ ذِكْرُهُ على التعريضِ بطَلَبِ المغفرةِ في غيرِ حِينِها، وقدْ فاتَتْ، فإنَّهُ لوْ قالَ: وإن تَغفرْ لهم فإنكَ أنتَ الغفورُ الرحيمُ. كانَ في هذا - مِن الاستعطافِ والتعريضِ بطَلَبِ الْمَغفرةِ لِمَنْ لا يَسْتَحِقُّها - ما يُنَـزَّهُ عنهُ مَنصبُ المسيحِ عليهِ السلامُ، لا سِيَّمَا والموقِفُ مَوقفُ عَظمةٍ وجلالٍ، ومَوقفُ انتقامٍ مِمَّنْ جَعَلَ للهِ وَلَداً، واتَّخَذَهُ إلهاً مِنْ دونِهِ. فذِكْرُ العِزَّةِ والحِكمةِ فيهِ أَلْيَقُ مِنْ ذِكْرِ الرحمةِ والمغفرةِ ([10]).
وهذا بخلافِ قولِ الخليلِ عليهِ السلامُ: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36)} [إبراهيم: 35-36] ولم يَقُلْ: فإنكَ عزيزٌ حكيمٌ؛ لأنَّ المقامَ مَقامُ استعطافٍ وتعريضٍ بالدعاءِ؛ أيْ: إن تَغْفِرْ لهم وتَرْحَمْهُم، بأنْ تُوَفِّقَهم للرجوعِ مِن الشرْكِ إلى التوحيدِ، ومِن المعصيَةِ إلى الطاعةِ، كما في الحديثِ: ((اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ)) ([11]).
وفي هذا أَظهرُ الدَّلالةِ على أنَّ أسماءَ الربِّ تعالى مُشْتَقَّةٌ مِنْ أوصافٍ ومَعانٍ قامَتْ بهِ، وأنَّ كلَّ اسمٍ يُناسِبُ ما ذُكِرَ معه، واقْتَرَنَ بهِ، مِنْ فِعْلِهِ وأَمْرِهِ. واللهُ الْمُوَفِّقُ للصَّوابِ) ([12]).

[فصلٌ]:
(و[كذلكَ قولُه] تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261)} [البقرة: 261]... [فـ]خَتَمَ الآيَةَ باسمينِ مِنْ أسمائِهِ الْحُسْنَى مُطابِقَيْنِ لسِياقِها، وهما الواسعُ العليمُ، فلا يَسْتَبْعِدُ العبدُ هذهِ المضاعَفَةَ ولا يَضيقُ عنها عَطَنُهُ، فإنَّ المضاعِفَ سُبحانَهُ واسعُ العطاءِ واسعُ الغِنَى واسعُ الفَضْلِ، ومعَ ذلكَ فلا يَظُنُّ أنَّ سَعةَ عطائِهِ تَقتضِي حُصُولَها لكلِّ مُنْفِقٍ، فإنَّهُ عليمٌ بِمَنْ تَصْلُحُ لهُ هذهِ المضاعَفَةُ وهوَ أَهلٌ لها، ومَنْ لا يَسْتَحِقُّها ولا هوَ أهلٌ لها، فإنَّ كَرَمَهُ سُبحانَهُ وفَضلَهُ لا يُناقِضُ حِكمتَهُ , بلْ يَضَعُ فَضْلَهُ مَواضِعَهُ لسَعَتِهِ ورَحمتِهِ، ويَمْنَعُهُ مَنْ ليسَ مِنْ أهلِهِ بحِكمتِهِ وعِلْمِهِ)([13])
(ثم قالَ تعالى: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263)} [البقرة: 263] فأَخْبَرَ سبحانَهُ أنَّ القولَ المعروفَ وهوَ الذي تَعرفُهُ القلوبُ ولا تُنكِرُهُ، والمغفرةَ وهيَ العفوُ عمَّنْ أساءَ إليكَ خيرٌ مِن الصدقةِ المقرونةِ بالأَذَى.
فالقولُ المعروفُ إحسانٌ وصَدَقَةٌ بالقولِ، والمغفرةُ إحسانٌ بترْكِ المؤاخذةِ والمقابَلَةِ، فهما نوعانِ مِنْ أنواعِ الإحسانِ، والصدقةُ المقرونةُ بالأَذَى حَسنةٌ مَقرونةٌ بما يُبْطِلُها، ولا ريبَ أنَّ حَسنتينِ خيرٌ مِنْ حسنةٍ باطلةٍ.
ويَدْخُلُ في هذا القولِ المعروفِ: الردُّ الجميلُ على السائلِ، والعِدَةُ الحسنةُ، والدعاءُ الصالحُ لهُ، ونحوُ ذلكَ. ويَدخلُ في المغفرةِ: مَغفرتُهُ للسائلِ إذا وُجِدَ منهُ بعضُ الْجَفوةِ والأَذى بسببِ رَدِّهِ، فيكونُ عَفوُهُ عنهُ خيراً مِنْ أن يَتَصَدَّقَ عليهِ ويُؤذِيَهُ. هذا على المشهورِ مِن القولينِ في الآيَةِ...
ثُمَّ ختَمَ الآيَةَ بصِفتينِ مُناسبتينِ لِمَا تَضَمَّنَتْهُ فقالَ: {وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263)}، وفيهِ معنيانِ:
- أحدُهما: أنَّ اللهَ غَنِيٌّ عنكم لن يَنالَهُ شيءٌ مِنْ صَدَقَاتِكم، وإِنَّمَا الحظُّ الأوفرُ لكم في الصدَقَةِ فنَفْعُها عائدٌ عليكمْ لا إليهِ سُبحانَهُ وتعالى. فكيفَ يَمُنُّ بنفقتِهِ ويُؤذِي معَ غِنَى اللهِ التامِّ عنها وعنْ كلِّ ما سِواهُ، ومعَ هذا فهوَ حليمٌ إذ لم يُعاجِل المانَّ بالعقوبةِ. وضَمَّنَ هذا الوعيدَ لهُ والتحذيرَ.
- والمعنى الثاني: أنَّهُ سبحانَهُ وتعالى معَ غِناهُ التامِّ مِنْ كلِّ وَجهٍ فهوَ الموصوفُ بالحلْمِ والتجاوُزِ والصفْحِ، معَ عطائِهِ الواسعِ وصَدقاتِهِ العميقةِ. فكيفَ يُؤْذِي أحدُكم بِمَنِّهِ وأذاهُ، معَ قِلَّةِ ما يُعْطِي ونَـزَارَتِهِ، وفَقْرِه) ([14]).
[وكذلكَ قولُهُ تعالى]: ({يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآَخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)} [البقرة: 267] أضافَ –سُبحانَه- الكسْبَ إليهم وإن كانَ هوَ الخالقَ لأفعالِهم؛ لأنَّهُ فِعْلُهم القائمُ بهم، وأَسْنَدَ الإخراجَ إليهِ؛ لأنَّهُ ليسَ فِعْلاً لهم، ولا هوَ مَقدورٌ لهم. فأضافَ مَقدورَهم إليهم، وأضافَ مفعولَهُ الذي لا قُدرةَ لهم عليهِ إليهِ، ففي ضِمْنِهِ الردُّ على مَنْ سَوَّى بينَ النوعينِ، وسَلَبَ قُدرةَ العبْدِ وفِعْلَهُ وتأثيرَهُ عنهما بالكُلِّيَّةِ.
ثُمَّ ختَمَ [الآيَةَ] بصفتينِ يَقتضيهِمَا [السِّياقُ] فقالَ: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)} [البقرة: 267] فغِنَاهُ وحَمْدُهُ يَأْبَى قَبولَ الرديءِ الخبيثِ. فإنَّ قابِلَ الرديءِ الخبيثِ إمَّا أن يَقبلَهُ لحاجتِهِ إليهِ، وإما أنَّ نَفْسَهُ لا تَأباهُ لعَدَمِ كمالِها وشَرَفِها، وأمَّا الغنيُّ عنهُ الشريفُ القدْرِ الكاملُ الأوصافِ فإنَّهُ لا يَقْبَلُهُ.
ثُمَّ قالَ تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268)} [البقرة: 268]، هذهِ الآيَةُ تَتَضَمَّنُ الحضَّ على الإنفاقِ والحثَّ عليهِ بأبلَغِ الألفاظِ وأحسنِ المعاني، فإنَّها اشْتَمَلَتْ على بيانِ الداعي إلى البُخْلِ والداعي إلى البَذْلِ والإنفاقِ، وبيانِ ما يَدعوهُ إليهِ داعي البُخلِ، وما يَدعو إليهِ داعي الإنفاقِ، وبيانِ ما يَدعو إليهِ داعي الأمرينِ.
فأَخْبَرَ سبحانَهُ أنَّ الذي يَدعوهم إلى البُخْلِ والشُّحِّ هوَ الشيطانُ، وأَخْبَرَ أنَّ دعوتَهُ هيَ بما يَعِدُهم بهِ ويُخَوِّفُهم مِن الفقْرِ إن أَنْفَقُوا أموالَهم، وهذا الداعي هوَ الغالبُ على الخلْقِ، فإنَّهُ يَهُمُّ بالصدَقَةِ والبذْلِ فيَجِدُ في قلبِهِ داعياً يقولُ لهُ: متى أَخْرَجْتَ هذا دَعَتْكَ الحاجةُ إليهِ وافْتَقَرْتَ بعدَ إخراجِهِ، وإمساكُهُ خيرٌ لكَ حتَّى لا تَبْقَى مثلَ الفقيرِ، فَغِنَاكَ خيرٌ لكَ مِنْ غناهُ.!!
فإذا صَوَّرَ لهُ هذهِ الصورةَ أَمَرَهُ بالفحشاءِ، وهيَ البُخلُ الذي هوَ مِنْ أَقبحِ الفواحشِ، وهذا إجماعٌ مِن المفَسِّرِينَ أنَّ الفحشاءَ هنا البُخْلُ.
فهذا وَعْدُهُ وهذا أَمْرُهُ وهوَ الكاذبُ في وَعْدِهِ، الغارُّ الفاجرُ في أَمْرِهِ. فالمستجيبُ لدعوتِهِ مغرورٌ مَخدوعٌ مَغبونٌ، فإنَّهُ يُدَلِّي مَنْ يَدعوهُ بغُرورٍ، ثُمَّ يُورِدُهُ شَرَّ المواردِ، كما قالَ:
دَلاَّهمُ بغرورٍ ثُمَّ أَوْرَدَهمْ = إنَّ الخبيثَ لِمَنْ وَالاهُ غَرَّارُ
هذا وإنَّ وَعْدَهُ لهُ الفقرَ ليسَ شَفقةً عليهِ، ولا نصيحةً لهُ [كما] يَنصحُ الرجلُ أخاهُ، ولا مَحبةً في بقائِهِ غَنِيًّا. بلْ لا شيءَ أحبُّ إليهِ مِنْ فقرِهِ وحاجتِهِ، وإِنَّمَا وَعْدُهُ لهُ بالفقرِ، وأَمْرُهُ إيَّاهُ بالبُخلِ ليُسيءَ ظَنَّهُ برَبِّهِ، ويَتركَ ما يُحِبُّهُ مِن الإنفاقِ لوجهِهِ فيَستوجبَ منهُ الْحِرمانَ.
وأمَّا اللهُ سبحانَهُ فإنَّهُ يَعِدُ عبدَهُ مَغفرةً منهُ لذنوبِهِ، وفَضْلاً بأن يُنفقَ عليهِ أَكثرَ مِمَّا أَنْفَقَ وأضعافَهُ إمَّا في الدنيا وإما في الآخرةِ.
فهذا وَعدُ اللهِ، وذاكَ وَعدُ الشيطانِ، فلْيَنْظُر البخيلُ والمنفِقُ أيُّ الوعدينِ هوَ أَوْثَقُ، وإلى أيِّهما يَطْمَئِنُّ قلبُهُ وتَسْكُنُ نفسُهُ؟ واللهُ يُوَفِّقُ مَنْ يشاءُ ويَخْذُلُ مَنْ يشاءُ، وهوَ الواسعُ العليمُ.
وتَأَمَّلْ كيفَ ختَمَ هذهِ الآيَةَ بهذينِ الاسمينِ، فإنَّهُ واسعُ العطاءِ عليمٌ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ فضْلَهُ ومَنْ يَسْتَحِقُّ عَدْلَهُ، فيُعطي هذا بفضلِهِ ويَمنعُ هذا بعَدْلِهِ وهوَ بكلِّ شيءٍ عليمٌ.
فتَأَمَّلْ هذهِ الآياتِ ولا تَسْتَطِلْ بَسْطَ الكلامِ فيها، فإنَّ لها شأناً لا يَعْقِلُهُ إلاَّ مَنْ عَقَلَ عن اللهِ خِطابَهُ وفَهِمَ مُرادَهُ {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43)} [العنكبوت: 43]) ([15]).

[فصلٌ]:
([ومِنْ ذلك] إخبارُهُ سبحانَهُ أنَّهُ على صراطٍ مستقيمٍ في مَوضعينِ مِنْ كتابِهِ: -
- أحدُهما: قولُهُ حاكياً عنْ نَبِيِّهِ هُودٍ: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)} [هود: 56].
- والثاني: قولُهُ: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76)} [النحل: 76].
قالَ أبو إسحاقَ: أَخْبَرَ أنَّهُ وإن كانتْ قُدرتُهُ تَنالُهم بما شاءَ فهوَ لا يَشاءُ إلاَّ العَدْلَ. قالَ ابنُ الأنباريِّ: لَمَّا قالَ: {إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} [هود: 56]كانَ في معنى: لا تَخْرُجُ عنْ قَبضتِهِ، قاهرٌ بعظيمِ سُلطانِهِ كلَّ دابَّةٍ، فأَتْبَعَ ذلكَ قولَهُ: {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)} [هود: 56] أيْ: إنَّهُ على الحقِّ. قالَ: وهذا نحوُ كلامِ العربِ إذا وَصَفُوا رَجُلاً حَسَنَ السيرةِ والعَدْلِ والإنصافِ قالوا: فلانٌ طريقُهُ حَسَنةٌ، وليسَ ثَمَّ طريقٌ.
وذُكِرَ في معنى الآيَةِ أقوالٌ أُخَرُ هيَ مِنْ لوازمِ المعنى وآثارِهِ. كقولِ بعضِهم: إنَّ ربِّي يَدُلُّ على صراطٍ مُستقيمٍ. فدَلالتُهُ على الصراطِ مِنْ مُوجِباتِ كونِهِ في نفسِهِ على صراطٍ مستقيمٍ؛ فإنَّ تلكَ الدَّلالةَ والتعريفَ مِنْ تَمامِ رَحمتِهِ وإحسانِهِ وعَدْلِهِ وحِكمتِهِ.
وقالَ بعضُهم: معناهُ لا يَخْفَى عليهِ شيءٌ ولا يَعْدِلُ عنهُ هاربٌ. وقالَ بعضُهم: المعنى: لا مَسْلَكَ لأحدٍ ولا طريقَ لهُ إلاَّ عليهِ كقولِهِ: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)} [الفجر: 14]. وهذا المعنى حقٌّ، ولكنَّ كونَهُ هوَ المرادَ بالآيَةِ ليسَ بالبَيِّنِ، فإنَّ الناسَ كلَّهم لا يَسْلُكونَ الصراطَ المستقيمَ حتَّى يقالَ: إنَّهُم يَصِلُونَ بسلوكِهِ إليهِ. ولَمَّا أرادَ سُبحانَهُ هذا المعنى قالَ: {إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} [يونس: 70]، {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25)} [الغاشيَة: 25]، {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)} [الفجر: 14]، {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42)} [النجم: 42].
وأمَّا وَصْفُهُ سبحانَهُ بأنَّهُ على صراطٍ مستقيمٍ، فهوَ كونُهُ يقولُ الحقَّ ويَفعلُ الصوابَ، فكلماتُهُ صِدْقٌ وعَدْلٌ كلُّهُ([16]) صوابٌ وخيرٌ {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4)} [الأحزاب: 4] فلا يقولُ إلاَّ ما يُحْمَدُ عليهِ لكونِهِ حَقًّا وعَدْلاً وصِدْقاً وحِكمةً في نفسِهِ. وهذا معروفٌ في كلامِ العربِ. قالَ جريرٌ يَمْدَحُ عمرَ بنَ عبدِ العزيزِ:

أميرُ المؤمنينَ على صِراطٍ إذا اعْوَجَّ المواردُ مستقيمِ

وإذا عُرِفَ هذا فمِنْ ضَرورةِ كونِهِ على صراطٍ مستقيمٍ أنَّهُ لا يَفعلُ شيئاً إلاَّ بحِكمةٍ يُحْمَدُ عليها، وغايَةٍ هيَ أَوْلَى بالإرادةِ مِنْ غيرِها. فلا تَخرجُ أفعالُهُ عن الحكمةِ والْمَصلحةِ والإحسانِ والرحمةِ والعَدْلِ والصوابِ، كما لا تَخرجُ أقوالُهُ عن العَدْلِ والصدْقِ) ([17]).

[فصلٌ]:
(وقالَ اللهُ تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآَخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2)} [سبأ: 1-2] )و[في] تقديمِ ((الرحيمِ)) على ((الغفورِ)) …معنًى…يَظهرُ لِمَنْ تَأَمَّلَ سِياقَ أوصافِهِ العُلَى وأسمائِهِ الْحُسْنى في أوَّلِ السورةِ إلى قولِهِ: {وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2)} [سبأ: 2] فإنَّهُ ابْتَدَأَ سُبحانَهُ السورةَ بِحَمْدِهِ الذي هوَ أَعَمُّ المعارِفِ وأَوْسَعُ العلومِ، وهوَ مُتَضَمِّنٌ لجميعِ صفاتِ كمالِهِ ونُعوتِ جَلالِهِ، مُستلزِمٌ لها كما هوَ مُتَضَمِّنٌ لِحِكمتِهِ في جميعِ أفعالِهِ وأوامرِهِ. فهوَ المحمودُ على كلِّ حالٍ وعلى كلِّ ما خَلَقَهُ وشَرَعَهُ. ثُمَّ عَقَّبَ هذا الحمدَ بِمُلْكِهِ الواسعِ الْمَديدِ فقالَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [سبأ: 1] ثُمَّ عَقَّبَهُ بأنَّ هذا الحمْدَ ثابتٌ لهُ في الآخرةِ غيرُ مُنقطِعٍ أَبَداً. فإنَّهُ حَمْدٌ يَسْتَحِقُّهُ لِذاتِهِ وكمالِ أوصافِهِ، وما يَسْتَحِقُّهُ لذاتِهِ دائمٌ بدَوامِهِ لا يَزولُ أَبَداً.
وقَرَنَ بينَ الْمُلْكِ والحمْدِ على عادتِهِ تعالى في كلامِهِ، فإنَّ اقترانَ أحدِهما بالآخَرِ لهُ كمالٌ زائدٌ على الكمالِ بكُلِّ واحدٍ منهما فلَهُ كمالٌ مِنْ مُلْكِهِ، وكمالٌ مِنْ حَمْدِهِ وكمالٌ مِن اقترانِ أحدِهما بالآخَرِ فإنَّ المُلْكَ بلا حَمْدٍ نَقْصٌ. والحَمْدَ بلا مُلْكٍ يَستلزِمُ عَجْزاً. والحمدَ معَ الْمُلكِ غايَةُ الكمالِ.
ونظيرُ هذا العِزَّةُ والرحمةُ، والعفوُ والقُدرةُ، والغِنَى والكرَمُ. فوَسَّطَ الْمُلْكَ بينَ الجملتينِ، فجَعَلَهُ مَحْفُوفاً بحَمْدٍ قَبْلَهُ وحَمْدٍ بعدَهُ.
ثُمَّ عَقَّبَ هذا الحمدَ والْمُلْكَ باسمِ ((الحكيمِ الخبيرِ)) الدالَّيْنِ على كمالِ الإرادةِ، وأنَّها لا تَتعلَّقُ بِمُرادٍ إلاَّ لحِكمةٍ بالغةٍ، وعلى كمالِ العلْمِ وأنَّهُ كما يَتعلَّقُ بظواهِرِ المعلوماتِ فهوَ مُتعلِّقٌ ببواطنِها التي لا تُدْرَكُ إلاَّ بخِبرةٍ. فنِسبةُ الحكمةِ إلى الإرادةِ كنِسبةِ الخبرةِ إلى العِلْمِ. فالمرادُ ظاهرٌ والحكمةُ باطِنُهُ، والعلْمُ ظاهرٌ والخبرةُ باطنُهُ. فكمالُ الإرادةِ أن تكونَ واقعةً على وجهِ الحكمةِ. وكمالُ العلْمِ أن يكونَ كاشفاً عن الخِبرةِ. فالخبرةُ باطنُ العلْمِ وكمالُهُ، والحكمةُ باطنُ الإرادةِ وكمالُها.
فتَضَمَّنَت الآيَةُ إثباتَ حَمْدِهِ ومُلْكِهِ وحِكمتِهِ وعِلْمِهِ على أَكملِ الوُجوهِ.
ثم ذَكَرَ تفاصيلَ عِلْمِهِ بما ظَهَرَ وما بَطَنَ في العالَمِ العُلويِّ والسُّفْلِيِّ فقالَ: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا}[سبأ: 2] ثُمَّ ختَمَ الآيَةَ بصفتينِ تَقتضيانِ غايَةَ الإحسانِ إلى خَلْقِهِ وهما الرحمةُ والمغفرةُ. فيَجلُبُ لهم الإحسانَ والنفْعَ على أَتَمِّ الوُجوهِ برحمتِهِ، ويَعفو عنْ زَلَّتِهِم ويَهَبُ لهم ذنوبَهم ولا يُؤاخذُهم بها بمغفرتِهِ، فقالَ: {وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2)} [سبأ: 2].
فتَضَمَّنَت الآيَةُ سَعةَ علْمِهِ ورَحمتِهِ وحُكْمِهِ ومَغفرتِهِ؛ وهوَ سبحانَهُ يَقْرِنُ بينَ سَعَةِ العلْمِ والرحمةِ كما يَقرِنُ بينَ العلْمِ والحِلْمِ:
- فمِن الأَوَّلِ قولُهُ: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر: 7].
- ومِن الثاني [قولُهُ]: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12)} [النساء: 12].
فما قُرِنَ شيءٌ إلى شيءٍ أَحسنُ مِنْ حِلْمٍ إلى عِلْمٍ، ومِنْ رحمةٍ إلى عِلْمٍ.
وحَمَلَةُ العرْشِ أَربعةٌ: اثنانِ يقولانِ: سُبحانَكَ اللَّهمَّ ربَّنَا وبحمدِكَ , لكَ الحمْدُ على حِلْمِكَ بعدَ عِلْمِكَ. واثنانِ يقولانِ: سُبحانَكَ اللَّهمَّ ربَّنا وبحمدِكَ , لكَ الحمْدُ على عَفْوِكَ بعدَ قُدرتِكَ. فاقترانُ العفوِ بالقُدرةِ كاقترانِ الحلْمِ والرحمةِ بالعلْمِ؛ لأنَّ العفوَ إِنَّمَا يَحْسُنُ عندَ القُدرةِ، وكذلكَ الحلْمُ والرحمةُ إِنَّمَا يَحسُنانِ معَ العِلْمِ.
وقَدَّمَ ((الرحيمَ)) في هذا الموضعِ لتَقَدُّمِ صِفةِ العلْمِ فحَسُنَ ذِكْرُ ((الرحيمِ)) بعدَهُ ليَقترنَ بهِ فيُطابِقَ قولَهُ: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر: 7] ثُمَّ ختَمَ الآيَةَ بذِكْرِ صفةِ المغفرةِ لتَضَمُّنِها دَفْعَ الشرِّ، وتَضَمُّنِ ما قبلَها جَلْبَ الخيرِ، ولَمَّا كانَ دَفْعُ الشرِّ مُقَدَّماً على جلْبِ الخيرِ قَدَّمَ اسمَ ((الغفورِ)) على ((الرحيمِ)) حيث وَقَعَ.
ولَمَّا كانَ في هذا الموضِعِ تعارُضٌ يَقتضِي تقديمَ اسمِهِ ((الرحيمِ)) لأَجْلِ ما قَبْلَهُ، قُدِّمَ على ((الغفورِ)) ) ([18]).

[فصلٌ]:
([و] في آيَةِ الْكُرْسِيِّ ذَكَرَ الحياةَ التي هيَ أصْلُ جميعِ الصِّفَاتِ، وذَكَرَ معها قَيُّومِيَّتَهُ المقتضيَةَ لذاتِهِ وبقائِهِ، وانتفاءَ الآفاتِ جميعِها عنهُ مِن النومِ والسِّنَةِ والعجْزِ وغيرِها، ثُمَّ ذَكَرَ كمالَ مُلْكِهِ، ثُمَّ عَقَّبَهُ بذِكْرِ وَحدانيَّتِهِ في مُلْكِهِ، وأنَّهُ لا يَشفَعُ عندَهُ أَحَدٌ إلاَّ بإذنِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ سَعةَ عِلْمِهِ وإحاطتَهُ، ثُمَّ عَقَّبَهُ بأنَّهُ لا سبيلَ للخلْقِ إلى عِلْمِ شيءٍ مِن الأشياءِ إلاَّ بعدَ مَشيئتِهِ لهم أن يَعْلَمُوهُ، ثُمَّ ذَكَرَ سَعةَ كُرْسِيِّهِ مُنَبِّهاً بهِ على سَعتِهِ - سُبحانَهُ - وعظمتِهِ وعُلُوِّهِ، وذلكَ تَوْطِئَةٌ بينَ يَدَيْ ذِكْرِ عُلُوِّهِ وعَظمتِهِ، ثُمَّ أَخْبَرَ عنْ كمالِ اقتدارِهِ وحِفْظِهِ للعالَمِ العُلْوِيِّ والسُّفْلِيِّ مِنْ غيرِ اكتراثٍ ولا مَشَقَّةٍ ولا تَعَبٍ. ثُمَّ ختَمَ الآيَةَ بهذينِ الاسمينِ الجليلينِ الدالَّينِ على عُلُوِّ ذاتِهِ وعَظمتِهِ في نَفسِه) ([19])
).[المرتبع الأسنى: ؟؟]


([1]) شِفَاءُ العَلِيلِ (2/ 113-114).
([2]) شِفَاءُ العَلِيلِ (2/ 113).
([3]) مِفْتَاحُ دَارِ السَّعادةِ (2/ 485).
([4]) شِفَاءُ العَلِيلِ (2/ 119-120).
([5]) الصَّواعِقُ المُرْسَلَةُ (2/ 491-492).
([6]) الصَّواعِقُ المُرْسَلَةُ (4/ 1384).
([7]) بَدائِعُ الفَوائِدِ (1/ 74).
([8]) جَلاءُ الأفهامِ (88-89).
([9]) بَدائِعُ الفَوائِدِ (1/ 73).
([10]) وقال -رَحِمَهُ اللهُ- في شفاءِ العليلِ (2/ 113): ({إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}. أي فإنَّ مَغْفَرِتَكَ لَهُمْ مَصْدَرٌ عَنْ عِزَّةٍ هي كمالُ القُدرةِ لا عن عَجْزٍ وجَهْلٍ).
([11]) رَوَاهُ الإمامُ أَحْمَدُ (3600)، والبُخَارِيُّ في كتابِ أحاديثِ الأنبياءِ / بابُ (54)، الحديثُ (3477)، ومسلِمٌ في كتابِ الجهادِ والسِّيَرِ / بابُ غَزْوَةِ أُحُدٍ (4622)، وابْنُ مَاجَهْ في كتابِ الفِتَنِ / بابُ الصَّبْرِ على البلاءِ (4025) من طُرُقٍ عن أبي وائلٍ شَقِيقِ بنِ سَلَمَةَ، عن ابنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عنه مَرْفُوعًا.
([12]) مَدارِجُ السَّالكِينَ ( 1 / 59-60).
([13]) طَرِيقُ الهِجرتَيَنِ (373-374).
([14]) طَرِيقُ الهِجرتَيَنِ (376-377).
([15]) طَرِيقُ الهِجرتَيَنِ (383-384).
([16]) هَكَذا في الأصلِ ولعلَّ الصوابَ: و فِعْلُهُ.
([17]) شِفَاءُ العَلِيلِ 2/ 115-117).
([18]) بَدائِعُ الفَوائِدِ (1/ 79-80).
([19]) الصَّواعِقُ المُرْسَلَةُ (4/ 1371).
وفي كتابِ الفَوائِدِ المُشوِّقِ إلى عُلومِ القُرآنِ وعِلْمِ البَيانِ (153): (واعْلَمْ أَنَّ فِي تَقَابُلِ المَعانِي بابًا عَجِيبَ الأمرِ يَحتاجُ إلى فضلِ تأمُّلٍ وزيادةِ نظرٍ وتدبُّرٍ، وهو يَختصُّ بالفواصلِ منَ الكلامِ المنثورِ وبالإعجازِ من أبْياتِ الشِّعرِ. فممَّا جاءَ من ذلك قولُه تعالَى في حقِّ المنافقينَ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قالُوا} إلى قولِه: {وَلَكِنْ لاَ يَشْعُرُونَ}. وقولُهُ تعالَى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا} إلى قَوْلِهِ {ولَكِنْ لاَ يَعْلَمُونَ}، ألا تَرَى كيفَ فَصَلَ الآيةَ الأخيرةَ بـ "يَعْلَمُونَ" والآيةَ التي قبلَهَا بـ "يَشْعُرونَ"، وإنما فَعلَ ذلك لأن أمرَ الدِّيانةِ والوُقوفِ على أن المؤمنينَ على الحقِّ وهم على الباطلِ يَحتاجُ إلى نظرٍ واستدلالٍ حتى يَكتسِبَ الناظرُ المعرفةَ والعِلمَ؛ ولذلك قالَ: {وَلَكِنْ لاَ يَعْلَمُونَ} وأما النفاقُ وما فيه من المعنى المُؤَدِّي إلى الفتنةِ والفسادِ في الأرضِ، فأمرٌ دُنيَوِيٌّ مَبنِيٌّ على العاداتِ مَعلومٌ عند الناسِ خُصوصًا عند العَرَبِ، وما كان فِيهِمْ مِنَ التَّجارِبِ والتَّعاوُنِ، فهو كالمَحْسُوسِ عِندَهُم؛ فلذلك قالَ: {يَشْعُرُونَ}: وأيضًا فإنه لما ذَكَرَ السَّفَهَ في الآيةِ الأخيرةِ، وهو جَهْلٌ كانَ ذِكْرُ العِلْمِ مَعَهُ أَحَسَنَ طِباقًا، فقالَ: {لاَ يَعْلَمُونَ}، وآياتُ القرآنِ العظيمِ جَمِيعُها فُصِّلَتْ هكذا كقولِه تعالَى: {أَلَمْ تَرَ أنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ}. وقولِهِ: {لَهُ مَا فِي السَّماوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الحَمِيدُ}. وكقولِه {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} فإنه إنما فُصِّلَتِ الآيةُ بلطيفٍ خبيرٍ؛ لأن ذلك موضعُ الرحمةِ لخَلقِه بإنزالِ الغَيْثِ، وإخراجِ النباتِ منَ الأرضِ، ولأنه خبيرٌ بمنفَعَتِهِم ومَضَرَّتِهِم في إنزالِ الغيثِ وغيرِه. وأما في الآيةِ الثانيةِ فإنما فُصِّلَتْ بغنيٍّ حميدٍ لأنه له ما في السماواتِ وما في الأرضِ فعَرفَ الناسُ أن جميعَ ما في السماواتِ وما في الأرضِ له، لا حاجةً، بل غَنِيٌّ عنها جَوَادٌ بها؛ لأن ليس غَنِيٌّ نَافِعًا بغِناهُ إلا إذا كان جَوَادًا مُنْعِمًا، وإذا جادَ وأَنْعَمَ حَمِدَهُ المُنْعَمُ عليه، واستحقَّ عليه الحَمْدَ، فذَكَرَ الحَمِيدَ ليَدُلَّ على أنه الغنيُّ النافعُ بغِناهُ خَلْقَهُ. وأما الآيةُ الثالثةُ فإنها فُصِّلَتْ رَؤُوفٌ رحيمٌ لأنه لما عَدَّدَ للناسِ ما أَنْعَمَ به عليهِم من تسخيرِ ما في الأرضِ لهم وإجراءِ الفُلكِ في البحرِ لهم، وتسييرِهم في ذلك الهولِ العظيمِ، وجَعْلِه السماءَ فَوقَهُم؛ وإمساكِه إياها عن الوقوعِ ؛ حَسُنَ أن يَفْصِلَ ذلك بقَوْلِهِ: {رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} ) اهـ.
ولم أُثْبِتْهُ في الأصلِ لعدمِ ثُبوتِ نِسبةِ الكتابِ لابنِ القيمِ -رَحِمَهُ اللهُ- بل فيه مواضِعُ تَدُلُّ على أنه ليسَ من تأليفِه يَعْرِفُها مَنْ عَرَفَ مَنهجَ ابنِ القيمِ وكُتُبَهُ وتَمَعَّنَ فيها.


رد مع اقتباس