عرض مشاركة واحدة
  #4  
قديم 14 رمضان 1438هـ/8-06-2017م, 09:58 AM
جمهرة علوم العقيدة جمهرة علوم العقيدة غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: May 2017
المشاركات: 1,193
افتراضي

بَيَانِ مَا يُفْضِي إِلَيْهِ العِلْمُ بِأَسْمَاءِ اللهِ الحُسْنَى وصِفَاتِهِ العُلْيَا مِن المَرَاتِبِ العَالِيَةِ وَالمَعَارِفِ الجَلِيلَةِ

قال ابن القيم محمد بن أبي بكر الزرعي الدمشقي (ت:751هـ) كما في المرتبع الأسنى
: (البابُ الثاني:
فِي بَيَانِ مَا يُفْضِي إِلَيْهِ العِلْمُ بِأَسْمَاءِ اللهِ الحُسْنَى وصِفَاتِهِ العُلْيَا مِن المَرَاتِبِ العَالِيَةِ وَالمَعَارِفِ الجَلِيلَةِ.

(في ((المسندِ)) منْ حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عمْرٍو، عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ((إِنَّ اللهَ تَعَالَى خَلَقَ خَلْقَهُ فِي ظُلْمَةٍ، وَأَلْقَى عَلَيْهِمْ مِنْ نُورِهِ، فَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ النُّورِ اهْتَدَى، وَمَنْ أَخْطَأَهُ ضَلَّ، فَلِذَلِكَ أَقُولُ: جَفَّ الْقَلَمُ عَلَى عِلْمِ اللهِ تَعَالَى)). ([1])
وهذا الحديثُ العظيمُ أصْلٌ منْ أصولِ الإيمانِ، وينفتحُ بهِ بابٌ عظيمٌ منْ أبوابِ سِرِّ القَدَرِ وحكمَتِهِ، واللهُ تعالى المُوَفِّقُ.
وهذا النورُ الذي ألْقَاهُ عليهم سُبحانَهُ وتعالى، هوَ الذي أحْيَاهُم وهَدَاهُم، فأصابت الفطرةُ منهُ حَظَّها، ولكنْ لمَّا لمْ يسْتَقِلَّ بتمَامِهِ وكمَالِهِ؛ أكْمَلَهُ لهم وأتَمَّهُ بالروحِ الذي ألْقَاهُ على رُسُلِهِ عليهم الصلاةُ والسلامُ، والنورِ الذي أوْحَاهُ إليهم، فأدْرَكَتْهُ الفطرةُ بذلكَ النورِ السابقِ الذي حصلَ لها يومَ إلقاءِ النورِ، فانضافَ نورُ الوحيِ والنبُوَّةِ إلى نورِ الفطرةِ، نُورٌ على نورٍ، فأشرقتْ منهُ القلوبُ، واستَنَارتْ بهِ الوجوهُ، وحَيِيَتْ بهِ الأرواحُ، وأذْعَنَتْ بهِ الجوارحُ للطَّاعاتِ طَوْعاً واختياراً، فازْدَادَتْ بهِ القلوبُ حياةً إلى حياتِها.
ثُمَّ دَلَّها ذلكَ النُّورُ على نورٍ آخرَ هوَ أعظمُ منهُ وأجَلُّ، وهوَ نُور الصِّفات العُلْيا الذي يَضْمَحِلُّ فيهِ كلُّ نورٍ سِوَاهُ، فشَاهَدَتْهُ ببصائرِ الإيمانِ مُشَاهَدَةً نِسْبَتُها إلى القلبِ كنِسْبَةِ المرئِيَّاتِ إلى العينِ، ذلكَ لاستيلاءِ اليقينِ عليها، وانكشافِ حقائقِ الإيمانِ لها، حتَّى كأنَّها تَنْظُرُ إلى عرشِ الرحمنِ تباركَ وتعالى بارزاً، وإلى استوائِهِ عليهِ، كما أخبرَ بهِ سُبحانَهُ وتعالى في كتابِهِ، وكما أخبرَ بهِ عنهُ رسولُهُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، يُدَبِّرُ أمرَ الممالكِ، ويَأْمُرُ وينْهَى، ويخلقُ ويرْزُقُ، ويُمِيتُ ويُحْيِي، ويَقْضِي ويُنَفِّذُ، ويُعِزُّ ويُذِلُّ، ويُقَلِّبُ الليلَ والنهارَ، ويُدَاوِلُ الأيَّامَ بينَ الناسِ، ويُقَلِّبُ الدُّوَلَ، فَيَذْهَبُ بدولةٍ، ويَأْتِي بأُخْرَى.
والرُّسُلُ من الملائكةِ عليهم الصلاةُ والسلامُ بينَ صاعدٍ إليهِ بالأمرِ، ونازلٍ منْ عندِهِ بهِ، وأوامرُهُ ومراسيمُهُ مُتعاقبةٌ على تعاقبِ الأوقاتِ، نافذةٌ بحَسَبِ إرادتِهِ ومشيئَتِهِ، فما شاءَ كانَ كما شاءَ في الوقتِ الذي يَشَاءُ على الوجهِ الذي يشاءُ، منْ غيرِ زيادةٍ ولا نقصانٍ، ولا تَقَدُّمٍ ولا تَأَخُّرٍ، وأمرُهُ وسلطانُهُ نافذٌ في السَّماوَاتِ وأقطارِها، وفي الأرضِ وما عليها وما تحْتَها، وفي البحارِ والجوِّ، وفي سائرِ أجزاءِ العالمِ وذرَّاتِهِ، يُقَلِّبُها ويُصَرِّفُها، ويُحْدِثُ فيها ما يشاءُ.
وقدْ أحاطَ بكلِّ شيءٍ عِلْماً، وأحصى كلَّ شيءٍ عدداً، ووسِعَ كلَّ شيءٍ رحمةً وحكمةً، ووَسِعَ سَمْعُهُ الأصواتَ، فلا تختلفُ عليهِ ولا تَشْتَبِهُ عليهِ، بلْ يسمعُ ضجيجَها باختلافِ لغاتِها على تفنُّنِ حاجاتِها، فلا يَشْغَلُهُ سَمْعٌ عنْ سَمْعٍ، ولا تُغْلِطُهُ كثرةُ المسائلِ، ولا يَتَبَرَّمُ بإلحاحِ المُلِحِّينَ ذَوِي الحاجاتِ، وأحاطَ بصرُهُ بجميعِ المرْئِيَّاتِ، فيَرَى دبيبَ النملةِ السوداءِ على الصخرةِ الصمَّاءِ في الليلةِ الظلماءِ، فالغيبُ عندَهُ شهادةٌ، والسِّرُّ عندَهُ علانيَةٌ، يعلمُ السِّرَّ وأخفى من السرِّ.
فالسِّرُّ: ما انْطَوَى عليهِ ضميرُ العبدِ، وخطَرَ بقلْبِهِ، ولمْ تتحَرَّكْ بهِ شَفَتَاهُ. وأخفى منهُ: ما لمْ يخْطُرْ بقلْبِهِ بعدُ، فيعلمُ أنَّهُ سيخطرُ بقلْبِهِ كذا وكذا في وقتِ كذا وكذا.
لهُ الخلقُ والأمرُ، ولَهُ الملكُ ولَهُ الحمدُ، ولَهُ الدنيا والآخرةُ، ولهُ النِّعمةُ، ولَهُ الفضلُ، ولهُ الثناءُ الحسن، ولهُ الملْكُ كلُّهُ، ولهُ الحمدُ كلُّهُ، وبيَدِهِ الخيرُ كلُّهُ، وإليهِ يُرجعُ الأمرُ كلُّهُ، شَمِلَتْ قُدْرَتُهُ كلَّ شيءٍ، ووسِعَتْ رحمتُهُ كلَّ شيءٍ، وَسَعَتْ(2) نِعْمَتُهُ إلى كلِّ حيٍّ {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29)} [الرحمن: 29] يَغْفِرُ ذنباً، ويُفَرِّجُ همًّا، ويكْشِفُ كرباً، ويَجْبُرُ كسيراً، ويُغْنِي فقيراً، ويُعلِّمُ جاهلاً، ويَهْدِي ضالاًّ، ويُرْشِدُ حَيْرَانَ، ويُغِيثُ لهفانَ، ويَفُكُّ عانِياً، ويُشبِعُ جائعاً، ويكْسُو عارياً، ويَشْفِي مريضاً، ويُعَافِي مُبْتَلًى، ويَقْبَلُ تائباً، ويَجْزِي محسناً، وينصرُ مظلوماً، ويقْصِمُ جبَّاراً، ويُقِيلُ عثرةً، ويسْتُرُ عورةً، ويُؤَمِّنُ روعةً، ويرفَعُ أقواماً ويَضَعُ آخرينَ، لا ينامُ، ولا ينبغي لهُ أنْ ينامَ، يخفضُ القسطَ ويرفعُهُ، يُرفعُ إليهِ عملُ الليلِ قبلَ النهارِ، وعملُ النهارِ قبلَ الليلِ، حجابُهُ النورُ، لوْ كَشَفَهُ لأحْرَقَتْ سُبُحاتُ وجْهِهِ ما انتهى إليهِ بصرُهُ منْ خلْقِهِ، يمينُهُ مَلأَى، لا تَغِيضُها نَفَقَةٌ، سَحَّاءُ الليلَ والنهارَ. ((أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ الْخَلْقَ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَمِينِهِ)).
قلوبُ العبادِ ونوَاصِيهِمْ بيَدِهِ، وأَزِمَّةُ الأمورِ معقودةٌ بقضائِهِ وقدرِهِ، الأرضُ جميعاً قبضتُهُ يومَ القيامةِ، والسَّماوَاتُ مطوِيَّاتٌ بيمينِهِ، يقْبِضُ سَماواتِهِ كُلَّها بيَدِهِ الكريمةِ، والأرضَ باليدِ الأخْرَى، ثُمَّ يَهُزُّهنَّ، ثُمَّ يقولُ: أنا الملكُ، أنا الملكُ، أنا الذي بَدَأْتُ الدنيا ولمْ تكُنْ شيئاً، وأنا الذي أُعيدُها كما بدَأْتُها.
لا يتَعَاظَمُهُ ذنبٌ أنْ يغفرَهُ، ولا حاجةٌ يُسْأَلُها أنْ يُعطيَها.
لوْ أنَّ أهلَ سماواتِهِ، وأهلَ أرضِهِ، وأوَّلَ خلْقِهِ وآخرَهُم، وإنْسَهُم وجِنَّهُم، كانوا على أتْقَى قلبِ رجلٍ منهم، ما زادَ ذلكَ في مُلْكِهِ شيئاً، ولوْ أنَّ أوَّلَ خلْقِهِ وآخِرَهُم، وإنْسَهُم وجِنَّهُم، كانوا على أفجرِ قلبِ رجلٍ منهم، ما نقصَ ذلكَ منْ مُلكِهِ شيئاً، ولوْ أنَّ أهلَ سماواتِهِ، وأهلَ أرضِهِ، وإنسَهُم وجِنَّهُم، وحيَّهم وميِّتَهُم، ورَطْبَهم ويابِسَهُم، قامُوا في صعيدٍ واحدٍ فسَأَلُوهُ، فأعطى كلاًّ منهم ما سَألَهُ، ما نقصَ ذلكَ ممَّا عندَهُ مثقالَ ذرَّةٍ.
ولوْ أنَّ أشجارَ الأرضِ كُلَّها منْ حينَ وُجِدَتْ إلى أنْ تنقضيَ الدنيا أقلامٌ، والبحرَ وراءَهُ سَبْعَةُ أبْحُرٍ تمدُّهُ منْ بعدِهِ مِدادٌ، فكتبَ بتلكَ الأقلامِ وذلكَ المِدادِ، لفَنِيَت الأقلامُ ونَفِدَ المدادُ ولمْ تنْفَدْ كلماتُ الخالقِ تباركَ وتعالى، وكيفَ تفْنَى كلماتُهُ جلَّ جلالُهُ وهيَ لا بدايَةَ لها ولا نهايَةَ، والمخلوقُ لهُ بدايَةٌ ونهايَةٌ، فهوَ أحقُّ بالفناءِ والنفادِ، وكيفَ يُفْنِي المخلوقُ غيرَ المخلوقِ؟!
هوَ الأوَّلُ الذي ليسَ قبلَهُ شيءٌ، والآخِرُ الذي ليسَ بعدَهُ شيءٌ، والظاهرُ الذي ليسَ فوقَهُ شيءٌ، والباطنُ الذي ليسَ دُونَهُ شيءٌ، تباركَ وتعالى، أَحَقُّ مَنْ ذُكِرَ، وأحقُّ مَنْ عُبِدَ، وأحقُّ مَنْ حُمِدَ، وأوْلَى مَنْ شُكِرَ، وأنْصَرُ مَن ابتُغِيَ، وأَرْأَفُ مَنْ مَلَكَ، وأجودُ مَنْ سُئِلَ، وأعْفَى مَنْ قَدَرَ، وأكرمُ مَنْ قُصِدَ، وأعْدَلُ مَن انتقَمَ، حُكْمُهُ بعدَ علْمِهِ، وعفوُهُ بعدَ قدرتِهِ، ومغفرتُهُ عنْ عِزَّتِهِ، ومنْعُهُ عنْ حكْمَتِهِ، ومُوَالاتُهُ عنْ إحسانِهِ ورحْمَتِهِ.

ما للـعبادِ عليهِ حقٌّ واجبٌ = إنْ عُـذِّبوا فَبِعَدْلـِهِ أوْ نُعِّمُوا
كلاَّ ولا سَعْيٌ لـديـهِ ضائعُ = فبفضْلِهِ وَهْـوَ الكريمُ الواسعُ
هوَ الملِكُ الذي لا شريكَ لهُ، والفردُ فلا نِدَّ لهُ، والغنيُّ فلا ظهيرَ لهُ، والصمدُ فلا ولَدَ لهُ ولا صاحبَةَ لهُ، والعَلِيُّ فلا شبيهَ لهُ، ولا سَمِيَّ لهُ، كلُّ شيءٍ هالكٌ إلاَّ وجهَهُ، وكلُّ مُلْكٍ زائلٌ إلاَّ مُلكَهُ، وكلُّ ظلٍّ قالصٌ إلاَّ ظِلَّهُ، وكلُّ فضلٍ منقطعٌ إلاَّ فضلَهُ، لنْ يُطَاعَ إلاَّ بإذنِهِ ورحمتِهِ، ولنْ يُعْصَى إلاَّ بعلمِهِ وحكمتِهِ، يُطاعُ فيَشكُرُ، ويُعصى فيتجاوزُ ويغفرُ، كلُّ نِقمةٍ منهُ عَدْلٌ، وكلُّ نعمةٍ منهُ فضلٌ، أقربُ شهيدٍ، وأدْنَى حفيظٍ، حَالَ دونَ النفوسِ، وأخذ بالنَّوَاصِي، وسجَّلَ الآثارَ، وكتبَ الآجالَ، فالقلوبُ لهُ مُفْضِيَةٌ، والسِّرُّ عندَهُ علانيَةٌ، والغيبُ عندَهُ شهادةٌ، عطاؤُهُ كلامٌ، وعذابُهُ كلامٌ،{ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ(82)} [يس: 82].
فإذا أشْرَقَتْ على القلبِ أنوارُ هذهِ الصِّفَاتِ اضْمَحَلَّ عندَها كلُّ نورٍ، ووراءَ هذا ما لا يخْطُرُ بالبالِ، ولا تنالُهُ عبارةٌ)([3]).

[فَصْلٌ]:
( فَـإذا شرحَ اللهُ صدرَ عبدِهِ بنُورِهِ الذي يقْذِفُهُ في قلبِهِ أرَاهُ في ضوءِ ذلكَ النورِ حقائقَ الأسماءِ والصِّفَاتِ التي تَضِلُّ فيها معرفةُ العبدِ؛ إذْ لا يمكنُ أنْ يعرِفَها العبدُ على ما هيَ عليهِ في نفسِ الأمرِ، وأَرَاهُ في ضوءِ ذلكَ النورِ حقائقَ الإيمانِ وحقائقَ العبُوديَّةِ وما يُصَحِّحُها وما يُفْسِدُها، وتفاوَتَتْ معرفةُ الأسماءِ والصِّفَاتِ والإيمانِ والإخلاصِ وأحكامِ العبودِيَّةِ بحسَبِ تفاوُتِهم في هذا النورِ، قالَ تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام: 122]، وقالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ} [الحديد: 28].
فيَكشِفُ لقلبِ المؤمنِ في ضوءِ ذلكَ النورِ عنْ حقيقةِ المَثَلِ الأعلى مُسْتَوِياً على عرشِ الإيمانِ في قلبِ العبدِ المؤمنِ، فيشهدُ بقلْبِهِ رَبًّا عظيماً قاهراً قادراً أكبرَ منْ كلِّ شيءٍ في ذاتِهِ وفي صفاتِهِ وفي أفعالِهِ.
السَّماوَاتُ السبعُ قبضةُ إحدَى يدَيْهِ، والأَرَضُونَ السبعُ قبضةُ اليدِ الأخرى، يُمْسِكُ السَّماوَاتِ على إصبعٍ، والأَرَضِينَ على إصبعٍ، والجبالَ على إصبعٍ، والشجرَ على إصبعٍ، والثَّرَى على إصبعٍ، ثُمَّ يَهُزُّهُنَّ ثُمَّ يقولُ: أنا الملكُ.
فالسَّماوَاتُ السبعُ في كفِّهِ كخردلةٍ في كفِّ العبدِ، يُحِيطُ ولا يُحاطُ بهِ، ويَحْصُرُ خلقَهُ ولا يحصُرونهُ، ويُدرِكُهم ولا يُدركونهُ، لوْ أنَّ الناسَ منْ لَدُنْ آدمَ إلى آخرِ الخلقِ قاموا صَفًّا وَاحِدَاً ما أحَاطُوا بهِ سُبْحَانَهُ.
ثُمَّ يَشْهَدُهُ في علمِهِ فوقَ كلِّ عليمٍ، وفي قُدْرَتِهِ فوقَ كلِّ قديرٍ، وفي جُودِهِ فوقَ كلِّ جَوَادٍ، وفي رحمَتِهِ فوقَ كلِّ رحيمٍ، وفي جمالِهِ فوقَ كلِّ جميلٍ، حتَّى لوْ كانَ جمالُ الخلائقِ كُلِّهِم على شخصٍ واحدٍ منهم، ثُمَّ أُعْطِيَ الخلقُ كلُّهم مثلَ ذلكَ الجمالِ لكانتْ نِسْبَتُهُ إلى جمالِ الرَّبِّ سُبحانَهُ دونَ نسبةِ سِرَاجٍ ضعيفٍ إلى ضوءِ الشمسِ.
ولو اجتمعتْ قُوَى الخلائقِ على واحدٍ منهم، ثُمَّ أُعْطِيَ كلٌّ منهم مثلَ تلكَ القُوَّةِ لكانتْ نِسْبَتُها إلى قُوَّتِهِ سُبحانَهُ دونَ نسبةِ قُوَّةِ البَعوضةِ إلى حَمَلَةِ العرشِ.
ولوْ كانَ جُودُهم على رجلٍ واحدٍ وكلُّ الخلائقِ على ذلكَ الجودِ لكانتْ نِسْبَتُهُ إلى جُودِهِ دونَ نسبةِ قَطْرَةٍ إلى البحرِ.
وكذلكَ علمُ الخلائقِ إذا نُسِبَ إلى عِلْمِهِ كانَ كنَقْرَةِ عُصفورٍ من البحرِ.
وكذلكَ سائرُ صفاتِهِ كحياتِهِ وسمْعِهِ وبصرِهِ وإرادتِهِ.
فلَوْ فُرِضَ البحرُ المحيطُ بالأرضِ مِداداً تحيطُ بهِ سبعةُ أبحرٍ، وجميعُ أشجارِ الأرضِ شيئاً بعدَ شيءٍ أقلاماً، لَفَنِي ذلكَ المِدادُ والأقلامُ ولا تفْنَى كلماتُهُ ولا تنْفَدُ، فهوَ أكبرُ في عِلمِهِ منْ كلِّ عالمٍ، وفي قُدْرَتِهِ منْ كلِّ قادرٍ، وفي جُودِهِ منْ كلِّ جوادٍ، وفي غِنَاهُ منْ كلِّ غَنِيٍّ، وفي عُلُوِّهِ منْ كلِّ عالٍ، وفي رحمَتِهِ منْ كلِّ رحيمٍ.
استَوَى على عرْشِهِ، واستولى على خلْقِهِ، منفردٌ بتدبيرِ مملكَتِهِ فلا قَبْضَ ولا بَسْطَ ولا مَنْعَ، ولا هُدَى ولا ضلالَ، ولا سعادةَ ولا شقاوةَ، ولا موتَ ولا حياةَ، ولا نفعَ ولا ضرَّ إلاَّ بيَدِهِ، لا مالكَ غيرُهُ، ولا مُدَبِّرَ سواهُ، لا يستقلُّ أحدٌ معَهُ بملكِ مثقالِ ذرَّةٍ في السماواتِ والأرضِ، ولا لهُ شِرْكَةٌ في مُلْكِهَا، ولا يحتاجُ إلى وزيرٍ ولا ظهيرٍ ولا مُعِينٍ، ولا يغيبُ فيَخْلُفَهُ غيرُهُ، ولا يَعْيَا فَيُعِينَهُ سواهُ، ولا يتَقَدَّمُ أحدٌ بالشفاعةِ بينَ يدَيْهِ إلاَّ مِنْ بعدِ إذنِهِ لمَنْ شاءَ وفيمَنْ شاءَ.
فهوَ أوَّلُ مَشَاهِدِ المعرفةِ، ثُمَّ يتَرَقَّى منهُ إلى مَشْهَدٍ فوْقَهُ لا يَتِمُّ إلاَّ بهِ، وهوَ مشهدُ الإلهِيَّةِ فيَشْهَدُهُ سُبحانَهُ مُتَجَلِّياً في كمالِهِ بأمْرِهِ ونهْيِهِ، ووعْدِهِ ووعيدِهِ، وثوابِهِ وعقابِهِ، وفضْلِهِ في ثوابِهِ، فيَشهدُ رَبًّا قيُّوماً، مُتَكَلِّماً آمِراً ناهياً، يُحِبُّ ويُبْغِضُ، ويَرْضَى ويَغْضَبُ، قدْ أَرسلَ رُسُلَهُ وأَنزلَ كُتُبَهُ وأقامَ على عبادِهِ الحُجَّةَ البالغةَ، وأتمَّ عليهم نعمَتَهُ السابغةَ، يَهْدِي مَنْ يشاءُ نعمةً منهُ وفضلاً، ويُضِلُّ مَنْ يشاءُ حكمةً منهُ وعَدْلاً، يُنـزِلُ إليهم أوامرَهُ، وتُعرَضُ عليهِ أعمالُهم، لمْ يخلُقْهُم عبثاً، ولمْ يَتْرُكْهُم سُدًى؛ بلْ أمْرُهُ جارٍ عليهم في حركاتِهم وسكناتِهم وظواهرِهم وبواطنِهم، فللَّه عليهم حُكْمٌ وأَمْرٌ في كلِّ تحريكةٍ وتسكينةٍ ولحظةٍ ولفظةٍ.
وينكشفُ لهُ في هذا النورِ عَدْلُهُ وحكمتُهُ ورحمتُهُ ولطفُهُ وإحسانُهُ وبرُّهُ في شرْعِهِ وأحكامِهِ، وأنَّها أحكامُ رَبٍّ رحيمٍ محسنٍ لطيفٍ حكيمٍ، قدْ بَهَرَتْ حكمَتُهُ العقولَ، وأقرَّتْ بها الفِطَرُ، وشَهِدَتْ لمُنزِلِها بالوحدَانِيَّةِ، ولمَنْ جاءَ بها بالرِّسالةِ والنُّبوَّةِ.
وينكشفُ لهُ في ضوءِ ذلكَ النورِ إثباتُ صفاتِ الكمالِ وتنـزيهُهُ سُبحانَهُ عن النَّقصِ والمثالِ، وأنَّ كلَّ كمالٍ في الوجودِ فَمُعْطِيهِ وخالِقُهُ أحقُّ بهِ وأوْلَى، وكلَّ نقصٍ وعيبٍ فهوَ سُبحانَهُ مُنَزَّهٌ مُتَعَالٍ عنهُ.
وينكشفُ لهُ في ضوءِ هذا النورِ حقائقُ المعادِ واليومِ الآخرِ وما أخبرَ بهِ الرسولُ عنهُ حتَّى كأنَّهُ يُشاهدُهُ عِيَاناً، وكأَنَّهُ يُخْبِرُ عن اللهِ وأسمائِهِ وصفاتِهِ وأمْرِهِ ونهْيِهِ ووعْدِهِ ووعيدِهِ إخبارَ مَنْ كأَنَّهُ قدْ رأى وعاينَ وشاهدَ ما أَخْبَرَ بهِ.
فمَنْ أرادَ سُبحانَهُ هدايتَهُ شرحَ صدرَهُ لهذا فاتَّسَعَ لهُ وانفسحَ، ومَنْ أرادَ ضلالَتَهُ جعلَ صدرَهُ منْ ذلكَ في ضيقٍ وحرجٍ لا يَجِدُ فيهِ مسلكاً ولا مَنْفَذاً، واللهُ المُوَفِّقُ المعينُ)([4]).

[فَصْلٌ]:
(فَشَتَّانَ بينَ قلبٍ يَبِيتُ عندَ ربِّهِ قدْ قَطَعَ في سَفَرِهِ إليهِ بَيدَاءَ الأكوانِ، وخَرَقَ حُجُبَ الطبيعةِ، ولمْ يقِفْ عندَ رسمٍ، ولا سَكَنَ إلى عَلَمٍ، حتَّى دخلَ على ربِّهِ في دارِهِ فشاهدَ عِزَّ سُلطانِهِ، وعَظمةَ جَلالِهِ، وعُلُوَّ شأْنِهِ، وَبَهَاءَ كَمَالِهِ، وَهُوَ مُسْتَوٍ على عرشِهِ يُدَبِّرُ أمرَ عبادِهِ، وتَصْعَدُ إِليهِ شُئونُ العبادِ، وتُعْرَضُ عَليهِ حَوَائجُهم وأعمالُهم، فيأمرُ فيها بما يشاءُ، فينـزلُ الأمرُ منْ عندِهِ نافذاً كما أَمَرَ.
فيشاهدُ المَلِكَ الحقَّ قيُّوماً بنفسِهِ مقيماً لكلِّ ما سِوَاهُ، غنيًّا عنْ كلِّ مَنْ سِوَاهُ، وكلُّ مَنْ سِوَاهُ فقيرٌ إليهِ { يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29)} [الرحمن: 29] يغفرُ ذنباً، ويُفَرِّجُ كرباً، ويَفُكُّ عَانِياً، وينْصُرُ ضعيفاً، ويجْبُرُ كسيراً، ويُغْنِي فقيراً، ويُمِيتُ ويُحْيِي، ويُسْعِدُ ويُشْقِي، ويُضِلُّ ويهدي، ويُنْعِمُ على قومٍ ويَسْلُبُ نعمتَهُ عنْ آخرينَ، ويُعِزُّ أقواماً ويُذِلُّ آخرينَ، ويرفعُ أقواماً ويضعُ آخرينَ.
ويَشْهَدُهُ كما أَخبرَ عنهُ أعلمُ الخلقِ بهِ وأصدَقُهُم في خبَرِهِ؛ حيثُ يقولُ في الحديثِ الصحيحِ: ((يَمِينُ اللهِ مَلأَى لا يَغِيضُهَا نَفَقَةٌ، سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ الْخَلْقَ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَمِينِهِ، وَبِيَدِهِ الأُخْرَى الْمِيزَانُ يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ)) ([5]).
فيُشَاهِدُهُ كذلكَ يُقَسِّمُ الأرزاقَ ويُجْزِلُ العطايا ويمنُّ بفضْلِهِ على مَنْ يشاءُ منْ عبادِهِ بيمينِهِ، وباليدِ الأخرى الميزانُ يخفضُ بهِ مَنْ يشاءُ ويرفعُ بهِ مَنْ يشاءُ عَدْلاً منهُ وحكمةً، لا إلهَ إلاَّ هوَ العزيزُ الحكيمُ.
فيَشهَدُهُ وحدَهُ القَيُّومَ بأمرِ السَّماوَاتِ والأرضِ ومَنْ فيهنَّ، ليسَ لهُ بَوَّابٌ فَيُستَأْذَنَ، ولا حاجبٌ فيُدْخَلَ عليهِ، ولا وزيرٌ فيُؤْتَى، ولا ظهيرٌ فيُستعانَ بهِ، ولا وَلِيٌّ منْ دُونِهِ فَيُشْفَعَ بهِ إليهِ، ولا نائبٌ عنهُ فَيُعَرِّفَهُ حوائجَ عبادِهِ، ولا مُعِينٌ لهُ فيُعَاونَهُ على قضَائِها.
بلْ قدْ أحاطَ سُبحانَهُ بها علماً ووَسِعَها قدرةً ورحمةً، فلا تزيدُهُ كثرةُ الحاجاتِ إلاَّ جُوداً وكرماً، ولا يَشْغَلُهُ منها شأنٌ عنْ شأنٍ، ولا تُغلِطُهُ كثرةُ المسائلِ، ولا يتبرَّمُ بإلحاحِ المُلِحِّينَ.
لو اجتمعَ أوَّلُ خلْقِهِ وآخِرُهُمْ وإنْسُهُم وجِنُّهُم وقامُوا في صعيدٍ واحدٍ , ثُمَّ سألوهُ فأعطى كلاًّ منهم مسألتَهُ ما نَقَصَ ذلكَ ممَّا عندَهُ ذرَّةً واحدةً إلاَّ كما يَنْقُصُ المخيطُ البحرَ إذا غُمِسَ فيهِ.
ولوْ أنَّ أوَّلَهُم وآخِرَهُم وإنْسَهُم وجِنَّهُم كَانُوا على أتْقَى قلبِ رجلٍ واحدٍ منهم ما زادَ ذلكَ في مُلْكِهِ شيئاً؛ ذلكَ بأنَّهُ الغنيُّ الجوادُ الماجدُ، فعطاؤُهُ منْ كلامٍ، وعذابُهُ منْ كلامٍ { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} [يس: 82].
ويَشْهَدُهُ كما أخبرَ عنهُ أيضاً الصادقُ المصدوقُ؛ حيثُ يقولُ: ((إِنَّ اللهَ لا يَنَامُ وَلا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ، حِجَابُهُ النُّورُ لَوْ كَشَفَهُ لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا أَدْرَكَهُ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ)) ([6]).
وبالجملةِ فيَشْهَدُهُ في كلامِهِ؛ فقدْ تجَلَّى سُبحانَهُ وتعالى لعبادِهِ في كلامِهِ، وتراءَى لهم فيهِ، وتعرَّفَ إليهم فيهِ، فبُعْداً وتبًّا للجاحدينَ والظالمينَ {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [إبراهيم: 10]، {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)}[البقرة: 163].
فإذا صارتْ صفاتُ رَبِّهِ وأسماؤُهُ مَشهداً لقَلْبِهِ أَنْسَتْهُ ذكْرَ غيرِهِ، وشَغَلَتْهُ عنْ حُبِّ مَنْ سِوَاهُ، وحديثُ دَوَاعِي قلْبِهِ إلى حُبِّهِ تعالى بكلِّ جزءٍ منْ أجزاءِ قلْبِهِ ورُوحِهِ وجسمِهِ، فحينئذٍ يكونُ الربُّ تعالى سَمْعَهُ الذي يَسمعُ بهِ، وبَصَرَهُ الذي يُبصرُ بهِ، ويدَهُ التي يَبْطِشُ بها، ورجلَهُ التي يمشي بها، فَبِهِ يَسمعُ، وبهِ يُبصرُ، وبهِ يَبطشُ، وبهِ يمشي، كما أخبرَ عنْ نفْسِهِ على لسانِ رسولِهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ([7]).
ومَنْ غَلُظَ حجابُهُ وكَثُفَ طبعُهُ وصَلُبَ عودُهُ فهوَ عنْ فَهْمِ هذا بمَعْزِلٍ، بلْ لعلَّهُ أنْ يفهمَ منهُ ما لا يليقُ بهِ تعالى منْ حلولٍ أو اتِّحادٍ، أوْ يفهمَ منهُ غيرَ المرادِ منهُ، فَيُحَرِّفَ معناهُ ولفظَهُ {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)} [سورة النور: 40]. وقدْ ذكَرْتُ معنى الحديثِ والردَّ علَى مَنْ حرَّفَهُ وغلِطَ فيهِ في كتابِ: ((التُّحْفَةِ المكِّيَّةِ)).
وبالجملةِ فيبقى قلبُ العبدِ - الذي هذا شأنُهُ - عرشاً للمثلِ الأعلى؛ أيْ: عرشاً لمعرفةِ محبوبِهِ ومحبَّتِهِ وعظمتِهِ وجلالِهِ وكبريائِهِ، وناهيكَ بقلبٍ هذا شأنُهُ فيَا لَهُ منْ قلبٍ مِنْ رَبِّهِ ما أدْنَاهُ، ومِنْ قُرْبِهِ ما أحْظَاهُ؛ فهوَ ينُـَزِّهُ قلْبَهُ أنْ يُسَاكِنَ سواهُ أوْ يَطْمَئِنَّ بغيرِهِ.
فهؤلاءِ قلوبُهم قدْ قَطَعَت الأكوانَ، وسجَدَتْ تحتَ العرشِ , وأبْدَانُهم في فُرشِهِم، كما قالَ أبو الدَّرْدَاءِ: ((إذا نامَ العبدُ المؤمنُ عُرِجَ برُوحِهِ حتَّى تسجُدَ تحتَ العرشِ، فإنْ كانَ طاهراً أُذِنَ لها في السجودِ، وإنْ كانَ جُنُباً لمْ يُؤذَنْ لها بالسجودِ)). وهذا - واللهُ أعلمُ - هوَ السرُّ الذي لأجلِهِ أَمرَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ الجُنُبَ إذا أرادَ النومَ أنْ يتوضَّأَ.
وهوَ إمَّا واجبٌ على أحدِ القولَيْنِ، أوْ مُؤَكَّدُ الاستحبابِ على القولِ الآخرِ؛ فإنَّ الوضوءَ يُخَفِّفُ حدَثَ الجنَابَةِ، ويجْعَلُهُ طاهراً منْ بعضِ الوجوهِ، ولهذا روى الإمامُ أحمدُ وسعيدُ بنُ منصورٍ وغيرُهما عنْ أصحابِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، أنَّهُم إذا كانَ أحدُهُم جُنُباً , ثُمَّ أرادَ أنْ يجلسَ في المسجدِ توَضَّأَ , ثُمَّ جلسَ فيهِ، وهذا مذهبُ الإمامِ أحمدَ وغيرِهِ، معَ أنَّ المساجدَ لا تَحِلُّ لجُنُبٍ، فدلَّ على أنَّ وضوءَهُ رفَعَ حُكْمَ الجنابةِ المطلقةِ الكاملةِ التي تمنعُ الجُنُبَ من الجلوسِ في بيتِ اللهِ، وتمنعُ الروحَ من السجودِ بينَ يدَي اللهِ سُبحانَهُ.
فتَأَمَّلْ هذهِ المسألةَ وفِقْهَها، واعْرِفْ بها مقدارَ فِقْهِ الصحابةِ وعمقَ عُلُومِهِم، فهلْ ترى أحداً من المُتَأَخِّرِينَ وصلَ إلى مبلغِ هذا الفِقْهِ الذي خصَّ اللهُ بهِ خيارَ عبادِهِ وهمْ أصحابُ نَبِيِّهِ، وذلكَ فضلُ اللهِ يُؤْتيهِ مَنْ يشاءُ، واللهُ ذُو الفضلِ العظيمِ.
* * *
فإذا استيقظَ هذا القلبُ منْ منامِهِ صعِدَ إلى اللهِ بِهَمِّهِ وحُبِّهِ وأشواقِهِ مشتاقاً إليهِ طالباً لهُ محتاجاً لهُ عاكفاً عليهِ، فحالُهُ كحالِ المحبِّ الذي غابَ عنْ محبوبِهِ الذي لا غِنَى لهُ عنهُ ولا بدَّ منهُ، وضرُورتُهُ إليهِ أعظمُ مِنْ ضَرُورتِهِ إلى النَّفَسِ والطعامِ والشرابِ، فإذا نامَ غابَ عنهُ، فإذا استيقظَ عادَ إلى الحنينِ إليهِ، وإلى الشوقِ الشديدِ والحبِّ المُقْلِقِ، فحبِيبُهُ آخِرُ خَطَراتِهِ عندَ منامِهِ، وأوَّلُها عندَ استيقاظِهِ كما قالَ بعضُ المُحِبِّينَ لمحبُوبِهِ:

وآخِرُ شيءٍ أنتَ في كلِّ هَجْعَةٍ = وَأَوَّلُ شيءٍ أنتَ عندَ هُبُوبِي
فقدْ أفصحَ هذا المحبُّ عنْ حقيقةِ المحَبَّةِ وشروطِها، فإذا كانَ هذا في محبَّةِ مخلوقٍ لمخلوقٍ فما الظنُّ في محبَّةِ المحبوبِ الأعلى، فَأُفٍّ لقلبٍ لا يَصْلُحُ لهذا ولا يُصَدِّقُ بهِ، لقدْ صُرِفَ عنهُ خيرُ الدُّنيا والآخرةِ) ([8]).

[فصلٌ]:
إذا طَلَعَتْ شمسُ التوحيدِ وباشَرَتْ جَوَانِبَها الأرواحُ، ونورَها البصائرُ، تَجَلَّتْ بها ظلماتُ النَّفْسِ والطبعِ، وتحرَّكَتْ بها الأرواحُ في طَلَبِ مَنْ ليسَ كمثْلِهِ شيءٌ وهوَ السميعُ البصيرُ، فسافرَ القلبُ في بَيْدَاءِ الأمرِ، ونـزلَ منازلَ العبودِيَّةِ منـزلاً منـزلاً، فهوَ ينتقلُ منْ عبادةٍ إلى عبادةٍ، مُقِيمٌ على معبودٍ واحدٍ، فلا تزالُ شواهدُ الصِّفَاتِ قائمةً بقَلْبِهِ، تُوقِظُهُ إذا رَقَدَ، وتُذَكِّرُهُ إذا غفَلَ، وتحْدُو بهِ إذا سارَ، وتُقِيمُهُ إذا قعدَ.
إنْ قامَ بقَلْبِهِ شاهدٌ من الرُّبُوبِيَّةِ والقَيُّومِيَّةِ رأى أنَّ الأمرَ كُلَّهُ للهِ، ليسَ لأحدٍ معهُ من الأمرِ شيءٌ {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3)} [فاطر: 2-3]، {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107)} [يونس: 107]، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38)} [الزمر: 38]، {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89)} [المؤمنونَ: 84-89].
إنْ قامَ بقَلْبِهِ شاهدٌ من الإلهيَّةِ: رأى في ذلكَ الشاهدِ الأمرَ والنهيَ، والنُّبُوَّاتِ والكتبَ والشرائعَ، والمحَبَّةَ والرِّضَى، والكراهةَ والبغضَ، والثوابَ والعقابَ، وشاهدَ الأمرَ نازلاً ممَّنْ هوَ مُسْتَوٍ على عرْشِهِ، وأعمالُ العبادِ صاعدةٌ إليهِ، ومعروضةٌ عليهِ، يجزي بالإحسانِ منها في هذهِ الدارِ، وفي العُقْبَى نَضْرَةً وسروراً، وَيَقْدُمُ إلى ما لمْ يكُنْ عنْ أمْرِهِ وشَرْعِهِ منها فَيَجْعَلُهُ هباءً منثوراً.
وإنْ قامَ بقلْبِهِ شاهدٌ من الرحمةِ رأى الوجودَ كلَّهُ قائماً بهذهِ الصفةِ، قدْ وَسِعَ مَنْ هيَ صفتُهُ كلَّ شيءٍ رحمة وعلماً، وانتهتْ رحمَتُهُ إلى حيثُ انتهى علْمُهُ، فاستوى على عرْشِهِ برحمَتِهِ لِتَسَعَ كلَّ شيءٍ، كما وَسِعَ عرشُهُ كلَّ شيءٍ.
وإنْ قامَ بقلْبِهِ شاهدُ العِزَّةِ والكبرياءِ والعظمةِ والجبروتِ فلهُ شأنٌ آخَرُ.
وهكذا جميعُ شواهدِ الصِّفَاتِ، فما ذكَرْنَاهُ إنَّما هوَ أدنى تنبيهٍ عليها) ([9])
).[المرتبع الأسنى: ؟؟]


([1]) رَواهُ الإمامُ أَحمَدُ (11/79) برَقْمِ (6854م)، وصَحَّحَهُ أحمدُ شَاكِر، والترمذيُّ في كتابِ الإيمانِ / بابُ ما جاءَ في افتراقِ هذهِ الأُمَّةِ (5/26) رَقْمُ (2642). والبيهقيُّ في كتابِ السِّيَرِ / بابُ مُبتدَأِ الخَلْقِ (9/6) برَقْمِ (17710). كُلُّهم مِن طُرقٍ عن عَبدِ اللهِ بنِ فيروزٍ الدَّيْلَمِيِّ، عن عبدِ اللهِ بنِ عمرِو بنِ العَاصِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا. وقولُهُ: ((فَلِذَلِكَ أَقُولُ: جَفَّ...)) هو مِنْ قَوْلِ عَبْدِ اللهِ بنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.
(2) هكذا في الأصلِ ولعلَّ الصوابَ (ووَصَلَتْ).
([3]) الوابلُ الصيِّبُ (124-129).
([4]) شفاءُ العليلِ (1/278-281).
([5]) رَواهُ الإمامُ أحمدُ (10122)، والبخاريُّ في كتابِ التوحيدِ/ بابُ ((وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ)) (7411)، ومُسلِمٌ في كِتابِ الزكاةِ / بابُ الحَثِّ على النَّفَقَةِ وتَبْشِيرِ المُنْفِقِ بالخُلْـفِ (2306)، والتِّرْمِذِيُّ فِي كِتابِ التفسيرِ/ بـابُ وَمِنْ سُورَةِ المَائِـدَةِ (3045)، وابنُ مَاجَهْ في المُقدِّمةِ / بابٌ فِيما أَنْكَرَتِ الجَهْمِيَّةُ (197) مِن حَديثِ أَبِي هُريرَةَ رَضِيَ اللهُ عنه.
([6]) سيأتِي تَخريجُهُ قَرِيبًا - إِنْ شَاءَ اللهُ تَعالَى- ص 76.
([7]) يُشيرُ إلى حديثِ أبي هُريرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ، وقد أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ فِي كِتابِ الرِّقَاقِ / بابُ التواضُعِ (650)، وأَحْمَدُ.
([8]) طريقُ الهِجْرَتَيْنِ (212-214).
مُلْحَقٌ: وقالَ رَحِمَهُ اللهُ تَعالَى فِي طَرِيقِ الهِجْرَتَيْنِ (142): (والربُّ سُبْحَانَهُ قد تَجَلَّى لِقُلُوبِ المُؤْمِنِينَ العَارِفِينَ وظَهَرَ لَها بقُدْرَتِهِ وجَلالِهِ وكِبرِيَائِهِ، ومُضِيِّ مَشيئَتِهِ وعُلُوِّ شَأْنِه وكَرَمِهِ وبِرِّهِ وإِحسانِهِ وسَعَةِ مَغفِرَتِهِ ورَحْمَتِهِ ومَا أَلْقَاهُ فِي قُلوبِهِمْ مِن الإيمانِ بأَسْمائِهِ وصِفاتِهِ إلى حَيْثُ احْتَمَلَتْهُ القُوَى البشريَّةُ ووَرَاءَ مَا تَحْتَمِلُهُ قُواهُمْ، ولا يَخْطُرُ بِبَالٍ ولا يَدْخُلُ في خَلَدٍ لا نِسْبَةَ لِمَا عَرَفُوهُ إِلَيهِ).
*وقالَ - رَحِمَهُ اللهُ تعالَى فِي مَدارِجِ السَّالِكِينَ (3/237-239): (هذَا. وفَوْقَ ذَلِكَ شَاهِدٌ آخَرُ تَضْمَحِلُّ فيه هذه الشواهِدُ، ويَغِيبُ به العَبدُ عَنها كُلِّهَا. وهو شاهِدُ جَلالِ الرَّبِّ تَعالَى، وجمالِهِ وكَمالِهِ، وعِزِّهِ وسُلطانِهِ، وقَيُّومِيَّتِهِ وعُلُوِّهِ فَوْقَ عَرْشِهِ، وتَكَلُّمِهِ بكُتُبِهِ وكَلِمَاتِ تَكوينِهِ، وخِطابِهِ لمَلائِكَتِهِ وأَنْبِيائِهِ.
فإذا شَاهَدَهُ شَاهِدٌ بقَلْبِهِ قَيُّومًا قَاهرًا فَوْقَ عِبادِهِ، مُسْتَوِيًا علَى عَرْشِهِ، مُنْفَرِدًا بتَدْبِيرِ مَمْلَكَتِهِ، آمِرًا نَاهِيًا، مُرْسِلاً رُسْلَهُ، ومُنَزِّلاً كُتُبَهُ، يَرْضَى ويَغْضَبُ، ويُثِيبُ ويُعاقِبُ، ويُعْطِي ويَمْنَعُ، ويُعِزُّ ويُذِلُّ، ويُحِبُّ ويُبْغِضُ، ويَرْحَمُ إذا استُرْحِمَ ويَغْفِرُ إذا استُغْفِرَ، ويُعطِي إذا سُئِلَ، ويُجيبُ إذا دُعِيَ، ويُقِيلُ إذا استُقِيلَ، أَكْبَرَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍِ، وأَعْظَمَ مِن كُلِّ شيءٍ، وأَعَزَّ مِن كُلِّ شيءٍ، وأَقْدَرَ مِن كُلِّ شَيءٍ، وأَعْلَمَ مِن كُلِّ شيءٍ، وأَحْكَمَ مِن كُلِّ شَيْءٍ.
فلو كَانَتْ قُوَى الخَلائِقِ كُلِّهِمْ علَى وَاحِدٍ مِنهُم، ثُمَّ كَانُوا كُلُّهُم على تِلكَ القُوَّةِ، ثُمَّ نُسِبَتْ تِلْكَ القُوَى إلى (قُوَّتِهِ لَكَانَتْ دُونَ) قُوَّةِ البَعُوضَةِ بالنسبةِ إلى قُوَّةِ الأَسَدِ.
ولو قُدِّرَ جَمالُ الخَلْقِ كُلِّهِم على واحدٍ منهم، ثم كَانُوا كُلُّهُم بذلكَ الجَمالِ، ثم نُسِبَ إلى جَمَالِ الربِّ تَعالَى لَكَانَ دُونَ سِراجٍ ضَعِيفٍ بِالنسبةِ إلى عَيْنِ الشَّمْسِ.
ولو كَانَ عِلمُ الأوَّلِينَ والآخِرِينَ عَلَى رَجُلٍ مِنهُم، ثُمَّ كَانَ كُلُّ الخَلْقِ علَى تِلكَ الصِّفَةِ، ثم نُسِبَ إلى عِلْمِ الرَّبِّ تَعالَى لَكَانَ ذَلِكَ بِالنسبةِ إِلَى عِلمِ الرَّبِّ كنَقْرَةِ عَصْفُورٍ في بَحْرٍ.
وهكذا سَائِرُ صِفاتِهِ، كسَمْعِه وبَصَرِهِ، وسَائِرِ نُعوتِ كَمالِهِ، فَإِنَّهُ يَسْمَعُ ضَجِيجَ الأَصْوَاتِ باختِلافِ اللُّغاتِ، على تَفَنُّنِ الحاجَاتِ، فَلا يَشْغَلُهُ سَمْعٌ عَنْ سَمْعٍ، ولا تُغَلِّطُهُ المَسَائِلُ، ولا يَتَبَرَّمُ بِإلحاحِ المُلِحِّينَ.
* سواءٌ عِنْدَهُ مَنْ أَسَرَّ القَوْلَ ومَنْ جَهَرَ بِهِ، فالسِّرُّ عِنْدَهُ عَلانِيَةٌ، والغَيْبُ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ، يَرَى دَبِيبَ النَّمْلَةِ السَّوْداءِ، علَى الصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ، في اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ. ويَرَى نِيَاطَ عُرُوقِهَا، ومَجَارِيَ القُوتِ فِي أَعْضَائِهَا.
يَضَعُ السَّماواتِ عَلَى إِصْبَعٍ مِن أَصابِعِ يَدِهِ، والأَرْضَ علَى إِصْبَعٍ، وَالجِبَالَ علَى إِصْبَعٍ، والشَّجَرَ علَى إِصْبَعٍ، والماءَ علَى إِصْبَعٍ، ويَقْبِضُ سمَاواتِهِ بإِحْدَى يَدَيْهِ، والأَرَضِينَ بِاليَدِ الأُخْرَى، فَالسَّماواتُ السَّبْعُ فِي كَفِّهِ كخَرْدَلَةٍ في كَفِّ العَبْدِ، ولَوْ أَنَّ الخَلْقَ كُلَّهُمْ مِن أَوَّلِهِمْ إلَى آخِرِهِمْ قَامُوا صَفًّا وَاحِدًا مَا أَحَاطُوا بِاللهِ عَزَّ وجَلَّ، لَوْ كُشِفَ الحِجَابُ عَنْ وَجْهِهِ لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُهُ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِن خَلْقِهِ.
فإذَا قَامَ بِقَلْبِ العَبْدِ هَذا الشَّاهِدُ: اضْمَحَلَّتْ فِيهِ الشَّواهِدُ المُتَقَدِّمَةُ، مِن غَيْرِ أَنْ تُعْدَمَ، بَلْ تَصِيرُ الغَلَبَةُ والقَهْرُ لِهَذا الشَّاهِدِ، وتَنْدَرِجُ فِيهِ الشَّواهِدُ كُلُّهَا، ومِنْ هَذا شَاهِدُهُ: فَلَهُ سُلوكٌ وسَيْرٌ خَاصٌّ. لَيْسَ لِغَيْرِهِ مِمَّنْ هو عَن هذا في غَفْلَةٍ، أو مَعْرِفَةٍ مُجْمَلَةٍ.
فصَاحِبُ هَذا الشاهِدِ: سَائِرٌ إِلَى اللهِ فِي يَقْظَتِهِ ومَنامِهِ، وحَرَكَتِهِ وسُكونِهِ وفِطْرِهِ وصِيامِهِ، له شأنٌ وللناسِ شَأْنٌ. هو في وادٍ والناسُ في وادٍ.
خَلَيْلَيَّ لاَ وَاللهِ مَا أَنَا مِنْكُمَا = إِذَا عَلَمٌ مِنْ آلِ لَيْلَى بَدَا لِيَا
والمقصودُ: أنَّ العِيانَ والكَشْفَ والمُشاهَدَةَ فِي هذهِ الدارِ: إِنَّمَا تَقَعُ علَى الشواهدِ، والأمثلةِ العِلْمِيَّةِ، وهو المَثَلُ الأَعْلَى الذي ذَكَرَهُ سُبحانَهُ في ثَلاثَةِ مَواضِعَ مِن كِتابِهِ: فِي سُورَةِ النَّحْلِ. وسُورَةِ الرُّومِ، وسُورةِ الشُّورَى، وهو ما يَقُومُ بقُلوبِ عَابِدِيهِ ومُحِبِّيهِ، والمُنِيبِينَ إِلَيْهِ مِن هَذا الشاهِدِ. وهو الباعثُ لَهُمْ عَلَى العِبادَةِ والمَحَبَّةِ والخَشْيَةِ والإنابَةِ، وتَفَاوُتُهُمْ فِيهِ لا يَنْحَصِرُ طَرَفَاهُ، فكُلٌّ مِنهُم له مَقامٌ مَعْلُومٌ لا يَتَعَدَّاهُ، وأَعْظَمُ الناسِ حَظًّا فِي ذلكَ مُعْتَرِفٌ بأَنَّهُ لا يُحْصِي ثَناءً عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ، وأنه فَوْقَ ما يُثْنِي علَيْهِ المُثْنُونَ، وفَوْقَ مَا يَحْمَدُهُ الحَامِدُونَ، كما قِيلَ:
وَمَا بَلَغَ المُهْدُونَ نَحْوَكَ مَدْحَهُ = لَكَ الْحَمْدُ كُلُّ الحَمْدِ لاَ مَبْدَا لَهُ
وَإِنْ أَطْنَبُوا إِنَّ الَّذِي فِيكَ أَعْظَمُ = وَلاَ مُنْتَهًى، وَاللهُ بِالْحَمْدِ أَعْلَمُ
وطَهَارَةُ القلبِ، ونَزاهَتُهُ مِن الأوصافِ المَذمومةِ، والإراداتِ السُّفْلِيَّةِ، وخُلُوُّه وتَفْرِيغُهُ مِنَ التَّعَلُّقِ بِغَيْرِ اللهِ سُبْحَانَهُ:
وهُو كُرْسِيُّ هَذا الشاهدِ، الذي يَجْلِسُ عليهِ، ومِقْعَدُهُ الذي يَتَمَكَّنُ فيه، فحَرامٌ على قَلْبٍ مُتَلَوِّثٍ بالخَبائِثِ والأَخْلاقِ الرَّدِيئَةِ والصفاتِ الذَّمِيمَةِ، مُتَعَلِّقٍ بالمُراداتِ السَّافِلَةِ: أن يَقُومَ بِهِ هذا الشاهِدُ، وأن يَكُونَ مِن أَهْلِهِ:
نَزِّهْ فُؤَادَكَ عَنْ سِوَانَا وَائْتِنَا = وَالصَّبْرُ طَلْسَمٌ لِكَنْزِ لِقَائِنَا
فَجَنَابُنَا حِلٌّ لِكُلِّ مُنَزِّهِ = مَنْ حَلَّ ذَا الطَّلْسَمَ فَازَ بِكَنْزِهِ)
([9]) مَدارِجُ السالكينَ (3/239-240).


رد مع اقتباس