عرض مشاركة واحدة
  #43  
قديم 15 محرم 1439هـ/5-10-2017م, 01:56 PM
جمهرة علوم القرآن جمهرة علوم القرآن غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 7,975
افتراضي

الجمع العثماني والأحرف السبعة

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (الجمع العثماني والأحرف السبعة
كانت المصاحف قبل جمع عثمان رضي الله عنه تكتب بحسب ما بلغ كاتبيها من القراءة التي تعلّموها؛ فيكتب كل واحد منهم مصحفه أو بعض السور على نحو ما أُقرئ، وكان القرآن يُقرأ على أحرف كما صحّت بذلك الأحاديث، وقد تقدّم بعضها.

فكانت مصاحف الصحابة والتابعين قبل جمع عثمان على وجوه من الأحرف السبعة؛
وكان ما أنزل الله من القرآن على الأحرف السبعة توسعة على الناس ورحمة بهم؛ فإنّ العرب كانت على قبائل مختلفة اللهجات وطرائق النطق، وحَمْل أهل كلّ لسان منهم على ما يخالف سجيتهم فيه مشقّة بالغة، ولا تستطيعه ألسنتهم إلا برياضة شديدة ومِرَان طويل، فكان من رحمة الله أن نزل القرآن على سبعة أحرف وكان الاختلاف في الأحرف السبعة على نوعين:
النوع الأول: اختلاف في طريقة نطق الحروف والكلمات كقراءة {الصراط} بالسين والصاد والزاي وبإشمام الزاي بالصاد؛ وهذه راجعة في الأصل إلى طريقةِ أهلِ كل لغةٍ من العرب في نطق هذه الكلمات.
والنوع الثاني: اختلاف في بعض الكلمات؛ كقوله تعالى: {وأتموا الحجّ والعمرة لله} وفي بعض الأحرف: [وأقيموا الحجّ والعمرة للبيت] ، وقوله تعالى: {وما خلق الذكر والأنثى} وفي قراءة أخرى: [والذكر والأنثى]، وقوله تعالى: {وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} وفي قراءة أخرى [وما أوتوا من العلم إلا قليلا]
وهذا النوع من الاختلاف منه ما نُسخت تلاوته، ومنه ما بقي حتى اجتمع الصحابة في عهد عثمان على جمع الناس على رسم واحد.

وأما النوع الأول من الاختلاف فقد قلَّ أثرُه بعد انتشار الإسلام وتداخل القبائل، واشتراك رجال تلك القبائل في الجهاد والغزوات، وفي سكنى بعض البلدان التي أنشئت بعد الفتوحات كالكوفة والبصرة وبعض حواضر الشام، وارتحل بعضهم لطلب العلم، وبعضهم للتجارة وطلب الرزق آمناً في بلاد المسلمين؛ وكثر ذلك منهم، حتى نشأ جيل ارتاضت ألسنتهم على التلاوة بلسان قريش، فلم يكن في جمع الناس على لسان قريش حرجٌ بعد ذلك.
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأمر بالإقراء بلغة قريش.
قال محمد بن الصباح البزاز: حدثنا هشيم، عن عبد الرحمن بن عبد الملك يعني ابن كعب بن عجرة، عن أبيه، عن جده، قال: كنت عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقرأ رجل من سورة يوسف (عتا حين) ، فقال عمر رضي الله عنه: «من أقرأك هكذا؟» قال: ابن مسعود.
فكتب عمر رضي الله عنه إلى ابن مسعود: «أما بعد، فإن الله أنزل هذا القرآن بلسان قريش، وجعله بلسان عربي مبين، فأقرئ الناس بلغة قريش، ولا تقرئهم بلغة هذيل، والسلام» رواه عمر بن شبة.
وقد اختار عثمان لإملاء المصاحف أعرب قريش لساناً وأفصحهم بياناً سعيد بن العاص، وكان فيما يذكرونَ عنه أشبهَ الناسِ لهجةً برسول الله صلى الله عليه وسلم، واختار لكتابة المصاحف أعلمَ الصحابة بالكتابة والخطّ زيد بن ثابت؛ فكان يكتب على نحو ما يُملي سعيد بن العاص في طريقة نُطْقِه وأَدائِه.

والعلاقة بين الجمع العثماني والأحرف السبعة من دقيق مسائل جمع القرآن، وفيها خلاف كثير بين أهل العلم.
1. فذهب الحارث المحاسبي وابن جرير الطبري وابن القيّم وجماعة من أهل العلم إلى أن عثمان حمل الناس على حرف واحد من تلك الأحرف السبعة.
قال ابن جرير: (وجمعهم [أي:عثمان] على مصحف واحد، وحرف واحد، وخَرَّق ما عدا المصحف الذي جمعهم عليه، وعزم على كل من كان عنده مُصحفٌ مخالفٌ المصحفَ الذي جمعهم عليه أن يخرقه؛ فاستوسقتْ له الأمة على ذلك بالطاعة، ورأت أنّ فيما فعلَ من ذلك الرشدَ والهداية، فتركت القراءة بالأحرف الستة التي عزم عليها إمامُها العادلُ في تركها، طاعةً منها له، ونظرًا منها لأنفسها ولمن بعدَها من سائر أهل ملتها، حتى دَرَست من الأمة معرفتها، وتعفت آثارها، فلا سبيلَ لأحد اليوم إلى القراءة بها، لدثورها وعُفُوِّ آثارها، وتتابعِ المسلمين على رفض القراءة بها، من غير جحود منها صحتَها وصحةَ شيء منها، ولكن نظرًا منها لأنفسها ولسائر أهل دينها؛ فلا قراءة للمسلمين اليوم إلا بالحرف الواحد الذي اختاره لهم إمامهم الشفيقُ الناصحُ، دون ما عداه من الأحرف الستة الباقية)ا.هـ.
وهذا القول لا يصحّ لأنَّ المصاحف العثمانية لم تكن منقوطة ولا مشكولة وقد وقع بينها اختلاف في بعض المواضع في الرسم، وكان القراء يقرؤون من قراءاتهم بما وافق الرسم، ويدعون ما خالف الرسم، فقرؤوا من الأحرف السبعة ما وافق الرسم، وبذلك نشأت القراءات المعروفة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (ليست هذه القراءات السبعة هي مجموع حرف واحد من الأحرف السبعة التي أنزل القرآن عليها باتفاق العلماء المعتبرين).
وقال الشيخ عبد الرحمن المعلمي: (كُتب القرآن بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم في قِطَعٍ من الجريد وغيره، تكون في القطعة الآية والآيتان وأكثر، وكان رسم الخطّ يومئذ يحتمل - والله أعلم - غالب الاختلافات التي في الأحرف السبعة، إذ لم يكن له شَكْل ولا نَقْط، وكانت تحذف فيه كثير من الألفات ونحو ذلك كما تراه في رسم المصحف، وبذاك الرسم عينه نُقِل ما في تلك القطع إلى صحف في عهد أبي بكر، وبه كتبت المصاحف في عهد عثمان، ثم صار على الناس أن يضبطوا قراءتهم، بأن يجتمع فيها الأمران: النقل الثابت بالسماع من النبي - صلى الله عليه وسلم -، واحتمال رسم المصاحف العثمانية.
وبذلك خرجت من القراءات الصحيحة تلك التغييرات التي كان يترخَّص بها بعض الناس، وبقي من الأحرف الستة المخالفة للحرف الأصلي ما احتمله الرسم)
ا.هـ.

2. وذهب بعض أهل العلم إلى أنّ جمع عثمان يحتمل الأحرف السبعة كلها، وهو بعيد مخالف لمقصود جمع عثمان رضي الله عنه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (ذهب طوائف من الفقهاء والقراء وأهل الكلام إلى أن هذا المصحف مشتمل على الأحرف السبعة وقرر ذلك طوائف من أهل الكلام كالقاضي أبي بكر الباقلاني وغيره؛ بناء على أنه لا يجوز على الأمة أن تهمل نقل شيء من الأحرف السبعة)ا.هـ.
وقال الحافظ ابن الجزري في النشر: (ذهب جماعات من الفقهاء والقرّاء والمتكلمين إلى أن المصاحف العثمانية مشتملة على جميع الأحرف السبعة، وبنوا ذلك على أنه لا يجوز على الأمة أن تهمل نقل شيء من الحروف السبعة التي نزل القرآن بها)ا.هـ.
وهذا كما تراه استناد على غير الأثر.
وقال ابن الجزري في منجد المقرئين: (إذا قلنا: إنَّ المصاحف العثمانية محتوية على جميع الأحرف السبعة التي أنزلها الله تعالى كان ما خالف الرسم يقطع بأنه ليس من الأحرف السبعة، وهذا قول محظور لأن كثيرا مما خالف الرسم قد صح عن الصحابة رضي الله عنهم، وعن النبي صلى الله عليه وسلم).
وقال أيضاً: (نحن نقطع بأن كثيراً من الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يقرؤون بما خالف رسم المصحف العثماني قبل الإجماع عليه من زيادة كلمة وأكثر، وإبدال أخرى بأخرى، ونقص بعض الكلمات كما ثبت في الصحيحين وغيرهما، ونحن اليوم نمنع من يقرأ بها في الصلاة وغيرها منع تحريم لا منع كراهة، ولا إشكال في ذلك، ومن نظر أقوال الأولين علم حقيقة الأمر، وذلك أن المصاحف العثمانية لم تكن محتوية على جميع الأحرف السبعة التي أبيحت بها قراءة القرآن كما قال جماعة من أهل الكلام وغيرهم بناء منهم على أنَّه لا يجوز على الأمة أن تُهمل نقل شيء من الأحرف السبعة)ا.هـ.

3. والراجح أن عثمان اختار من الأحرف السبعة ما وافق لغة قريش والعرضة الأخيرة وقراءة العامّة، وبقي الرسم العثماني محتملاً لبعض ما في الأحرف الأخرى.
قال مكيّ بن أبي طالب القيسي(ت:437هـ): (فالمصحف كتب على حرف واحد، وخطه محتمل لأكثر من حرف إذ لم يكن منقوطاً ولا مضبوطاً).
وقال في موضع آخر: (إن هذه القراءات كلها التي يقرأ بها الناس اليوم، وصحت روايتها عن الأئمة، إنما هي جزء من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن، ووافق اللفظ بها خط المصحف، مصحف عثمان الذي أجمع الصحابة فمن بعدهم عليه، واطرح ما سواه مما يخالف خطه).
وقال أحمد بن عمار المقرئ(ت:440هـ): (أصحُّ ما عليه الحذاق من أهل النظر في معنى ذلك إنما نحن عليه في وقتنا هذا من هذه القراءات هو بعض الحروف السبعة التي نزل عليها القرآن). نقله أبو شامة في المرشد الوجيز.
وقال ابن الجزري: (وذهب جماهير العلماء من السلف والخلف وأئمة المسلمين إلى أن هذه المصاحف العثمانية مشتملة على ما يحتمله رسمها من الأحرف السبعة فقط، جامعة للعرضة الأخيرة التي عرضها النبي صلى الله عليه وسلم على جبرائيل عليه السلام - متضمنة لها لم تترك حرفا منها).
قال: (وهذا القول هو الذي يظهر صوابه؛ لأن الأحاديث الصحيحة والآثار المشهورة المستفيضة تدلُّ عليه وتشهد له).
وقال الحافظ ابن حجر: (والحق أن الذي جُمع في المصحف هو المتفق على إنزاله المقطوع به المكتوب بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه بعض ما اختلف فيه الأحرف السبعة لا جميعها، كما وقع في المصحف المكي {تجري من تحتها الأنهار} في آخر براءة وفي غيره بحذف من، وكذا ما وقع من اختلاف مصاحف الأمصار من عدة واوات ثابتة في بعضها دون بعض، وعدة هاءات، وعدة لامات، ونحو ذلك، وهو محمول على أنه نزل بالأمرين معاً)ا.هـ.

ومما ينبغي أن يُعلم أنَّ المعوَّل في القراءة والإقراء على السماع، وإنما يُستفاد من الكتابة في أمرين:
الأمر الأول: أن يستعين القارئ بالمصحف على تذكّر ما قد ينساه؛ فيقرأه على نحو ما أُقرئ سماعاً.
والأمر الثاني: أن يُقرئ القرّاءُ في ذلك الزمان الناسَ بما وافق الرسم العثماني، وأن يدعوا الإقراء بما خالفه وإن كان صحيحاً.

ومن هنا نشأت القراءات المعروفة لأنّ القراء التزموا القراءة بالرسم العثماني، لكن بقي من الاختلاف في القراءات أربعة أنواع احتملهما الرسم في المصاحف العثمانية:
النوع الأول: الاختلاف في طرائق نطق بعض الحروف والكلمات؛ ويدخل في ذلك الاختلاف في الهمز والتسهيل والإبدال والإشمام والإمالة والإدغام والمدّ والقصر وغيرها، ومن هذا النوع الاختلاف في نطق الصاد في قوله تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم} مع اتحاد رسمها في المصاحف بالصاد، والأصل في الكلمة (السراط) بالسين لأنها مشتقة من السَّرط، وقد نقل أبو منصور الأزهري عن بعض علماء اللغة أن السراط إنما سمّي سراطاً لأنّه يسترط المارّة؛ فعدول الصحابة إلى كتابة هذه الكلمة ونحوها بالصاد دون السين لا بد أن يكون له غرض، وقد اجتهد العلماء في تلمّس ذلك الغرض؛ فقال ابن الجزري: (انظر كيف كتبوا الصراط والمصيطرون بالصاد المبدلة من السين، وعدلوا عن السين التي هي الأصل لتكون قراءة السين وإن خالفت الرسم من وجه قد أتت على الأصل فيعتدلان، وتكون قراءة الإشمام محتملة، ولو كتب ذلك بالسين على الأصل لفات ذلك، وعُدَّت قراءة غير السين مخالفة للرَّسم والأصل).

والنوع الثاني: الاختلاف في ضبط بعض الكلمات وهو على قسمين:
- قسم لا يتغيّر به المعنى كالاختلاف في {ضَعْف} و{ضُعف} قرأ عاصم وحمزة بفتح الضاد والباقون بضمها، و{ميسَرة} قرأها نافع {ميسُرة} بضمّ السين، والباقون بفتحها، وقوله تعالى: {بنُصْبٍ وعذاب} قرأها أبو جعفر {بنُصُبٍ} وقرأها يعقوب {بنَصَبٍ}، وقوله تعالى: {الرُّشْد} قرأه حمزة والكسائي [الرَّشَد] بفتح الرَّاء والشين، وهما لغتان، وغير ذلك كثير.
- وقسم يتغيّر به المعنى كالاختلاف في قوله تعالى: {يَطْهُرن} قرأه حمزة والكسائي: {يطَّهَّرن} والاختلاف في قوله: {فعدَلَك} قرأه الكوفيون بالتخفيف، والباقون بالتشديد {فعدَّلك}، وقوله: {بل عجبتَ ويسخرون} قرأه حمزة والكسائي بضمّ التاء {بل عجبتُ} والباقون بفتحها.
- وقريب من هذا القسم الاختلاف في نطق الأحرف المتقاربة مع اتحاد الرسم كالاختلاف في قوله: {ظنين} و{ضنين}، وقد يختلف الرسم اختلافاً يسيراً كما في قوله تعالى: {ونزل الملائكة تنزيلا} بنون واحدة في أكثر المصاحف، وفي المصحف المكي بنونين: [ونُنْزِل الملائكة] وهي قراءة ابن كثير المكّي.

والنوع الثالث: الاختلاف الذي يكون سببه عدم النقط؛ فإنَّ الكتابة في ذلك الوقت لم تكون منقوطة ولا مشكولة، ولذلك احتمل الرسم أن يقرأ نحو قول الله تعالى: {وما الله بغافل عما يعملون} بالياء وبالتاء، وقوله: {فتبينوا} قرئ: {فتثبتوا} إذ كان كلّ ذلك من الأحرف التي قرئ بها القرآن، والرسم يحتملها لعدم النقط في زمن الجمع العثماني.

والنوع الرابع: ما اختلف فيه الرسم بين المصاحف العثمانية، وهي أحرف يسيرة نقلها الرواة، ومن أمثلتها ما كتب في بعض المصاحف في سورة الحديد: {فإن الله هو الغني الحميد} وفي المصحف المدني والشامي [فإنّ الله الغني الحميد] بغير (هو) وهي قراءة نافع المدني وابن عامر الشامي، وقوله تعالى في سورة التوبة {تجري تحتها الأنهار} وفي المصحف المكّي وقراءة ابن كثير: {تجري من تحتها الأنهار}.
وهذا النوع قليل في رسم المصاحف، وهو مما تحتمله الأحرف السبعة؛ إذ كان المعوّل على ما ثبتت القراءة به سماعاً من أفواه القرَّاء.

وقد اختلف العلماء في أسباب اختلاف الرسم بين المصاحف العثمانية، فمِن زاعمٍ أنَّ عثمان أراد أن يجمع الأحرف السبعة كلَّها وهذا بعيد، لثبوت ترك القراءة ببعض الأحرف التي كان يُقرأ بها.

وذهب بعضهم إلى أنهم أرادوا الإشارة إلى اختلاف الأحرف، وجمع ما يستطاع من ذلك، وهذا يردّه أمران:
أحدهما: أنه خلاف المقصود من الجمع العثماني.
والثاني: أنهم لو أرادوا ذلك لكتبوا سائر الأحرف التي تُركت القراءة بها بهذه الطريقة؛ فكتبوا في بعض المصاحف [وأقيموا الحج والعمرة للبيت] وفي بعضها: {وأتموا الحجّ والعمرة لله} وهكذا في سائر الأحرف التي كان يقرأ بها قبل جمع عثمان). [جمع القرآن:133 - 142]


رد مع اقتباس